المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا (1): أَن تحريم الحلال وما أَشبه - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا (1): أَن تحريم الحلال وما أَشبه

‌فَصْلٌ

وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ

إِحْدَاهَا (1): أَن تحريم الحلال وما أَشبه ذلك يُتَصَوَّر على (2) أَوجه:

الأَول: التَّحْرِيمُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْكُفَّارِ، كالبَحِيْرَةِ، والسَّائِبَةِ، والوَصِيْلَةِ، والحَامِي، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تحريمَه عَنِ الْكَفَّارِ بالرأْي المَحْض. ومنه قول الله تبارك وتعالى (3):{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (4)، وَمَا أَشبهه مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ فِي الإِسلام رأْياً مجرَّداً.

والثاني (5): أَن يَكُونَ مجرَّدَ تركٍ لَا لِغَرَضٍ؛ بَلْ لأَن النفس تكرهه بطبعها، أَو لا تتذكَّره (6) حَتَّى تَسْتَعْمِلَهُ، أَو لَا تَجِدُ ثَمَنَهُ، أَو تشتغل بما هو آكد منه (7)، أَو ما (8) أَشبه ذَلِكَ. وَمِنْهُ تَرْكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأَكل الضَّبّ لِقَوْلِهِ فِيهِ:"إِنه لَمْ يَكُنْ بأَرض قَوْمِي، فأَجدني أَعافه"(9)، وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا تَحْرِيمًا؛ لأَن التَّحْرِيمَ يَسْتَلْزِمُ القصد إِليه، وهذا ليس كذلك.

والثالث (10): أَن يَمْتَنِعَ لنَذْرهِ التحريمَ، أَو مَا يَجْرِي مجرى النذر من

(1) في (خ): "أحدهما"، وفي (م):"أحدها".

(2)

في (خ): "في" بدل "على".

(3)

في (خ): "ومنه قوله تعالى"، وفي (م):"ومنه قول الله تعالى".

(4)

سورة النحل: الآية (116).

(5)

في (خ) و (م): "الثاني".

(6)

في (خ): "تكرهه".

(7)

قوله: "منه" ليس في (خ) و (م).

(8)

في (خ): "وما".

(9)

أخرجه البخاري (5391 و5537)، ومسلم (1945 و1946).

(10)

في (خ) و (م): "الثالث".

ص: 217

الْعَزِيمَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ، كَتَحْرِيمِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ سَنَةً، وَتَحْرِيمِ الضَّرْع، وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ لغدٍ، وَتَحْرِيمِ الليِّن من الطعام واللباس، وتحريم الوَطْءِ أو (1) الاسْتِلْذاذ بالنساءِ في الجملة، وما أَشبه ذلك.

والرابع (2): أَن يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْحَلَالِ أَن لَا يَفْعَلَهُ؛ وَمِثْلُهُ قَدْ يُسَمَّى تَحْرِيمًا. قَالَ إِسماعيل الْقَاضِي: إِذا قَالَ الرَّجُلُ لأَمته (3): وَاللَّهِ لَا أَقربك (4)! فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وأَتى بِمَسْأَلَةِ ابْنِ مُقَرِّن فِي سُؤَالِهِ ابنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إِذ قَالَ: إِني حَلَفْتُ أَن لَا أَنام عَلَى فِرَاشِي سَنَةً. قَالَ: فَتَلَا عبد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (5) الْآيَةَ، وَقَالَ لَهُ (6): كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَنَمْ عَلَى فِرَاشِكَ (7).

فأَمره أَن لَا يحرِّم مَا أَحلّ اللَّهُ لَهُ (8)، وأَن يكفِّر مِنْ أَجل الْيَمِينِ.

فَهَذَا الإِطلاق يَقْتَضِي أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ؛ فَقَدْ أَشار إِسْمَاعِيلُ (9) إِلى أَن الرَّجُلَ كَانَ إِذا حَلَفَ أَن لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فلأجل (10) ما كان قَبْلُ من التحريم ـ وإن (11) وردت الكفارة ـ يُسَمَّى (12) تَحْرِيمًا، وَمِنْ ثَمَّ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ سُمِّيت كَفّارة.

المسأَلة (13) الثَّانِيَةُ (14): أَن الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَنْظُرُ فِيهَا عَلَى أَي مَعْنًى يُطلق التَّحْرِيمُ مِنْ تلك المعاني (15).

(1) في (خ): "و".

(2)

في (خ) و (م): "الرابع".

(3)

من هنا سقط من نسخة (غ) ورقة واحدة.

(4)

في (خ): "أقربها".

(5)

إلى هنا انتهى ذكر الآية في (م) و (ر).

(6)

سورة المائدة: الآية (87).

(7)

قوله: "وقال له" سقط من (م) و (ر).

(8)

تقدم تخريجه (ص 213 ـ 214).

(9)

قوله: "له" سقط من (م).

(10)

في (خ): "إليه إسماعيل"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل "إليه" زائدة، إلا أن يكون في الكلام حذف بعد كلمة "إسماعيل".اهـ.

(11)

في (خ): "لأجل".

(12)

في (خ): "ولما".

(13)

في (خ): "سمي".

(14)

قوله: "المسألة" من (خ) فقط.

(15)

في (ر) و (م): "والثانية".

(16)

قوله: "من تلك المعاني" سقط من (خ).

ص: 218

أَما الأَوّل: فلا مدخل له ها هنا؛ لأَن التَّحْرِيمَ تَشْرِيعٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّشْرِيعُ لَيْسَ إِلا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، اللَّهُمَّ إِلا أَن يُدْخِلَ مبتدعٌ رأْياً كَانَ مِنْ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ، أَو مِنْ أَهل الإِسلام؛ فَهَذَا أَمر آخَرُ يُجَلُّ السلفُ الصَّالِحُ عَنْ مِثْلِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُصُوصِ.

وَقَدْ وَقَعَ للمُهَلَّب (1) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا قَدْ يُشعر بأَن الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الأَول، فَقَالَ: التَّحْرِيمُ إِنما هُوَ لِلَّهِ ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فَلَا (2) يحلُّ لأَحد أَن يحرِّم شَيْئًا، وَقَدْ وَبَّخَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (3)، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الاعتداءِ. وَقَالَ:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا (4) تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (5). قَالَ: فَهَذَا كلُّه حُجَّة فِي أَن تَحْرِيمَ النَّاسِ لَيْسَ بشيءٍ.

وَمَا قَالَهُ المُهَلَّب يردُّه السبب في نزول الآية، وليس فيه ما يُشْعِرُ بهذا المعنى، وإنما نصّت الأسباب على التحريم بالمعنى الثالث (6) كَمَا تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدِّ المُحرِّمُ الحكمَ لِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ شأْن التَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الأَول، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى المحرِّمِ دُونَ غَيْرِهِ.

وأَما التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَن بَوَاعِثَ النُّفُوسِ عَلَى الشَّيْءِ أَو صوارفها (7) عنه لا تنضبط لقانون (8) معلوم، فقد يمتنع الإِنسان من الحلال لأَلَمٍ (9) يَجِدُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَكَثِيرٍ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ لوَجَعٍ يَعْتريه بِهِ، حَتَّى يحرِّمه على نفسه، لا بمعنى التحريم

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 372).

(2)

في (ر): "قال لا" بدل "فلا".

(3)

سورة المائدة: الآية (87).

(4)

سورة النحل: الآية (116).

(5)

في (خ): "لم".

(6)

من قوله: "فيه ما يشعر بهذا" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

(7)

في (خ): "أو صارفها"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل في الأصل: "أو صوارفها"؛ ليناسب جميع البواعث. اهـ.

(8)

في (خ): "بقانون".

(9)

في (خ): "لأمر" بدل "لألم".

ص: 219

الأَول، وَلَا الثَّالِثِ، بَلْ بِمَعْنَى التوقِّي مِنْهُ كما يتوقَّى (1) سائر المُؤْلِمات.

ويدخل ها هنا بِالْمَعْنَى امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكل الثُّومِ؛ لأَنه كَانَ يُنَاجِي الْمَلَائِكَةَ (2)، وهي تتأَذَّى من رائحته (3)، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تُكْرَهُ (4) رَائِحَتُهُ.

وَلَعَلَّ هَذَا الْمَحْمَلَ (5) أَولى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِن الثُّومَ وَنَحْوَهُ (6) كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ (7) بِالْمَعْنَى المُخْتَصّ بِالشَّارِعِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الآية (8).

وأَما التحريم بالمعنى الرَّابِعِ فَيُحْتَمَلُ أَن يَدْخُلَ فِي عِبَارَةِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (9) قَدْ (10) شَمِلَ التَّحْرِيمَ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحْرِيمَ بِالْيَمِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ذِكْرُ الْكَفَّارَةِ (11) بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (12) إلى آخرها.

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنه كَانَ تَحْرِيمًا مجرَّداً قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ، وأَن جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قالوا في قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (13): إِن التَّحْرِيمَ كَانَ بِالْيَمِينِ حِينَ حَلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَن لَا يَشْرَبَ العسل (14)، وسيأْتي ذكر ذلك بحول الله تعالى.

فإِن قِيلَ: هَلْ يَكُونُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِني إِذا أَصبت اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ للنساءِ (15)

، الْحَدِيثَ: مِنْ قَبِيلِ التحريم الثاني لا من

(1) في (خ): "تتوقى".

(2)

أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564).

(3)

في (ر) و (م): "رائحتها".

(4)

في (ر): "وكذلك سائر ما تكره".

(5)

في (خ) و (م): "المحل".

(6)

في (ر) و (م): "ونحوها".

(7)

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 575): واختُلف في حقه هو صلى الله عليه وسلم، فقيل: كان ذلك محرماً عليه، والأصح أنه مكروه لعموم قوله:"لا" في جواب: "أحرام هو" اهـ.

(8)

في (خ): "الأمر" بدل: "الآية".

(9)

سورة المائدة: الآية (87).

(10)

في (م): "فقد".

(11)

في (خ): "الكفار".

(12)

سورة المائدة: الآية (89).

(13)

سورة التحريم: الآية (1).

(14)

أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474).

(15)

تقدم تخريجه (ص208).

ص: 220

الثَّالِثِ؛ لأَن الرَّجُلَ قَدْ يُحَرِّمُ الشيءَ لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنه لَيْسَ بتحريم في الحقيقة (1)، فكذلك ها هنا لَا يُرِيدُ بِالتَّحْرِيمِ النَّذْرَ (2)، بَلْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَقِّي خاصة (3)؛ أَي: إِني أَخاف عَلَى نَفْسِي العَنَتَ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ هُوَ مَقْصُودَ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه.

فَالْجَوَابُ: أَن مَنْ يَلْحَقُه الضرر وقتاً مّا بِتَناول شيءٍ (4)، يُمْكِنُهُ أَن يُمسك عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ؛ إِذ التارك (5) لأَمر لَا يَلْزَمُهُ أَن يَكُونَ محرِّماً لَهُ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ تَرَكَ (6) الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ، أَو النكاح لأَنه في الْوَقْتِ (7) لَا يَشْتَهِيهِ، أَو لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعذار، حَتَّى إِذا زَالَ عُذْرُهُ تَنَاوُلَ مِنْهُ، وقد ترك صلى الله عليه وسلم أَكل الضَّبّ (8)، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ له (9).

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَن الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ الظَّاهِرُ، وأَنه لَا يَصِحُّ ـ وإِن كَانَ لِعُذْرٍ ـ (10): أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَلَوْ كَانَ وُجُودُ مِثْلِ تِلْكَ الأَعذار مُبِيحًا لِلتَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ لَوَقَعَ التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ بالنسبة إِلى من حرَّم لعذر أَو لغير عُذْرٍ.

وأَيضاً فإِن الِانْتِشَارَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ؛ فإِن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الباءَة فَلْيَتَزَوَّجْ"(11) الْحَدِيثَ؛ فإِذا أَحب الإِنسان قضاءَ الشَّهْوَةِ تَزَوَّجَ فَحَصَلَ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً إِلى النَّسْل الْمَطْلُوبِ فِي المِلَّة؛ فكأَن مُحرِّم مَا يَحْصُلُ بِهِ الانتشار ساعٍ في التشبه بالرهبانية، فكان (12) ذَلِكَ مُنْتَفِيًا (13) عَنِ الإِسلام كَسَائِرِ مَا ذُكر في الآية.

(1) في (خ): "ليس بتحريم حقيقة".

(2)

في (ر): "التدين" بدل "النذر".

(3)

قوله: "خاصه" سقط من (خ).

(4)

في (خ): "وقت ما يتناول شيئاً".

(5)

في (خ): "والتارك" بدل "إذ التارك".

(6)

في (ر): "يترك".

(7)

علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "في ذلك الوقت"؛ أي الذي ترك فيه ما ذُكر. اهـ.

(8)

تقدم تخريجه قريباً (ص217).

(9)

قوله: "له" من (ر) فقط.

(10)

في (خ): "تقدم" بدل "لعذر".

(11)

أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).

(12)

في (خ): "وكان".

(13)

في (ر): "منهياً".

ص: 221

والمسألة (1) الثالثة (2): أَن هَذِهِ الْآيَةَ يُشْكِلُ مَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (3) الْآيَةَ، فإِن اللَّهَ أَخبر عَنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنبيائه ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أَنه حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ حَلَالًا، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ (4) مِثْلِهِ.

وَالْجَوَابُ: أَنه لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ؛ لأَن مَا تَقَدَّمَ يُقَرِّرُ أَن لَا تَحْرِيمَ فِي الإِسلام، فَيَبْقَى مَا كَانَ شَرْعًا لِغَيْرِنَا مَنْفِيًّا، عَنْ شَرْعِنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصول.

خرَّج الْقَاضِي إِسماعيل وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَن إِسرائيل ـ وهو يعقوب النبي (5) عليه السلام أَخذه عِرْقُ النَّسَا (6)، فَكَانَ يَبِيتُ وله (7) زُقَاءٌ (8)، فجعل عليه إِن شفاه الله لَيُحَرِّمَنَّ عليه الْعُرُوقَ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ تَسُلّ (9) اليهود العروق (10)؛ أن (11) لا يأكلوها (12).

وَفِي رِوَايَةٍ: جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَن لَا يأْكل لحوم الإِبل. قال (13): فحرَّمته اليهود (14).

(1) قوله: "والمسألة" ليس في (م) و (ر).

(2)

في (ر) و (م): "والثالثة".

(3)

سورة آل عمران: الآية (93).

(4)

إلى هنا انتهى سقط الورقة من (غ).

(5)

في (خ) و (م): "أن إسرائيل النبي يعقوب".

(6)

النَّسا: على وزن عصا: عرق من الوَرك إلى الكعب، والأفصح أن يقال له:"النَّسا" لا: "عرق النَّسا". انظر: "لسان العرب"(15/ 321).

(7)

في (م) و (خ): "وعليه".

(8)

زُقاءٌ: أي: صياح كما جاء مُصَرَّحاً به في بعض الطرق.

(9)

في (خ): "نسل".

(10)

قوله: "العروق" سقط من (خ) و (م).

(11)

قوله: "أن" ليس في (خ).

(12)

في (خ)"لا يأكلونها".

(13)

قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).

(14)

أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 126)، ويزيد بن هارون في كتاب "النكاح" كما في "الفتح"(9/ 372) ومن ـ طريقه البيهقي (10/ 8) ـ، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(3/ 1067) رقم (508)، والطبري في "تفسيره"(7/ 10 ـ 12) من طرق عن ابن عباس، به.

وسنده صحيح كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور"، وقد صححه الحافظ ابن حجر في الموضع السابق من "الفتح".

ص: 222

وَعَنِ الكَلْبي (1): أَن يَعْقُوبَ عليه السلام قَالَ: إِنِ اللهُ شَفَاني لأُحَرِّمَنَّ أَطيبَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ـ أَو قال: أَحبَّ الطعام والشراب (2) ـ إِليَّ. فَحَرَّمَ لُحُومَ الإِبل وأَلبانها.

قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي نَحْسَبُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: أَن إِسرائيل حِينَ حرَّم على نفسه ما حرَّم من الحلال (3) لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وأَنهم كَانُوا إِذا حرَّموا عَلَى أَنفسهم شيئاً من الحلال حُرِّم عليهم، كما كان الحالف إِذا حلف أَلاّ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ (4) لَمْ يَجُزْ لَهُ (5) أَن يفعله (6)، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (7). وَالْحَالِفُ إِذا حَلَفَ عَلَى شيءٍ وَلَمْ يَقُلْ: "إِن شاءَ اللَّهُ" كَانَ بِالْخِيَارِ، إِن شاءَ فَعَلَ وكَفَّر، وإِن شاءَ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ: وَهَذِهِ الأَشياءُ (8) وَمَا أَشبهها مِنَ الشَّرَائِعِ يَكُونُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَكَانَ النَّاسِخُ فِي هَذَا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (9). قَالَ: فَلَمَّا وَقَعَ النهيُ لَمْ يَجُزْ للإِنسان أَن يَقُولَ: الطَّعَامُ عليَّ حَرَامٌ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ. فإِن قَالَ إِنسان شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ بَاطِلًا، وإِن حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ كَانَ لَهُ أَن يَأْتيَ الذي هو خير، ويُكَفِّر عن يمينه.

والمسألة (10) الرَّابِعَةُ (11): أَن نَقُولَ: مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: قَوْلُهُ تعالى:

(1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 126). والكلبي هو: محمد بن السائب، متهم بالكذب، ورمي بالرفض كما في "التقريب"(5938).

قال الطبري بعد أن ذكر الأقوال في تفسير الآية: "وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عنه: أن ذلك العروق ولحوم الإبل

". انظر: "تفسير الطبري" (7/ 15).

(2)

في (خ): "أو الشراب".

(3)

في (خ): "على نفسه من الحلال ما حرم".

(4)

من قوله: "حرم عليهم" إلى هنا سقط من (خ).

(5)

في (خ): "لهم".

(6)

في (خ) و (م): "يفعلوه".

(7)

سورة التحريم: الآية (2).

(8)

قوله: "الأشياء" سقط من (غ) و (ر).

(9)

سورة المائدة: الآية (87).

(10)

قوله: "والمسألة" من (خ) فقط.

(11)

في (ر) و (غ) و (م): "والرابعة".

ص: 223

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (1) الآية؛ لأن (2) فِيهَا (3) إِخباراً (4) بأَنه عليه الصلاة والسلام حَرَّم عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحلَّه اللَّهُ (5)؛ وَقَدْ نَزَلَ (6) عَلَيْهِ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (7). وَمِثْلُ هَذَا يُجَلُّ مَقَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وأَن يكون منهيّاً عن شيء (8) هو اعتداء (9) ثُمَّ يأْتيه، حَتَّى يُقَالَ لَهُ فِيهِ: لِمَ تفعل؟ فلا بد من النظر في هذا (10) الْمُعَارِض (11).

وَالْجَوَابُ: أَن آيَةَ التَّحْرِيمِ إِن كَانَتْ هِيَ السابقةَ عَلَى آيَةِ العُقُود، فَظَاهِرٌ أَنها مُخْتَصَّة بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذ لَوْ أُريد: الأُمّة ـ على قول من قال به (12) مِنَ الأُصوليين ـ لَقَالَ: لِم تُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ؟ كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (13) الْآيَةَ، وَهُوَ بَيِّن؛ لأَن سُورَةَ التَّحْرِيمِ قَبْلَ آية الأَحزاب، ولذلك لَمَّا آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَ عليه في سورة الأَحزاب:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ (14) تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} (15) إلى آخرها (16). وأَيضاً فيُحتمل أَن يكون التحريم بمعنى الحلف على أَن لا

(1) سورة التحريم: الآية (1).

(2)

في (خ) و (م): "فإن".

(3)

في (غ): "فيه".

(4)

في (خ): "إخبار".

(5)

في (غ) و (ر): "ما أُحلّ له".

(6)

في (خ): "يدل".

(7)

سورة المائدة: الآية (87).

(8)

قوله: "شيء" سقط من (م).

(9)

في (خ): "وأن يكون منهياً عنه اعتداء".

(10)

في (خ): "هذه".

(11)

في (خ) و (م): "المصارف" بدل "المعارض".

(12)

قوله: "به" سقط من (خ).

(13)

سورة الطلاق: الآية (1).

(14)

إلى هنا انتهت الآية في (خ) و (م).

(15)

سورة الأحزاب: الآية (28).

(16)

في (خ): "إلخ" بدل "إلى آخرها".

وحديث التخيير أخرجه البخاري (4785)، ومسلم (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال:"إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "إن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} =

ص: 224

يَفْعَلَ، وَالْحَلِفُ إِذا وَقَعَ فَصَاحِبُهُ مُخَيّر بَيْنَ أَن يَتْرُكَ المَحْلوف عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَن يَفْعَلَهُ ويُكَفِّر. وَقَدْ جاءَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1)، فدل على أَنه كان يميناً حَلَفَ صلى الله عليه وسلم بِهَا.

وَذَلِكَ أَن النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التحريم، فقال جماعة: إِنه كَانَ تَحْرِيمًا لأُم وَلَدِهِ مَارِيَةَ القِبْطِيَّة (2) ـ بِنَاءً على أَن الآية نزلت في شأْنها،

= [الأحزاب: 28، 29]. قالت: فقلت: في أيِّ هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت.

وأخرج البخاري أيضاً (2468)، ومسلم (1479) قصة الإيلاء بطولها من رواية ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

(1)

سورة التحريم: الآية (2).

(2)

جاء ذلك عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عباس، وعمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم.

1 ـ أما حديث ابن عباس:

فأخرجه البزار (2274/كشف الأستار)، والطبراني في "الكبير"(11/ 86)، والبيهقي (7/ 352) من طريق مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، به.

ومسلم هو: ابن كيسان الأعور ضعيف كما في "التقريب"(6685).

وأخرجه البيهقي (7/ 353) من طريق الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، به.

وإسناده مسلسل بالضعفاء.

وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(8764)، وابن مردويه في "تفسيره" كما في "الفتح"(9/ 377 و289) من طريق سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن رومان، عن ابن عباس في قصة طويلة، وفيها الجمع بين ذكر العسل وذكر مارية في سبب النزول. والذي في "الصحيحين" ذكر العسل فحسب؛ على خلاف في التي سقت العسل للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي غيرهما ذكر مارية فحسب كما سيأتي.

قال الحافظ: "رواته لا بأس بهم".

لكن يزيد بن رومان لا يعرف له سماع من ابن عباس، وبين وفاتيهما أكثر من ستين سنة، وقد ذُكر في ترجمته أنه لم يسمع من أبي هريرة، ووفاة أبي هريرة قبل وفاة ابن عباس بنحو عشر سنين.

وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد أنه اختلط.

وأخرجه ابن مردويه كما في "الفتح"(9/ 289) من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وفيه زيادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة: لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة: إن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا مِتّ.=

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=والضحّاك لم يسمع من ابن عباس، ولذلك ضعفه الحافظ ابن حجر.

2 ـ وأما حديث عمر:

فأخرجه الهيثم بن كليب في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (1/ 300)؛ قال: ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، به.

قال ابن كثير في "تفسيره"(8/ 186): إسناده صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج".

قلت: عبد الملك هذا قال فيه الدارقطني: لا يُحتج بما انفرد به.

وقال أيضاً: صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدِّث من حفظه، فكثرت الأوهام منه. اهـ.

ولعل هذا منها؛ فإن هذا الإسناد مما تتوافر الدواعي على تحصيله ونقله؛ ولو كان عند غيره لصاح به، فكيف يتفرد به؟ والله أعلم.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 41 رقم 122) من طريق عبد الله بن شبيب، عن إسحاق بن محمد، عن عبد الله بن عمر، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، ثم أخرجه بعده (4/ 42 رقم 123) من طريق عبد الله بن شبيب أيضاً، عن أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن كتاب أبيه، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، به.

وفي إسنادهما عبد الله بن شبيب: واهٍ، قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث.

3 ـ وأما حديث أبي هريرة:

فأخرجه الطبراني في "الأوسط"(2316)، والعقيلي في "الضعفاء (4/ 155)، كلاهما من طريق هشام بن إبراهيم المخزومي، عن موسى بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، مولاهم، عن عمه، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، وفيه ذكر أن الذي يلي الخلافة من بعده أبو بكر، ثم من بعده عمر.

وفي سنده موسى بن جعفر، قال العقيلي:"مجهول بالنقل، لا يتابع على حديثه، ولا يصح إسناده، ولا يعرف إلا به". وذكره الذهبي في "الميزان"(8853) وقال: "لا يعرف، وخبره ساقط"، ثم ذكر الحديث، وقال:"قلت: هذا باطل"، وضعفه الحافظ في "الفتح"(9/ 289).

4 ـ وأما حديث أنس: فهو أمثلها، وقد أخرجه النسائي (7/ 71)، والضياء في "المختارة"(5/ 70) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به.

وصححه الحافظ في "الفتح"(9/ 376) فقال: "وهو أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم".=

ص: 226

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: الْحَسَنُ، وَقَتَاَدَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ـ، أَو كَانَ تَحْرِيمًا لِعَسَلِ زَيْنَبَ (1) ـ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ـ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنما كَانَ تَحْرِيمًا بِيَمِين.

قَالَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق: يُمْكِنُ أَن يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا ـ يَعْنِي جاريته ـ بيمين بالله (2)؛ لأَن الرَّجُلَ إِذا قَالَ لأَمته: وَاللَّهِ! لَا أَقْرَبُكِ، فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفّارة الْيَمِينِ، ثُمَّ أَتى بمسأَلة ابْنِ مُقَرِّن (3).

وَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ السّببُ شُرْبَ العَسَلِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ (4) مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيج؛ قَالَ فيه:"بل (5) شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْش، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ؛ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحداً". وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي المسأَلة إِشكال. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَالْعَسَلِ فِي الْحُكْمِ؛ لأَن تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ كَيْفَ مَا (6) كان؛ بمنزلة تحريم ما يؤكل ويُشرب.

=وأخرجه الحاكم (2/ 493)، وعنه البيهقي (7/ 353) من طريق محمد بن بكير الحضرمي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، به.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

ومحمد بن بكير لم يرو له مسلم شيئاً، وهو صدوق يخطئ كما قال الحافظ في "التقريب"(5802).

قال الحافظ في "الفتح"(8/ 657) بعد أن ذكر طرق الحديث: "وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً".

وقال في "التلخيص"(3/ 422): "وبمجموع هذه الطرق يتبين أن للقصة أصلاً أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي التي سلفت فكفى بها صحة. والله الموفق".اهـ.

وقال في "اللسان"(7/ 174): "وأما قصة مارية فلها طرق كثيرة؛ تشعر بأن لها أصلاً".

وصحح الحافظ أيضاً في "الفتح"(12/ 343) نزول الآية في القصتين: العسل ومارية.

(1)

أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474).

(2)

في (خ) و (م): "بيمين الله".

(3)

وهو الذي حرم على نفسه أن ينام على فراشه سنة. وتقدم صفحة (213).

(4)

تقدم تخريجه في التعليق رقم (1).

(5)

قوله: "بل" ليس في (خ) و (م).

(6)

قوله: "ما" من (خ) فقط.

ص: 227

وأَما إِن فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْعُقُودِ هِيَ السابقةُ عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ: فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كالأَول:

أَحَدُهُمَا: أَن يَكُونَ التَّحْرِيمُ ـ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ ـ بِمَعْنَى الحَلِف.

وَالثَّانِي: أَن تَكُونَ آيَةُ الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَنَاوِلَةٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَن قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا} (1) لَا يَدْخُلُ (2) فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الأُصوليين، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْقَضِيَّةِ مَا يُنظر فِيهِ، وَلَا يكون للمُحْتَجّ بالآية مُتَعَلَّق، والله أَعلم.

(1) سورة المائدة: الآية (87).

(2)

في (خ): "لا تدخل".

ص: 228