المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل إِذا تَقَرَّرَ أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فصل إِذا تَقَرَّرَ أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ

‌فصل

إِذا تَقَرَّرَ أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أَن مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا، وشاملٌ لأَنواعها؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"(2).

لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشكال، وَهُوَ: أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} (3)، وَقَوْلِهِ:{وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (4)، وأَشباه ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ (5) بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، فإِنه يَقْتَضِي أَنهما ضِدَّان، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَن الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الهُدَى.

وَنَظِيرِهِ فِي المخالفات التي ليست ببدع: المكروه (6) مِنَ الأَفعال؛ كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غير حاجة (7)، والصلاة وهو يدافعه

(1) في (ت): "درجة" بدل "رتبة".

(2)

سبق تخريجه (1/ 108)، و (ص318) من هذا المجلد.

(3)

سورة البقرة: الآية (16).

(4)

سورة الزمر: الآيتان (36، 37).

(5)

في (غ) و (م) و (ر): "به".

(6)

في (خ) و (م) و (ت): "المكروهة".

(7)

لما أخرجه البخاري (751) من حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/ 234): قوله: "باب الالتفات في الصلاة": لم يبيِّن المؤلف [يعني البخاري] حكمه، لكن الحديث دلّ على الكراهة، وهو إجماع؛ لكن الجمهور على أنها للتنزيه، وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرطه عدة أحاديث، منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف. اهـ.

ص: 377

الأَخبثان (1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.

وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: "نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم (2) عَلَيْنَا"(3).

فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيهِ: مخالفٌ (4) وَلَا عاصٍ، مَعَ أَن الطَّاعَةَ ضدُّها الْمَعْصِيَةُ، وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لأَنه فَاعِلُ ما أُمر بِهِ، فإِذا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ؛ لَزِمَ أَن يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا؛ لأَنه فاعلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا (5)، وإِلا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ، وإِلا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ.

إِلا أَنه قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ، فليَعُمّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ، لَكِنَّ (6) هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ: أَن عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بسطه ـ، وما أَلْزَمتم (7) في الفعل المكروه غير لازم. أَما أَوَّلاً (8): فإِنه لَا يَلْزَمُ فِي الأَفعال أَن تُجرى عَلَى الضِّدِّية الْمَذْكُورَةِ إِلا بَعْدَ استقراءِ الشَّرْعِ، ولمّا استقرأنا موارد الأَحكام الشرعية؛ وجدنا بين الطاعة (9) وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ـ أَو كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ـ؛ وهي المباح، وحقيقته: أَنه ليس بطاعة ولا معصية (10) من حيث هو مباح.

(1) لما أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان".

(2)

في (خ) و (ت) و (م): "يحرم".

(3)

أخرجه البخاري (313)، ومسلم (938) من حديث أم عطية رضي الله عنها.

(4)

في (خ): "مخالفاً".

(5)

قوله: "ضالاً" ليس في (غ) و (ر).

(6)

في (غ) و (ر): "ولكن".

(7)

في (خ) و (م) و (ت): "التزمتم".

(8)

قوله: "أما أولاً" سقط من (خ) و (ت).

(9)

في (خ) و (ت): "وجدنا للطاعة".

(10)

قوله: "ولا معصية" سقط من (خ).

ص: 378

فالأَمر وَالنَّهْيُ ضِدَّان، بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمر وَلَا نَهْيٌ، وإِنما يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ.

وإِذا تأَمّلنا الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الأُصوليون ـ؛ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ:

طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ منهيٌّ عَنْهُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَق النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتَوهَّمُ أَن مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ.

غَيْرَ أَنه يَصُدُّ عَنْ هَذَا الإِطلاق الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَن يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمّ شَرْعِيٌّ، وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ (1)، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ؛ لأَن الْمُبَاحَ لَا ذَمّ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ (2)، فَتَحَامَوْا أَن يُطْلِقُوا (3) عَلَى مَا هَذَا شأْنه عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ.

وإِذا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أَن يدخل تحتها المكروه؛ لم يصح أن يتناوله ضد الطاعة، فلا يطلق عليه لفظ المعصية، بخلاف الهدى والضلال؛ فإنه لا واسطة بينهما في الشرع يصح أن (4) ينسب إِليها لفظ (5) الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ} (6). فليس إِلا حق، وهو الهدى، أَو الضلال (7)، وهو باطل (8)، فالبدع المكروهة ضلال.

(1) في (غ) و (ر): "عتاب".

(2)

من قوله: "فخالف المحرم" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).

(3)

قوله: "أن يطلقوا" سقط من (غ) و (ر).

(4)

من قوله: "يدخل تحتها" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).

(5)

قوله: "لفظ" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

سورة يونس: الآية (32).

(7)

في (خ): "والضلال".

(8)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كان الظاهر أن يكون الضلال المعطوف على خبر ليس مساوياً له في التعريف والتنكير، وكلٌّ من خبري المبتدأ مساوياً للآخر كذلك؛ بأن يقول:"فليس إلا حق، وهو الهدى، وضلال هو الباطل"، ويجوز تعريف [الجميع].اهـ.

ص: 379

وأَما ثَانِيًا: فإِن إِثبات قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ (1) فِيهِ، فَلَا يَغْتَرّ (2) المُغْتَرّ بإِطلاق الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الفقهاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ (3)، وإِنما حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ، وأَما تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ (4) الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثم فَاعِلِهَا، وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ عنه (5) البتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الأَئمة عَلَى الْخُصُوصِ.

أَما الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لأَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَما أَنا فأَقوم اللَّيْلَ وَلَا أَنام، وَقَالَ الْآخَرُ (6): أَما أَنا فَلَا أَنكح النساءَ

، إِلى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"مَنْ رَغِبَ عَنْ سنتي فليس مني"(7).

وهذه العبارة من (8) أَشد شيءٍ فِي الإِنكار، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَو تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الحديث: أَنه صلى الله عليه وسلم رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا (9): نذر أَن لا يستظل ولا يتكلم ولا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ (10) فليجلس وليتكلم وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ"(11). قَالَ مَالِكٌ (12): "أَمره أَن يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ".

وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: مَا فِي الْبُخَارِيِّ (13) عن قيس بن أَبي

(1) في (غ) و (ر): "ما ينظر".

(2)

في (غ) و (ر): "يغترن".

(3)

قوله: "البدع" سقط من (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "البدع".اهـ.

(4)

في (ر): "الكراهية".

(5)

قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

قوله: "الآخر" سقط من (غ) و (ر).

(7)

تقدم تخريجه (ص147) من هذا المجلد.

(8)

قوله: "من" سقط من (خ)، و (م) و (ت).

(9)

قوله: "فقالوا" سقط من (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "قالوا: نذر"، أو:"قيل: نذر" إلخ. اهـ.

(10)

في (ت): "مروه".

(11)

تقدم تخريجه صفحة (28).

(12)

في "الموطأ"(2/ 476)، مع اختلاف يسير.

(13)

انظر "صحيح البخاري" رقم (3834).

ص: 380

حَازِمٍ قَالَ: دَخَلَ أَبو بَكْرٍ (1) عَلَى امرأَةٍ من قيسٍ (2) يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مالها لا تتكلم (3)؟ قالوا (4): حَجَّتْ مُصْمِتَةً (5). قَالَ لَهَا: تكلَّمي؛ فإِن هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فتكلَّمت

، الحديث إلى آخره (6).

وَقَالَ مَالِكٌ أَيضاً (7) ـ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مِنْ نَذَرَ أَن يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ"(8) ـ: إِن ذَلِكَ أَن يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَن يمشي إِلى الشام، أَو إِلى مصر، أَو أَشباه ذلك (9) مما ليس لله (10) فيه طاعة، إن كَلَّم فُلَانًا (11)، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِن هُوَ (12) كلَّمه؛ لأَنه (13) لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الأَشياء طَاعَةٌ (14)، وإِنما يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ له (15) فِيهِ طَاعَةٌ؛ مِنْ مَشْيٍ إِلى بَيْتِ اللَّهِ، أَو صيامٍ، أَو صدقةٍ، أَوْ صلاةٍ، فَكُلُّ ما كان لِلَّهِ (16) فِيهِ طَاعَةٌ؛ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نذره.

(1) قوله: "أبو بكر" سقط من (خ)، وعلق على موضعه رشيد رضا بقوله:"أي: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلخ".

(2)

كذا في جميع النسخ! والذي في "صحيح البخاري": "امرأة من أحْمَس".

(3)

قوله: "لا تتكلم" سقط من (خ).

(4)

في (خ) و (م): "فقال"، وفي (ت)"فقيل".

(5)

في (غ) و (ر): "مضمنة".

(6)

في (ت): "فتكلمت إلى آخر الحديث".

(7)

في "الموطأ" أيضاً (2/ 476) برواية يحيى الليثي، وانظر رواية أبي مصعب (2/ 217)، ورواية سويد بن سعيد (ص219)، مع اختلاف يسير فيها جميعها.

(8)

تقدم تخريجه (ص177).

(9)

في (خ): "وإلى مصر وأشباه ذلك".

(10)

قوله: "لله" ليس في (خ) و (م) و (ت).

(11)

في (خ): "أو أن لا أكلم فلاناً"، وفي أصل (ت):"أو إن كلم فلاناً"، وكتب في الهامش:"لا أكلم"، وهي بهذا تكون موافقة لـ (خ)، والمثبت من (م)، وهو الموافق لـ"الموطأ"، وجميع هذا سقط من (غ) و (ر) كما سيأتي.

(12)

في (م): "أهو" بدل "إن هو".

(13)

في (خ): "إن هو كلمه؛ لأنه إن كلم فلاناً فليس عليه في ذلك شيء أهو كلمه لأنه"، وهو تكرار.

(14)

من قوله: "إن كلم فلاناً" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).

(15)

قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(16)

في (خ) و (م) و (ت): "فكل ما لله".

ص: 381

فتأَمّل (1) كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ [فِي الشَّمْسِ](2)، وتَرْكَ الْكَلَامَ، ونَذْرَ المَشْيِ إِلى الشَّامِ أَو مِصْرَ معاصيَ، حتى فسر بها (3) الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، مَعَ أَنها فِي أَنفسها أَشياء مُبَاحَاتٍ (4)، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجراها مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ (5) به، ويُدانُ اللهُ بِهِ؛ صَارَتْ عِنْدَ مالكٍ معاصيَ لِلَّهِ، وكُلِّيَّةُ قَوْلِهِ:"كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التأْثيم وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ المُحَرَّم.

وَقَدْ مرَّ (6) مَا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّار عن مالك (7) وأَتاه (8) رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! من أَين أُحْرِم؟ قال: من ذي الحليفة؛ مِنْ حَيْثُ أَحرم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: إِني أُريد أَن أُحْرِمَ من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: إِني أُريد أَن أحرم من المسجد من (9) عند الْقَبْرِ (10): قَالَ: لَا تَفْعَلْ؛ فإِني أَخشى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنما هِيَ أَميال أَزيدها، قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ أَعظم من أَن ترى أَنك سبقت إِلى فضيلةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ إِني سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (11).

فأَنت تَرَى أَنه خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الإِحرام مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشرف منه (12)،

(1) في (غ) و (ر): "تأمل".

(2)

في جميع النسخ: "للشمس".

(3)

في (خ) و (م): "فيها".

(4)

في (غ) و (ر): "أنفسنا أشياء مباحة".

(5)

في (م): "ما يشرع".

(6)

في الجزء الأول (ص230 ـ 231)، وهناك نقله عن أبي بكر ابن العربي، والنص عند ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن" (3/ 1412 ـ 1413)؛ حيث ساقه بسنده عن الزبير بن بكار؛ قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل

، فذكر القصة.

وأخرجها ابن بطة في "الإبانة"(1/ 261 ـ 262 رقم 98) من طريق حميد بن الأسود؛ قال: قال رجل لمالك بن أنس

، فذكرها.

(7)

قوله: "عن مالك" سقط من (خ) و (م).

(8)

في (ت): "أنه أتاه".

(9)

قوله: "من" ليس في (غ) و (ر).

(10)

في (ت): "من عند القبر الشريف".

(11)

الآية: (63) من سورة النور.

(12)

قول المصنف هذا مما لا دليل عليه، بل الدليل يعارضه، يوضح ذلك ويُجَلّيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (27/ 37) حين سئل عن التربة التي دُفِن فيها النبي صلى الله عليه وسلم: هل هي أفضل من المسجد الحرام؟ فأجاب بقوله: "وأما التربة التي=

ص: 382

وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ (1)، لَكِنَّهُ أَبعدُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَهُوَ زيادةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَن مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَمر اليسير في بادي الرأْي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ (2). فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ (3) ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ فأَين كَرَاهِيَةُ (4) التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الأُمور الَّتِي يَظْهَرُ بأَول النَّظَرِ أَنها سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ (5)؟

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخبرني ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنه سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: التَّثْوِيبُ (6) ضَلَالٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا (7) لم يكن

=دُفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعاً، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه، ولا حجة عليه، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد، وأما ما فيه خُلِقَ، أو ما فيه دُفِنَ فلا يلزم ـ إذا كان هو أفضل ـ أن يكون ما منه خُلِق أفضل، فإن أحداً لا يقول: إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء؛ فإن الله يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ونوح نبي كريم، وابنه الْمُغْرَقُ كافر، وإبراهيم خليل الرحمن، وأبوه آزر كافر. والنصوص الدالّة على تفضيل المساجد مطلقة لم يُسْتَثْنَ منها قبور الأنبياء، ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقَّاً؛ لكان مَدْفَنُ كل نبي، بل وكل صالح أفضل من المساجد التي هي بيوت الله، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذا قول مبتدع في الدين، مخالف لأصول الإسلام". وسئل أيضاً في نفس الموضع عن رجلين تجادلا، فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض، وقال الآخر: الكعبة أفضل، فمع من الصواب؟ فأجاب: "الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقاً أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضّل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم".اهـ.

(1)

في (ت): "قبره الشريف".

(2)

في (خ) و (م): "في الآية".

(3)

في (غ) و (ر): "بمثل".

(4)

في (ت): "فإن كراهة".

(5)

في (ت): "سهلة يسيرة".

(6)

سيأتي معنى التثويب.

(7)

في (ت): "ومن أحدث شيئاً في هذه الأمة".

ص: 383

عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ (1)؛ لأَن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا (3).

وإِنما التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ: أَن الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذا أَذَّنَ فأَبطأَ النَّاسُ؛ قَالَ بَيْنَ الأَذان والإِقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ"(4)، وَهُوَ قَوْلُ إِسحاق بن رَاهَوَيْهِ: أَنه التَّثْوِيبُ المُحْدَث.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ (5) ـ لَمَّا نقل هذا عن إِسحاق (6) ـ: "وَهَذَا الَّذِي قَالَ (7) إِسحاق هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهل الْعِلْمِ، وَالَّذِي أَحدثوه بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

وإِذا اعتُبِر هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحد يَسْتَسْهِلُّهُ في بادي الرأْي؛ إِذ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ.

وقصَّة صبيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

فَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنس؛ قَالَ: جَعَلَ صَبِيغ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ (8) مَعَهُ، وَيَقُولُ: مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفقِّهه اللَّهُ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعلِّمْه اللَّهُ؛ فأَخذه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطْب، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذا خَفَّ الَّذِي بِهِ؛ أَخرجه فَضَرَبَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فأَجهز عَلَيَّ، وإِلا فَقَدْ شفيتني شفاك الله، فخلاّه عمر بن الخطاب (9).

(1) في (خ) و (م) و (ت): "خان الدين"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "الإحكام" لابن حزم، ولما تقدم في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، ولما سيأتي (ص398 و401).

(2)

سورة المائدة: الآية (3).

(3)

أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام"(6/ 791)، وتقدم هذا القول في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، وسيأتي (398 و401) من هذا الجزء.

(4)

انظر: "البيان والتحصيل"(1/ 435).

(5)

في "جامعه"(1/ 380).

(6)

في (خ) و (ت) و (م): "سحنون" بدل "إسحاق".

(7)

قوله: "قال" سقط من (م).

(8)

لفظ الجلالة "الله" ليس في (غ) و (ر).

(9)

قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.

ص: 384

قال ابن وهب: قال لي (1) مَالِكٌ: وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسأَل عنه من القرآن، وغير ذلك (2). انتهى.

وَهَذَا الضَّرْبُ إِنما كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ، وَرُبَّمَا نُقل عَنْهُ أَنه كَانَ يسأَل عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وأَشباه ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ إِنما يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ (3) عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ؛ إِذ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ (4) امرئٍ (5) مُسْلِمٍ، وَلَا عرضُه بمكروه كراهية تنزيه (6)، ووجه ضَرْبُهُ إِياه: خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ؛ أَن يَشْتَغِلَ مِنْهُ (7) بِمَا لَا يَنْبَني عَلَيْهِ عَمَلٌ، أَو أَن (8) يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ (9)، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} (10)؛ قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الأَبّ؟ ثُمَّ قَالَ (11): ما أمرنا بهذا.

(1) قوله: "لي" ليس في (خ) و (م) و (ت).

(2)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(152). وإسناده معضل؛ مالك لم يلقَ عمر.

وقصة عمر مع صبيغ مشهورة جاءت عنه بأسانيد متعددة، أمثلها ما أخرجه الدارمي (1/ 66)، والآجري في "الشريعة"(1/ 210) من طريق يزيد بن خصيفة، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ قَالَ: أَتَى عُمَرَ

، فذكره.

قال الحافظ في "الإصابة"(5/ 169: ترجمة صبيغ): إسناده صحيح.

وانظر: ترجمة صبيغ في "تاريخ ابن عساكر"(23/ 408).

(3)

كذا في جميع النسخ، غير أن ترتيب نقط الكلمة في (خ) أوهم أن تكون:"أرتب"، فعلق رشيد رضا عليها بقوله: في الأصل: "أرتب"، وهو تحريف ظاهر، والمعنى: أن الضرب لا يمكن أن يُرَتّب على كراهية التنزيه. اهـ.

(4)

في (خ): "ذم".

(5)

قوله: "امرئ" سقط من (ت).

(6)

في (غ) و (ر): "التنزيه".

(7)

في (ر) و (غ): "عنه" بدل "منه".

(8)

في (خ): "وأن".

(9)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "المشهور في قصة صبيغ: أنه كان يسأل عن المتشابهات، فيفتح بها باب التشكيك في القرآن، وأن عمر ضربه ثم نفاه من المدينة، وأمر باجتنابه لأجل ذلك. وقد ذكره الحافظ في القسم الثالث من الإصابة، وذكر ملخص الروايات في قصته مع عمر" اهـ.

(10)

سورة عبس: الآية (31).

(11)

قوله: "قال" سقط من (ر) و (غ).

ص: 385

وَفِي رِوَايَةٍ: نُهينا عَنِ التكلُّف (1)(2).

وَجَاءَ فِي قِصَّةِ صَبيغ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ: أَنه ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَراد أَن يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ صَبيغ: إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وإِن كُنْتَ تُرِيدُ أَن تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ. فأَذن لَهُ إِلى أَرضه، وَكَتَبَ إِلى أَبي مُوسَى الأَشعري رضي الله عنه: أَن لَا يُجَالِسَهُ أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبو مُوسَى إِلى عُمَرَ: أَن قَدْ حَسُنت هيئته (3)، فكتب عَمَرُ: أَن يأْذن لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ (4).

وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَن الهيِّن عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شديدٌ وَلَيْسَ بهيِّن، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (5).

وأَما كَلَامُ الْعُلَمَاءِ: فإِنهم وإِن أَطلقوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الأُمور الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ (6) التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وإِنما هَذَا اصْطِلَاحٌ للمتأَخرين (7) حين أَرادوا أَن يفرِّقوا بين القَبِيلَيْن، فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، ويخصّون كراهية التحريم بلفظ التحريم، أو المنع، وأَشباه ذلك.

وأَما المتقدمون من السلف: فإِنه لَمْ يَكُنْ مِنْ شأْنهم فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَن يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ

(1) في (خ): "التكليف".

(2)

هذا الأثر يرويه أنس عن عمر، وإسناده صحيح، وله عن أنس ستة طرق تجدها مفصّلة في تخريجي لـ"سنن سعيد بن منصور"(1/ 181) فما بعدها.

وقوله: "نهينا عن التكلف": أخرجه البخاري (7293).

(3)

في (خ): "سيئته".

(4)

أخرجه الدارمي (1/ 67)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(151) من طريق الليث، عن محمد بن عجلان، عن نافع، به. ورواية نافع عن عمر مرسلة.

وسبق قريباً تخريج قصة صبيغ وبيان صحتها.

(5)

سورة النور: الآية (15).

(6)

في (غ): "كراهة".

(7)

في (ر) و (غ): "المتأخرين".

ص: 386

وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (1)، وحَكى مَالِكٌ عمَّن تقدَّمه هَذَا الْمَعْنَى (2).

فإِذا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَو غَيْرِهَا "أَكره هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ" وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنهم يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فإِنه إِذا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي (3) جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنها (4) ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَين يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ (5)؟ اللَّهُمَّ إِلا أَن يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصل فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمر آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لأَجله، لَا لأَنه بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ؛ عَلَى تفصيل يذكر في موضعه إن شاء الله (6).

وأَما ثَالِثًا: فإِنا إِذا تأَملنا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوجَلَّت ـ وَجَدْنَاهَا (7) مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوجه:

أَحدها: أَن مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنما قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ متَّكلاً عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقرب.

وأَيضاً: فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ، لأَنه يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وإِن ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ والرجاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الإِيمان.

فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَن التُّرْكَ أَولى في حقه من الفعل، وأَن

(1) سورة النحل: الآية (116).

(2)

قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/ 1075 رقم 2091): "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب: أنهما سمعا مالك بن أنس يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدري أحداً أقتدي به يقول في شيءٍ: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا يجترؤون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا

" إلخ. ونقل نحوه القرطبي في "تفسيره" (10/ 196)، وابن رجب في "جامع العلوم" (ص525).

(3)

في (ت): "على أن" بدل "في".

(4)

قوله: "على أنها" ليس في (ت).

(5)

في (ت): "كراهة تنزيه".

(6)

قوله: "إن شاء الله" من (ر) و (غ) فقط.

(7)

في (خ): "وجدنا".

ص: 387

نَفْسَهُ الأَمّارة زَيَّنت لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ. ويَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وأَيضاً فَلَا يَزَالُ ـ إِذا تَذَكَّرَ ـ منكسرَ الْقَلْبِ؛ طَامِعًا فِي الإِقلاع، سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخذ فِي أَسباب الإِقلاع أَم لَا.

وَمُرْتَكِبُ أَدنى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الأَحوال، فإِنه يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حسناً، بل يراه أَولى مما (1) حدَّ له الشارع، فأَين مع هذا خَوْفُهُ أَو رَجَاؤُهُ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَن طَرِيقَهُ أَهدى سَبِيلًا، وَنِحْلَتَهُ أَولى بِالِاتِّبَاعِ؟

هَذَا وإِن كان زعمه لشبهة (2) عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ والأَحاديث أَنه مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى. وسيأْتي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِن شاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ مَرَّ فِي أَول الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمر الْبِدَعِ عَلَى الإِطلاق، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيضاً أُمور ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بينها (3) وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ، فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشير إِليه هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَالْحَاصِلُ: أَن النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الأَعمال وبين أَدنى البدع (4) بعيدُ المُلْتَمَس.

(1) في (خ): "بما".

(2)

في (م): "بشبهة".

(3)

في (خ) و (م): "بينهما".

(4)

قوله: "وبين أدنى البدع" سقط من (ت).

ص: 388