الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ: أَن الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أَن حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى أَلسنة أَنبيائه وَرُسُلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (1)، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (2) إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} (3) وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (4)، وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ والأَحاديث.
فخرجتْ عَنْ هَذَا الأَصل فرقةٌ زَعَمَتْ أَن الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وأَنه مُحَسِّنٌ ومُقَبِّحٌ، فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَن الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمت، وَنَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شأْن مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وهو يشربها (5) قولُه تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (6) الْآيَةَ؛ تأَوّلها قَوْمٌ ـ فِيمَا ذُكِر ـ عَلَى أَن الْخَمْرَ حَلَالٌ، وأَنها دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:{فِيمَا طَعِمُوا} (7).
فَذَكَرَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (8) رضي الله عنه، قَالَ: شَرِبَ نفرٌ مِنْ أَهل الشَّامِ الخمرَ وَعَلَيْهِمْ يزيد بن أَبي سفيان،
(1) سورة الإسراء: الآية (15).
(2)
إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت).
(3)
سورة النساء: الآية (59).
(4)
سورة الأنعام: الآية (57).
(5)
في (ت): "يشير بها".
(6)
الآية: (93) من سورة المائدة. وقوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} من (ر) و (غ) فقط.
(7)
من قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} إلى هنا سقط من (ت).
(8)
قوله: "ابن أبي طالب" من (ر) و (غ) فقط.
فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وتأَوّلوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
…
}، الْآيَةَ. قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلى عُمَرَ. قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِليه: أَن ابْعَثْ بِهِمْ إِليَّ قَبْلَ أَن يُفْسِدوا مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا قَدِمُوا على (1) عُمَرَ؛ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنهم قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، [وشَرَعوا](2) فِي دِينِهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ، فَاضْرِبْ أَعناقهم، وعليٌّ رضي الله عنه سَاكِتٌ؛ قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبا الْحَسَنِ؟! فَقَالَ: أَرى أَن تَسْتَتِيبَهُمْ، فإِن تَابُوا جَلَدْتَهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ لِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وإِن لَمْ يَتُوبُوا ضربتَ أَعناقهم، فإِنهم قَدْ (3) كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ [وَشَرَعُوا](3) فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ الله (4). فاستتابهم (5)، فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين (6).
(1) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت).
(2)
في (م) و (خ): "إلى".
(3)
في جميع النسخ: "أشرعوا"، والتصويب من مصادر التخريج.
(4)
قوله: "قد" سقط من (م) و (ر) و (غ).
(5)
لفظ الجلالة: "الله" من (غ) فقط، ولم يتضح في (ر)، وسقط من باقي النسخ.
(6)
قوله: "فاستتابهم" في موضعه بياض في (غ).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 499 رقم 28400)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 154) عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، به.
وإسناده ضعيف، عطاء بن السائب اختلط، وابن فضيل ممن روى عنه بعد الاختلاط.
قال أبو حاتم: وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويها عن التابعين، فرفعها إلى الصحابة. انظر:"الجرح والتعديل"(6/ 334).
وقال الفسوي: وكان عطاء تغير بأَخَرَةٍ، فرواية جرير وابن فضيل وطبقتهم ضعيفة. انظر:"المعرفة والتاريخ"(3/ 84).
واختلف على عطاء فيه أيضاً:
فرواه ابن حزم في "الإحكام"(7/ 451) من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء، عن محارب بن دثار: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر
…
، الحديث.
وحماد بن سلمة ممن قيل: إنه سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، ثم هو مرسل كما قال ابن حزم.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=وهذا الأثر له عن علي طرق أخرى:
1 ـ فمنها: ما أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 842)، وعنه الشافعي في "مسنده"(ص286)، وابن حزم في "إحكام الأحكام" (7/ 450) عن ثور بن زيد: أن عمر
…
فذكره.
وهذا معضل؛ فإن ثور بن زيد الديلي من أتباع التابعين. انظر: "تهذيب الكمال"(4/ 416).
ووصله النسائي في "الكبرى"(3/ 252، 253)، والدارقطني (3/ 166)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320 ـ 321) من طريق يحيى بن فليح، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس به مطولاً.
ويحيى بن فليح قال فيه ابن حزم: مجهول البتة، والحجة لا تقوم بمجهول. وقال مرة: ليس بالقوي. انظر: "الإحكام"(7/ 453)، و"اللسان"(7/ 342).
2 ـ ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق (7/ 378) ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام"(7/ 450) عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أن عمر شاور الناس في جلد الخمر
…
، وهذا مرسل؛ فعكرمة إنما ولد بعد وفاة عمر رضي الله عنه.
3 ـ ومنها: ما أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 153)، والدارقطني (3/ 157)، والحاكم (4/ 374 ـ 375)، والبيهقي (8/ 320) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن وبرة الكلبي؛ قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر فذكره.
ووقع عند الدارقطني والبيهقي: ابن وبرة.
وإسناده ضعيف؛ وبرة الكلبي ذكره الحافظ في "اللسان"(9105) وقال: قال ابن حزم في "الإنصاف": مجهول.
وأسامة بن زيد هو الليثي صدوق يهم ولا يحتمل هذا منه عن الزهري.
وأخرجه أبو داود (4489) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر فذكره.
وأخرجه أحمد (4/ 88)، من طريق أسامة ولم يذكر قصة خالد، وفيه تصريح الزهري بالسماع من عبد الرحمن بن أزهر.
ووهم فيه أسامة على الزهري، فقد صرّح الإمام أحمد أن الزهري لم يسمع من عبد الرحمن بن أزهر، نقله ابن أبي حاتم في ترجمة الزهري من "المراسيل" له صفحة (191).
وقد بيّن أبو داود في "سننه" أن بينهما عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر.
أخرجه أبو داود (4488)، ومن طريقه البيهقي في "السنن"(8/ 320)، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(5283) من طريق عقيل بن خالد، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه، به.=
فَهَؤُلَاءِ اسْتَحَلُّوا بالتأْويل مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِنَصِّ (1) الْكِتَابِ، وَشَهِدَ فِيهِمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ بأَنهم شَرَعُوا (2) فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْبِدْعَةُ بِعَيْنِهَا، فَهَذَا وَجْهٌ.
وأَيضاً فإِن بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الإِسلاميين تأَول فِيهَا غَيْرَ هَذَا (3)، وأَنه إِنما يَشْرَبُهَا لِلنَّفْعِ لَا لِلَّهْوِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فكأَنها عِنْدَهُمْ (4) دواء (5) مِنَ الأَدوية، أَوْ غِذَاءٌ صَالِحٌ يَصْلُحُ لِحِفْظِ الصِّحَّة، وَيُحْكَى هَذَا الْعَهْدُ عَنِ ابْنِ سِينَا (6).
ورأَيت في كلام بعض (7) الناس ممن عرف به أَنه كَانَ يَسْتَعِينُ فِي سَهَرِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالنَّظَرِ بِالْخَمْرِ، فإِذا رأَى مِنْ نَفْسِهِ كَسَلًا أَو فَتْرة؛ شَرِبَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُنَشِّطه وَيَنْفِي عَنْهُ الْكَسَلَ. بَلْ ذَكَرُوا فِيهَا (8) أَن لَهَا حَرَارَةً خَاصَّةً (9) تَفْعَلُ أَفعالاً (10) كَثِيرَةً: تُطَيِّبُ (11) النفسَ، وتُصَيِّر الإِنسان مُحِبّاً لِلْحِكْمَةِ، وتجعلهُ حسنَ الْحَرَكَةِ، وَالذِّهْنِ، وَالْمَعْرِفَةِ؛ فإِذا اسْتَعْمَلَهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ عرف الأَشياء، وفهمها، وتذكرها بعد النسيان (12).
=وعبد الله هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، والله تعالى أعلم.
(1)
في (خ): "وبنص" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: إما أن يكون أصل العبارة: "بنص الكتاب" بغير واو، وإما أن يكون:"بالإجماع وبنص الكتاب".اهـ.
(2)
المثبت من (خ)، وفي باقي النسخ:"أشرعوا".
(3)
في (ر) و (غ): "هذه".
(4)
في (ر) و (غ): "عنده".
(5)
قوله: "دواء" من (ر) و (غ) فقط.
(6)
نقل الذهبي في "السير"(17/ 532) عن ابن سينا قوله: وكنت أسهر، فمهما غلبني النوم شربت قدحاً.
(7)
في (ت) و (خ) و (م): "في بعض كلام".
(8)
قوله: "فيها" سقط من (ت).
(9)
في (م): "خالصة".
(10)
في (خ) و (م): "أفعال".
(11)
في (غ): "وتطب"، وفي (ر) و (م):"وتطيب".
(12)
علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كان المفتونون بالخمر من الأطباء والشعراء ينسبون إليها هذه الخواص. نعم! إن سُمَّها يحدث تنبيهاً في الأعصاب، ولكن يعقبه فتور وضعف بمقتضى سنّه ردّ الفعل، فإن عاودها الشارب ـ على حدّ قول أبي نوّاس: وداوني بالتي كانت هي الداء ـ؛ زاد ذلك الضعف والفتور، حتى ينتهي=
فَلِهَذَا ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ كَانَ ابْنُ سِينَا لَا يَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهَا ـ عَلَى مَا ذُكر عَنْهُ ـ، وَهُوَ كُلُّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، عِيَاذًا (1) بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَا يُقَالُ: إِن هَذَا دَاخِلٌ تَحْتِ مسأَلة التَّدَاوِي بِهَا، وَفِيهَا خِلَافٌ شَهِيرٌ؛ لأَنا نَقُولُ: إِنما ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سِينَا أَنه كَانَ يستعملها استعمال الأُمور المنشِّطة من الكسل، والحافظة (2) لِلصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الأَعمال، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، لَا فِي الأَمراض المؤثِّرة فِي الأَجسام. وإِنما الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الأَمراض لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ متقوِّلون عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ، مُبْتَدِعُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رأْي أَهل الإِباحة فِي الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ.
=بالجنون أو غيره من الأمراض القاتلة بإجماع أطباء هذا العصر".اهـ.
(1)
في (ر) و (غ) و (م): "عائذاً".
(2)
في (خ) و (ت): "والحفظ".