الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
فإِن قِيلَ: أَما الِابْتِدَاعُ؛ بِمَعْنَى أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى وَجْهِ التعبُّد فِي العادِيّات من حيث هو (1) توقيت معلوم مَقُولٌ (2) بإِيجابه (3) أَو إِجازته (4) بالرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عَنِ الْجَادَّةِ ـ: فَظَاهَرَ (5).
وَمِنْ (6) ذَلِكَ: الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَوْلِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.
فَالْقَوْلُ بأَنه بِدْعَةٌ قَدْ تبيَّن وَجْهُهُ وَاتَّضَحَ مَغْزاه، وإِنما يَبْقَى وَجْهٌ آخَرُ يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِهِ، وَهُوَ أَن الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ قَدْ تَظْهَرُ وَتَفْشُو (7)، وَيَجْرِي الْعَمَلُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ عَلَى وجهٍ لَا يَقَعُ لَهَا إِنكار مِنْ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ، فَمَا كَانَ مِنْهَا هَذَا شأْنه: هَلْ يُعَدُّ مِثْلُهُ بِدَعَةً أَم لَا؟
فَالْجَوَابُ: أَن مِثْلَ هَذِهِ المسأَلة لها نظران:
(1) قوله: "هو" سقط من (ت)، ولم يتضح في (خ)، وفي (ر) و (غ):"هي"، والمثبت من (م).
(2)
كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ:"معقول".
(3)
أثبتها رشيد رضا: "فإيجابه"، وانظر التعليق بعد الآتي.
(4)
في (م): "أو إجارته".
(5)
علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "فظاهر": جواب "أما الابتداع" في أول الفصل، وما بينهما اعتراض. وقوله فيه:"فإيجابه": مبتدأ، خبره:"من أمثلة بدع الخوارج".
(6)
في (ر) و (غ): "من".
(7)
في (م) و (غ) و (ت): "وتفشوا".
أَحدهما: نظر من حيث وقوعها عملاً وَاعْتِقَادًا فِي الأَصل، فَلَا شَكَّ أَنها مخالَفَةٌ لَا بِدْعَةٌ، إِذ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الممنوع أَو المكروه غير بدعة أَن لا يَنْتَشِر ولا يظهر (1)، كما (2) أَنه ليس من شرط (3) البدعة (4) أَن تشتهر (5) ولا تُسَرّ (6)، بل المخالفة (7) مخالفة (8)؛ ظهرت (9) أَمْ لا (10)، واشتهرت (11) أَم لا، والبدعة بدعة؛ ظهرت أَم لَا، وَاشْتُهِرَتْ أَم لَا (12)، وَكَذَلِكَ دَوَامُ الْعَمَلِ بها (13) أَو عَدَمِ دَوَامِهِ: لَا يؤثِّر فِي وَاحِدَةٍ منهما، فالمبتدع (14) قد يقلع عن بدعته، وَالْمُخَالِفُ قَدْ يَدُومُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِلى الْمَوْتِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ!.
وَالثَّانِي: نظرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَقْتَرِنُ، فَتَكُونُ سَبَبًا فِي مَفْسَدَةٍ حاليَّة، وَفِي مَفْسَدَةٍ مآليَّة، كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلى اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ.
أَما الْحَالِيَّةُ فبأَمرين:
الأَول: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا، وَخَاصَّةً الْعُلَمَاءَ خُصُوصًا، وَتَظْهَرُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ فِي الإِسلام ينشأُ عَنْهَا عَادَةً مِنْ جِهَةِ الْعَوَامِّ اسْتِسْهالُها واسْتِجَازَتُها؛ لأَن العالم المنتصب مُفْتٍ (15)
(1) في (خ) و (ت): "أن لا ينشرها ولا يظهرها"، وفي (م):"أن لا ينشر ولا يظهر".
(2)
قوله: "كما" ليس في (خ).
(3)
في (ت): "شرطها".
(4)
قوله: "البدعة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5)
في (خ) و (م) و (ت): "تنشر".
(6)
قوله: "ولا تسر" ليس في (خ) و (ت)، وفي (م):"ولا تر".
(7)
في (خ) و (ت): "بل لا تزول المخالفة".
(8)
قوله: "مخالفة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(9)
في (ت): "سواء ظهرت".
(10)
في (خ) و (م) و (ت): "أو لا".
(11)
في (ت): "أو اشتهرت".
(12)
من قوله: "والبدعة بدعة
…
" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(13)
قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(14)
في (خ) و (م) و (ت): "والمبتدع".
(15)
في (خ) و (ت): "مفتياً".
لِلنَّاسِ (1) بِعَمَلِهِ (2) كَمَا هُوَ مُفْتٍ بِقَوْلِهِ (3)، فإِذا نظر الناس إِليه وهو يعمل بأَمر هو مخالفة (4)؛ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَوَازُهُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا أَو مَكْرُوهًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ العالِمُ.
هَذَا، وإِن نصَّ عَلَى مَنْعه أَو كَرَاهَتِهِ (5)، فإِن عَمَلَهُ معارِضٌ لِقَوْلِهِ، فإِما أَن يَقُولَ الْعَامِّيُّ: إِن العالِمَ خَالَفَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ (6) مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ عُقَلَاءُ النَّاسُ، وَهُمُ الأَقلون.
وإِما أَن يَقُولَ: إِنه وَجَدَ فِيهِ رُخْصَةً، فإِنه لو كان كما قال؛ لم يعمل (7) به، فيُرَجِّح (8) بين قوله وفعله، والفعل أَبلغ (9) مِنَ الْقَوْلِ فِي جِهَةِ التأَسِّي ـ كَمَا تبيَّن فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"(10) ـ، فَيَعْمَلُ العامِّيُّ بِعَمَلِ الْعَالِمِ؛ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا، وهؤلاءِ هُمُ الأَكثرون.
فَقَدْ صَارَ عَمَلُ الْعَالِمِ عِنْدَ الْعَامِّيِّ حُجَّةً، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى الإِطلاق وَالْعُمُومِ فِي الفُتيا، فَاجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ مع اعتقاد الجواز بشُبْهَةِ دليل، وهذا هو (11) عين البدعة.
بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تَمَيَّزَ عن العامّة بانتصابٍ في رتبة
(1) قوله: "مفت للناس" سقط من (غ)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير.
(2)
في (ت) و (خ) و (م): "بعلمه".
(3)
في (ت): "بفعله"، وذكر الناسخ في الهامش أن في نسخة:"بقوله".
(4)
علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا في الأصل! وهو تحريف ظاهر، والمعنى مفهوم من القرينة، وهو: فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ يَعْمَلُ مَا يَأْمُرُ هو بمخالفته ـ أي بتركه ـ؛ حصل في اعتقادهم جوازه. اهـ.
(5)
في (م): "أو كراهيته".
(6)
أي: على العالِمِ.
(7)
قوله: "يعمل" سقط من (خ).
(8)
في (ر) و (غ): "فيترجح"، وفي (م):"فترجح".
(9)
في (ت) و (خ) و (م): "أغلب" بدل "أبلغ".
(10)
(4/ 91).
(11)
قوله: "هو" ليس في (خ) و (م) و (ت).
الْعُلَمَاءِ، فَجَعَلُوا العملَ بِبِدْعَةِ الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ، وقراءةَ الحِزْب حُجَّةً فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَةِ التصوُّف، فأَجاز التعبُّدَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَاحْتَجَّ بالحِزْب والدعاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنه مَا عَمِلَ بِهِ إِلا لمُسْتَند، فَوَضَعَهُ فِي كِتَابٍ، وَجَعَلَهُ فقهاً؛ كبعض أَماريد (1) البربر (2) ممن قيَّد على رسالة ابن أَبي زَيْدٍ (3).
وأَصل جَمِيعَ ذَلِكَ (4): سُكُوتُ الْخَوَاصِّ عَنِ البيان، أَو العمل (5) بِهِ عَلَى الغَفْلة، وَمِنْ هُنَا تُسْتَشْنَعُ زَلَّةُ العالم؛ فقد قالوا (6): ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ (7) الدِّينَ: زَلّةُ الْعَالِمِ (8)، وجِدَالُ منافقٍ بالقرآن، وأَئِمَة مُضِلّون (9).
(1) في (ر) و (غ): "أفاريد".
(2)
في (ت) و (خ) و (م): "الرس" بدل "البربر".
(3)
في (خ): "على الأمة ابن زيد"، وفي (م):"على الآلة ابن أبي نريد"، وأصل (ت) موافق لما هو مثبت هنا، لكن كتب في الهامش:"على الآلة ابن زيد"، وكأنه تصويب للعبارة.
(4)
في (ت): "ذلك كله".
(5)
في (خ): "والعمل".
(6)
ورد ذلك عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1475)، والفريابي في "صفة المنافق"(ص54)، كلاهما من طريق مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن زياد بن حُدَير؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: يهدم الزمان ثلاث: ضيعة عالم، ومجادلة منافق بالقرآن، وأئمة مضلّون.
وسنده صحيح.
وأخرجه الدارمي (1/ 71) من طريق أبي إسحاق السبيعي، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 196) من طريق مغيرة، كلاهما عن الشعبي، عن زياد بن حُدَير؛ قال: أتيت عمر بن الخطاب
…
، فذكره.
وتصحف "حدير" عند أبي نعيم إلى "جرير".
وأخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن"(832) من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عمر، ليس فيه ذكر لزياد بن حدير.
(7)
في (ت) و (خ): "تهدم"، وفي (م):"يهدم".
(8)
في (ر) و (غ): "عالم".
(9)
في (خ): "ضالون".
وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ وبالُه (1) عَلَى الْعَالَمِ (2). وزلَلُهُ المذكورُ عِنْدَ العلماءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحدهما: زَلَلُه (3) فِي النَّظَرِ، حَتَّى يُفْتيَ بِمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَيُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الفُتْيَا بِالْقَوْلِ.
وَالثَّانِي: زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فَيُتَابَعُ أَيضاً عليها على التأَويل المذكور، وهو في الاعتبار قائمٌ مَقَامَ الفُتيا بالقول؛ إِذ قد عَلِمَ أَنه مُتَّبَعٌ ومنظورٌ إِليه، وهو مع ذلك يُظْهِر بفعله (4) ما ينهى عنه الشارع، فكأَنه مُفْتٍ به؛ على ما تقرر في الأُصول.
وَالثَّانِي: مِنْ قِسْمَيِ الْمُفْسِدَةِ الحاليَّة: أَن يَعْمَلَ بها العوام، وتشيع فيهم، وتظهر فيما بينهم (5)، فلا ينكرها الخواصّ، ولا يرفعون لها رأْساً (6)، وَهُمْ (7) قَادِرُونَ عَلَى الإِنكار، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَالْعَامِّيُّ مِنْ شأْنه إِذا رأَى أَمراً يَجْهل حكمَه يعمل العامل به فلا يُنْكر عَلَيْهِ، اعْتَقِدُ أَنه جَائِزٌ، وأَنه حَسَنٌ، أَو أَنه مَشْرُوعٌ، بِخِلَافِ مَا إِذا أُنكر عَلَيْهِ (8)، فإِنه يَعْتَقِدُ أَنه عَيْبٌ، أَو أَنه غَيْرُ مَشْرُوعٌ، أَو (9) أَنه لَيْسَ مَنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ.
هَذَا أَمر يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ (10) بِالشَّرِيعَةِ؛ لأَن مستنده الخواصّ والعلماءُ في الجائز مع غَيْرِ الْجَائِزِ.
فإِذا عُدِمَ الإِنكار مِمَّنْ شأْنه الإِنكار، مَعَ ظُهُورِ الْعَمَلِ وَانْتِشَارِهِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْمُنْكِرِ، وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفعل (11)، دَلَّ عند العوام
(1) في (ت): "وباله عائد".
(2)
في (خ): "عالم". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل أصله: "على العالم" بفتح اللام؛ على حدّ قولهم: إذا زلّ العالِم ـ بالكسر ـ زل العالَم ـ بالفتح ـ اهـ.
(3)
قوله: "زلله" ليس في (ر) و (غ).
(4)
في (خ) و (م): "بقوله".
(5)
قوله "فيما بينهم" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(6)
في (ت) و (خ) و (م): "رؤوسهم".
(7)
قوله: "وهم" سقط من (خ).
(8)
قوله: "عليه" سقط من (ر) و (غ).
(9)
قوله: "أو" سقط من (خ) و (م).
(10)
في (ت): "عالم".
(11)
أي: لم يفعل العالم إنكار المنكر.
أَنه فِعْلٌ جَائِزٌ لَا حَرَجَ فِيهِ (1)، فنشأَ فِيهِ هَذَا الاعتقادُ الفاسدُ بتأْويلٍ يُقْنَعُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْعَوَامِّ (2)، فَصَارَتِ الْمُخَالَفَةُ بِدَعَةً؛ كَمَا فِي الْقِسْمِ الأَول.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول أَن العالِمَ فِي النَّاسِ قائِمٌ مقامَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، والعلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ (3)، فَكَمَا أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره، كَذَلِكَ وارِثُهُ يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره. واعْتَبِرْ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا أُحدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الأُمور الْمَنْهِيّ عَنْهَا فَلَمْ يُنْكِرْهَا (4) العلماءُ، أَو عَمِلُوا بِهَا فَصَارَتْ بَعْدُ (5) سُنَنًا وَمَشْرُوعَاتِ؛ كَزِيَادَتِهِمْ مَعَ الأَذان:"أَصبح ولله الحمد"، و"الوضوء للصلاة"، و"تأَهّبوا للصلاة (6) "، ودعاء المؤذّنين بالليل في الصوامع؛
(1) قوله: "فيه" سقط من (ر) و (غ).
(2)
علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "من كان من العوام" اهـ.
(3)
هو جزء من حديث أبي الدرداء الطويل في فضل العلم والعلماء، وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 196)، والدارمي في "سننه"(1/ 98)، وأبو داود (3636)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88/الإحسان)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(169 ـ 177)، والخطيب في "الرحلة"(4 ـ 6)، جميعهم من طريق عاصم بن رجاء، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، به، وفي بعض طرقه اختلاف تجد الكلام عليه عند الترمذي وابن عبد البر وغيرهما.
وسنده ضعيف لضعف داود بن جميل، وكثير بن قيس الشامي، كما في "التقريب"(1788 و5659).
وأخرجه أبو داود (3637) من طريق محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد ـ وهو ابن مسلم ـ؛ قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء
…
، فذكره.
وسنده ضعيف لجهالة شبيب بن شيبة الشامي، كما في "التقريب"(2756)، وقد حسن بعض أهل العلم هذا الحديث بهذين الطريقين، وأطال محقق "جامع بيان العلم" في الكلام عليه، فانظره إن شئت، وللحافظ ابن رجب رسالة مفردة في "شرح حديث أبي الدرداء" هذا، وهي مطبوعة.
(4)
لم يتضح قوله: "ينكرها" في (م)، فأشبه:"ينظرها"، أو كلمة نحوها، وكذا في (ت)؛ تشبه أن تكون:"ينهزها"، ثم صوبت في الهامش هكذا:"يغيرها".
(5)
في (ر) و (غ): "تعد".
(6)
قوله: "للصلاة" سقط من (ت) و (خ) و (م).
وربما احْتَجّ (1) على صحّة (2) ذلك (3) بعضُ الناس بما وقع (4) في "نوازل ابن سهل"(5) غفلة منه (6) عما عَلَيْهِ فِيهِ (7)، وَقَدْ قَيَّدْنَا فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا، فَمَنْ أَراد الشفاءَ فِي المسأَلة فَعَلَيْهِ به، وبالله التوفيق.
وخرج أَبو داود (8) قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له (9): انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فإِذا رأَوها أَذِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ. قَالَ: فذُكِرَ لَهُ القُنْعُ (10) ـ يَعْنِي الشَّبُّور، وَفِي رِوَايَةٍ: شَبّور اليهود ـ، فلم يعجبه ذلك (11)، وَقَالَ:"هُوَ مِنْ أَمر الْيَهُودِ". قَالَ: فذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ:"هُوَ مِنْ أَمر النَّصَارَى". فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ (12) بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُرِيَ الأَذان فِي مَنَامِه
…
، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَفِي مُسْلِمٍ (13) عَنْ أَنس (14) بْنِ مَالِكٍ أَنه قَالَ: ذَكَرُوا أَن يُعْلِمُوا (15)
(1) في (خ) و (م): "احتجوا".
(2)
قوله: "على صحة" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3)
في (ت): "في ذلك".
(4)
في (خ): "بما وضع".
(5)
طبع بعنوان: "ديوان الأحكام الكبرى، النوازل والأعلام لابن سهل"، والموضع المشار إليه هنا تجده فيه في (2/ 1158).
(6)
قوله: "منه" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(7)
علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل؛ "وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَبِمَا وُضِعَ فِي نَوَازِلِ ابْنِ سَهْلٍ غفلة عما أخذ عليه فيه"، أو أن في الكلام حذفاً غير ما ذكر تصح به العبارة. اهـ.
(8)
في "سننه"(498)، ومن طريقه البيهقي في "السنن"(1/ 390)، وصححه الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/ 81)، ونقل تحسين ابن عبد البر له، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود"(468).
(9)
قوله: "له" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(10)
في (ت) و (خ) و (م): "القمع". والقُنْعُ ـ بضم القاف وسكون النون ـ: البوق، كما سيأتي، وانظر:"النهاية في غريب الحديث"(4/ 115).
(11)
قوله: "ذلك" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(12)
في (ت) و (م): "يزيد".
(13)
انظر: "صحيح مسلم" رقم (378)، وأخرجه البخاري أيضاً (603 و605 و607 و3457).
(14)
في (م): "ابن أنس".
(15)
في (ت) و (م): "يعملوا"، وصوبت في هامش (ت):"يُعَلِّموا" هكذا مضبوطة!.
وَقْتَ الصَّلَاةِ بشيءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَن يُنَوِّرُوا نَارًا، أَو يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فأُمر بلالٌ أَن يَشْفَعَ الأَذان وَيُوَتِرَ الإِقامة.
والقُنْعُ والشَّبّور: هُوَ (1) الْبُوقُ، وَهُوَ القَرْنُ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (2).
فأَنت تَرَى كَيْفَ كَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شأَنَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَعْمَلْ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. فَكَانَ ينبغي لمن ارْتَسَمَ (3) بِسِمَةِ الْعِلْمِ أَن يُنْكِرَ مَا أُحدث مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ إِعلاماً بالأَوقات، أَو غيرَ إِعلامٍ بِهَا.
أَما الرَّايَةُ: فَقَدْ وُضِعَت إِعلاماً بالأَوقات، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى إِن الأَذان مَعَهَا قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ التَّبَع (4).
وأَما البوق: فهو العَلَم عندنا (5) فِي رَمَضَانَ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ وَقْتِ الإِفطار، ثُمَّ هُوَ عَلَمٌ أَيضاً بِالْمَغْرِبِ والأَندلس عَلَى وَقْتِ السُّحُورِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
والحديثُ قَدْ جَعَلَ علماً على الانتهاء (6): نداءَ ابن أُم مكتوم؛ لقوله عليه السلام (7): "إِن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يناديَ ابنُ أُم
(1) في (خ): "وهو".
(2)
يعني الذي أخرجه البخاري في "صحيحه"(604)، ومسلم (377)، كلاهما من طريق نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحيّنون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود
…
، الحديث.
(3)
لم تتضح الكلمة في (خ)، وأثبتها رشيد رضا في طبعته:"اتسم".
(4)
علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "في بعض بلاد الشام يرفعون علماً من منارة الجامع الذي يكون فيه الموقِّت لأجل أن يراه المؤذنون من سائر المنارات فيؤذنون في وقت واحد، وإنما يكون ذلك في وقت الظهر والعصر والمغرب" اهـ.
(5)
قوله: "عندنا" من (ر) و (غ) فقط.
(6)
في (ت) و (خ) و (م): "قد جعل علماً لانتهاء".
(7)
أخرجه البخاري (617 و2656)، ومسلم (1092)، ولم يذكر مسلم قوله: "وكان ابن أم مكتوم
…
" إلخ.
مَكْتُومٍ" (1). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (2): وَكَانَ ابْنُ أُم مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعمى لَا يُنادي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصبحت أَصبحت.
وَفِي مُسْلِمٍ وأَبي دَاوُدَ: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحدَكم نداءُ (3) بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ (4)؛ فإِنه يؤذِّن لِيَرْجِعَ قائمَكُم، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ
…
" (5)، الْحَدِيثَ. فقد جعل أَذان بلال لأَن يُنَبِّه (6) النائمَ لِمَا يَحْتَاجُ إِليه مِنْ سَحُورِهِ وَغَيْرِهِ.
فَالْبُوقُ مَا شأْنه وَقَدْ كَرِهَهُ عليه الصلاة والسلام؟ وَمِثْلُهُ النَّارُ الَّتِي تُرفع دَائِمًا فِي أَوقات الليل، وبالعِشاءِ (7)، والصبح (8)، وفي (9) رَمَضَانَ أَيضاً، إِعلاماً بِدُخُولِهِ، فَتُوقَدُ (10) فِي دَاخِلِ المسجد، ثم في وقت السحور تُرْفَعُ (11) فِي المَنار إِعلاماً بِالْوَقْتِ (12)، والنارُ شِعَارُ (13) الْمَجُوسِ فِي الأَصل.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (14): أَولُ من اتّخذ البخور في المساجد (15) بَنُو بَرْمَك: يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خالد، ملَّكهما الوالي أَمرَ الدِّين (16)،
(1) من قوله: "لقوله عليه السلام
…
" إلى هنا سقط من (ت) و (خ) و (م).
(2)
هو الراوي للحديث عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولكن لم يعينه البخاري في روايته، وإنما جاء تعيينه في رواية الإسماعيلي والطحاوي كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 100).
(3)
في (ر) و (غ): "أذان" بدل "نداء".
(4)
في (م): "سحور".
(5)
أخرجه البخاري (621) ومسلم (1093)، وأبو داود (2339) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(6)
كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ:"ينتبه".
(7)
في (ت) و (ر) و (غ): "بالعشاء" بدون واو.
(8)
في (م): "الصبح" بدون واو.
(9)
في (خ): "في" بدون واو.
(10)
في (ت): "والصبح إعلاماً بدخولها، وفي رمضان أيضاً توقد".
(11)
في (ت) و (خ) و (م): "ثم ترفع".
(12)
في (غ): "إعلاماً بالنار".
(13)
في (ت): "من شعار".
(14)
في "العواصم"(ص62).
(15)
في (ت) و (م) و (خ): "المسجد".
(16)
بهامش (ت): "الدولة"؛ يعني بدل "الدين".
فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَاجِبًا، وَيَحْيَى وَزِيرًا، ثُمَّ ابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى. قَالَ: وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً؛ يَعْتَقِدُونَ آراءَ الْفَلَاسِفَةِ، فأَحيوا المجوسيَّة، وَاتَّخَذُوا البخور في المساجد ـ وإِنما كانت (1) تُطَيَّبُ بالخَلوق ـ، فزادوا التَّجْمير ليَعْمُروها (2) بالنار منقولة؛ حتى يجعلوها عند الأُنس (3) بِبَخُورِهَا ثَابِتَةً. انْتَهَى (4).
وَحَاصِلُهُ أَن النَّارَ لَيْسَ إِيقادُها فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شأْن السَّلف الصَّالِحِ، وَلَا كَانَتْ مِمَّا تُزَيَّن بِهَا المساجدُ البتَّةَ، ثُمَّ أُحدث التَّزْيِينُ (5) بِهَا حَتَّى صَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُعَظَّم بِهِ رَمَضَانُ، وَاعْتَقَدَ الْعَامَّةُ هَذَا كَمَا اعْتَقَدُوا طَلَبَ الْبُوقِ فِي رَمَضَانَ في المساجد، حتى لقد سأَل بعض الناس (6) عنه:
(1) قوله: "كانت" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2)
في (خ): "ويعمرونها"، وفي (م):"ويعمروها"، وفي (ت):"وتعميرها بالنار"، ثم بياض مكان قوله: "منقولة
…
" إلى "ثابتة"، ثم ذكر في الهامش أن في نسخة: "وَيُعَمِّرُونَهَا بِالنَّارِ مَنْقُولَةً حَتَّى يَجْعَلُوهَا عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ ببخورها ثابتة".
(3)
في (خ) و (م): "الأندلس"، وكذا بهامش (ت) كما سبق.
(4)
الذي يظهر أن مقصود ابن العربي رحمه الله من قوله: "أول من اتخذ البخور في المساجد بنو برمك
…
": إنما هو البخور الذي كان يصاحبه إيقادٌ للنار في المساجد؛ والذي فيه إحياء لدين المجوسية، ويؤيده قوله: "ليعمروها بالنار
…
"، وهذا الذي فهمه المصنف رحمه الله حيث قال: "وحاصله أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السَّلف الصالح".
أما أصل تبخير المساجد على غير هذا النحو فمعروف عند السَّلف؛ بل وُصِفَ غيرُ واحد ممن كان يفعل ذلك بـ"المُجْمِر".
قال الحافظ في "الفتح"(1/ 235) عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر: "وُصِفَ هو وأبوه بذلك؛ لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم". ويؤيد هذا ما نقله رشيد رضا رحمه الله عن بعض المؤرخين: "أن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة، ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبودُ المجوس، والظاهر أن البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس، وإنما فتك بهم هارون الرشيد لأنه وقف على دخائلهم". اهـ. والله أعلم.
(5)
في (ت) و (م) و (خ): "التزين".
(6)
قوله: "الناس" سقط من (خ) و (م) و (ت).
أَهو سُنَّةٌ أَم لَا؟ وَلَا يَشُكُّ أَحد (1) أَن غَالِبَ الْعَوَامِّ يَعْتَقِدُونَ أَن مِثْلَ هَذِهِ الأُمور مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْخَوَاصِّ الإِنكار عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَيضاً: لمَّا لَمْ يُتَّخَذِ النَّاقُوسُ للإِعلام، حَاوَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِمَكِيدَةٍ أُخرى؛ فَعُلِّق بِالْمَسَاجِدِ، واعتُدَّ بِهِ فِي جُمْلَةِ الْالَآتِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَيْهَا النِّيرَانَ، وتُزخرف بِهَا الْمَسَاجِدُ، زِيَادَةً إِلى زَخْرَفَتِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ والبِيَع.
وَمِثْلُهُ: إِيقادُ الشَّمعِ بجبل عرفة (2) لَيْلَةَ الثَّامِنِ (3)، ذَكَرَ (4) النَّوَوِيُّ أَنها مِنَ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ، وأَنها ضَلَالَةٌ فَاحِشَةٌ جُمِعَ فِيهَا أَنواعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ؛ مِنْهَا: إِضاعة الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَمِنْهَا: إِظهار شَعَائِرِ الْمَجُوسِ، وَمِنْهَا: اخْتِلَاطُ الرِّجَالِ والنساءِ، وَالشَّمْعُ بَيْنَهُمْ، وَوُجُوهُهُمْ بَارِزَةٌ، وَمِنْهَا: تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع (5). انتهى.
وَقَدْ ذَكَرَ الطَّرْطُوشِيُّ (6) فِي إِيقاد الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ بَعْضَ هَذِهِ الأُمور، وَذَكَرَ أَيضاً قَبَائِحَ سِوَاهَا.
فأَين هَذَا كُلُّهُ مِنْ إِنكار مَالِكٍ تَنَحْنُحَ (7) المؤذِّن، أَو ضَرْبِهِ الْبَابَ ليُعْلِمَ بِالْفَجْرِ، أَو وضعَ الرداءِ (8)، وَهُوَ أَقرب مَرَامًا وأَيسرُ خَطْباً؟ فمن هنا
(1) قوله: "أحد" ليس في (ت).
(2)
في (ت) و (خ) و (م): "إيقاد الشمع بعرفة".
(3)
كذا! والمعروف ليلة التاسع، وهي ليلة عرفة؛ كما ذكره النووي في الموضع الآتي ذكره.
(4)
في (غ): "ذكره".
(5)
انظر: "الإيضاح في مناسك الحج والعمرة" للإمام النووي صفحة (295).
(6)
في كتابه "الحوادث والبدع". (ص103) فما بعد، لكن لم أر له كلاماً عن إيقاد المساجد، وإنما تكلم عن بدع المساجد.
(7)
في (خ): "لتنحنح" وفي (م): "تنحنحن".
(8)
تقدم إنكار مالك صفحة (408 ـ 409).
تنشأْ (1) بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، يَعْتَقِدُهَا الْعَوَامُّ سُنَنًا بِسَبَبِ سكوت العلماءِ والخواص عن الإِنكار، أَو بسبب (2) عَمَلِهِمْ بِهَا.
وأَما الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ: فَهِيَ عَلَى فرض (3) أَن يكون الناس عالمين (4) بحكم المخالفة، وأَنها مخالفة (5) قد ينشأُ الصغير على رؤيتها وظهورها، أَو يدخل فِي الإِسلام أَحد مِمَّنْ يَرَاهَا شَائِعَةً ذَائِعَةً فَيَعْتَقِدُونَهَا جَائِزَةً أَو مَشْرُوعَةً؛ لأَن الْمُخَالَفَةَ إِذا فَشَا فِي النَّاسِ فعلُها مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجَاهِلِ بِهَا فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ أَو الطَّاعَاتِ (6).
وَعِنْدَنَا (7): كَرَاهِيَةُ العلماءِ أَن يَكُونَ الْكُفَّارُ صَيَارِفَةً فِي أَسواق الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَمَلِهِمْ (8) بِالرِّبَا، فَكُلُّ مَنْ يَرَاهُمْ مِنَ العامة؛ صيارفةً وَتُجَّارًا فِي أَسواقنا مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ يَعْتَقِدُ أَن ذلك جائز؛ كذلك المعصية (9).
وأَنت تَرَى مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَ فِي بِلَادِنَا: أَن الحلِيَّ المَصُوغَ (10) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (11) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ إِلا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الصِّياغة أَصلاً (12)، والصَّاغَةُ عندنا كلهم أَو غالبهم إِنما يتبايعون ذلك
(1) في (خ) و (ت) و (م): "وأيسر خطباً من أن تنشأ".
(2)
في (ت) و (خ) و (م): "وبسبب".
(3)
علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "على فرض": ظرف خبر قوله: "فهي"، والجملة من المبتدأ والخبر؛ خبر قوله:"وأما المفسدة المالية".اهـ.
(4)
في (ت) و (م) و (خ): "عاملين".
(5)
قوله: "مخالفة" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(6)
في (ر) و (غ): "والطاعات".
(7)
في (ر) و (غ): "فعندنا".
(8)
في (خ): "لعلمهم" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل أصله: "لعملهم"، أو:"لتعاملهم بالربا".
(9)
قوله: "المعصية" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(10)
في (خ) و (م): "الموضوع". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: قوله: "الموضوع": لعل الصواب: "المصنوع".
(11)
في (م): "أو الفضة".
(12)
علق رشيد رضا هنا بقوله: في كتاب "إعلام الموقعين" للمحقق ابن القيم بيان وتحقيق لاعتبار قيمة الصياغة، وجواز بيع الحلي بأكثر من زنته لأجل ذلك. اهـ.
على (1) أَن يَسْتَفْضِلوا (2) قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ أَو إِجارَتَها (3)، وَيَعْتَقِدُونَ أَن ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ العلماءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ومَنْ بَعْدَهُمْ يتحفَّظون مِنْ أَمثال هَذِهِ الأَشياء، حَتَّى كَانُوا يَتْرُكُونَ السُّنن خَوْفًا مِنِ اعْتِقَادِ الْعَوَامِّ أَمراً هُوَ أَشد مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ، وأَولى أَن يَتْرُكُوا الْمُبَاحَاتِ أَنْ لَا (4) يُعتقد فِيهَا أَمر (5) لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"(6) ..
فَقَدْ ذَكَرُوا أَن عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَليس قَدْ قَصَرْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فَيَنْظُرُ إِليَّ الأَعراب وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ الصلاة (7)(8).
قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (9): تأَملوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فإِن فِي الْقَصْرِ قَوْلَيْنِ لأَهل الإِسلام:
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فريضة، ومن أَتَمَّ فإِنه يأْثم (10) وَيُعِيدُ أَبداً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سُنَّةٌ، يُعِيدُ مَنْ أَتَمَّ فِي الْوَقْتِ؛ ثُمَّ اقْتَحَمَ عُثْمَانُ تَرْكَ الْفَرْضِ أَو السُّنَّةِ (11)؛ لَمَّا خَافَ مِنْ سوءِ العاقبة، وأَن (12) يعتقد الناس أَن الفرض ركعتان.
(1) في (ت) و (خ) و (م): "يتبايعون على ذلك".
(2)
في (ت): "بأن يستفصلوا".
(3)
في (م): "أو إجازتها".
(4)
في (ت): "لئلاّ".
(5)
في (م): "أمراً".
(6)
(4/ 102) وما بعدها.
(7)
قوله: "الصلاة" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(8)
تقدم صفحة (344). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: تقدم ذكر هذه المسألة مع تنبيه في الحاشية على ما أجابوا به عن عثمان فيها. اهـ.
(9)
في "الحوادث والبدع"(ص43).
(10)
في (ت) و (خ) و (م): "فإنما يتم".
(11)
في (ت): "السنة أو الفرض".
(12)
في (ت) و (خ) و (م): "أن" بدون واو.
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَا يُضَحُّون؛ يعني أَنهم لا يلتزمون ذلك (1).
قال حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَكَانَا (2) لَا يُضَحِّيان مَخَافَةَ أَن يُرى أَنها وَاجِبَةٌ (3).
وَقَالَ بِلَالٌ: لَا أُبالي أَن أُضَحِّيَ بكبش (4) أَو بِدِيكٍ (5).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنه كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الأَضحى، وَيَقُولُ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سأَلك فَقُلْ: هَذِهِ أُضحية ابن عباس (6).
(1) قوله: "ذلك" ليس في (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل المفعول وهو "الأضحية" سقط من قلم الناسخ. اهـ.
(2)
قوله: "وكانا" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(3)
تقدم تخريجه صفحة (346).
(4)
في (ت) و (خ): "بكبشين".
(5)
أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في "المحلى"(7/ 358) من طريق سويد بن غَفَلَة؛ سمعت بلالاً
…
، فذكره ولم يذكر قوله:"بكبش". وإسناده صحيح.
وذكره الطرطوشي في "الحوادث"(ص43).
(6)
أثر ابن عباس هذا علّقه الشافعي في "الأم"(2/ 224)، وابن عبد البر في "التمهيد"(3/ 194) عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(8146) من طريق أبي معشر، عن رجل مولى لابن عباس؛ قال: أرسلني ابن عباس أشتري له لحماً بدرهمين، وقال: قل: هذه ضحيّة ابن عباس.
وسنده ضعيف؛ لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي؛ كما في "التقريب"(7150).
وأما شيخه المبهم: فقد أوضحته رواية ابن حزم؛ حيث ذكر في "المحلى"(7/ 358) أنه يرويه من طريق وكيع، عن أبي معشر المديني، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه أعطى مولى له درهمين وقال: اشتر بهما لحماً، ومن لقيك فقل: هذه أضحية ابن عباس.
وعبد الله بن عمير هذا ثقة، كما في "التقريب"(3537).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(9/ 265) من طريق أبي محمد يحيى بن منصور القاضي، عن محمد بن عمرو بن النضر الحَرَشي المعروف بقشمرد، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن سلمة بن بخت، عن عكرمة، به.=
وقال [أبو](1) مَسْعُودٍ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني لَمِنْ أَيْسَرِكُم ـ مَخَافَةَ أَن يَظُنَّ الجيران أَنها وَاجِبَةٌ (2).
وَقَالَ طَاوُسٌ (3): مَا رأَيت بَيْتًا أَكثر لَحْمًا وَخُبْزًا وَعِلْمًا (4) مِنْ بَيْتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ لَا يذبح يوم العيد! وإِنما كان يَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنها وَاجِبَةٌ، وَكَانَ إِماماً يُقْتَدَى بِهِ.
قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (5): وَالْقَوْلُ فِي هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وإِن لأَهل الإِسلام قَوْلَيْنِ فِي الأُضحية.
أَحدهما: سُنَّة.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، ثُمَّ اقْتَحَمَتِ الصَّحَابَةُ تركَ السُّنَّة حَذَرًا مِنْ أَن يَضَعَ الناسُ الأَمرَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، فيعتقدونها (6) فريضة.
وقال (7) مالك في "الموطأ"(8) في صيام ستة أَيام (9) بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: "إِنه لَمْ يَرَ أَحداً مِنْ أَهل الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا". قَالَ: "وَلَمْ يَبْلُغْني ذَلِكَ عَنْ أَحد مِنَ السَّلَف، وإِنّ أَهل الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وأَن يُلْحِق أَهلُ الْجَهَالَةِ والجَفاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَوْ رأَوا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً من أَهل العلم، ورأَوهم يفعلون (10) ذلك (11) ".
=وسنده رجاله ثقات، عدا محمد بن عمرو، فلم أجد من ترجم له، سوى الحافظ ابن حجر فإنه قال في "نزهة الألباب" (2/ 91 ـ 92 رقم 2249):"قَشْمُرَد: هو محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري، الحافظ، ويقال له: كشْمُرَد؛ بالكاف".
(1)
في جميع النسخ: "ابن"، وتقدم تصويبه (ص346).
(2)
تقدم تخريجه صفحة (346).
(3)
لم أجد من أخرج قول طاوس هذا، ولكن ذكره الطرطوشي هكذا في "الحوادث والبدع"(ص43)، فالظاهر أن المصنف أخذه عنه.
(4)
في (ت) و (خ) و (م): "وعملاً".
(5)
في "الحوادث والبدع"(ص43 ـ 44).
(6)
في (ر) و (غ): "فيعتقدوها".
(7)
في (خ) و (م) و (ت): "قال".
(8)
(1/ 311)، وانظر ما تقدم (1/ 357 ـ 358)، و (ص347 و355) من هذا المجلد.
(9)
قوله: "أيام" سقط من (خ).
(10)
في (ت) و (م) و (خ): "يقولون".
(11)
في (م): "تلك" بدل "ذلك".
فَكَلَامُ مَالِكٍ هُنَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنه لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ (1) كَمَا توهَّم بعضُهم، بَلْ لَعَلَّ كَلَامَهُ مُشْعِرٌ بأَنه يَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ (2) لَمْ يَرَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وإِن كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الأَصل؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً لِمَا قَالَ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي الأُضحية، وَعُثْمَانُ فِي الإِتمام فِي السَّفَرِ (3).
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا هُوَ أَغرب مِنْ هَذَا ـ وإِن كَانَ هُوَ الأَصل ـ، فَذَكَرَ: أَن النَّاسَ كَانُوا إِذا صَلّوا فِي الصَّحْن مِنْ جَامِعِ الْبَصْرَةِ أَو الكوفة، وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ؛ مَسَحُوا جِباهَهُمْ مِنَ التُّراب؛ كأَنه (4) كان مفروشاً بالتراب، فأَمر زياد بإِلقاءِ الحصى في صحن المسجد، وقال: لستُ آمَنُ أَن يَطُولَ (5) الزَّمَانُ، فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذا نشأَ أَن مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثر السُّجُودِ سُنَّة فِي الصَّلَاةِ.
وَهَذَا فِي مُبَاحٍ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَكْرُوهِ أَو الْمَمْنُوعِ؟
وَلَقَدْ بَلَغَنِي فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عهد بالإِسلام أَنه قال في الخمر: إِنها (6) لَيْسَتْ بحرامٍ، وَلَا عَيْبَ فِيهَا، وإِنما الْعَيْبُ أَن يُفْعَلَ بِهَا مَا لَا يصلُح؛ كَالْقَتْلِ وشِبْهِه.
وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ نشأَ في الإِسلام لكان (7) كُفْرًا، لأَنه إِنكارٌ لِمَا (8) عُلِمَ مِنْ دِينِ الأُمة ضَرُورَةً، وَسَبَبُ ذَلِكَ: تركُ الإِنكار مِنَ الوُلاة عَلَى شَارِبِهَا، والتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اقْتِنَائِهَا، وشهرةُ تجارة (9) أَهل الذمة فيها، وأَشباه ذلك.
(1) يعني: حديث أبي أيوب في فضل صيام ست من شوال، وتقدم تخريجه (ص347).
(2)
في (ر) و (غ): "لكن".
(3)
تقدم تخريجها في الصفحة السابقة والتي قبلها.
(4)
في (ت): "لأنه" بدل "كأنه"، وذكر في الهامش أن في نسخة:"كأنه".
(5)
في (ت) و (خ): "من أن يطول".
(6)
قوله: "إنها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(7)
في (ت) و (خ) و (م): "كان".
(8)
في (غ): "كما".
(9)
كذا في (ر) و (غ)، وفي (م):"بجاره"، أو:"فجاره"، وفي (ت):"وشهرته بحارة"،=
وَلَا مَعْنَى لِلْبِدْعَةِ، إِلا أَن يَكُونَ الْفِعْلُ في اعتقاد المعتقد (1) مشروعاً، وليس بمشروع (2). وهذا المآل مُتَوَقَّعٌ أَو وَاقِعٌ؛ فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ (3) عَنِ العجم ما يقتضي أَن ستة الأَيام مِنْ شَوَّالٍ مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُمْ بِرَمَضَانَ؛ لإِبقائهم حَالَةَ رَمَضَانَ الْخَاصَّةَ بِهِ كَمَا (4) هِيَ إِلى تَمَامِ السِّتَّةِ الأَيام، وَكَذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَنَا مِثْلُهُ، وقد مَرَّ منه (5) فِي الْبَابِ الأَول (6).
وجميعُ هَذَا مَنُوطٌ إِثمه بِمَنْ يَتْرُكُ الإِنكار مِنَ الْعُلَمَاءِ أَو غَيْرِهِمْ، أَو مَنْ (7) يَعْمَلُ بِبَعْضِهَا بمرأَى مِنَ النَّاسِ، أَو في جوامعهم (8)، فإِنهم الأَصل في انْتِشاءِ (9) هذه الاعتقادات في المعاصي أَو غيرها.
وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا: فَالْبِدْعَةُ تنشأُ عَنْ (10) أَربعة أَوجه:
أَحدها ـ وَهُوَ أَظهر الأَقسام ـ: أَن يَخْتَرِعَهَا الْمُبْتَدِعُ.
وَالثَّانِي: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وجه المخالفة، فيفهمها الجاهل مشروعة.
=أو: "وشهرته لجارة"، ولم تتضح في (خ)، وأثبتها رشيد رضا رحمه الله "وشهرته بحارة" واستشكل معناها وقال:"ينظر ما مراده بهذه الجملة، والظاهر أنه كان لأهل الذمّة في الأندلس حارات يسكنونها وحدهم، أو يكثرون فيها، وأن الخمر كانت تباع فيها؛ كما هي الحال في بعض بلاد المسلمين بالمشرق".اهـ.
(1)
في (ت) و (خ): "المبتدع" بدل "المعتقد".
(2)
في (ت): "وليس هو بمشروع".
(3)
في الفرق الخامس بعد المئة من "كتاب الفروق"(2/ 314)؛ حيث ذكر عن المالكية أن تأخير صيام ستة أيام من شوال أفضل؛ لئلا يتطاول الزمان، فيلحق برمضان عند الجهال. ثم نقل عن شيخه عبد العظيم المنذري أنه قال: إن الذي خشي منه مالك رحمه الله تعالى قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ المسحِّرين عَلَى عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان، إلى آخر الستة الأيام، فحيئذٍ يظهرون شعائر العيد. اهـ.
(4)
في (ت) و (خ) و (م): "الخاصة بكما".
(5)
قوله: "منه" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(6)
انظر (1/ 50).
(7)
في (غ): " أو ممن".
(8)
في (ت) و (خ) و (م): "مواقعهم".
(9)
يعني: ابتداء، ويدل عليه كلام المصنف الآتي. ووقع في (ت) و (خ) و (م):"انتشار".
(10)
في (ر) و (غ): "على".
وَالثَّالِثُ: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنِ الإِنكار، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَفْهَمَ الْجَاهِلُ أَنها لَيْسَتْ بِمُخَالَفَةٍ.
وَالرَّابِعُ: مِنْ بَابِ الذرائع، وهو (1): أَن يَكُونَ الْعَمَلُ فِي أَصله مَعْرُوفًا، إِلا أَنه يَتَبَدَّلُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ بِالذِّكْرَى (2).
إِلا أَن هَذِهِ الأَقسام لَيْسَتْ عَلَى وزانٍ واحدٍ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ، بَلْ هِيَ فِي القُرب وَالْبُعْدِ عَلَى تَفَاوُتٍ:
فالأَول: هُوَ الْحَقِيقُ بِاسْمِ الْبِدْعَةِ، فإِنها تؤخذ عنه (3) بِالنَّصِّ عَلَيْهَا.
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّانِي: فإِن الْعَمَلَ يشبه (4) التَّنْصِيصُ بِالْقَوْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَبلغ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ ـ كَمَا تبَّين فِي الأُصول ـ، غَيْرَ أَنه لا يتنزَّل (5) هاهنا من كل وجه منزلته؛ بدليل (6): أَن العالِمَ قَدْ يَعْمَلُ وَيَنُصُّ عَلَى قُبح عَمَلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا (7): لَا تَنْظُرْ إِلى عَمَلِ الْعَالِمِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحمد أَو غَيْرُهُ:
اعْمَلْ بعِلْمِي وَلَا تَنْظُر إِلى عَمَلِي
…
يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلا يَضْرُرْكَ (8) تَقْصِيرِي (9)
(1) في (خ) و (م): "وهي".
(2)
في (ت): "بالأصلي" بدل "بالذكرى".
(3)
في (ت) و (خ) و (م): "علة".
(4)
في (خ) و (م): "يشبهه".
(5)
في (ت) و (م) و (خ): "لا ينزل".
(6)
في (خ): "منزلة الدليل". وفي (ت) و (م): "منزلة دليل".
(7)
القائل هو: إياس بن معاوية القاضي، وقوله هذا أخرجه وكيع في "أخبار القضاة"(1/ 350)، والسهمي في "تاريخ جرجان"(1/ 213 رقم 328)، كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن إياس بن معاوية قال: لا تنظر إلى ما يعمل الفقيه، فإنه يصنع الأشياء يكرهها، ولكن سَلْه يخبرك بالحق.
هذا لفظ وكيع، ونحوه لفظ السهمي، إلا أنه قال:"العالم" بدل "الفقيه"، وقال:"ولكن قل له" بدل "ولكن سله".
وذكر المزي في "تهذيب الكمال"(3/ 433) أن عمر بن شبّة قال: حدثنا موسى بن إسماعيل؛ قال: حدثنا حماد بن سلمة؛ قال: قال إياس
…
، فذكره مثل لفظ السهمي.
وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(3/ 169) معلَّقاً عن إياس.
(8)
في (ت) و (خ) و (م): "يضرك".
(9)
انظر: "جمهرة خطب العرب"(2/ 277).
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فإِن تَرْكَ الإِنكار ـ مَعَ أَن رُتبة المُنْكِر رتبةُ مَنْ يُعَدُّ (1) ذَلِكَ مِنْهُ إِقراراً ـ يَقْتَضِي أَن الْفِعْلَ غيرُ مُنْكَر، ولكن لا يتنزَّل (2) مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَهُ؛ لأَن الصَّوَارِفَ لِلْقُدْرَةِ كثيرة، فقد (3) يَكُونُ التَّرْكُ لِعُذْرٍ؛ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فإِنه لَا عُذْرَ فِي فِعْلِ الإِنسان بِالْمُخَالَفَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بكونها مُخَالَفَةً.
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: لأَن الْمَحْظُورَ الحاليَّ فيما تقدم غير واقع (4) فيه بالفرض، فلا تبلغ المفسدة المُتَوَقَّعة أَن تُعَدَّ في رُتْبَةَ (5) الْوَاقِعَةِ أَصلاً، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، فَهِيَ إِذاً لَمْ تَبْلُغْ أَن تَكُونَ فِي الْحَالِ بِدْعَةً، فَلَا تَدْخُلُ بِهَذَا النَّظَرِ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ.
وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ، وَالْبِدْعَةُ مِنْ خَارِجٍ، إِلا أَنها لَازِمَةٌ لُزُومًا عَادِيًّا، وَلُزُومُ الثَّانِي أَقوى من لزوم الثالث، والله أَعلم.
(1) في (ت) و (خ) و (م): "بعد".
(2)
في (ت) و (خ) و (م): "ولكن يتنزل".
(3)
في (خ) و (م): "قد".
(4)
في (غ) يشبه أن تكون "واقف".
(5)
في (ت) و (خ) و (م): "أن تعدّى رتبة".