الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
ثُمَّ أَتى بمأْخذ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّة مَا زَعَمَ، وَهُوَ أَن الدعاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ، فإِن صَحّ أَن السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَالتَّرْكُ لَيْسَ بموجبٍ لحكمٍ فِي الْمَتْرُوكِ؛ إِلا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ.
وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ ـ الَّتِي هِيَ مسأَلتنا ـ، إِذ لَيْسَ لأَحد مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَن يَخْتَرِعَ فِي الشريعة من رأْيه أَمراً لا يدُلّ (1) عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ؛ لأَنه عَيْنُ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، إِذ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ (2)، بِحَيْثُ يُعَدّ الخارج عنها (3) خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهل الإِسلام، مُتَحَيِّزاً (4) ومتميِّزاً إِلى سَائِرِ مَا ذُكر. وَكُلُّ مَا لَا دليلَ (5) عليه فَهُوَ الْبِدْعَةُ.
وإِلى هَذَا (6): فإِن ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَن اتِّبَاعَ المتأَخرين المقلِّدين خَيْرٌ مِنَ اتباع السلف الصالحين (7)، ولو كان في أَحدِ جائِزَيْن، فكيف إِذا كان في أَمرين أَحدهما مُتَيَقَّنٌ أَنه صَحِيحٌ، وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فيه؟ فيتّبع
(1) في (خ): "لا يوجد"، وفي (م):"لا يدخل".
(2)
قوله: "السنن" سقط من (خ)، وفي (غ)"السنة".
(3)
في (خ) و (م): "عنه".
(4)
في (خ) و (م): "متجزاً"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! ولعله: "متحيزاً ومتميزاً".اهـ.
(5)
في (خ): "ما لا يدل"، وقد أثبت رشيد رضا العبارة هكذا:"وكل ما لا يدل عليه دليل"، فزاد قوله:"دليل"، وقال في الحاشية: سقط لفظ "دليل" من الأصل. اهـ.
(6)
علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "وعلى هذا".اهـ.
(7)
في (خ) و (م): "الصالحين من السلف".
الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ في صحته، ويؤنِّب (1) مَنْ يَتَّبِعُهُ.
ثُمَّ إِطلاقه الْقَوْلَ بأَن التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلا جَوَازَ التَّرْك، غَيْرَ جارٍ عَلَى أُصول الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ. فلنقرِّر (2) هُنَا أَصلاً لِهَذِهِ المسأَلة لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ به من أَنصف من نَفْسِهِ:
وَذَلِكَ أَن سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ في مسأَلة مّا، أَو تَرْكِهِ لأَمر مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحدهما: أَن يَسْكُتَ عَنْهُ أَو يَتْرُكَهُ لأَنه لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لأَجله، وَلَا وَقَعَ سببُ تقريرِه؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فإِنها لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وإِنما حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهل الشَّرِيعَةِ إِلى النَّظَرِ فِيهَا وإِجرائها عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الكُلِّيَّات الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، وإِلى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فيه السلف الصالح مما لم (3) يُبَيِّنْهُ (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاع، ومسأَلة الْحَرَامِ (5)، والجَدّ مَعَ الإِخوة، وعَوْل الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ: جَمْعُ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عليه السلام إِلى تَقْرِيرِهِ؛ لِتَقْدِيمِ (6) كُلِّيَّاته الَّتِي تستنبط مِنْهَا، إِذا (7) لَمْ تَقَعْ أَسباب الْحُكْمِ فِيهَا، ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ.
فَهَذَا الضَّرْب إِذا حَدَثَتْ أَسبابه فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فيه وإِجرائه على
(1) في (م): "ويؤلب"، ولم تتضح في (خ) بسبب كثافة حبر التصوير عليها، لكن أثبتها رشيد رضا هكذا:"ولولعا"، وقال:"كذا في الأصل".
(2)
في (خ) و (م): "فنقول".
(3)
قوله: "لم" سقط من "غ".
(4)
في (خ) و (م): "يسنّه".
(5)
أي: إذا قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أيقع طلاقاً؟ أو يكفّر كفارة يمين؟. انظر:"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (11/ 59).
(6)
في (خ): "للتقديم". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا في الأصل! وهو محرف، ولعل في الكلام حذفاً أيضاً، والمعنى المراد ظاهر، وهو: أن ما لم يحتج إلى تقريره في عصر النبوة من جزئيات الأحكام؛ قد وجد في الشريعة من القواعد الكلية ما يدخل فيه، ويستنبط هو منه".اهـ.
(7)
في (خ) و (م): "إذ".
أُصوله إِن كَانَ مِنَ العادِيَّات، أَو مِنَ العباديات (1) الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ، كَمَسَائِلِ السَّهْو والنِّسيان فِي أَجْزَاء (2) الْعِبَادَاتِ. وَلَا إِشكال فِي هَذَا الضَّرْبِ؛ لأَن أُصول الشَّرْعِ عَتِيدة، وأَسباب تِلْكَ (3) الأَحكام لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَو غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذا عُرِضَتِ النَّوَازِل رُوجِعَ بِهَا أُصولها فَوُجِدَتْ فِيهَا، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وإِنما يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصول الْفِقْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، أَو يَتْرُكَ أَمراً مَا مِنَ الأُمور (4)، ومُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ، إِلا أَنه لَمْ يُحدَّدْ فِيهِ أَمرٌ زَائِدٌ على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أَن القصد الشرعي فيه أَن لا يزاد فيه عَلَى مَا كَانَ (5) مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمثاله، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لأَنه لَمَّا كَانَ المعنى المُوجِبُ لشرعيَّة الحكم العملي (6) الْخَاصِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ، وَلَا نَبَّهَ على استنباطه (7)؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَن الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حدَّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ.
وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقل عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنس فِي سَمَاعِ أَشهب وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غايةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَن مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ، وأَنه لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ.
قَالَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ"(8): وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يأْتيه الأَمر يُحِبُّهُ
(1) في (خ): "العبادات".
(2)
في (خ): "إجراء".
(3)
في (خ) و (م): "ذلك".
(4)
قوله: "من الأمور" سقط من (غ) و (ر).
(5)
من قوله: "في ذلك الوقت" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(6)
في (خ) و (م): "العقلي".
(7)
في (خ) و (م): "السبطا"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله:"كذا! ".
(8)
انظر "البيان والتحصيل"(1/ 392)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 158 و271 ـ 272). وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (111) بسنده عن أشهب؛ قال: سألت مالكاً عن الحديث الذي جاء: أن أبا بكر الصدّيق لما أتاه خبر اليمامة سجد
…
، فذكره.
فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عز وجل شُكْرًا؟ فَقَالَ: لَا يفعل! ليس (1) هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمر النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِن أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه فِيمَا يَذْكُرُونَ ـ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ (2)، أَفسمعت ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وأَنا أَرى أَن (3) قَدْ كَذَبُوا عَلَى (4) أَبي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَن يَسْمَعَ المرءُ الشيءَ فَيَقُولُ: هَذَا شيء (5) لم أَسمع له خلافاً. فقيل له: إِنما نسأَلك لنعلم رأْيك فنرد ذلك به. فقال: نأْتيك بشيء آخر أَيضاً (6) لم تسمعه مني: قد فُتِحَ على رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفسمعت أَن أَحداً مِنْهُمْ فعل مثل هذا؟ إِذا جاءك مثل هذا (8) مما قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيديهم لا يسمع (9) عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ، فإِنه لَوْ كان لذُكر؛ لأَنه من أَمر
(1) قوله: "ليس" سقط من (خ) و (م).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(8413)، والبيهقي في "سننه"(2/ 371)، كلاهما من طريق مِسْعَر، عن أبي عون الثقفي محمد بن عبيد الله، عن رجل لم يُسَمِّه: أن أبا بكر لما فتح اليمامة سجد.
وهذا سند ضعيف لإبهام شيخ أبي عون، وذكر البيهقي أنه قيل: عن مِسْعر، عن أبي عون محمد بن عبيد الله، عن يحيى بن الجزار؛ أي: هو المبهم، ولكن البيهقي لم يسنده، ولعله يعني ما أسنده ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (8414) من طريق وكيع، عن مسعر، عن أبي عون الثقفي، عن يحيى بن الجزار: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به رجل به زمانة، فسجد، وأبو بكر، وعمر.
فإن كان قصد هذا: فليس هو في فتح اليمامة، وإن كان يشهد لمسألة سجود الشكر في الجملة، ومع ذلك فهو ضعيف؛ لأن يحيى بن الجزار لم يُذكر له سماع من أبي بكر رضي الله عنه، ولا أظنه أدركه؛ كما يتضح من "الجرح والتعديل"(9/ 133 رقم 561) و"تهذيب الكمال"(31/ 251 ـ 253).
وأخرج هذا الأثر عبد الرزاق في "المصنف"(5963) عن سفيان الثوري، عن أبي سلمة، عن أبي عون؛ قال: سجد أبو بكر حين جاءه فتح اليمامة.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"(5/ 288 رقم 2882). وهذا الوجه أشد انقطاعاً من سابقه، لكن طريق مسعر أرجح، والله أعلم.
(3)
علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "أنهم".اهـ.
(4)
في (غ): "على ذلك".
(5)
قوله: "شيء" سقط من (خ).
(6)
من قوله: "لم أسمع له خلافاً" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(7)
في (خ) و (م): "فتح الله على رسول الله".
(8)
قوله: "جاءك مثل هذا" سقط من (خ) و (م).
(9)
في (خ) و (م): "على أيديهم سمع".
النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَن أَحداً منهم سجد؟ فهذا إِجماع، إِذا (1) جاءَك أَمر لا تعرفه فدعه.
هذا (2) تَمَامَ الرِّوَايَةِ. وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ والجواب عنه (3) بِمَا تَقَدَّمَ.
وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَن يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ ـ مَثَلًا ـ: إِنها فعلٌ سَكَتَ الشارعُ عَنْ حُكمه فِي الفِعل والتَّرك، فَلَمْ يَحْكم عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ، فالأَصل جَوَازُ فِعْلِهِ، كَمَا أَن الأَصل (4) جواز تركه، إِذ هو في (5) مَعْنَى الْجَائِزِ، فإِن كَانَ لَهُ أَصل جُمْلي فأَحْرَى أَن يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَو كَرَاهَتِهِ (6)، وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنه (7) أَمر مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشارع، والسكوت من الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً، وَلَا يُعَيِّن الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، وإِذا ثَبَتَ هَذَا فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بمخالفٍ؛ إِذ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رحمه الله، وَهُوَ أَن السُّكُوتَ (8) عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَو التَّرْك هُنَا إِذا وُجِدَ الْمَعْنَى المُقْتَضي لَهُ إِجماعٌ مِنْ كلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَن لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ؛ إِذ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَو سَائِغًا لَفَعَلُوهُ، فَهُمْ كَانُوا أَحقَّ بإِدراكه وَالسَّبْقِ إِلى الْعَمَلِ به، وذلك إِذا نظرنا إِلى المصالح (9)؛ فإِنه لَا يَخْلُو: إِما (10) أَن يَكُونَ فِي هذا (11) الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا. وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحد. والأَول إِما أَن تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ (12) مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زمان التشريع (13) أَو لا. ولا يمكن أَن تكون (14)
(1) في (خ) و (م): "وإذا".
(2)
قوله: "هذا" ليس في (خ) و (م).
(3)
قوله: "عنه" ليس في (خ).
(4)
في (خ) و (م): "أصل".
(5)
قوله: "في" ليس في (خ) و (م).
(6)
في (غ) و (ر): "كراهيته".
(7)
قوله: "أنه" سقط من (غ) و (ر).
(8)
في (خ) و (م): "التشديد" بدل "السكوت".
(9)
في (خ) و (م): "المصلحة".
(10)
قوله: "إما" ليس في (غ) و (ر).
(11)
في (خ) و (م): "هذه".
(12)
في (خ): "أوكد".
(13)
في (خ) و (م): "التكليف" بدل "التشريع".
(14)
في (خ) و (م): "يكون".
آكد (1) مع كون المُحْدَثَةِ زيادةً؛ لأَنها زِيَادَةَ (2) تَكْلِيفٍ، وَنَقْصُهُ (3) عَنِ المُكلَّف أَحْرَى بالأَزمنة المتأَخِّرة؛ لِمَا يُعْلَم مِنْ قُصُورِ الهِمَم وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ، ولأَنه خلافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالحَنِيفية السَّمْحَة (4)، ورَفْعِ الحَرَجِ عَنِ الأُمَّة، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ؛ لأَن الْعَادَاتِ أَمر آخَرُ ـ كَمَا سيأْتي ـ وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ (5)، فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَن تَكُونُ (6) الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ، أَو أَضعف مِنْهَا. وعند ذلك يصير هذا (7) الإِحداث عَبْثًا، أَو اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ؛ لأَن تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ إِن حَصَلَتْ للأَولين مِنْ غَيْرِ هَذَا الإِحداث، فالإِحداث (8) إِذاً عَبَثٌ، إِذ لَا يَصِحُّ أَن يَحْصُلَ للأَولين دون الآخرين، مع فرض التزام العمل بما عمل به الأَوَّلون من ترك الزيادة، وإِن لم تحصل للأَولين وحصلت للآخرين (9)، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ يسبب (10) للآخرين (11) ما فات للأَولين (12)، فَلَمْ يَكْمُلِ (13) الدِّينُ إِذاً دُونَهَا، وَمَعَاذَ اللَّهِ من هذا المأْخذ.
(1) قوله: "آكد" سقط من (خ) و (م)، فعلق عليه رشيد رضا بقوله:"انظر أين اسم يكون وخبره؟ الظاهر أنه سقط من الناسخ، والمعنى الذي يقتضيه السياق، ويتعين مما يأتي هو: نفي كون المصلحة الحادثة آكد؛ لأنه سيقول: إنها مساوية أو أضعف. فلعل أصل الكلام: "ولا يمكن أن تكون آكد"، وقوله: "مع كون المحدثة" إلخ؛ تعليل للنفي".اهـ.
(2)
قوله: "لأنها زيادة" سقط من (خ) و (م).
(3)
في (خ): "ونقضه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله:"كذا! ولعل الأصل: "نقصه" بالصاد المهملة؛ أي: نقص التكليف وتخفيفه". اهـ.
(4)
حديث "بعثت بالحنيفية السمحة" تقدم تخريجه (ص154).
(5)
كذا في جميع النسخ. وعلق الشيخ رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كذا ولعل الأصل: (وقد مر شيء منه) أو ما هو بمعنى هذا".
(6)
في (ر) و (غ): "يكون".
(7)
في (خ): "هذه".
(8)
قوله: "فالإحداث" سقط من (خ)، و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: فهي إذاً عبث. اهـ.
(9)
من قوله: "مع فرض التزام" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(10)
في (خ) و (م): "بسبب".
(11)
في (خ) و (م): "الأخرى".
(12)
علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل إلا بسبب للآخرين ما فات الأولين. اهـ.
(13)
في (غ): "يكن".
وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: أَن تَرْكَ الأَولين لأَمر مَا مِنْ غَيْرِ أَن يُعَيِّنوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الأَدلّة الجُمْليَّة، وَوُجُودِ المَظِنَّة (1)، دَلِيلٌ عَلَى أَن ذَلِكَ الأَمر لَا يُعْمَلُ بِهِ، وأَنه إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْد (2) فِي شَرْحِ مسأَلة "الْعُتْبِيَّةِ": الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنه (3) لم يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذ لَمْ يأْمر (4) بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجمع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لا تثبت إِلا من أَحد هذه الوجوه (5). قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ: بأَن ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صحيحٌ (6)؛ إِذ لا يَصِحّ أَن تتوفَّر دواعي المسلمين (7) عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وقد أُمروا بِالتَّبْلِيغِ.
قَالَ: وَهَذَا أَصل مِنَ الأُصول (8)، وَعَلَيْهِ يأْتي إِسقاط الزَّكَاةِ مِنَ الخُضَر والبُقُول ـ مَعَ وجوب (9) الزكاة فيها بعموم قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"فِيمَا سَقَتِ السَّماءُ وَالْعُيُونُ والبَعْلُ: العُشُر، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْح: نصف العشر"(10) ـ؛ لأَنا لو أَنزلنا (11) ترك نقل أَخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ مِنْهَا كالسُّنَّة الْقَائِمَةِ فِي أَن لَا زكاة فيها، فكذلك نُنْزِل (12) تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَن لا سجود فيها. ثم حَكَى (13)
(1) في (ر) و (غ): "ووجوداً مظنة".
(2)
في "البيان والتحصيل"(1/ 393).
(3)
أي: الإمام مالك.
(4)
في (خ) و (م): "يؤمر".
(5)
كذا في (غ) و (ر)، وهو الموافق لما في "البيان والتحصيل"، وفي (خ) و (م):"الأمور" بدل "الوجوه".
(6)
خبر: "واستدلاله"؛ أي: واستدلاله صحيح.
(7)
في (خ) و (م): "أن تتوفر الدواعي".
(8)
في "البيان والتحصيل": "وهذا أيضاً من الأصول".
(9)
في (خ) و (م): "وجود".
(10)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 270) واللفظ له، والبخاري (1483) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (981) بنحوه من حديث جابر.
(11)
في (خ) و (م): "لأنا نزلنا".
(12)
في (خ): "نزل" وفي (م): "تنزل".
(13)
يعني: ابن رشد.
خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ المسأَلة: تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنها بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنها بِدْعَةٌ عَلَى الإِطلاق (1).
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ المحلِّل، وأَنه بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِد فِي زَمَانِهِ عليه السلام الْمَعْنَى المُقْتَضي لِلتَّخْفِيفِ والترخيص للزوجين بإِجازة التحليل ليتراجعا كما كانا أَوّل مرَّة، وأَنه لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امرأَة رِفَاعَةَ (2) عَلَى رُجُوعِهَا إِليه؛ دَلّ عَلَى أَن التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا. وَهُوَ أَصل صَحِيحٌ، إِذا اعتُبِر؛ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لأَن الْتِزَامَ الدعاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الجماعات لو كان مُسْتَحسناً (3) شَرْعًا ـ أَو جَائِزًا ـ؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَولى بِذَلِكَ (4) أَن يَفْعَلَهُ.
وَقَدْ عَلَّل المُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنه لَمْ يأْت مَا يُخَالِفُهُ، وأَن الأَصل الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عنه.
أَما أَن الأَصل الجواز فيُمنع (5)؛ لأَن طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلى أَن الأَشياءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الإِباحة، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ؟ وإِن سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الإِطلاق أَم لَا؟ أَما فِي العاديَّات فمُسَلَّم، وَلَا نُسَلِّم أَن مَا نَحْنُ فيه من العاديَّات، بل من العباديَّات، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تعبُّد: إِنه مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ، أَم هُوَ عَلَى الإِباحة؟ بَلْ هو أبداً (6) على المنع؛ لأَن
(1) تقدم في بداية بحث المسألة ذكر ما يستدل به على مشروعية سجود الشكر.
(2)
حديث امرأة رفاعة: أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433)، من حديث عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة جاءت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فَبَتّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القُرَظي، وإنما معه مثل الهَدَبَة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عُسَيْلتك، وتذوقي عُسَيْلته".
(3)
في (خ) و (م): "صحيحاً" بدل "مستحسناً".
(4)
في (م): "بأولى فذلك".
(5)
في (خ): "فيمتنع"، ويبدو أنها كانت هكذا في (م)، ثم طمست التاء.
(6)
في (خ) و (م): "أمر زائد" بدل "أبداً".
التعبُّدِيَّات (1) إِنما وَضْعُها (2) لِلشَّارِعِ، فَلَا يُقَالُ فِي صلاةٍ سادسةٍ ـ مَثَلًا ـ: إِنها عَلَى الإِباحة، فللمُكَلَّف وَضْعُهَا ـ عَلَى أَحد الْقَوْلَيْنِ ـ لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ؛ لأَنه بَاطِلٌ بإِطلاق، وَهُوَ أَصل كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَن يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ. وَلَوْ سُلِّم أَنه مِنْ قَبِيلِ العاديَّات، أَو مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَل مَعْنَاهُ، فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيضاً؛ لأَن تركَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالي أَزْمِنَتِهم قَدْ تقدَّم أَنه نصٌّ فِي التَّرْك، وإِجماعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَك؛ لأَن عَمَلَ الإِجماع كنصِّه، كما أَشار إِليه مالك في كلامه (3).
وأَيضاً فما يُعَلِّل به (4) لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتى الرَّادُّ بأَوجه مِنْهُ:
أَحدها: أَن الدعاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدعاءِ، وأَنه بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ.
وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَن يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ والإِظهار فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا (5) مِنَّا وَمِنْهُ، فَانْقَلَبَ إِذاً وَجْهُ التَّشْرِيعِ.
وأَيضاً فإِن إِظهار التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَولى، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ المتكلَّم فِيهَا أَولى بالإِظهار (6)، ولَمّا (7) لَمْ يَفْعَلْهُ عليه الصلاة والسلام؛ دلَّ على الترك مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى المُقْتَضي، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلا التَّرْكُ.
وَالثَّانِي: أَن الإِمام يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدعاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقربَ إِلى الإِجابة.
وهذه العلة كانت موجودة (8) في زمانه عليه الصلاة والسلام؛ لأَنه لَا يَكُونُ أَحدٌ أَسرعَ إِجابةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ؛ إِذ كَانَ مجابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشكال، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ـ وإِن عَظُم قَدْرُهُ فِي الدِّينِ ـ، فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ، فَهُوَ كَانَ أَحقَّ بأَن يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ والليلة زيادة إِلى دعائهم لأَنفسهم.
(1) في (غ) و (ر): "التعبدات".
(2)
في (خ): "وضعوا"، ولذا علق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: إنما وضعها للشارع. اهـ.
(3)
أي: المتقدم (ص284).
(4)
في (خ) و (م): "له".
(5)
في (غ) و (ر): "سنة باتفاق".
(6)
في (خ) و (م): "للإظهار"، وفي (ر):"بالإظها".
(7)
في (غ): "لما".
(8)
قوله: "موجودة" سقط من (خ).
وأَيضاً: فإِن قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبلغ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجتماعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه، فكانوا بالتَّنَبُّه (1) لِهَذِهِ المَنْقَبَة أَولى.
وَالثَّالِثُ: قَصْدُ التَّعْلِيمِ للدعاءِ؛ ليأْخذوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لأَنفسهم؛ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَو شَرْعًا.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ؛ فإِن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ المعلِّمَ الأَوَّل، وَمِنْهُ تلقَّينا أَلفاظ الأَدعية وَمَعَانِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ (2):
ربَّ العبادِ ما لنا وما لَكَا (3)
…
أَنْزِلْ عَلَيْنا الغَيْثَ لا أَبالَكَا (4)
وقال الآخر (5):
لا هُمَّ إِن كُنْتَ الَّذِي بعَهْدِي
…
ولَمْ تُغَيِّرْكَ الأُمورُ بَعْدِي
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَبَنِيَّ لَيْتي (6) لَا أُحِبُّكُمُ
…
وَجَدَ الإِلهُ بكُمُ كما أَجِدُ
(1) في (خ) و (م): "بالتنبيه".
(2)
قال المُبَرِّد في "الكامل"(3/ 1139/تحقيق د. محمد الدالي):
وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جَدْبَةٍ يقول:
ربَّ العبادِ ما لَنا ومالَكا
…
قد كنت تَسْقينا فما بدا لكَ
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
فأخرجه سليمانُ أحسنَ مُخْرَجٍ، فقال: أشهد أن لا أبا له، ولا ولد، ولا صاحبة. اهـ.
وانظر الخبر أيضاً في "لسان العرب"(14/ 12).
وكان المبرِّد قد قال قبل سياق القصة ـ وهو يتحدّث عن كلمة "لا أبا لك" ـ: "وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحثّ على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيّتك لا أبا لك!
…
"، ثم ساق القصة.
(3)
في (خ) و (م): ومالك".
(4)
في (خ) و (م): "لا أبالك".
(5)
ذكر هذا الرَّجَز ابن سيده في "المخصّص"(3/ 4)، وابن منظور في "لسان العرب" (2/ 461/مادة "روح") بلفظ:
لا هُمَّ إنْ كنتَ الذي كَعَهدي
…
ولم تُغَيِّرْك السِّنونَ بعدي
وذكرا أنه من جفاء الأعراب، ولم ينسباه لأحد.
(6)
كذا في (خ)، وفي باقي النسخ:"ليتني".
وَهِيَ أَلفاظ يَفْتَقِرُ أَصحابها إِلى التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا قريبي (1) عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، تُعَامِلُ الأَصنامَ معاملةَ الربِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُنَزِّهه كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصلوات دائماً ليعلِّمهم أَو يغنيهم عن (2) التعلُّم (3) إِذا صَلَّوْا مَعَهُ، بَلْ علَّم فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثر الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذ ذَاكَ إِلى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ أَولى الْخَلْقِ بِذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: أَن فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ تَعَاوُنًا عَلَى البِرّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مأْمور بِهِ.
وهذا الاحتجاج (4) ضَعِيفٌ؛ فإِن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أُنزل عَلَيْهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} (5)، وَكَذَلِكَ فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ للدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ البرِّ وَالتَّقْوَى؛ لَكَانَ أَوّل سَابِقٍ إِليه، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصلاً، وَلَا أَحدٌ بَعْدَهُ حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنه لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الوجه ببرٍّ (6) وَلَا تَقْوَى.
وَالْخَامِسُ: أَن عامَّة النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَرُبَّمَا لَحَن، فَيَكُونُ الَّلحْنُ سَبَبَ عدمِ الإِجابة. وحَكَى عَنِ الأَصْمَعي في ذلك حكاية شعريَّة لا فقهيَّة (7).
(1) في (خ): "قرب" وفي (م): "قربى".
(2)
في (خ): "أو يعينهم على".
(3)
في (غ) و (ر): "التعليم".
(4)
في (خ) و (م): "الاجتماع".
(5)
سورة المائدة: الآية (2).
(6)
في (خ) و (م): "بر".
(7)
الظاهر أنه يعني ما أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 320 رقم 1565) من طريق أبي عبد الله الحاكم؛ قال: سمعت أبا بكر الإسماعيلي يقول: أخبرني المرزباني؛ حدثني محمد بن الفضل؛ حدثني الرياشي؛ قال: مرّ الأصمعي برجل يدعو ويقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له الأصمعي: يا هذا! ما اسمك؟ فقال: ليث، فقال الأصمعي:
يُناجي ربَّه باللَّحْن لَيْثٌ
…
لِذاكَ إذا دعاه لا يُجيب
ومن طريق البيهقي رواها ابن عساكر في "تاريخه"(37/ 80 ـ 81). وفي سند الحكاية محمد بن الفضل ولم يتضح لي من هو؟
والراوي عنه هو محمد بن عمران بن موسى المرزباني معتزلي متكلم فيه. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد"(3/ 135 رقم 1159)، و"سير أعلام النبلاء"(16/ 447 ـ 449)، و"لسان الميزان"(5/ 326 رقم 1077).
وهذا الاحتجاج (1) إِلى اللَّعِبِ أَقرب مِنْهُ إِلى الْجَدِّ، وأَقرب مَا فِيهِ أَن أَحداً مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدعاءِ أَن لَا يَلْحَنَ كَمَا يَشْتَرِط الإِخلاصَ وصدقَ التَّوَجُّه (2)، وعزمَ المسأَلة، وغيرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ. وتعلُّمُ (3) اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لإِصلاح الأَلفاظ فِي الدعاءِ ـ وإِن كَانَ الإِمامُ أَعرفَ بِهِ ـ؛ هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِليه الإِنسان مِنْ أَمر دِينِهِ. فإِن كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا، فالقراءَة وَاجِبَةٌ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، فإِن كَانَ تعليمُ (4) الدُّعَاءِ إِثر الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا، فَتَعْلِيمُ (5) فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّه أَن يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثار الصلوات (6).
فإِن قال (7) بموجبه في الحِزْبِ (8) الْمُتَعَارَفِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثّ أَصله؛ لأَن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحقَّ بالسَّبْق إِلى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذُكر فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مالك بن أنس (9) فِيهَا: أَترى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرغبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ وَهُوَ إِشارة إِلى الأَصل الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن الْمَعْنَى المُقْتَضي للإِحداث ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتمَّ فِي السَّلَفِ الصالح، وهم لم يفعلوه، فدل أَنَّهُ لَا يُفْعَل.
وأَما مَا ذُكِرَ مِنْ آداب (10) الدعاءِ: فكُلُّه مما لَا يتعيَّن لَهُ (11) إِثر الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً، وَلَمْ يُعَلِّم مِنْهَا شَيْئًا إِثر الصَّلَاةِ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ ليأْخذوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، أَو لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ (12) عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ، وَمَعَ أَن الْحَاضِرِينَ للدعاءِ لَا يَحْصُلُ لهم من الإِمام فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، وإِن حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ.
(1) في (خ) و (م): "الاجتماع".
(2)
في (خ) و (م): "التوجيه"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: أي: توجيه القلب إلى الله تعالى المأخوذ من قوله تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، ويحتمل أن يكون:"التوجه" الذي مطاوع التوجيه. اهـ.
(3)
في (ر) و (غ): "وتعليم".
(4)
في (غ) و (ر): "تعلم".
(5)
في (ر) و (غ): "فتعلم".
(6)
في (خ) و (م): "الصلاة".
(7)
في (خ) و (م): "فإن قيل".
(8)
في (م): "المحزب"، وفي (خ) يشبه أن تكون:"المحرف".
(9)
قوله: "ابن أنس" من (غ) و (ر) فقط، ونقل المصنف كلام مالك هذا في "الموافقات"(3/ 497).
(10)
في (غ) و (ر): "أدب".
(11)
قوله: "له" ليس في (غ).
(12)
في (غ): "عن دعائه".