المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ فإِن قِيلَ: فَالْبِدَعُ الإِضافية هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عباداتٍ حَتَّى تَكُونَ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ فإِن قِيلَ: فَالْبِدَعُ الإِضافية هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عباداتٍ حَتَّى تَكُونَ

‌فَصْلٌ

فإِن قِيلَ: فَالْبِدَعُ الإِضافية هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عباداتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّباً بِهَا إِلى اللَّهِ تَعَالَى، أَم لَا تَكُونُ كَذَلِكَ؟

فإِن كَانَ الأَول فَلَا تأْثير إِذاً لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، إِذ لَا يَخْلُو (1) مِنْ أَحد الأَمرين (2): إِما أَن لَا يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَتَقَعُ مَشْرُوعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، فَتَصِيرُ جِهَةَ الِابْتِدَاعِ مُغْتَفِرَةً، فَلَا عَلَى الْمُبْتَدَعِ (3) فِيهَا أَن يَبْتَدِعَ. وإِما أَن يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ، فَقَدْ صَارَ لِلِابْتِدَاعِ أَثر فِي ترتُّب الثَّوَابِ، فَلَا يصح أَن يكون منهيّاً (4) عَنْهُ بإِطلاق، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ الذَّمِّ فِيهِ. وإِن كَانَ الثَّانِي: فَقَدِ اتَّحَدَتْ البدعة الإِضافية مع الحقيقية؛ فالتقسيم (5) الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي نَحْنُ فِي شرحه لا فَائِدَةَ فِيهِ.

فَالْجَوَابُ: أَن حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الإِضافية أَنها لَا تَنْحاز إِلى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الجملة، بل يتجاذبها الأَصلان ـ أَصل السُّنَّةِ وأَصل الْبِدْعَةِ ـ، لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى النَّظَرُ السَّابِقُ لِلذِّهْنِ أَن يُثَابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، ويُعاتب مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، إِلا أَن هَذَا النَّظَرَ لا يتحصل؛ لأَنه مجمل.

(1) في (ر) و (غ): "لا تخلو".

(2)

في (ر) و (غ): "أمرين".

(3)

في (ر) و (غ): "جهة الابتداع معتبرة بما على المبتدع".

(4)

في (ت) و (خ) و (م): "منفياً" بدل "منهياً".

(5)

تصحَّفت الكلمة على رشيد رضا رحمه الله هكذا: "بالتقسيم"، فأشكل عليه باقي العبارة، فعلّق في نهاية هذا السطر ـ بعد قوله:"لا فائدة فيه" ـ بقوله: "كذا! ولعل أصله: ولا فائدة فيه".

ص: 326

والذي ينبغي أن يقال: إِن (1) جهة البدعة في العمل لا تخلو (2) أَن تَنْفَرِدَ أَو تَلْتَصق، وإِن الْتَصَقَتْ فَلَا تَخْلُو أَن تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ؛ إِما بالقصد، أَو بالوضع الشرعي، أو (3) الْعَادِيِّ، أَو لَا (4) تَصِيرُ وَصْفًا. وإِن لَمْ تَصِرْ وصفاً، فإِما أَن يكون وضعها ذريعة (5) إِلى أَن تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا.

فَهَذِهِ أَربعة أَقسام لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تحصيل هذا المطلوب بحول الله تعالى:

فأَما الْقِسْمُ الأَول ـ وَهُوَ أَن تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ ـ: فَالْكَلَامُ فِيهِ ظَاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، إِلا أَنَّهُ إِن كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التعبُّد فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وإِلا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَفعال الْعَادِيَّةِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ (6) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

مِثَالُهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ القيام إِلى الصلاة فيَتَنَحْنَحُ مثلاً، أَو يَمْتَخِطُ (7)، أَو يَمْشِي خُطُوَاتٍ، أَو يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يقصد بذلك (8) وَجْهًا رَاجِعًا إِلى الصَّلَاةِ، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ عادة أَو تعزُّزاً (9)، فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَاتِ الْجَائِزَةِ، إِلا أَنه يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيضاً أَن لَا يَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْضِمَامُ إِلى الصَّلَاةِ (10) عَمَلًا أَو قَصْدًا، فإِنه إِذ ذَاكَ يَصِيرُ بِدْعَةً. وسيأْتي بَيَانُهُ إِن شاءَ اللَّهُ.

وَكَذَلِكَ أَيضاً إِذا فَرَضْنَا أَنه فَعَلَ فعلاً قَصْدَ التقرُّب مما لم يشرع

(1) في (ت) و (خ): "في" بدل "إن".

(2)

في (ت) و (م) و (خ): "لا يخلو".

(3)

قوله: "أو" سقط من (خ).

(4)

في (ت) و (خ) و (م): "ولا".

(5)

قوله: "ذريعة" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

في (ر) و (غ): "خارجي".

(7)

في (خ) و (ت): "يتمخَّط".

(8)

في (خ) و (م): "بذا" بدل "بذلك".

(9)

كذا في (غ) و (ر)! وفي (خ) و (م) و (ت): "تغرزاً"، أو "تقرزاً". وأما رشيد رضا فأثبتها:"تقززاً"، ولم تنقط الراء في نسخة (خ) التي اعتمد هو عليها!.

(10)

من قوله: "وهو من جملة العادات" إلى هنا سقط من (غ).

ص: 327

أَصلاً، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ إِلى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ فِعْلَهُ لأَجل الصَّلَاةِ، وَلَا كَانَ مَظِنَّةً لأَن (1) يُفْهَمَ مِنْهُ انْضِمَامُهُ إِليها، فَلَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ، وإِنما يَرْجِعُ الذَّمُّ فِيهِ إِلى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ.

وَمِثْلُهُ: لَوْ أَراد الْقِيَامَ إِلى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلَ عِبَادَةً مَشْرُوعَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَلَا جَعْلِهِ (2) عُرْضَةً لِقَصْدِ انْضِمَامِهِ، فَتِلْكَ الْعِبَادَتَانِ عَلَى أَصالتهما (3). وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَو الْعِتْقِ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وإِليك، عَلَى غَيْرِ الْتِزَامٍ (4) وَلَا قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَكَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ وَلَا عَلَى الِالْتِزَامِ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ هُنَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ صَاحِبَتِهَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهَا (5).

وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا (6) أَن الدعاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وقع من أَئمة الصلوات في (7) المساجد في بعض الأَوقات للأَمر يحدث؛ من قَحْطٍ، أَو خوفٍ، ونحوه (8) مِنْ مُلِمٍّ؛ لَكَانَ جَائِزًا (9)؛ لأَنه (10) عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، إِذ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وجهٍ يُخاف مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الِانْضِمَامِ، وَلَا كَوْنُهُ سُنَّةً تُقَامُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُعْلَنُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا (11) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دعاءَ الاستسقاءِ بِهَيْئَةِ (12) الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ يَخْطُبُ (13)، وَكَمَا أَنَّهُ دَعَا أَيضاً (14) فِي غَيْرِ أَعقاب

(1) في (ر) و (غ): "أن".

(2)

في (خ) و (م): "ولأجله".

(3)

في (ر) و (غ): "فكلتا العبادتين على أصالتها".

(4)

في (ر) و (غ): "على غير الالتزام".

(5)

في (ر) و (غ): "فيهما".

(6)

قوله: "لو فرضنا" مكرر في (م).

(7)

قوله: "الصلوات في" من (غ) و (ر) فقط.

(8)

قوله: "ونحوه" من (غ) و (ر) فقط.

(9)

في (م): "جائز".

(10)

في (ر) و (غ): "إلا أنه".

(11)

في (غ) و (ر): "وكما".

(12)

في (غ): "على هيئة".

(13)

رواه البخاري (1029) تعليقاً، وفيه:"فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون" الحديث. ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي كما قال الحافظ في "الفتح"، ثم رواه في "تغليق التعليق"(2/ 392) من طريق المحاملي، عن محمد بن إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه به.

(14)

في (ت): "وكما أنه أيضاً دعا".

ص: 328

الصَّلَوَاتِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ (1)، لَكِنْ فِي الفَرْطِ، وَفِي بَعْضِ الأَحَايِين كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَا يُتربَّص بها وقت (2) بِعَيْنِهِ، وكيفيَّة بِعَيْنِهَا.

وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (3) عَنْ أَبي سعيد مولى [أبي](4) أَسيد؛ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه إِذا صَلَّى العشاءَ أَخرج النَّاسَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَتَخَلَّفَ لَيْلَةً مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فأَتى عَلَيْهِمْ (5) فَعَرَفَهُمْ، فأَلقى دِرَّتَه وَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، حَتَّى صَارَ الدعاءُ إِلى عمر (6)، فَكَانُوا يَقُولُونَ: عُمَرُ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَلَمْ أَر أَحداً مِنَ النَّاسِ تِلْكَ السَّاعَةَ أَرقَّ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ لَا ثَكْلَى وَلَا أَحداً (7).

(1) كما جاء في الحديث الذي رواه الفضل بن العلاء؛ قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن محمد بن قيس، عن أبيه؛ أنه أخبره: أن رجلاً جاء زيد بن ثابت فسأله عن شيء؟ فقال له زيد: عليك بأبي هريرة؛ فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكر ربنا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال:"عودوا للذي كنتم فيه". قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمِّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمين"، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى، فقال:"سبقكما بها الغلام الدوسي". أخرجه النسائي في "الكبرى"(5870)، والطبراني في "الأوسط"(1228)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 508)، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا الفضل، ولا يروى عن زيد بن ثابت إلا بهذا الإسناد".

(2)

في (خ): "وقتا".

(3)

قوله: "الطبري" سقط من (خ)، وفي (غ):"الطبراني"، والمثبت من (ر) و (م) و (ت)، وهو الصواب، ويدل عليه قول المصنف (ص333):"وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار".

(4)

ما بين المعقوفين زيادة من مصادر التخريج وترجمته الآتية.

(5)

في (ر) و (غ): "إليهم".

(6)

في (خ) و (ت) و (م): "غير".

(7)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 294) من طريق يزيد بن هارون، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 330) من طريق شعبة، كلاهما عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد ـ وعند الطحاوي: مولى الأنصار ـ؛ قال: كان عمر بن الخطاب يعسّ المسجد بعد العشاء

، فذكره بلفظ أطول من هذا.

وسنده رجاله ثقات، عدا أبي سعيد مولى أبي أسيد الساعدي الأنصاري، فقد ذكره ابن سعد في "الطبقات"(5/ 88) و (7/ 128)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً،=

ص: 329

وَعَنْ سَلْم (1) العَلَوي (2) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لأَنس رضي الله عنه يوماً: يا

=وذكر أنه روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وذكره مسلم في "الكنى"(1356)، وذكر أنه شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 588)، وروى بسند فيه ضعف عنه أنه قال: كان في بيتي أبو ذر وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر، فجذبه حذيفة، فالتفت إلى ابن مسعود، فقال: كذلك يا ابن مسعود؟ قال: نعم، قال: فقدّموني وكنت أصغرهم، فصليت بهم.

وذكر ابن حجر في القسم الثالث من "الإصابة"(11/ 187) أبا سعيد هذا، وقال: ذكره ابن مندة في الصحابة، ولم يذكر ما يدل على صحبته، لكن ثبت أنه أدرك أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فيكون من أهل هذا القسم. قال ابن مندة:"روى عنه أبو نضرة [العَوَقي] قصة مقتل عثمان بطولها"، وهو كما قال، وقد رويناها من هذا الوجه، وليس فيها ما يدل على صحبته. اهـ.

والقسم الثالث من "الإصابة" جعله ابن حجر للمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام.

وأما قصة مقتل عثمان، فقد رواها أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان"(2/ 237 ـ 238) من طريق أبي سعيد هذا.

(1)

في (ت): "وعن سالم".

(2)

هو سَلْم بن قيس العَلَوي، البصري، ضعيف كما في "التقريب"(2486).

وهذا الحديث من الأحاديث التي ذكر المصنف (ص333) أنه خرجها من "تهذيب الآثار" للطبري، ولم أجد من أخرجه من هذا الطريق سواه. لكن أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (633) من طريق عمر بن عبد الله الرومي؛ قال: أخبرني أبي، عن أنس بن مالك؛ قال: قيل له: إن إخوانك أتوك من البصرة ـ وهو يومئذٍ بالزاوية ـ لتدعو لهم. قال: اللهم اغفر لنا وارحمنا، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. فاستزادوه، فقال مثلها، فقال: إن أوتيتم هذا فقد أوتيتم خير الدنيا والآخرة.

وعمر بن عبد الله الرومي مقبول، وأبوه كذلك؛ كما في "التقريب"(4964 و3462)، وقد توبعا.

فالحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(3397) من طريق شيخه إبراهيم بن الحجاج السَّامي؛ حدثنا حماد ـ وهو ابن سلمة ـ، عن ثابت؛ أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون؟ سألت لكم خير الدنيا والآخرة. قال أنس: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".=

ص: 330

أَبا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ـ قَالَ: فأَعادها مِرَارًا ثَلَاثًا ـ، فَقَالَ: يَا أَبا حمزة! لو دعوت لنا (1)، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.

فإِذا كَانَ الأَمر عَلَى هَذَا فَلَا إِنكار فِيهِ، حَتَّى إِذا دَخَلَ فِيهِ أَمر زَائِدٌ صَارَ الدعاءُ بِتِلْكَ (2) الزِّيَادَةِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. فَقَدْ جاءَ فِي دعاءِ الإِنسان لِغَيْرِهِ (3) الْكَرَاهِيَةُ عَنِ السَّلَفِ (4)، لَا عَلَى حُكْمِ الأَصالة، بَلْ بِسَبَبِ مَا يَنْضَمُّ إِليه مِنَ الأُمور المُخْرِجَةِ عَنِ الْأَصْلِ. وَلِنَذْكُرَهُ هُنَا لِاجْتِمَاعِ أَطراف المسأَلة فِي التَّنْبِيهِ (5) عَلَى الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ دَائِمًا.

فَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (6) عَنْ مُدْرِك بْنِ عِمْرَانَ؛ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلى عُمَرَ رضي الله عنه: إني أصبت ذنباً (7) فَادْعُ اللَّهَ لِي. فَكَتَبَ إِليه عُمَرُ: إِني لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ إِذا أُقيمت الصَّلَاةُ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِذَنْبِكَ.

فإِبَايَةُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَصل الدعاءِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخرى، وإِلا تَعَارَضَ كلامه مع ما تقدم، فكأَنه فهم

=وسنده صحيح، وصححه ابن حبان؛ فأخرجه في "صحيحه"(938/ الإحسان) من طريق أبي يعلى.

وأصل الحديث في "الصحيحين".

فأخرجه البخاري (4522 و6398)، ومسلم (2690)، كلاهما من طريق عبد العزيز بن صهيب ـ واللفظ لمسلم ـ؛ قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حسنة، وقنا عذاب النار". قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإن أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.

(1)

قوله: "لنا" ليس في (خ) و (ت) و (م).

(2)

في (خ): "الدعاء فيه بتلك".

(3)

في (م): "في دعائه الإنسان لغير".

(4)

سيأتي نقل المصنف لبعض الآثار في ذلك.

(5)

في (خ): "التشبيه".

(6)

أي: في "تهذيب الآثار" كما قال المصنف (ص333). ومدرك بن عمران لم أجد من ترجم له، وقد يكون في نسبه تصحيف، فيكون إما مدرك بن عمارة بن عقبة بن أبي مُعَيط المترجم في "الجرح والتعديل"(8/ 327 رقم 1511)، و"تعجيل المنفعة"(1015)، أو مدرك بن عوف البَجلي الذي ذكره ابن أبي حاتم في الموضع السابق من "الجرح والتعديل" برقم (1509)، وذكر أنه يروي عن عمر، ولم أجد من وثقهما من المعتبرين.

(7)

قوله: "إني أصبت ذنباً" سقط من (خ) و (م) و (ت).

ص: 331

من السائل أَمراً زائداً على التماس (1) الدعاءِ، فَلِذَلِكَ قالَ: لستُ بِنَبِيٍّ.

ويدلُّك عَلَى هَذَا: مَا رُوِيَ (2) عَنْ سَعْدِ (3) بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: أَنه لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتاه رَجُلٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي (4)، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ أَتاه آخَرٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ (5)، أَنبي أَنا؟!.

فَهَذَا أَوضح فِي أَنه فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ (6) أَمْرًا زَائِدًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلى أَن يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، أَو يعتقد أَنه سنة تُلْتَزَم (7)، أَو تجري (8) فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ المُلْتَزَمة (9).

وَنَحْوُهُ (10) عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رضي الله عنه: اسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول: استغفرَ لي حذيفة، أَترضى أَن أَدعو الله أَن يجعلك (11) مِثْلَ حُذَيْفَةَ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنه وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَمر زَائِدٌ يَكُونُ الدعاءُ لَهُ ذَرِيعَةً حَتَّى يَخرُج عَنْ أَصله؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا دَعَا (12) عَلَى الرَّجُلِ (13): هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول كذا؛ أَي: فيأْتي نساؤه (14) أيضاً (15) لِمِثْلِهَا، ويَشْتهر الأَمر حَتَّى يُتَّخذ سُنّة، ويُعتقَد في حذيفة ما لا يدعيه هُوَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَشْرُوعُ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، ويؤدِّي إِلى التشيُّع وَاعْتِقَادِ أَكثر مِمَّا يحتاج إِليه.

(1) قوله: "التماس" ليس في (خ) و (م) و (ت).

(2)

وقد تكون: "ما رَوَى" على المبني للمعلوم، فيكون الضمير عائداً إلى الطبري، فيكون أخرجه في "تهذيب الآثار" أيضاً.

(3)

في (م): "سعيد".

(4)

في (غ): "استغفر لي الله".

(5)

في (ر) و (غ): "لذلك".

(6)

في (م): "المسائل".

(7)

في (خ) و (ت) و (م): "تلزم".

(8)

في (خ) و (ت) و (م): "يجري".

(9)

في (م): "المتزمة".

(10)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 277) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان.

ومن طريق شعبة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب به.

وسنده صحيح، والاختلاف في شيخ الأعمش لا يؤثر في صحة الأثر؛ فإما أن يكون للأعمش فيه شيخان ـ أبو ظبيان وزيد بن وهب ـ، وإما أن ترجح رواية شعبة، وعلى كلا الوجهين فالأثر صحيح، والله أعلم.

(11)

في (ت) و (خ): "تكن" وفي (م): "تكون" بدل "يجعلك".

(12)

في (خ) و (م): "ما دل" بدل "ما دعا".

(13)

في (ت): "لقوله بعدُ ما يدل على قصد الرجل".

(14)

في (خ): "نساءه".

(15)

قوله: "أيضاً" ليس في (خ) و (م) و (ت).

ص: 332

وَقَدْ تبيَّن هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّة، عَنِ ابْنِ عَوْن؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى إِبراهيم فَقَالَ: يَا أَبا عِمْرَانَ! ادْعُ اللَّهَ أَن يَشْفِيَنِي. فِكْرَهَ ذَلِكَ إِبراهيم وقَطَّبَ (1)، وَقَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَن يَغْفِرَ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! فتنحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَ: فأَدخلك اللَّهُ مُدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقد رَضِيتَ الْآنَ؟ يأْتي أَحدكم الرَّجُلَ كأَنه قد أَحْصَى شأْنه، كأنه (2). ثُمَّ ذَكَرَ إِبراهيم السُّنَّة، فرغَّب فِيهَا، وَذَكَرَ مَا أَحدث النَّاسُ؛ فَكَرِهَهُ (3).

وَرَوَى مَنْصُورٌ، عَنْ إِبراهيم قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فَلَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْتَغْفِرْ لَنَا (4).

فتأَملوا يَا أُولي الأَلباب ماذا كَرِهَ (5) العلماءُ مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِم (6) المُنْضَمَّة إِلى الدعاءِ، حَتَّى كَرِهُوا الدعاءَ إِذا انْضَمَّ إِليه مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمة. فَقِسْ بِعَقْلِكَ (7) مَاذَا كانوا يقولون في دعائنا اليوم بآثار الصلوات (8)، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُوَاطِنِ، وَانْظُرُوا إِلى إشارة (9) إِبراهيم بترغيبه (10) فِي السُّنَّةِ وَكَرَاهِيَةِ (11) مَا أَحدث النَّاسُ؛ بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ.

وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطبري في "تهذيب (12) الآثار"(13) له.

(1) في (غ): "ونطق". ومعنى "قَطَّبَ": أي زَوَى ما بين عينيه، وعَبَس من الغضب. "لسان العرب"(1/ 680).

(2)

قوله: "كأنه" سقط من (خ) و (ت)، وهو مكرر في (ر).

(3)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(6/ 276) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن عبد الله بن عون، به.

وإسناده صحيح.

وإبراهيم هذا هو: النخعي.

(4)

لم أقف عليه، والمصنف أخذه عن "تهذيب الآثار" للطبري كما سيأتي.

(5)

في (ت) و (خ) و (م)؛ "ما ذكره".

(6)

في (خ): "الاضام"، وفي (ت):"العظائم".

(7)

في (غ) و (ر): "بفضلك".

(8)

في (خ) و (ت) و (م): "الصلاة".

(9)

في (خ) و (م): "استبارة".

(10)

في (خ): "ترغيبه".

(11)

في (خ): "وكراهيته".

(12)

في (م): "تهديث".

(13)

في القسم المفقود منه فيما يظهر.

ص: 333

وعلى هذا ينبغي (1) أن يُحْمل (2) مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهان، عَنْ أَيوب، عَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَبي الدرداءِ رضي الله عنه: أَنا ناساً من أَهل الكوفة قالوا (3): إن إخوانك (4) من أهل الكوفة (5) يقرؤون عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويأْمرونك أَن تدعُوَ لَهُمْ وَتُوصِيَهُمْ. فقال: اقرؤوا (6) عليهم السلام، ومروهم أَن يعطوا القرآن [بخزائمهم](7)، فإِنه يَحْمِلُهُمْ ـ أَو يأْخذ بِهِمْ ـ عَلَى الْقَصْدِ وَالسُّهُولَةِ، ويجنِّبهم الجَوْرَ والحُزُونة (8)، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنه دَعَا لَهُمْ.

وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي ـ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَو غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ المشروع، إِلا أَن الدليل دلَّ (9) عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ ـ: فَظَاهِرُ (10) الأَمر انْقِلَابُ الْعَمَلِ المشروع غير

(1) في (ت) و (خ): "ينبني".

(2)

قوله: "أن يحمل" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(3)

في (م): "قال"، وفي (ت):"قالوا له"، إلا أن قوله:"له" ملحق في الهامش.

(4)

في (غ) و (ر): "لإخوانك".

(5)

من قوله: "قالوا إن إخوانك" إلى هنا سقط من (خ).

(6)

في (م): "اقرأ".

(7)

في (غ) و (ر): "بحزائمهم" بالحاء، وفي (م):"بحرائهم"، أو:"بحرابهم"، وفي (خ) و (ت):"حقه"، والتصويب من مصادر التخريج، وهو قريب مما في (غ) و (ر). وأما معناه: فقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث"(2/ 29): "الخزام: جمع خِزَامة، وهي حَلَقة من شعر تجعل في أحد جانبي مَنْخِرَي البعير، ومنه: حديث أبي الدرداء: "اقرأ عليهم السلام، ومُرْهم أن يُعْطوا القرآن بخزائمهم"؛ هي: جمع خِزَامة؛ يريد به الانقياد لحكم القرآن، وإلقاء الأزِمَّة إليه. ودخول الباء في "خزائمهم" ـ مع كون أعطى يتعدّى إلى مفعولين ـ؛ كدخولها في قوله: أعطى بيده: إذا انقاد ووكل أمره إلى من أطاعه

" إلخ.

(8)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 141 رقم 30162)، وعبد الرزاق (3/ 368 رقم 5996)، والدارمي (2/ 526) من طريق أيوب به.

وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء كما قال أبو حاتم. انظر (ص211) من "جامع التحصيل".

(9)

قوله: "دل": سقط من (خ).

(10)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: جواب "أمّا"؛ أي: فظاهر الأمر فيه

إلخ، وما قبله اعتراض. اهـ.

ص: 334

مَشْرُوعٍ. ويبيِّن (1) ذَلِكَ مِنَ الأَدلة: عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ عملٍ ليسَ عَلَيْهِ أَمرُنا فَهُوَ رَدٌّ"(2). وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عملٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمره عليه الصلاة والسلام؛ فَهُوَ إِذاً ردٌّ؛ كَصَلَاةِ (3) الْفَرْضِ مَثَلًا إِذا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا، أَو سبَّح فِي مَوْضِعِ القراءَة، أَو قرأَ (4) فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.

وَقَدْ نَهَى عليه الصلاة والسلام عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ (5)، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا (6)، فَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنَ العلماءِ فِي تَعْمِيمِ النَّهْيِ، حَتَّى عَدُّوا صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَبَاشَرَ النهيُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ اتِّصَافِهَا بأَنها وَاقِعَةٌ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا اعْتَبَرَ فِيهَا الزَّمَانَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْفَرْضِ، فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا الْمَغْرِبُ قَبْلَ الْغُرُوبِ.

وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ صِيَامِ الْفِطْرِ والأَضحى (7)، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشهر الْحَجِّ. فكلُّ مَنْ تعبَّد لِلَّهِ تَعَالَى بشيءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي غَيْرِ أَزمانها فقد تعبَّد بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لَا إِضافية، فَلَا جِهَةَ لَهَا إِلى (8) الْمَشْرُوعِ، بَلْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا جِهَةُ الِابْتِدَاعِ، فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ.

فَلَوْ فَرَضْنَا قَائِلًا يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ في وقت الكراهية، أَو

(1) في (خ): "وتبين"، وفي (م):"ويتبين" وفي (ت)"وتبيين".

(2)

أخرجه البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا

"، ومسلم (1718) (18) بلفظ: "من عمل عملاً

".

(3)

في (ر) و (غ): "فهو إذاً مردود كالصلاة".

(4)

في (غ) و (ر) و (م): "وقرأ".

(5)

أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826) من حديث عمر رضي الله عنه.

(6)

أخرجه البخاري (582)، ومسلم (828) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

(7)

تقدم تخريجه (ص309).

(8)

في (غ): "على".

ص: 335

صِحَّةِ (1) الصَّوْمِ الْوَاقِعِ يَوْمَ (2) الْعِيدِ. فَعَلَى فَرْضِ (3) أَن النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلى أَمرٍ لَمْ يَصِرْ للعبادة كالوصف (4)، بل لأَمرٍ (5) مُنْفَكٍّ مُنْفَرِدٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ: مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ كَالَّذِي حَكَى القَرَافي (6) عَنِ العَجَم فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فإِن قراءَة سُورَةِ السَّجْدَةِ لَمَّا الْتُزِمَتْ فِيهَا وحُوفظ عَلَيْهَا؛ اعْتَقَدُوا فِيهَا الرُّكْنِيّة، فَعَدُّوهَا رَكْعَةً ثَالِثَةً، فَصَارَتِ السَّجْدَةُ إِذاً وصفاً (7) لازماً، أو جزءًا (8) مِنْ صَلَاةِ صُبْحِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَن تَبْطُلَ.

وَعَلَى هَذَا (9) التَّرْتِيبِ: يَنْبَغِي أَن تَجْرِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ إِذا خُصَّت بأَزمان مَخْصُوصَةٍ بالرأْي المُجَرَّد، من حيث فهمنا أَن للزمان تلبُّساً بالأَعمال. وعلى الجملة (10): فصيرورة ذلك الزائد وصفاً للمزيد فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ أَصله، وَذَلِكَ أَن الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ ـ مِنْ حَيْثُ (11) هِيَ صِفَةٌ له لا تفارقه ـ هي من جملته.

ولذلك لا نقول (12): إِن الصفة غير الموصوف (13) إِذا كانت لازمة له

(1) في (ر) و (غ): "وصحة".

(2)

قوله: "يوم" غير مقروء في (م)، يشبه أن يكون:"بين".

(3)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: قوله: "فعلى فرض" إلخ: معناه: فقول هذا القائل مبني ـ أو يبنى ـ على فرض كذا. اهـ.

(4)

علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: قوله: "لم يصر" إلخ: لا يصحّ إلا إذا كان قد سقط من الكلام وصف لكلمة "أمر"؛ كأن يكون أصل الكلام: راجع إلى أمر عارض، وفرّع عليه قوله:"لم يصر" إلخ. ويحتمل أن يكون الأصل: "إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف".اهـ. ولا أرى لازماً لهذا التعليق.

(5)

في (ت) و (خ): "الأمر".

(6)

في الفرق الخامس بعد المائة من كتاب "الفروق"(2/ 315).

(7)

في (ر) و (غ): "وضعاً".

(8)

في (ت) و (خ): "وجزءاً".

(9)

في (غ): "وهذا على".

(10)

في (خ) و (م) و (ت): "على الجملة".

(11)

قوله: "حيث" سقط من (م).

(12)

في (خ) و (ت): "وذلك لأنا نقول".

(13)

في (خ) و (م): "الصفة مع غير الموصوف"، وعلق عليها بهامش (خ) بما نصه:=

ص: 336

حَقِيقَةً أَو اعْتِبَارًا، وَلَوْ فَرَضْنَا (1) ارْتِفَاعَهَا عَنْهُ لَارْتَفَعَ الْمَوْصُوفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا؛ كَارْتِفَاعِ الإِنسان بِارْتِفَاعِ النَّاطِقِ أَو الضَّاحِكِ. فإِذا كَانَتِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمَشْرُوعِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَارْتَفَعَ اعتبار المشروع الأَصل (2).

وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ أَيضاً (3): قراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، فإِن تِلْكَ الْهَيْئَةَ زَائِدَةٌ على مشروعية القراءَة، وكذلك الذِّكر (4) الجَهْري (5) الَّذِي اعْتَادَهُ أَربابُ الزَّوايا.

وَرُبَّمَا لطُفَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ فَيَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ"(6) عَنْ مَالِكٍ؛ فِي مسأَلة الِاعْتِمَادِ في الصلاة حتى (7) لَا يحرِّك رِجْلَيْهِ، وأَن أَول مَنْ أَحدثه رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (8) ـ أَي: يساءُ الثناءُ (9) عَلَيْهِ ـ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَعِيبَ ذلك عليه (10)؟ قال: قد عِيبَ ذلك عليه (11)، هذا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَن الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ وَصْفِ الِاعْتِمَادِ أَن يُؤَثِّرَ فِي الصَّلَاةِ، ولُطْفُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلى كَمَالِ هَيْئَتِهَا.

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ النَّظَرُ فِي المسأَلة بِالنِّسْبَةِ إِلى اتِّصَافِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، أَو لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. فإِذا غَلَبَ الوصف على العمل؛ كان أَقربَ

="صوابه ـ والله أعلم ـ: أن الصفة هي عين الموصوف"، وهذا هو المثبت في (ت).

(1)

في (غ) و (ر) و (م): "فرضت".

(2)

في (ت): "الأصلي"، والمثبت من باقي النسخ، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا! ولعلها: "الأصلي"، أو:"في الأصل".اهـ.

(3)

قوله: "أيضاً" سقط من (ت).

(4)

قوله: "الذكر" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(5)

في (خ): "الجهر".

(6)

كما في "البيان والتحصيل"(1/ 296).

(7)

قوله: "حتى" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(8)

في "البيان": "مسمتاً".

(9)

في (خ) و (م): "إلينا".

(10)

قوله: "ذلك عليه" سقط من (خ) و (م).

(11)

من قوله: "قد عرف" إلى هنا في موضعه بياض في (ت).

ص: 337

إِلى الْفَسَادِ، وإِذا لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَكُنْ أَقربَ، وبقي في حكم النظر، فيدخل ها هنا نظرُ الاحتياطِ لِلْعِبَادَةِ إِذا (1) صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ.

وَاعْلَمُوا أَنه (2) حَيْثُ قُلْنَا: إِن الْعَمَلَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ (3) يَصِيرُ وَصْفًا له (4) ـ أَو كَالْوَصْفِ ـ فإِنما يُعْتَبَرُ بأَحد أُمور ثَلَاثَةٍ: إِما بِالْقَصْدِ، وإِما بِالْعَادَةِ، وإِما بِالشَّرْعِ.

أَما بالقصد: فظاهر (5)، بل هو أصل التغيير (6) فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالزِّيَادَةِ (7) أَو النُّقْصَانِ (8).

وأَما (9) بِالْعَادَةِ (10): فَكَالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ متصوِّفة الزَّمَانِ؛ فإِن بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَوْنًا بَعِيدًا؛ إِذ هُمَا كالمتضادَّين عَادَةً.

وَكَالَّذِي حَكَى ابْنُ وضَّاح، عَنِ الأَعمش، عَنْ بَعْضِ أَصحابه؛ قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بِرَجُلٍ يقُصّ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصحابه وَهُوَ يَقُولُ: سبِّحوا (11) عَشْرًا، وَهَلِّلُوا عَشْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنكم لأَهدى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَو أَضل؛ بل هذه (12)؛ يعني: أضل (13).

(1) في (غ) و (ر): "إذ".

(2)

في (ت): "واعلموا أننا".

(3)

في (غ) و (ر): "إن العمل على الزائد على المشروع".

(4)

في (خ) و (م) و (ت): "لها".

(5)

في (غ) و (ر): "أما القصد فظاهره".

(6)

في (م): "التشريع".

(7)

من قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (خ).

(8)

في (غ) و (ر): "والنقصان". ومن قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (ت).

(9)

في (خ): "أما".

(10)

في (ر) و (غ): "وأما العادة".

(11)

في (غ) و (ر): "فسبحوا".

(12)

قوله: "بل هذه" مكرر في (ر).

(13)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (23) من طريق يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، به.

وشيخ الأعمش لم يُسمَّ، ويحيى بن عيسى صدوق يخطئ، كما في "التقريب"(7669).=

ص: 338

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَن رَجُلًا كَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: سُبْحَانَ اللَّهِ! قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ. قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فقال لهم: لقد (1) هديتم لما لم يُهْدَ له (2) نَبِيُّكُمْ! وإِنكم لتُمْسِكون بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ (3).

وذُكِر لَهُ: أَن أناساً بِالْكُوفَةِ يسبِّحون بالحَصَى فِي الْمَسْجِدِ، فأَتاهم وَقَدْ كَوَّمَ كلُّ رجل (4) منهم بين يديه كُومَةً (5) مِنْ حَصَى. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحْصُبُهُم بِالْحَصَى حَتَّى أَخرجهم مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَقَدْ أَحدثتم بِدْعَةً وَظُلْمًا، وَقَدْ فَضَلتم أَصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم علماً (6)!.

=لكن الأثر ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه، وجاء عنه من طرق كثيرة:

فقد أخرجه الطبراني في "الكبير"(9/ 128) رقم (8639) من طريق إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود به بنحوه.

وإسناده صحيح.

وأخرجه عبد الرزاق (5408) ـ ومن طريقه الطبراني (9/ 125) رقم (8629) ـ عن ابن عيينة، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم؛ قال: ذكر لابن مسعود

، فذكره بنحوه.

وإسناده صحيح.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1/ 60 ـ 61)، والطبراني (9/ 127) رقم (8636) من طريقين عن عمرو بن سَلِمة، عن ابن مسعود به، وفيه قصة.

(1)

قوله: "لقد" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(2)

قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(3)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (24) من طريق الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة: أن رجلاً

، فذكره.

وإسناده صحيح إلى عبدة، وعبدة لا تعرف له رواية عن ابن مسعود؛ وإنما يروي عن أصحاب ابن مسعود، وانظر ما قبله.

(4)

في (غ) و (ر): "واحد" بدل "رجل".

(5)

في (ت) و (خ): "كوماً".

(6)

أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (21) من طريق عبيد الله بن عمر العمري، عن سيار (في المطبوع:"يسار" وهو خطأ) أبي الحكم: أن عبد الله بن مسعود حُدِّث: أن أناساً

، فذكره.

وإسناده صحيح إلى سيار أبي الحكم، وهو لم يسمع من ابن مسعود، لكن يشهد له ما قبله، والله أعلم.

ص: 339

فهذه أُمور أَخرجت الذكر (1) المشروع عن وَصْفه المعتبر شرعاً إلى وَصْفٍ آخر، فلذلك جعله بدعة، والله أعلم.

وأَما الشرع (2): فكالذي (3) تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الأَوقات الْمَكْرُوهَةِ (4)، أَو الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ إِذا صُلِّيَتْ قَبْلَ أَوقاتها، فإِنا قَدْ فَهِمَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْقَصْدَ إِلى النَّهْيِ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَبَّداً بِهِ (5). وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ (6).

وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاح (7) مِنْ حَدِيثِ أَبان بْنِ أَبِي عياش (8)؛ قَالَ: لَقِيتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ مِنْ إِخوانك مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَيَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّيْروز والمَهْرجان ويصومونهما؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: بِدْعَةٌ مِنْ أَشدّ (9) الْبِدَعِ، وَاللَّهِ لَهُمْ أَشدّ تَعْظِيمًا للنَّيْروز والمَهْرجان مِنْ عِيدِهِمْ (10). ثُمَّ اسْتَيْقَظَ أَنس بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، فَرَقَيْتُ إِلَيْهِ وسأَلته كَمَا سأَلت طَلْحَةَ، فردَّ عليّ مثل قول طلحة، كأَنهما كانا على مِيعاد.

(1) قوله: "الذكر" ليس في (غ) و (ر).

(2)

من قوله: "عن وصفه المعتبر" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).

(3)

في (ت) و (خ): "كالذي".

(4)

انظر: (ص335).

(5)

قوله: "به" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

انظر: (ص309).

(7)

في "البدع والنهي عنها" رقم (30) من طريق الربيع بن صَبِيح، عن أَبان بن أبي عياش، به.

وأَبان: متروك الحديث كما في "التقريب"(143)، والربيع: صدوق سيء الحفظ كما في "التقريب" أيضاً (1905).

(8)

في (خ) و (م): "عباس" وهو خطأ.

(9)

في هامش (ت) ما نصه: "من أشر البدع"؛ كأنه تصويب لما في الأصل، أو نقله من نسخة أخرى.

(10)

في (ت) و (خ): "عبادتهم"، وفي المطبوع من "البدع والنهي عنها":"غيرهم".

ص: 340

فَجَعَلَ صَوْمَ تِلْكَ الأَيام مِنْ تَعْظِيمِ مَا تعظِّمه النصارى (1)، وذلك (2) القصد لو كان (3)؛ أَفسدَ (4) العبادة، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَهُ.

وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ (5): يَا أَبا سَعِيدٍ! مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد نَجْتَمِعُ (6) فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، فنقرأُ كِتَابَ اللَّهِ وَنَدْعُو ربنا، ونصلي على النبي صلى الله عليه وسلم (7)، وَنَدْعُو لأَنفسنا وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ أَشد النَّهْيِ (8).

وَالنَّقْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ؛ الْعَمَلُ الزَّائِدُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ كَانَ أَخف، وَانْفَرَدَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهِ، وَالْعَمَلُ الْمَشْرُوعِ بِحُكْمِهِ، كَمَا حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرَةَ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الأَسود بْنِ سَرِيع، وَكَانَ مَجْلِسُهُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ بني إِسرائيل حتى بلغ {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (9)، فَرَفَعَ أَصواتهم الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ جُلُوسًا، فجاءَ مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ متوكِّئاً (10) عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا رآه القوم قالوا: مرحباً، مَرْحَبًا (11) اجْلِسْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لأَجلس إِليكم، وإِن كان

(1) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: لعل الصواب: "المجوس"؛ فإنه من أعيادهم. اهـ.

(2)

في (خ): "وذاك".

(3)

علق رشيد رضا أيضاً هنا بقوله: "كان" تامّة؛ أي: لو وُجِد. اهـ.

(4)

في (ت): "لأفسد".

(5)

أي: البصري.

(6)

في (خ): "تجتمع".

(7)

من قوله: "وندعو ربنا" إِلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).

(8)

أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (29) من طريق الربيع بن صَبيح، عن يونس بن عبيد به.

والربيع بن صَبيح: تقدم قريباً أنه صدوق سيء الحفظ.

(9)

سورة الإسراء، الآية:(111).

(10)

كذا في (خ) و (ت)، وفي باقي النسخ:"فتوكأ"، وعند ابن وضاح:"يتوكأ".

(11)

قوله: "مرحباً" الثانية من (ر) و (غ) فقط، وهو موافق لما في المطبوع من "البدع والنهي عنها" لابن وضاح.

ص: 341

مجلسكم حسناً، ولكنكم (1) صنعتم (2) قُبَيْل (3) شيئاً أَنكر الْمُسْلِمُونَ، فإِياكم وَمَا أَنكر الْمُسْلِمُونَ (4)!.

فَتَحْسِينُهُ الْمَجْلِسَ كَانَ لقراءَة الْقُرْآنِ، وأَما رَفْعُ الصَّوْتِ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْضَمَّ إِلى الْعَمَلِ الْحَسَنِ، حَتَّى إِذا انضمَّ إِليه صَارَ المجموعُ غيرَ مَشْرُوعٍ.

وَيُشْبِهُ هَذَا (5) مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (6)، عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جميعاً فيقرؤون فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهل الإِسكندرية، فكره ذلك، وأَنكر أَن يكون هذا (7) مِنْ عَمَلِ النَّاسِ (8).

وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيضاً عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَحَكَى الْكَرَاهِيَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَنَهَى عَنْهَا، وَرَآهَا بِدْعَةً (9).

وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخرى عن مالك (10): وسئل عن القراءَة في المسجد (11)، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بالأَمر الْقَدِيمِ، وإِنما هُوَ شيءٌ أُحدِث (12). قال:(13) وَلَمْ يأْت آخِرُ هَذِهِ الأُمة بأَهدى مِمَّا كان عليه أَولها، والقرآن حسن.

(1) قوله: "ولكنكم" سقط من (غ) و (ر).

(2)

في (ر) و (غ): "وصنعتم".

(3)

في (خ) و (ت): "قبلي"، وفي المطبوع من "البدع":"قبل".

(4)

أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (34) من طريق علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أَبي بكرة به.

وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان؛ كما في "التقريب"(4768).

(5)

في (ت): "ويشبه ذلك".

(6)

انظر: "البيان والتحصيل"(1/ 298)، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي صفحة (162)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497).

(7)

قوله: "هذا" سقط من (خ) و (ت) و (م).

(8)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: من عمل جماعة المسلمين في المدينة وهو ما كان يحتجّ به مالك؛ أي: فهو بدعة".

(9)

انظر: "البيان والتحصيل"(2/ 17).

(10)

انظر: "البيان والتحصيل"(1/ 242)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497).

(11)

في (خ) و (م) و (ت): "بالمسجد".

(12)

في (خ): "وأحدث".

(13)

قوله: "قال" من (غ) و (ر) فقط.

ص: 342

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (1): يُرِيدُ التِزَام (2) القراءَة فِي الْمَسْجِدِ بإِثر صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى (3) وَجْهٍ مَّا مَخْصُوصٌ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كُلُّهُ (4) سُنَّةً، مِثْلَ مَا بِجَامِعِ (5) قُرْطُبَةَ إِثر صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ: فرأَى ذَلِكَ بِدْعَةً.

فَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: "وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ" يَحْتَمَلُ أَن يُقَالَ: إِنه يَعْنِي أَن تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَجَعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُنْفَصِلٌ لَا يَقْدَحُ فِي حُسْنِ قراءَة الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمَلُ ـ وَهُوَ الظَّاهِرُ ـ أَنه يَقُولُ: قراءَة (6) القرآن (7) حسن على غير هذا (8) الوجه، لا على هذا الْوَجْهِ (9)؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (10):"مَا يُعْجِبُنِي أَن يقرأَ الْقُرْآنُ إِلا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الأَسواق والطُّرُق"، فَيُرِيدُ أَنه لا يقرأُ إِلا على النحو الذي كان يَقْرَؤُهُ السَّلَفُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قراءَة الإِدارة مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ فَلَا تُفعل أَصلاً، وتحرَّزَ بقوله:"والقرآن حسن" من توهُّم مُتَوهِّم (11) أَنه يَكره قراءَة الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى انْفِكَاك الِاجْتِمَاعِ مِنَ القراءَة، وَاللَّهُ أَعلم.

وأَما الْقِسْمُ الثَّالِثُ ـ وَهُوَ أَن يَصِيرَ الوَصْف عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعتقد فِيهِ أَنه مِنْ أَوصافها أَو جزءٌ مِنْهَا ـ: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرائع، وَهُوَ وإِن كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ العلماءِ؛ إِذ لَيْسَ كُلُّ ما هو ذَريعة إِلى ممنوع يُمْنَع،

(1) في "البيان والتحصيل"(1/ 242).

(2)

في "البيان والتحصيل": "يريد أن التزام".

(3)

في "البيان والتحصيل": "أو على".

(4)

في "البيان والتحصيل": "كأنه".

ولعله أشبه بالصواب.

(5)

في "البيان والتحصيل": "ما يفعل بجامع".

(6)

في (ت): "قراءته".

(7)

قوله: "القرآن" سقط من (خ) و (ت).

(8)

قوله: "هذا" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت):"ذلك" بدل "هذا".

(9)

قوله: "لا على هذا الوجه" ليس في (خ).

(10)

انظر: "البيان والتحصيل"(1/ 242).

(11)

قوله: "متوهم" سقط من (خ).

ص: 343

بدليل الخلاف الواقع في أَصل (1) بُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، غَيْرَ أَن أَبا بَكْرٍ الطَّرْطُوشي يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وإِذا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يُنْكَر أَن يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ (2) فِيهِ، ولنُمَثِّله أَوَّلاً، ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ.

فَمِنْ ذلك: ما جاءَ في الحديث مِنْ نَهي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَن يُتَقَدَّم شهرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَو يومين (3). ووجه ذَلِكَ عِنْدَ العلماءِ: مَخَافةَ أَن يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ جُملة رَمَضَانَ.

وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (4) رضي الله عنه: أَنه كان لا يقصر في السفر (5)، فيقال له: أَلست (6) قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فيَنْظر إِليَّ الأَعرابُ وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: هكذا فُرِضَت (7).

(1) قوله: "أصل" سقط من (ت) و (خ) و (م).

(2)

في (م): "ما نحو".

(3)

أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(4)

قوله: "ابن عفان" من (غ) و (ر) فقط.

(5)

علّق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أخطأ من قال: إن عثمان لم يكن يقصر في السفر مطلقاً، وإنما نُقل عنه أنه صلى تماماً في منى في آخر خلافته، وأنكر عليه ابن مسعود، وكان هذا من أسباب التّأَلُّب عليه، أو: من حجج الذين تألّبوا عليه. وما علل به هنا أحد الأجوبة عنه، ولكنه معزوّ إليه، ولو صحّ عنه لما اعتذر العلماء عنه بعدّة أعذار، أقواها: أنه كان قد تزوّج ونوى الإقامة، أو أن الزواج بعد إقامة".

(6)

في (غ) و (ر): "أليس".

(7)

أما إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة بمنى: فثابت في "الصحيحين" من عدّة طرق، منها: ما أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695) من طريق عبد الرحمن بن يزيد؛ قال: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع! ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان. وأما جعل سبب إتمام عثمان رضي الله عنه، مراعاة حال الأعراب: فأخرجه أبو داود=

ص: 344

فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَو وَاجِبٌ، وَمَعَ ذلك تَرَكَه (1) خوفاً أَن يُتَذرَّعَ بِهِ لأَمرٍ (2) حادثٍ فِي الدِّينِ غير مشروع.

ومنه قصة عمر بن الخطاب (3) رضي الله عنه في غَسْله الاحتلام (4) من ثوبه (5) حَتَّى أَسفر (6)، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وأَن يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فعلتُه لَكَانَتْ سُنَّة، بَلْ أَغْسِلُ مَا رأَيت، وأَنْضَحُ مالم أَرَ (7).

= (1964)، والطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 425) من طريق أيوب، عن الزهري: أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عَامَئذٍ، فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع.

وأخرجه البيهقي (3/ 144) من طريق عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عثمان: أنه أتم الصلاة بمنى، ثم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه؛ ولكنه حدث العام من الناس [طَغَامٌ] فخفت أَن يَسْتَنّوا.

وأخرجه عبد الرزاق (4277) عن ابن جريج؛ قال: بلغني أنه أوفى أربعاً بمنى قطُّ من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين! مازلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس إنما الصلاة ركعتين؛ وإنما كان أوفاها بمنى قطُّ.

قال الحافظ في "الفتح"(2/ 571): "وهذه طرقٌ يقوِّي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام".

(1)

في (غ) و (ر): "فتركه".

(2)

في (ت): "إلى أمر".

(3)

قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.

(4)

في (خ): "في غسله من الاحتلام"، وفي (ت):"في عدم غسله ثوبه من الاحتلام حتى أسفر".

(5)

قوله: "من ثوبه" سقط من (خ).

(6)

علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: "هذا نص نسخة الكتاب. والمراد: أنه تأخر عن الصلاة إلى وقت الإسفار؛ اشتغالاً بغسل ثوبه من أثر الاحتلام؛ إذ لم يكن له سواه".

(7)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 50)، ومن طريقه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 52)، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب

، فذكره.

قال ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بعضهم يقول: سمعت عمر، وهذا باطل؛ إنما هو: عن أبيه؛ سمع عمر. انظر: "تهذيب الكمال"(31/ 436).=

ص: 345

وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَان؛ مَخَافَةَ أَن يُرَى أَنها وَاجِبَةٌ (1).

وَنَحْوُ ذَلِكَ عن [أبي](2) مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني (3) لمن أَيْسَرِكم ـ مخافة أَن يَظُنّ الجيران أَنها واجبة (4).

=وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1446) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: أن عمر أصابته جنابة

، فذكره هكذا بزيادة أبيه.

وتابع معمراً عليه ابن جريج، فقد أخرجه عبد الرزاق (935) عن معمر وابن جريج ـ قرنهما ـ، عن هشام بن عروة، به كسابقه. ولكن عبد الرزاق عاد فأخرجه (1445) عن ابن جريج وحده، ولم يذكر "عن أبيه". ثم أخرجه عبد الرزاق برقم (1448) من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه.

وهذا سند صحيح، وتؤيده الطريق السابقة، وقال الزرقاني في "شرحه للموطأ" (1/ 150): قال أبو عبد الملك: هذا مما عُدَّ أن مالكاً وهم فيه؛ لأن أصحاب هشام: الفضل بن فضالة، وحماد بن سلمة، ومعمراً قالوا: عن هشام، عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، فسقط لمالك "عن أبيه".

(1)

ذكره الشافعي في "الأم"(2/ 224) بلاغاً قال: بلغنا أن أبا بكر وعمر

فذكره.

وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(4/ 381)، والطبراني في "الكبير"(3/ 182)، والطحاوي في "شرح المعاني"(4/ 174)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى"(7/ 358) من طريق جماعة عن الشعبي، عن حذيفة بن أَسِيد به.

وعلقه ابن عبد البر في "التمهيد"(3/ 194).

قال الدارقطني في "العلل"(1/ 286): "محفوظ عن الشعبي، عنه".

وصححه النووي في "المجموع"(8/ 279)، والحافظ في "الدراية"(2/ 215)، والشيخ الألباني في "الإرواء"(4/ 355).

(2)

في جميع النسخ: "ابن"، والتصويب من مصادر التخريج.

(3)

في (غ) و (ر): "قال وإني".

(4)

أخرجه عبد الرزاق (4/ 383)، وسعيد بن منصور كما في "التلخيص الحبير"(4/ 145)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى"(7/ 358) من طريق أبي وائل، عن أبي مسعود به.

وعلّقه ابن عبد البر في "التمهيد"(23/ 194).

وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في "التلخيص"(4/ 145)، والشيخ الألباني في "الإرواء"(4/ 355).

ص: 346

وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.

وَقَدْ كَرِهَ (1) مَالِكٌ (2) إِتْباعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَستحبها، مَعَ مَا جاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (3)، وأَخبر مَالِكٌ (4) عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ (5): أَنهم كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا.

وَمِنْهُ: ما تقدم (6) في اتباع الآثار (7)؛ كمجيءِ "قبا"(8)، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فكلُّ عَمَلٍ أَصله ثَابِتٌ شَرْعًا، إِلا أَن فِي إِظهار (9) الْعَمَلِ بِهِ والمُدَاومة (10) عَلَيْهِ مَا يُخاف أَن يُعتقد أَنه سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً، مِنْ بَابِ سَدّ الذَّرائع، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دعاءَ التوجُّه بَعْدَ الإِحرام، وَقَبْلَ القراءَة (11)، وَكَرِهَ غَسْلَ اليد قبل الطعام (12)، وأَنكر على

(1) في (خ): "وقد ذكره".

(2)

في "الموطأ"(1/ 311). وانظر ما تقدم (ص357 ـ 358) من المجلد الأول، وما سيأتي (ص355 و491 ـ 493).

(3)

أخرج مسلم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".

(4)

في الموضع السابق من "الموطأ".

(5)

قوله: "به" سقط من (ر).

(6)

(ص248) من هذا المجلد.

(7)

علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: ترك الصحابة اتباع الأماكن التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو جلس فيها، ونهيهم عند ذلك".

(8)

انظر "البدع والنهي عنها" لابن وضاح (ص91).

(9)

في (ر) و (غ): "الإظهار".

(10)

في (ر) و (غ): "أو المداومة".

(11)

المقصود بالإحرام هنا: التكبير للصلاة، قال في "المدونة" (1/ 66):" .... وكان مالك لا يرى هذا الذي يقوله الناس، سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وكان لا يعرفه".

وقال: "قال مالك: ومن كان وراء الإمام، ومن هو وحده، ومن كان إِماماً، فلا يَقُل: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ولكن يكبروا، ثم يبتدؤا القراءة".

وهو في كتب المالكية، ففي "التاج والإكليل" (1/ 538): أن ابن حبيب قال في دعاء التوجه: "يقوله بعد الإقامة، وقبل الإحرام".

(12)

ذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك"(2/ 99) أن الإمام مالكاً دخل على=

ص: 347

مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمامه فِي الصف (1).

فلنرجع (2) إِلى مَا كُنَّا فِيهِ: فَاعْلَمُوا أَنه إِن ذَهَبَ مجتهدٌ إِلى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعة فِي غَيْرِ مَحلِّ النَّصِّ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ (3) هَذَا الْبَابُ، فَلَا شَكَّ أَن الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْره. وَمَنْ ذَهَبَ إِلى سَدِّها ـ وَيَظْهَرُ (4) ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ـ، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ، وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنه مَلُوم عليه، وموجب للذَّم، إِلا أَن يذهب ذاهب (5) إِلى أَن النَّهْيَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّم فِيهِ انْفِكَاكُ الأَمرين، بِحَيْثُ يَصِحُّ أَن يَكُونَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ. وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ:

أَحدهما: التمسُّك بمجرَّد النَّهْيِ فِي أَصل المسأَلة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} (6)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (7). وفي الحديث: أَنه عليه الصلاة والسلام نهى أَن يُجْمَعَ بين المُتَفَرِّق (8)، ويُفَرَّقَ بين (9)

=عبد الملك بن صالح أمير المدينة، فجلس ساعة، ثم دعا بالطعام والوضوء، فقال: ابدأوا بأبي عبد الله، فقال مالك: إن أبا عبد الله ـ يعني نفسه ـ لا يغسل يده، فقال: لِمَ؟! قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، إنما هو من زيّ الأعاجم، وقد نهى عمر عن أمر الأعاجم، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد الله؟! فقال: إي والله! فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك: ولا آمر الرجل أن لا يغسل يده، ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه، فلا! أميتوا سنة العجم، وأحيوا سنن العرب، أما سمعت قول عمر رحمه الله: تمعددوا، واخشوشنوا، وامشوا حفاة، وإياكم وزيّ الأعاجم؟!.

(1)

وقصته في ذلك مع ابن مهدي سيذكرها المؤلف بتمامها (ص 408) فراجعها هناك.

(2)

في (خ): "ولنرجع".

(3)

في (غ) و (ر): "ينتضمه".

(4)

في (م): "وتظهر".

(5)

قوله: "ذاهب" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(6)

سورة البقرة: الآية (104).

(7)

سورة الأنعام: الآية (108).

(8)

في (ر) و (غ): "المفترق".

(9)

قوله: "بين" ليس في (خ) و (م) و (ت).

ص: 348

المُجْتَمِع خشية الصدقة (1). ونهى عن البيع والسَّلَف (2)، وَعَلَّلَهُ العلماءُ بِالرِّبَا المُتَذَرَّع إِليه فِي ضِمْنِ السَّلَفِ. وَنَهَى عَنِ الخَلْوة بالأَجنبيات، وَعَنْ سَفَرِ المرأَة مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ (3)، وأَمر النساءَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْ أَبصار الرِّجَالِ (4)، وَالرِّجَالَ بغَضّ الأَبصار (5)، إِلى أَشباه ذَلِكَ مِمَّا عَلَّلُوا الأَمر فِيهِ وَالنَّهْيَ بالتذرُّع لَا بِغَيْرِهِ.

وَالنَّهْيُ أَصله أَن يَقَعَ عَلَى المنهيِّ عَنْهُ وإِن كَانَ مُعَلَّلاً، وصَرْفُهُ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ (6) خِلَافُ أَصل الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الأَصل إِلا بِدَلِيلٍ. فكلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ؛ إِذ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِذَا اعتَقد فِيهَا التعبُّد مَعَ هَذَا النَّهْيِ كَانَ مُبْتَدِعًا بِهَا.

لَا يُقَالُ: إِن نَفْسَ التَّعْلِيلِ يُشْعِر بالمُجاورة، وإِن الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ غَيْرُ الَّذِي أُمر بِهِ، وانفكاكها مُتَصَوَّر؛ لأَنا نَقُولُ: قَدْ تقرَّر أَن المجاوِر إِذا صَارَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ انْتَهَضَ النَّهْيُ عَنِ الْجُمْلَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ مُبَيَّن في القسم الثاني.

(1) أخرجه البخاري (1450) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل: "عن بيع السلف".اهـ.

والحديث أخرجه الطيالسي (2257)، وابن أبي شيبة (4/ 451)، وأحمد (2/ 174 ـ 175، و178 ـ 179)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، والحاكم (2/ 17)، والبيهقي (5/ 340) وغيرهم من طريق عمرو بن شعيب؛ قال: حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ سلف وبيع

" الحديث.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وصححه الحاكم، وابن عبد البر. كما في "التمهيد"(24/ 384).

(3)

أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341)، كلاهما مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ يقول: "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".

(4)

لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم لسودة: "واحتجبي منه". أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457).

(5)

لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.

(6)

في (م): "مجاوز".

ص: 349

والمسلك (1) الثَّانِي: مَا دلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ على أَن الذريعة (2) فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ المُتَذرَّع إِليه، وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (3) مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن (4) مِنْ أَكبر الْكَبَائِرِ أَن يَسُبَّ الرجلُ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يسبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ (5)؟! قَالَ: "نَعَمْ (6)؛ يسبُّ أَبا الرَّجُلِ فيسُبّ أباه (7)، ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أُمَّه"(8). فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ (9) غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّه لوالدي (10) نفسه، حتى عَدَّها (11) تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ:"أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أَو نَحْوَ ذَلِكَ. وَهُوَ غَايَةُ في مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ.

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَعَ أُمّ وَلَد زَيْدِ بْنِ أَرْقَم رضي الله عنه، وَقَوْلُهَا: أَبلغي (12) زيدَ بْنَ أَرقم أَنه قَدْ أَبطل جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِن لَمْ يَتُبْ (13). وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، لَا

(1) في (ت) و (خ) و (م): "المسلك".

(2)

في (ت) و (خ): "الذرائع".

(3)

أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

قوله: "إن" ليس في (خ) و (م) و (ت).

(5)

قوله: "والديه" مكرر في (ر).

(6)

قوله: "نعم" سقط من (غ) و (ر).

(7)

في (ت) و (خ): "فيسب أباه وأمه".

(8)

قوله: "ويسب أمه فيسب أمه" سقط من (ت) و (خ)، وقوله:"فيسب أمه" سقط من (م).

(9)

في (غ): "والدي".

(10)

في (خ) و (م) و (ت): "لوالديه".

(11)

قوله: "عدها" سقط من (خ) و (م) و (ت).

(12)

في (خ) و (م): "أبلغني".

(13)

في (خ): "يبت"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: "العبارة كما ترى مبتورة، ولعل ها هنا حذفاً، وفي سائر الكلام تحريفاً.

والحديث أخرجه عبد الرزاق (8/ 184 ـ 185) واللفظ له، وأحمد كما في "إعلام الموقعين"(3/ 167)، و"نصب الراية"(4/ 16)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 546)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 ـ 331) من طريق أبي إسحاق، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بست مئة، فنقدته الست مئة وكتبت عليه ثمان مئة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت! وبئس والله ما اشترى! أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ قالت:=

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 185)، وابن حزم في "المحلى"(9/ 49) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن امرأته قالت: سمعت امرأة أبي السفر سألت عائشة فذكرته.

وامرأة أبي السفر ذكرها ابن سعد في "الطبقات"(8/ 488)، وابن حجر في "تعجيل المنفعة"(1722).

وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 487)، والدارقطني (3/ 52) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق"(2/ 184)، وأخرجه البيهقي (5/ 331) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أيفع قالت: حججت أنا وأم محبة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها

فقالت لها أم محبة: كانت لي جارية

فذكرته.

قال الدارقطني: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما.

وكذا أعله الشافعي في "الأم"(3/ 38)، وابن حزم في "المحلى"(7/ 29) و (9/ 47، 49).

ورد هذا الإعلال ابن القيم، وابن التركماني، وابن الجوزي، وابن عبد الهادي بأن العالية معروفة غير مجهولة.

قال ابن التركماني: "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك، وابن حنبل، والحسن بن صالح

". "الجوهر النقي" (5/ 330).

وقال ابن الجوزي في "التحقيق"(2/ 184): قالوا: العالية امرأة مجهولة، فلا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة جليلة القدر معروفة، ذكرها محمد بن سعد في كتاب "الطبقات" فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. اهـ وانظر: "الطبقات"(8/ 487) وقال ابن القيم: "وفي الحديث قصة تدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها

".

انظر: "تهذيب السنن"(9/ 246).

وقال في "إعلام الموقعين"(3/ 167): "رواه أحمد وعمل به، وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه

" إلخ كلامه رحمه الله.

وقال ابن كثير في "تفسيره"(1/ 484): "وهذا الأثر مشهور". وقال ابن عبد الهادي في "التنقيح" ـ كما في "نصب الراية"(4/ 16) ـ: "إسناده جيد".

وانظر ترجمة امرأة أبي السفر في "الطبقات"(8/ 488)، و"تعجيل المنفعة"(1722)، وترجمة أم محبة في "الطبقات"(8/ 488).

ص: 351

مِمَّا (1) فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ، حَتَّى نَزَعَتْ (2) آخِرًا بِالْآيَةِ:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (3)، وهي نازلة في عَيْن (4) الْعَمَلِ بِالرِّبَا، فعدَّت الْعَمَلَ بِمَا يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلى الرِّبَا (5) بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، مَعَ أَنا نَقْطَعُ أَن زَيْدَ بْنَ أَرقم وأُمَّ وَلَدِهِ لم يقصدا قَصْدَ الرِّبَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَا عَقْلٍ أَن يَقْصِدَ وَالِدَيْهِ بالسَّبّ.

وإِذا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ؛ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذ لا فرق يُدَّعى (6) فيما (7) لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، إِلا أُلزِمَ (8) الخصمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَلَا عِبَادَةَ أَو مُبَاحًا يُتَصَوَّر فِيهِ أَن يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلى غَيْرِ جَائِزٍ، إِلا وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ.

لكن هذا القسم إِنما يكون النهي عنه (9) بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِليه فِي مَرَاتِبِ النَّهي، إِن كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ، فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَو مِنْ (10) قَبِيلِ الصَّغَائِرِ، فَهِيَ كَذَلِكَ، أَو من قبيل المكروهات فَهِيَ كَذَلِكَ (11)، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ المسأَلة يتَّسع، وَلَكِنَّ هَذِهِ الإِشارة كَافِيَةٌ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(1) في (خ) و (م) و (ت): "لا ممن".

(2)

في (خ): "ترغب".

ومعنى "نزعت": استشهدت.

(3)

سورة البقرة: الآية (275).

(4)

في (خ) و (ت) و (م): "غير".

(5)

قوله: "إلى الربا" سقط من (ت).

(6)

في (خ) و (م): "فيما لم يدعى".

(7)

في (ت): "إذ لا فرق فيما يدعى وفيما".

(8)

في (ت): "إلا إلزام".

(9)

قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م)، وفي (ت):"فيه" بدل "عنه".

(10)

في (خ) و (م): "كذلك ومن".

(11)

قوله: "أو من قبيل المكروهات فهي كذلك" سقط من (خ) و (م) و (ت).

ص: 352