الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الجيم
أبو القاسم الجنيد
-
297 للهجرة
الجنيد بن محمد، الخراز القواريري أبو القاسم. شيخ وقته، ونسيج وحده. أصله نهاوند، ومولده ومنشؤه ببغداد.
صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. ودرس الفقه علي أبي ثور، وكان يفتي في حلقته - بحضرته - وهو ابن عشرين سنة.
قال: " كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: " يا غلام! ما الشكر؟ " قلت: " الشكر ألا تعصي الله بنعمه ". فقال لي: " أخشي أن يكون حظك من الله لسانك! " قال الجنيد: " فلا أزال أبكي علي هذه الكلمة التي قالها لي السري ".
وقال: " علامة لإعراض عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه ".
وقال: " من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا المر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ".
وقال: " من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلا بحق ".
وقال: " من هم بذنب لم يفعله ابتلي بهم لم يعرفه ".
وقال: " الصوفية أهل بيت واحد، لا يدخل فيهم غيرهم ".
وقال: " الأدب أدبان: أدب السر، وأدب العلانية.
فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب ".
وقال له رجل: " علمني شيئاً يقربني إلي الله وإلي الناس "، فقال:" أما الذي يقربك إلي الله فمسألته، وأما الثاني فترك مسألتهم ".
وقال: " لكل أمة صفوة، وصفوة هذه الأمة الصوفية ".
وسئل: " من العرف؟ " فقال: " من نطق عن سرك وأنت ساكت ".
ورؤى في يده يوماً سبحة، فقيل له:" أنت، مع تمكنك وشرفك، تأخذ بيدك سبحة؟! " فقال: " نعم! سبب وصلنا به إلي ما وصلنا لا نتركه أبداً ".
وقال: " قال لي خالي سرى السقطى: " تكلم علي الناس! " وكان في قلبي حشمة من ذلك، فاني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة، في المنام، رسول الله صلي الله عليه وسلم - وكان ليلة جمعة - فقال لي: " تكلم علي الناس! ". فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: " لم تصدقنا حتى قيل لك! ". فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف علي غلام نصراني متنكر وقال: " أيها الشيخ! ما معني قوله عليه السلام:) اتقوا فراسة المؤمن.
فانه ينظر بنور الله (فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت:" أسلم! فقد حان وقت غسلامك! " فأسلم ".
وقال الجنيد: " معاشر الفقراء! إنما عرفتم بالله، وتكرمون له؛ فإذا خلوتم به فانظروا كيف تكونون معه " وقال رجل له: " علي ماذا يتأسف المحب من أوقاته؟ ". قال: " علي زمان بسط أورث قبضاً، أو زمان أنس أورث وحشة ". ثم أنشأ يقول:
قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم
…
فكدرته يد الأيام حين صفا
وقال الخلدي: " دفع إلى الجنيد درهما، وقال: " اشتر به تيناً وزيرياً، فاشتريته، فلما أفطر أخذ واحدة، ووضعها في فيه، ثم ألقاها وبكي، وقال لي:" احمله! " فقلت له في ذلك، فقال:" هتف بي هاتف في قلبي: أما تستحي؟! تركت هذا من أجلي ثم تعود؟! ". ثم أنشد:
نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فصريع كل هوى صريع هوان
وقال أبو عمرو بن علوان: " خرجت يوماً إلي سوق الرحبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلي عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعت عيني علي امرأة مسفرة، من غير تعمد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلي منزلي. فقالت عجوز لي: " يا سيدي! مالي أري وجهك أسود؟!. فأخذت المرآة فنظرت، فإذا هو كما قالت، فرجعت إلي سري أنظر من أين ذهبت، فذكرت النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقامة، أربعين يوماً. فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد!. فانحدرت إلي بغداد، فلما جئت حجرته طرقت الباب، فقال لي:" ادخل يا أبا عمرو! تذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد ".
وقال علي بن ابرهيم الحداد: " حضرت مجلس ابن سريج
الفقيه الشافعي، فكان يتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأي إعجابي قال:" أتدري من أين هذا؟ " قلت: " لا! " قال: " هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد ".
وقال خير: " كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر، أن الجنيد بالباب فاخرج إليه، فنقيته عن قلبي وقلت: " وسوسة! ". فوقع لي خاطر ثان بأنه علي الباب فاخرج اليه، فنقيته عن سري؛ فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحته، فإذا بالجنيد قائم، فسلم علي، وقال لي: " يا خير! لم لا تخرج مع الخاطر الأول؟! ".
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل: " كنت ببغداد، ووافي الحاج من خراسان، فلقيني بعض أصحابنا ممن له فضل وإفضال، فسألني أن أعرفه بجماعة ليصلهم بشيء، فقلت له: " ابدأ بالجنيد! " فحمل إليه دراهم وثياب كثيرة، فلما رآه أعجبه أدبه في رفقه، فقال: " اجعل بعضه لفقراء اذكرهم لك " فقال: " أنا أعرف الفقراء أيها الشيخ؟! " فقال له الجنيد: " وأنا! أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا؟! "، فقال: " إني لم أقل لك: أنفقه في الخل والبقل، والكامخ والجبن والمالح!، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوات،
فكل ما أسرع فهو أحب إلي ". فتبسم الجنيد وقال: " مثلك لا يجوز أن يرد عليه! " وقبل ذلك منه. فقال الخراساني: " ما أعلم أحداً ببغداد أعظم منة علي منك! "، فقال الجنيد: " ولا ينبغي لأحد أن يرتفق إلا ممن كان مثلك ".
وقال الجنيد: " رأيت إبليس في المنام كأنه عريان، فقلت له: " أما تستحي من الناس؟! " فقال: " يا لله! هؤلاء عندك من الناس؟!. لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم كما تتلاعب الصبيان بالكرة، ولكن الناس غير هؤلاء ". فقلت:" ومن هم؟ " قال: " قوم في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي، وأنحلوا جسمي؛ كلما هممت أشاروا بالله، فأكاد أحرق ". فانتبهت ولبست ثيابي، وأتيت مسجد الشونيزي وعلى ليل، فلما دخلت المسجد إذا أنا بثلاثة أنفس - قيل: هم أبو حمزة، وأبو الحسين
النوري، وأبو بكر الزقاق - جلوس، ورءوسهم في مرقعاتهم؛ فلما أحسوا بي قد دخلت أخرج أحدهم رأسه وقال:" يا أبا القاسم! أنت كلما قيل لك شيء تقبله! ".
وبات الجنيد ليلة العيد في الموضع الذي كان يعتاده في البرية، فإذا هو وقت السحر بشاب ملتف في عباءته يبكي ويقول:
بحرمة ربتي! كم ذا الصدود؟!
…
الا تعطف علي؟! ألا تجود؟!
سرور العيد قد عم النواحي
…
وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت أفترفت خلال سوء
…
فعذري في الهوى أفلا تعود؟
وقال أبو محمد الجريري: " كنت واقفاً علي رأس الجنيد وقت وفاته - وكان يوم جمعة - وهو يقرأ، فقلت: " ارفق بنفسك! " فقال: " ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوي صحيقتي ".
وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال:" ما هذا يا أبا القاسم؟! "، قال:" هذه نعم!. الله أكبر ". فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري:
" لو اضطجعت! "، قال:" يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر ". فلم يزل ذلك حاله حتى مات ".
وقال ابن عطاء: " دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: " اعذرني! فإني كنت في وردي "، ثم حول وجهه إلي القبلة ومات ".
وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية ".
وكانت وفاته في شوال، آخر ساعة من يوم الجمعة، سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد. وقيل: سنة ثمان.
وغسله أبو محمد الجريري، صلي عليه ولده، ودفن بالشونيزيه، بتربة مقبرة بغداد، عند خاله سري. وحزر الجمع الذين صلوا عليه، فكانوا ستين ألفاً.
قال أبو محمد الجريري: " كان في جوار الجنيد رجل مصاب في خربة، فلما مات الجنيد ودفناه، تقدمنا ذلك المصاب، وصعد موضعاً رفيعاً، وقال لي: " يا أبا محمد! تراني أرجع إلي تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! "، ثم أنشد:
واأسفي من فراق قوم
…
هم المصابيح والحصون!
والمدن والمزن والرواسي
…
والخير والأمن والسكون
لم تتغير لنا الليالي
…
حتي توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب
…
وكل ماء لنا عيون
ثم غاب عنا فكان ذلك آخر العهد منه ".
وسئل الجنيد عن التوحيد، فأنشد قائلا:
وغني لي من قلبي
…
وغنيت كم غني
وكنا حيثما كانوا
…
وكانوا حيثما كنا
فقال السائل: " وأين القرآن والأخبار؟! " فقال: " الموحد يأخذ علي التوحيد من أدني الخطاب ".
وأنشد مرة:
وإن امرءاً لم يصف لله قلبه
…
لفي وحشة من كل نظرة ناظر
وإن امرءاً لم يرتحل ببضاعة
…
إلي داره الأخرى فليس بتاجر
وإن امرءاً باع دنيا بدينه
…
لمنقلب منها بصفقة خاسر
وسئل عن الفقر فأنشأ يقول:
لا الفقر عار ولا الغنى شرف
…
ولا شئ في طاعة سرف
قلت: وأستاذ الجنيد محمد بن علي القصاب، أبو جعفر البغدادي. وكان الجنيد يقول " الناس ينسبوني إلي سري، وإنما أستاذي هذا يعني القصاب.
سئل القصاب: " ما بال أصحابك محرومين من الناس؟ " قال: " لثلاث خصال: أحدها: أن الله لا يرضي لهم ما في أيديهم، ولو رضي لهم ما لهم لترك ما لأنفسهم عليه.
وثانيها: أن الله لا يرضي أن يجعل حسناتهم في صحائفهم، ولو رضي لهم لخلطهم بهم.
وثالثها: أنهم قوم لم يسيروا إلا إلي الله، فمنعهم كل شيء سواه وأفردهم به ".