الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو بكر الشبلى
247 - 334 للهجرة
دلف بن جحدر، وقيل: ابن جعفر، الشبلى، نسبة إلى قرية من قرى اسروشنة، بلدة عظيمة وراء سمرقند، من بلا د ما وراء النهر.
كنيته أبو بكر، الخراساني الأصل، والبغدادي المولد والمنشأ. جليل القدر، مالكي المذهب عظيم الشأن.
صحب الجنيد وطبقته. ومجاهداته، في أول أمره، متواترة؛ يقال: أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم.
وكان يبالغ في تعظيم الشرع المكرم، وإذا دخل رمضان جد فيه
الطاعات، ويقول:" هذا شهر عظمه ربى، فأنا أولى بتعظيمه ".
مات في ذي الحجة، سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، عن سبع وثمانين سنة.
ومن كلامه: وقد سئل عن حديث) خير كسب المرء عمل يمينه (: " إذا كان الليل فخذ ماء، وتهيا للصلاة، وصلي ما شئت، ومد يدك، وسل الله، فذلك كسب يمينك ".
وسئل عن قوله تعالى:) لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا (، قال:" لو اطلعت على الكل لوليت منهم فراراً ألينا ".
قال، في معنى قوله تعالى:) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (، قال:" أبصار الرءوس عن المحارم، وأبصار القلوب عما سوى الله عز وجل ".
ولما حج عن التجريد، ورأى مكة، وقع مغشياً عليه، فلما افاق أنشد:
هذه دراهم وأنت محب
…
ما بقاء الدموع في الآماق
وقديماً هدت أفنية الدار
…
وفيها مصارع العشاق
وقال القوال بين يديه ليلة شيئاً، فصاح، فقيل له: " ما لك، من بين الجماعة، تتواجد، فقال:
لي سكرتان، وللندمان واحدة
…
شئ خصصت به، من بينهم، وحدي
ووقع ذلك مرة أخرى، فأنشأ:
لو يسمعون، كما سمعت، حديثها
…
خروا لعزة ركعاً وسجوداً
وكان الشبلى يوماً حاضراً، فوقف عليه شخص ودعا، والشبلى ينظر إليه، فأنشأ:
أم الخيام فأنها كخيامهم
…
وأرى نساء الحي غير نسائها
وحضر مرة فاجتمع الناس إليه، فسكت فسكتوا، ثم أنشأ:
كفى حزناً بالواله الصب أن يرى
…
منازل من يهوى معطلة صفرا
وكان يقول: " ليت شعري ما اسما عندهم يا علام الغيوب؟. وما أنت صانع في ذنوبي يا غفار الذنوب؟. وبم يختم عملي يا مقلب القلوب؟ ".
وسئل عن حديث:) إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية (: من هم أهل البلاء؟. قال: " أهل الغفلة عن الله ".
وقال له رجل: " ادع الله لي "، فانشأ:
مضى زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلى الليل الغداة شفيع؟
وقيل له: " أراك جسيماً بدينا، والمحبة تضنى؟ "، فأنشأ:
احب قلبي، وما درى بدني
…
ولو درى ما أقام في السمن
وكان كثيراً ما ينشد:
ولي فيك
…
ياحسرتي حسرت تقظي حياتي وما تنقضي.
ويروي انه قال: " كنت يوماً جالساً، فجرى بخاطري أني بخيل، فقلت: أنا بخيل؟! فقاومني خاطري، وقال: بلا!، انك بخيل!. فقلت: مهما فتح على اليوم، لأدفعنه إلى أول فقير يلقاني!. قال: بينا أنا أتفكر، إذ دخل على صاحب لمؤنس الخادم، ومعه خمسون ديناراً، فقال: اجعل هذه في مصالحك "، فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف، بين يدي مزين، يحلق رأسه، فتقدمت إليه، وناولته الصرة، فقال لي: أعطها للمزين ". فقلت: " أنها دنانير! "، فقال: " أو ليس قد قلنا انك بخيل؟! "، فناولتها للمزين: " من عاداتنا أن الفقير إذا جلس بين أيدينا لا نأخذ منه أجراً ". قال: فرميتها في دجلة فقلت: " ما أعزك أحد إلا أذله الله! ".
وقال: كنت في قافلة بالشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه، فخرج جراب في لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير، فأنه لم يأكل؛ فقلت له:" لما تأكل؟! "، قال:" أنا صائم! ". قلت " تقطع الطرق، وتأخذ الأموال، وتقتل النفس، وأنت صائم؟! "، قال:" يا شيخ! اجعل للصلح موضعاً ". فلما كان بعد حين، رأيته يطوف، وهو محرم، كالشن البالي، فقلت:" أنت ذاك الرجل؟! ". فقال: " ذلك الصوم بلغ بي إلى هذا ".
ورؤى الشبلي في جامع المدينة قد كثر الناس عليه في الرواق
الوسطاني، وهو يقول:" رحم الله عبدا، ورحم والديه دعا لرجل كانت له بضاعة، وقد فقدها؛ وهو يسأل الله ردها! " والناس صموت. فخرق الحلقة غلام حدث، وقال:" من هو صاحب البضاعة؟ "، الشبلي:" أنا! " قال: " فأيش كانت بضاعتك؟ "، قال:" الصبر، وقد فقدته! " فبكى الناس بكائاً عظيماً ".
وللشبلي:
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى
…
دمعان في الأجفاني يستبقان
ما أنصفتني الحادثات!
…
رمينني بمودعيني، وليس لي قلبان
وقيل ضاق صدره يوماً ببغداد، فانحدر إلى البصرة، فلما ضاق صدره خرج لوقته، فلما قرب من دار الخليفة، إذا جار تغني بين يدي الخليفة:
أيا قادماً من سفرة الهجر، مرحباً
…
أنا ذاك، لا أنساك، ما هب الصبا
قدمت على قلبي، كما قد تركته
…
كئيباً حزيناً بالصبابة متعبا
فصاح صيحة، ووقعت الدجلة مغشياً عليه، فقال الخليفة:) ألحقوه واحملوه! " فحمل أليه، فقال له: " أمجنون أنت؟! ". قال:
" يا أمير المؤمنين! كان من أمري كيت وكيت، فتحيرت في أمري " فبكى الخليفة لما رأى من حرقته.
وآخر يوماً العصر، ونظر الشمس وقد نزلت للغروب، فقال:" الصلاة ياسادتي! " وقام فصلى، وانشأ يقول مداعباً وهو يضحك: " ما احسن من قال:
نسيت اليوم من عشقي صلاتي
…
فلا ادري عشائي من غدائي
فذكرك
…
سيدي أكلي وشربي ووجهك أن رأيتُ شفاء دائي
ورؤى يوماً في عيد خارجاً من المسجد، وهو يقول:
إذا ما كنت لي عيداً
…
فما اصنع بالعيد؟
جرى حبك في قلبي
…
كجري الماء في العود
وقال: " ما أحوج الناس إلى سكرة، تفنيهم عن ملاحظة أنفسهم وأفعالهم وأحوالهم " وأنشأ يقول:
وتحسبني حياً وأني لميت
…
وبعض من الهجر أن يبكي على بعض
وأنشد:
وأني وإياها لفي الحب صادق
…
نموت بما نهوى جميعاً، وما نبدي
وأنشد أيضاً:
ومن أين لي أين؟ وأني كما ترى
…
أعيش بلا قلب وأسعى بلا قصد
وروى انه كان يقول في أخر أيامه:
وكم من موضعاً لو مت فيه
…
لكنت نكالاً في العشيرة!
وقال خير النساج: " كنا في المسجد، فجاء الشبلي - في سكره - فنظر ألينا، فلم يكلمنا وهجم على الجنيد في بيته، وهو جالس مع زوجته، وهي مكشوفة الرأس، فهمت أن تغطي رأسها، فقال لها الجنيد: " لا عليك!، ليس هو هناك! " فصفق على رأس الجنيد وأنشد يقول:
عودوني الوصال، والوصل عذبٌ
…
ورموني بالصد، والصد صعبُ
زعموا
…
حين أيقنوا أن جرمي فرط حبي لهم، وما ذاك ذنبُ
لا! وحسن الخضوع عند التلاقي!
…
ما عجزا من يحب إلا يحبُ!
قال: ثم ولى الشبلي خارجا، فضرب الجنيد على الأرض برجليه، قال:" هو ذاك يا أبا بكر، هو ذاك! "، وخر مغشياً عليه.
قال بكير الدينوري " وجد الشبلى خفة - في يوم جمعة - من وجع كان به، فأمر بمضيه إلى الجامع، فراح أليه متكئاً، فتلقاه رجل مقبل من الرصتفة، فقال: " سيكون لي غداً مع هذا الشيخ شأن! ". فصلينا ثم غدونا، فتناول شيئاً من الغداء، فلما كان الليل مات. فقيل لي: " في درب السقايين رجل يغسل الموتى " فدلوني عليه في السحر، فأتيته فدققت الباب خفيفاً فقلت: " سلام عليك "، فقال:، مات الشبلى؟ "، قلت:" نعم! " فخرج إلى، فإذا به الشيخ، فقلت:" لا أله إلا الله! " فقال: " لا اله إلا الله، تعجبا مم؟ " قال: " قال لى الشبلى أمس - لما وجدناك -: " غداً يكون لي مع هذا شأن. بحق معبودك!، ة من أين لك أن الشبلى قد مات؟ ". قال:" يا ابله! فمن أين للشبلى أن يكون له معي اليوم شأن؟ ".
وقيل لبكير الديننورى خادمه: " ما الذي رأيت منه؟ " يعنى عند وفاته، فقال:" قال: على درهم مظلمة، قد تصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شغل أعظم منه " ثم قال: " وضئني للصلاة! " ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، فقد أمسك على لسانه فقبض على يدى وأدخلها فى لحيته، ثم مات ". فهذا رجل لم يفته - فى أخر عمره - أدب من آداب الشريعة ".
وقيل له عند موته: " قل: لا اله إلا الله " فقال:
قال سلطان حبه:
…
أنا لا أقبل الرشا
فسلوه فديته
…
لم بقلبي تحرشا
أصحابه، منهم الحسين بن محمد بن موسى الأزدي، والد أبى عبد الرحمن السلمى، سلف قريباً.
ومنهم على بن إبرهيم، أبو الحسن الحصري البغدادي. حكى عنه انه كان لا يخرج إلا يوم الجمعة، وكان أحد الموصوفين بالعباده وشدة المجاهدة. وله كلام على الأحوال، دونه عنه الأعلام، ومنه:" لا يغرنكم صفاء الأوقات، فان تحتها آفات، ولا يغرنكم العطاء فان العطاء، عند أهل الصفاء، مقت ".
وكان شيخ بغداد في وقته، منفرداً بلسان التوحيد، لا يدانيه فيه أحد، وكان أوحد زمانه في أحواله، وحسن المشاهدة؛ شاهده يدل على صدق حاله، وسلامة صدره. ملت ببغداد سنة أحدى وسبعين وثلثمائة، وقد نيف على الثمانين، ودفن بباب حرب قرب بشر.
وكان ينشد:
أن دهراً يلف شملي بسلمى
…
لزمان يهم بالأحسان
وقال أبو الحسين الزنجاني؛ كثيراً ما كنت أسمعه يقول: " عرضوا ولا تصرحوا فان التعريض أستر ".
وينشد:
وأعرض
…
إذا ما جئت عنا بحيلة وعرض ببعض، أن ذلك استر
فما زلت في أعمال طرفك نحونا
…
ولحظك، حتى كاد ما بك يظهر
ومنهم محمد بن أحمد بن حمدون الفراء، من كبار مشايخ
نيسابور. وصحب أيضاَ أبا على الثقفي، وغيره. وكان أوحد وقته في طريقته.
قيل له: " من هم الأبرار؟ " قال: " المتقون ".
ومنهم بندار بن الحسين، سلف.
ومنهم محمد بن سليمان الصعلوكي الحنفي، أبو سهل. كان اماماً في العلوم، وأوحد زمانه، وكان - مع تمام علمه وفضله - مقدم علوم هذه الطائفة، ويتكلم فيه بأحسن إشارة، ويحترمهم وصحب المرتعش وغيره أيضاً، وكان حسن السماع طيب الوقت.
قال: " ما عقدت على شئ قط، وما كان لى قفل ولا مفتاح، ولا صررت على دراهم ولا دنانير قط ".
وسئل عن التصوف، فقال:" الأعراض عن الأعراض ".
وقال: " من قال لأستاذه: " لم؟ " لا يفلح أبداً ".
وقال: " عقوق الوالدين تمحوه التوبة، وعقوق الاستاذين لا يمحوه شيء البته ".
مات سنة تسع وستين وثلاثمائة، عن ثلاث وسبعين سنة.
ومنهم نعمان الحديثي. لقي الشبلي وغيره، وكان أحد الزهاد، صاحب كرامات.
دخل على الشبلي ببغداد، مختفياً، فعرفه.
حكت عنه ابنته فاطمة، فالت: قال أبي: " دخلت على الشبلي ببغداد، فقال لي: " تعرف الله؟ "، قلت: " نعم! "، فحملني إلى بيته، وأمر بآلة الحلاوة، ونصب الدست، وأوقد النار، فلما إلى ادخل يده فيها فحركه، قال: فمددت يدي إلى الشعلتين التي تقدان تحته، فأختهما واكتحلت بهما، فضرب بيديه الي، وقال: " نعمان؟! "، قلت: " نعم! ".
ومن أقرانه عبد الله بن طاهر الأبهري أبو بكر. عالم ورع،
صحب يوسف بن الحسين وغيره. ومات قرب الثلاثين وثلاثمائة.
ومن كلامه: " إذا أحببت أخافني الله فأقلل من مخالطته في الدنيا ".
وانشد:
كل العذاب الذي في الناس مسترق
…
مما الأقيه من شوق وتذكار
وقال: " حكم الفقير أن لا تكون له رغبة، فأن كان ولا بد فلا تتجاوز رغبته كفايته ".
ويروى انه حضر جنازة، فرأى أخوان الميت يكثرون البكاء، فنظر إلى أصحابه، ثم انشد يقول:
ويبكي على الموتى، ويترك نفسه
…
ويزعم أن قد قل عنه عزاؤه
ولو كان ذي رأي وعقل وفطنة
…
لكان عليه لا عليهم بكاؤه
وله أيضاً:
يا مدعي الود أن الود محضور
…
باد على صادق لله مشهور
مستأنس لا يرى شيئاَ يروعه
…
ولا يحاذره في الله محذور