الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينخلع بالفسق)) (1).
المبحث الثالث: النَّصيحة بالحكمة
21 -
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلّغها، فَرُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفْقَهُ منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم)) (2).
فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبهجة ونضارة الوجه والحُسن الذي يُكسى به الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به، وفرح القلب وسروره به، وَالْتِذَاذِهِ لمن سمع كلامه، ووعاه، وحفظه، وبلّغه غيره، فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمّنة لجمال الباطن والظاهر (3).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: ((وقوله: صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يغِلُّ عليهن قلب مسلم
…
)) أي لا يحمل الغِلَّ، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغل والغش وفساد القلب، وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصهُ يمنعُ غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جُملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبقَ فيه موضع للغش.
(1) فتح الباري، 13/ 71 - 72.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلّغ علماً، برقم 230، وفي كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر، برقم 3056، وأحمد، 1/ 437، وصححه الألباني صحيح الجامع، برقم 6766.
(3)
انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 274، و276 بتحقيق علي بن حسن بن عبد الحميد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومناصحة أئمة المسلمين
…
)) هذا أيضًا منافٍ للغل والغش؛ فإن النصيحة لا تجامع الغلَّ، إذ هي ضدُّهُ، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولزوم جماعتهم
…
)) هذا أيضاً مما يُطَهِّر القلب من الغلِّ والغشِّ، فإن صاحبه - للزومه جماعة المسلمين - يُحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرَهُ لها، ويسوؤهُ ما يسوؤهم، ويسرّه ما يسرّهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذّمِّ، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإن قلوبهم مُمتلئةٌ غِلاًّ وغِشَّاً؛ ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشَّهم للأئمة والأُمَّة، وأشدَّهم بُعداً عن جماعة المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم
…
)) هذا من أحسن الكلام وأوجزه، وأفخمه معنىً، شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسِّياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوِّهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوةُ الإسلام - وهم داخلوها - لَمّا كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوةُ تجمع شمل الأمة، وتلمُّ شَعَثَها، وتحيط بها، فمن دخل جماعتها أحاطت به وشَمِلَتْهُ)) (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور، ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 275 - 278 بتصرف يسير.
يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكّدة، كما تجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج البيت، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيداً وتثبيتاً لِمَا أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور، ومناصحتهم، فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه
…
فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه، وما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن معصيتهم وغشهم محرم، وإن لم يحلف على ذلك)) (1).
والنصيحة لولاة الأمر تكون سرّاً بين الناصح وبينهم: برفقٍ ولينٍ، وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة، وأسلوبٍ مناسب.
22 -
فعن عياض بن غنم أنه قال لهشام بن حكيم رضي الله عنهما: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه)) (2).
23 -
وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّينُ النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين،
(1) فتاوى ابن تيمية، 35/ 9 - 10.
(2)
أخرجه عمرو بن أبي عاصم في كتابه: كتاب السنة، 2/ 521، وأخرجه أحمد، 3/ 403 - 404، والحاكم، 3/ 290، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:((رواه أحمد ورجاله ثقات))، 5/ 229. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، 2/ 521.
وعامَّتهم)) (1).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((أما النصيحة لأئمة المسلمين: فحبُّ صلاحهم ورُشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحبّ إعزازهم في طاعة الله عز وجل)) (2). وقال في موضع آخر: ((والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفقٍ ولطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك)) (3).
وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين: وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي، فهؤلاء لمّا كانت مهماتهم وواجباتهم أعظمَ من غيرهم، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم، والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم، ولزوم أمرهم الذي
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55، والحديث أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:((الدين النصيحة))، ص 35، ط بيت الأفكار الدولية.
(2)
جامع العلوم والحكم، 1/ 222.
(3)
جامع العلوم والحكم، 1/ 223، وانظر: كلمات تكتب بماء الذهب في طاعة ولاة أمور المسلمين: فتاوى ابن تيمية، 28/ 390 - 391، ومنهاج السنة النبوية، 3/ 390، ومفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 62، والجامع الفريد من كتب ورسائل أئمة الدعوة الإسلامية، ص281، والعقيدة الطحاوية، ص368.
لا يخالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق؛ فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم، واجتناب سبِّهم، والقدح فيهم، وإشاعة مثالبهم؛ فإن في ذلك شرّاً، وضرراً، وفساداً كبيراً.
فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك، وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سرّاً لا علناً، بلطفٍ وعبارة تليق بالمقام، ويحصل بها المقصود؛ فإن هذا هو المطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور؛ فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص، واحذر أيها الناصح لهم - على هذا الوجه المحمود - أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم، وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أُخر معروفة)) (1).
24 -
وعن زياد بن كُسيب العدوي قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق، فقال: أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُسّاق، فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) (2)، ولفظ الإمام أحمد بدون ذكر القصة: ((من أكرم سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا
(1) الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، ص38 - 49.
(2)
أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب 47، برقم 2224، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2297، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 245.
أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أهانه الله يوم القيامة)) (1)؛ ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله:((لا يزال الناس بخير ما عظَّموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفّوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم)) (2).
25 -
وقيل لأسامة بن زيد رضي الله عنهما: لو أتيت فلاناً (3) فكلَّمته، قال: ((إنكم لترون أني لا أُكلِّمُه إلا أُسْمِعُكم، إني أُكلِّمه في السِّر [وفي رواية لمسلم: والله لقد كلَّمته فيما بيني وبينه] دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه
…
)) (4).
فقد استخدم أسامة رضي الله عنه أسلوب الحكمة مع الأمير العظيم عثمان رضي الله عنه وأرضاه؛ لِأَنَّ النصيحة لولي أمر المسلمين لا بد فيها من مراعاة مركزه، وحاله؛ لأن إنزال الناس منازلهم من صميم الحِكمة؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:((وفي الحديث تعظيم الأمراء، والأدب معهم، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم (5)؛ ليكفُّوا ويأخذوا حذرهم بلطفٍ،
(1) أحمد، 5/ 48 - 49، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 215: رواه أحمد والطبراني باختصار، وزاد في أوله: ((الإمام ظل الله في الأرض
…
))، ورجال أحمد ثقات)). وحسنه الألباني كما تقدم، وفي صحيح الجامع، برقم 5987.
(2)
تفسير القرطبي، 5/ 262.
(3)
هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما في رواية الإمام مسلم، برقم 2989.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3267،ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم، 2989.
(5)
وليس المراد تبليغهم ما يقول الناس فيهم على وجه النميمة والإفساد.
وحسن تأدية، بحيث يبلغ المقصود من غير أذيَّة للغير)) (1).
وإنكار المنكر مشروط بأن لا يحصل منكر أنكر؛ لأن إنكار المنكر له أربع درجات كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن يزول، ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل، وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه شر منه.
فالدرجتان الأولَيَان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرّمة (2).
وقال النووي رحمه الله تعالى على قول أسامة: ((دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)): ((يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه، وفيه الأدب مع الأمراء، واللطف بهم، ووعظهم سرّاً، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم، ليكفّوا عنه
…
)) (3).
ولا شك أن الإنكار على ولي أمر المسلمين جهاراً أمام الرعية، وبحضرتهم يسبّب شرّاً كثيراً في الغالب، وربما حصل بذلك فرقة، أو خروج على إمام المسلمين، وولي الأمر لا بد له أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ثم لا يأمن أن يقع منه تقصير؛ لأنه بشر، ولكن
(1) فتح الباري، 13/ 53، وانظر: شرح النووي، 18/ 328.
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، 3/ 16، وانظر هناك فوائد عظيمة.
(3)
شرح النووي، 18/ 329.