الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة: هل يجب تسوية الوالدين
بين أولادهم الذكور والإناث في الهبة
؟
" سووا بين أولادكم في العطية، فلو
كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء " (310)
حديث شريف
اتفق الفقهاء على جواز هبة الوالدين لأولادهم، لكنهم اختلفوا في تفضيل بعضهم على بعض في أصل الإعطاء، ثم اختلفوا في صفة الإعطاء، وفيما يلى نجمل إن شاء الله ما يناسب ذكره في هذا المقام متعلقًا بالأمرين. أولًا: حكم العدل بين الأولاد في الهبة
روى البخاري بسنده إلى النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني نحلت ابنى هذا غلامًا "، فقال: " أكُل ولدِك نحلتَ مِثْلَه؟ "، قال: " لا "، قال: " فأرجعه ") .
وروى أيضًا بسنده عن حُصين بن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر، يقول:" أعطاني أبي عطيةً، فقالت عَمرة بنتُ رَواحة: " لا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، فقال:" إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتني أن أشْهِدَكَ يا رسول الله "، قال: " أعطيتَ سائر ولدِك مِثْلَ
(310) يأتي تخريجه بهامش رقم (322) .
هذا؟ "، قال: " لا "، قال: " فاتقوا الله، وَاعْدِلوا بين أولادكم "، قال: " فرجع، فَرَد عَطِيتهُ " (311) .
(ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، قال: "فاردده"، وفي رواية الشعبي: قال: " فرجع، فرد عطيته"، ولمسلم: "فرد تلك الصدقة"، وزاد في رواية أبي حيان في "الشهادات": " قال: لا تشهدني على جَوْر"، ولمسلم في رواية أبي حيان أيضا: " فقال: فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جَوْر) ، وله في رواية داود بن أبي هند
(فأشهد على هذا غيري"، وفي حديث جابر: (فليس يصلح هذا،
وإني لا أشهد إلا على حق "، وفي رواية عروة عند النسائي: " فكره أن يشهد له "، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: " اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر "، وفي رواية مجالد عن الشعبي عند أحمد: (إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ " قال: " بلى "، قال:" فلا إذاً "، ولأبي داود من هذا الوجه:" ان لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك "، وللنسائي من طريق (312)
(311) رواه البخاري (5/210 - 211) ط. السلفية، في الهبة: باب الهبة للولد، وباب الإشهاد في الهبة، وهذا لفظه، وفي الشهادات: باب لا يشهد عل شهادة جَوْر إذا شهد، ومسلم رقم (1623) في الهبات: باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، و " الموطأ "(2/751، 752) في الأقضية: باب ما لا يجوز من النٌّحْل، وأبو داود أرقام (3542) إلى (3545) في البيوع: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، والترمذي رقم (1367) في الأحكام: باب ما جاء في النحل والتسوية بين الولد، والنسائي (6/258-261) في النحل: في فاتحته.
(312)
جمع هذه الروايات الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح"(5/213-214) =
أبي الضحى: " ألا سَوَّيتَ بينهم؟ "، وله ولابن حبان من هذا الوجه:"سَو بينهم ") .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
(واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، وقد تمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد (313) ، وبه صرح البخاري (314) ، وهو قول طاوس (315) ، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكية، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة (316)، وعن أحمد: تصح، ويجب أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب (317) ،
= وقد نقلناها بتصرف يسير.
(313)
(ومن حجة من أوجبه أنه مقدمة الواجب، لان قطع الرحم، والعقوق محرمان، فما يؤدى إليهما يكون محرمًا، والتفضيل مما يؤدي إليهما) اهـ من "الفتح"(5/214) .
حيث قال في " صحيحه،:(باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا، لم يجُز حتى يعدل بينهم، ويعطي الآخر مثله، ولا يشهد عليه) اهـ من (فتح الباري، (5/210) .
قال القرطبي رحمه الله: (روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: " كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية: (أفحكم الجاهلية يبغون)، فكان طاوس يقول:" ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ، وفُسِخ، وبه قال أهل الظاهر) اهـ (6/214) ، وعن طاوس أيضا قال: " لا يجوز ذلك، ولو برغيف محترق"، وبه قال ابن المبارك، وروى معناه عن مجاهد، وعروة.
(316)
قال القرطبي رحمه الله: (قوله: " فارجعه " محمول على معنى: فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد، أي مردود مفسوخ، وهذا كله ظاهر قوى، وترجيح جلي في المنع) اهـ (6/215) .
(317)
قال في " المغني ": (فإن خص بعضهم لمعنى يقضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين =
كأن يحتاج الولد لزمانته ودينه، أو نحو ذلك دون الباقين، قال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار) (318) اهـ.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فَضل بعضًا صَح، وكُرِه، واستُحِبت المبادرةُ إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه (319) .
ثانيًا: صفة التسوية بين الذكور والإناث
تقدم الكلام في حكم أصل التسوية، بقي أن نبين أن العلماء اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحق، وبعض الشافعية والمالكية: العدل: أن يعطي الذكر حظين كالميراث، وذهبوا إلى أن التسوية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل على القسمة موافقة لقول الله تعالى:(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(النساء: 11) ، والله عز وجل لم يترك توزيع المال لأحد سواه، بل ذكر تفصيل ذلك، ثم قال:(فريضة من الله)(النساء: 11) ، فيجب اتباع ما أمر الله به.
= بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روى عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف:" لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة "، والعطية في معناه " اهـ. من (المغني، (5/665) .
(318)
"فتح الباري"(5/214) .
(319)
وقد استدلوا بأدلة كثيرة، لكنها لا تنهض أمام أدلة الوجوب، كما بين ذلك الحافظ ابن حجر من خلال تتبعه ألفاظ الروايات المختلفة لحديث النعمان رضي الله عنه، فانظر:" فتح الباري"(5/214 - 215)، وانظر أيضًا البحث الملحق بآخر كتاب " تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية " للنابلسي - للشيخ محمد عمر بيوند ص (220: 217) .
ولا يلزم من إطلاق التسوية أن تكون من كافة الوجوه، بل يحتمل أن يكون المقصود التسوية في أصل العطاء، لا في صفته (320) .
واستدلوا بأن العطية حال الحياة تكون استعجالًا لما يكون بعد الموت، فيجب أن يكون بحسبه، فلو أبقى الواهب ذلك المال في يده حتى مات، لكان حظها منه نصف حظ الذكر.
واستدلوا بأن الذكر تقع عليه أعباء أكثر من الأنثى، فمثلًا يكلف الرجل في الزواج بالمهر، والنفقة، ونفقة الأولاد، بخلاف الأنثى، لذا دعت الحاجة إلى تفضيله، وقد رُوعي هذا كله عندما قسم الله الميراث، فينبغي مراعاته كذلك عند الهبة للأولاد.
(وقال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: " ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه "، وقال عطاء: " ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى ")(321) اهـ.
وذهب الجمهور إلى أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، قال الحافظ ابن حجر:
(وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم، واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه:
(سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مُفَضِّلاً أحدا لفضَّلْتُ النساء" أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه، وإسناده حسن)(322) اهـ.
(320) انظر: (عقد الهبة) للدكتور جمال الدين العاقل ص (209) .
(321)
"المغني، (5/666) .
(322)
"فتح الباري"(5/214) .