الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الرابع]
المرأة زوجة
من فضل الله تعالى وتكريمه لبني آدم أن شرع لهم الزواج، وجعل طريقة تناسلهم بهذه الطريقة الشريفة المنظمة المحفوظة المصونة لئلا تختلط المياه، وتشتبه الأنساب بخلاف ما عليه طريقة تناسل الحيوانات والبهائم.
ولم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين دنسًا يجب التنَزه عنه، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو، وجعل الزواج من نعمه سبحانه على عباده.
قال سبحانه في وصف الرسل ومدحهم: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا وجعلنا لهم أزواجًا وذرية) الرعد (38) ، فذكر ذلك في معرض الامتنان، وإظهار فضله سبحانه عليهم، والمعنى:
وجعلناهم بشرا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي، فهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها.
ومدح عز وجل أولياءه بأنهم يسألونه ذلك في دعائهم، فقال عز من قائل:(والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتِنا قرة أعين) الفرقان (74)، وقال سبحانه وتعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم (21) .
ولا تستعمل لفظة "آية" في القرآن المجيد إلا في الأمور الجليلة العظيمة، ليدل على قوة وقدرة الخالق تبارك وتعالى، وقد قرن الله تبارك
وتعالى آية تكوين الأسرة، بآية تكوين العالم أجمع، فعقب هذه الآية بقوله جل وعلا:(ومن آياته خلْقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين)(الروم: 22) بل إن الزوجة نعمة من نعم الله على عبده حقيق به أن يشكرها ولا يكفرها، وهو مسئول عن هذه النعمة بين يدي ربه يوم الحساب، كما يسْأل عن سائر النعم: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:
(.. فيلقى العبدُ رَبه، فيقول الله: " ألم أكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وَأزَوِّجْكَ، وَأُسَخرْ لك الخيلَ والإبلَ، وَأذَرْكَ ترْأسُ وَترْبَعْ؟ "، فيقول: " بلى أي رَبِّ "، فيقول: " أفظننتَ أنك مُلاقِيَّ؟ "، فيقول: " لا "، فيقال: " إني أنساك كما نسيتني ")(515) الحديث.
وعلم بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج والحث عليه (516) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تزوج العبدُ، فقد استكمل نِصْفَ الدين، فليتق الله فيما بَقِي "(517) .
قال القرطبي: (ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضَمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة، فقال: " من وقاه الله شر اثنتين وَلَجَ الجنة: ما بين لَحْيَيهِ، وما بين رجليه " (518) خرجه
(515) رواه مسلم في " صحيحه "(4/2280) رقم (2969) في الزهد، واللفظ له، والترمذي في " صفة القيامة " رقم (2428) ، والإمام أحمد (2/492) ، (4/378، 379) .
(516)
انظر: " القسم الثالث" ص (61-65) ، و " بدائع الفوائد"(3/191 -192) ، وحسبك أن عامة كتب السنة تستفتح كتاب النكاح بالترغيب فيه، والحث عليه.
(517)
أخرجه الطبراني في " الأوسط "، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (625) ، وانظر الحاشية رقم (534) .
(518)
أخرجه الترمذي (2/66) رقم (2411) في الزهد: باب ما جاء في حفظ =
الموطأ وغيره) (519) اهـ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(520) المائدة (87) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: " تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"(521) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه لما أراد أن يتبتل: (يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا،
اللسان، وقال:" هذا حديث حسن غريب"، والحاكم (4/357) بنحوه، وقال:"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وله شاهد أخرجه الإمام أحمد (5/362) وابن حبان في " الثقات، (1/5) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (510) ، والحديث أخرجه في "الموطأ" (2/987، 988) عن عطاء بن يسار مرسلا، في الكلام: باب ما جاء فيما يخاف من اللسان.
(519)
" الجامع لأحكام القرآن"(9/327) .
(520)
انظر: صحيح البخاري (7/5) ط. الشعب، ومما يجدر ذكره أن القرآن أمر بالتبتل في قوله تعالى:(واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) المزمل (8) ، ومعنى الآية الأمر بالانقطاع إلى الله عز وجل بإخلاص العبادة، كما قال تعالى:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة (5) ، وقد ورد النهي عن التبتل في السنة، والمقصود به الانقطاع عن الناس والجماعات وسلوك سبيل الرهبانية في ترك النكاح، والترهب في الصوامع، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نُزل إليهم، انظر:" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (19/ 44-45) ، (6/261) ، " الفتح الرباني"(16/142) .
(521)
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى، (7/78) ، وساقه الحافظ في " الفتح" (9/111) ، وسكت عليه، وقواه الألباني لشواهده في " الصحيحة" رقم (1782) .
أفما لك فِي أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده " (522) .
هكذا أبطل صلى الله عليه وسلم تنطع المتنطعين المعاندين لسنة الله في التعبد بترك النكاح، ولم تعد الرابطة الزوجية دناءة بهيمية، فإن إشعاع الإسلام بَددَ تلك الظلماتِ في العالمين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة حتى جعل منها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها:
وتأمل هذه العبارة الجامعة للفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام رحمه الله حيث يقول: (ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة للباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع، وتربية الولد (523) ، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، والنفقة على
(522) أخرجه ابن حبان (1288) ، والإمام أحمد (6/226) ، والطبراني في " الكبير "، وقال الألباني:" سنده صحيح على شرطهما" - انظر: " إرواء الغليل"(7/79) ، " السلسلة الصحيحة" رقم (394) ، والأحاديث الواردة في مدح العزوبة كلها باطلة، كما في (الأسرار المرفوعة، للقاري ص (483) .
(523)
ومن مقاصد النكاح في الإسلام تكثير عدد المسلمين، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال:(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني أصبت امرأة ذات حُسن وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: " تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاِثر بكم الأمم، رواه أبو داود (1/320) ، والنسائي (2/71)، وقال القرطبي في " تفسيره":(صححه أبو محمد عبد الحق، وحسبك اهـ (9/328) ، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه الحاكم وصححه (2/162) ، ووافقه الذهبي، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ فإني مكاثر بكم الأنبياء": الحاكم (2/162) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (1228 - موارد) ، وكذا الإمام أحمد (3/158)، وقال الهيثمي:" إسناده حسن " مجمع الزوائد " (4/258) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السقاية، فتزوج امرأة، وكان عقيما، فقال له عمر: (أعلمنَها أنك =
الأقارب، والمستضعفين، وإعفاف الحرم (524) ، ونفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن، لكفايتهن مؤنة سبب الخروج - يعني الخروج لطلب الرزق - ثم الاشتغال بتأديب نفسه، وتأهله للعبودية، ولتكون أيضًا سببا لتأهيل غيره، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة، لم يكد يقف عن الجزم بأنه - أي الزواج - أفضل من التخلي) (525) أي للعبادات النافلة، وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مِنْ أماثِلِ أعمالِكم إتيانُ الحلال " يعني النساء (526) .
= عقيم؟ "، قال: " لا "، قال: " فانطلق، فأعلِمها، ثم خَيرها، انظر:" المحلى" للإمام ابن حزم (10/61) ، و " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/72 -73) .
قال فضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد لا يستطيع المرء السَّوِيُّ أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج.
فكما أحسن إليك والدك فكان سببَ وجودِك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي بالنسبة إليك أن تقابل هذا الإحسانَ بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتة كريمة تتعهدها بالتربية والتهذيب، تحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلك. ويكفى الممتنع عن الإنجاب عقوقَا أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم، وتنتهي به) اهـ. من "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (27) .
(524)
الحُرَم: الزوجات.
(525)
"فتح القدير"(3/189) .
(526)
أخرجه الإمام أحمد (4/231)، وأبو نعيم في " الحلية" (2/20) من طريق الطبراني عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي قال: سمعت أبا كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا يا رسول الله، قد كان شيء؟ "، قال: " أجل، مرت بي فلانة، =
وقد يتعجب القارئ كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تَصَدقُون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة! قالوا: " يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه، ويكونُ له فيها أجر؟ ! "، قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان فيها ورز؟ "، قالوا: " بلى "، قال: " فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر " (527) الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه ضمن وصية جامعة له: (.. " ولك في جِماعِكَ زوجتَك أجر "، قال أبو ذر:" كيف يكون لي أجْر في شهوتي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم:" أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك، ورجوتَ خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ "، قلت:" نعم"، قال:" فأنت خلقتَه؟ "، قال:" بل الله خلقه "، قال:" فأنت هديتَه؟ "، قال:" بل الله هداه، قال: " فأنت ترزقه؟ "، قال: " بل الله كان يرزقه "، قال: " كذلك فَضَعهُ في حلاله، وجَنبهُ حرامَهُ،
= فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي، فأصبتُها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال ") ، قال الألباني في " الصحيحة" رقم (442) : " إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات " اهـ.
(527)
رواه مسلم (2/697) ، والسياق له، والنسائي في " عشرة النساء"، والإمام أحمد (5/167) ، 168، 178) ، قال السيوطي رحمه الله:(وظاهر الحديث أن الوطء صدقة، وإن لم ينو شيئًا) اهـ، كما نقله الألباني عن " إذكار الأذكار، له، وانظر: " آداب الزفاف" ص (138) ط 1409 هـ.
فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر" (528)) .
ولتحقيق التسامي بتلك الرابطة فوق طابع الشهوة إلى ممارسة سامية عالية أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الزوج إلى استصحاب نية طلب الأولاد (529) ، والتسمية،
(528) أخرجه الإمام أحمد (5/168) ، وابن حبان (1298- موارد)، وقال الألباني:" سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم " اهـ من الصحيحة، رقم (575) .
(529)
يستحب أن ينوي عند الجماع طلب الولد الصالح، قال تعالى:(فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)(البقرة: 187)، أي:" لا تباشروهن لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل) "الكشاف" للزمخشري (1/257) ، وبه قال جمع من السلف منهم أبو هريرة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم: " أي من أجل طلب الولد"، وانظر: " تحفة المودود، لابن القيم ص (9)، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه:(إذا قدمت فالكيسَ الكيسَ) رواه البخاري، ومسلم، والدارمي، يعنى بالكيس: الولد، وهو لا يأتي إلا بالنكاح، فجعل طلبَ الولد عقلا، انظر " النهاية" لابن الأثير (4/217) ، وروى البخاري في صحيحه، باب من طلب الولد للجهاد من حديث أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(قال سليمان بن داود عليهما السلام: " لأطوفن الليلةَ على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله "، فقال له صاحبه: (قل: إن شاء الله "، فلم يقل: " إن شاء الله "، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل؛ والذي نفس محمد بيده، لو قال: " إن شاء الله" لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون"، قال الحافظ ابن حجر: (قوله: باب من طلب الولد للجهاد - أي ينوي عند المجامعة حصولَ الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر، وإن لم يقع له ذلك) اهـ. من " الفتح"(7/272)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:(إني لأكرِهُ نفسي على الجماع رجاء أن يُخْرِجَ الله مني نسمةً تسبح الله تعالى)" موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص (660) ، وحكى عنه الشيخ كمال الدين بن العديم الحلبي قوله رضي الله عنه: (تكثروا من العيال، فإنكم لا تدرون ممن ترزقون) اهـ. من " الدراري في ذكر الذراري " ص (15) .
وحَضَّ على ذلك لما فيها من الخير الكثير.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: "بسم الله، اللهم جَنبّنا الشيطان، وَجَنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يَضُرَّه الشيطان أبدَا)(530) .
وعنه رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (نساؤكم حَرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وَقَدِّمُوا لأنفسكم) البقرة (223) قال: (وقدموا لأنفسكم) يقول: " بسم الله "، التسمية عند الجماع (531) .
الزواج ميثاق غليظ:
[الزواج أغلظ المواثيق وأكرمها على الله، لأنه عقد متعلق بذات
وقال العلامة أبو الحسن الماوردي: (وأن ينوي في ذلك كله نية الولد، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وينوي في الولد أن الله لعله يرزقه مَنْ يعبد الله، ويوحدُه، ويجري على يديه صلاح الخلق، وإقامة الحق، وتأييد الصدق، ومنفعة العباد، وعمارة البلاد) اهـ. من " نصيحة الملوك" ص (166) .
(530)
رواه الإمام أحمد في" المسند "(1/217، 220، 243، 283، 286)، والبخاري (6/240) في بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، وفي الوضوء، والنكاح، والتوحيد، ومسلم رقم (1434) في النكاح: باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، وأبو داود رقم (2161) في النكاح: باب في جامع النكاح، والترمذي رقم (1692) في النكاح: باب ما يقول إذا دخل على أهله، وهذا الذكر مستحب عند إرادة الجماع، أما عند الفعل نفسه فيستحب الذكر بالقلب فقط، انظر:
" الوابل الصيب" ص (147) تحقيق الشيخ الأنصاري.
(531)
" تفسير الطبري" بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله (4/417)، وقال ابن نصر الله من الحنابلة:(الأظهر عدم اختصاص الرجل، بل تقوله المرأة) اهـ. من " السلسبيل"(2/745) ، والظاهر من لفظ الحديث السابق أنه ينصرف إلى الرجل وحده، والله أعلم.
الإنسان، ونَسَبه، وشرط هذا العقد رضا المتعاقدين كسائر العقود الصحيحة، ولكنه يسمو عليها جميعًا بما أفرغه الله عليه من صبغة" الميثاق الغليظ"، ويكفي في الدلالة على ذلك التكريم أن كلمة " الميثاق، لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرا عن المعاهدة بين الله وعباده، قال تعالى:(واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) الآية (المائدة: 7) في موجبات التوحيد.
ولم يرد وصف الميثاق، بالغليظ إلا في عقد الزواج (وأخذن منكم ميثاقا غليظًا) (النساء: 29) ، وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق، قال تعالى:(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) ] (532) اهـ.
فضل الزوجة الصالحة
بناء الأسرة هو أخطر بناء في كيان المجتمع، بل في كيان الأمة بأسرها، فإذا كان الناس يعنون عند إقامة أبنيتهم من الأحجار، باختيار الموقع المناسب، وتحري الخامات الجيدة، التي تكفل سلامة البناء، وتضمن بقاءه إلى حين، إذا كان هذا هو شأن الناس في إقامة الأبنية المكونة من الأحجار والطين، فإن بناء الأسر المكونة من الرجال والنساء والبنين أولى بالدقة عند الاختيار، وأجدر بالتقصي والاستفسار، لأن بناء الأحجار يتعلق بشئون الدنيا وهي فانية، وبناء الأسرة يتعلق بسعادة الدنيا، ويمتد أثره إلى الآخرة، وهي دار القرار.
(إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون القلعة
(532) من "تفسير القرآن الكريم" للشيخ محمود شلتوت، ص (173 -174) .
متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، وكل فرد من أفراده يقف على ثغرة كيلا ينفذ منها العدو، أو يقتحمها العسكر، وواجب المسلم أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدا.
والأب المسلم لا يكفي وحده لتأمين القلعة، فلابد أيضًا من الأم المسلمة، ليقوما معًا على تربية الأبناء والبنات) اهـ (533) .
(هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يعوه جيدًا: إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت، إلى الزوجة، إلى الأم، ثم إلى الأولاد، وإلى الأهل بعامة؛ يجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولا عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلا كثير الثغرات)(534) اهـ.
والإسلام في هذه الناحية - شأنه في كل شيء - لا يقيم وزنًا للمظاهر، وإنما يعني دائما بالجوهر الأصيل، لأن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فالعبرة في الخصال لا الأشكال، وفي الخلال لا الأموال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرَينِ، تنبو عنه أعينُ الناس، لو أقسم على الله لأبرهُ "(535) .
(533) من" منهج التربية النبوية للطفل" لمحمد نور سويد ص (29) .
(534)
السابق، نقلا من " دستور الأسرة في ظلال القرآن" ص (112) .
(535)
رواه مسلم رقم (2622) في البر والصلة: باب فضل الضعفاء والخاملين، وفي صفة الجنة، ونعيم أهلها، ورواه الحاكم في " المستدرك" واللفظ له (4/328) : وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، والطمرُ: الثوب الخلَق.
من أجل ذلك رغب الإسلام الرجل في تحري أن تكون زوجته صالحة ذات دين، وجعل ذلك هو الأصل الذي ينبغي الاعتناء به ضمن الخصال المرغوبة فيها، فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها، أزرت بزوجها، وسودت بين الناس وجهه، وشوهت بالغيرة قلبه، وتنغص بذلك عيشه.
لقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على ذات الدين لأن مثل هذه المرأة تكون عونًا على أعظم أمر يهم المسلم، ألا وهو الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شَطْر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني "(536) .
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: " لما نزلت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة (34) ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: " أنزِلَت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تُعِينُهُ على إيمانه " (537)) .
وقال بعضهم في نظم هذا المعنى:
(536) رواه الحاكم في "المستدرك"(2/161)، وقال:" صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في " المجمع " إلى الطبراني في " الأوسط"(4/272)، وانظر:" كشف الخفاء" للعجلوني (2/239) ، وراجع حاشية رقم (517) .
(537)
أخرجه الإمام أحمد (5/278)، والترمذي (3093) في التفسير: سورة التوبة، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" رقم (5231) ، وزاد عزوه إلى ابن حبان عن علي رضي الله عنه، وأبي نعيم في الحلية"، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
من خير ما يتخذ الإنسان في
…
دنياه كيما يستقيمَ دينُهْ
قلب شكور ولسان ذاكر
…
وزوجة صالحة تُعِينُه
وعن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ثلاثة من السعادة، وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة؛ تراها فَتُعجِبُكَ، وتغيب عنها فتأمنُها على نفسِها ومالك)(538) الحديث.
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق"(539) .
وعن محمد بن واسع قال مسلم بن يسار: (ما غبطت رجلًا بشيء ما غبطته بثلاث: زوجة صالحة، وبجار صالح، وبمسكن واسع " (540) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي النساء خير؟ "، قال: " التي تسُره إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في
(538) وتتمته: (والدابة تكون وطيئة؛ فتُلحِقك بأصحابِك، والدار تكون واسعة كثيرةَ المرافق، ومن الشقاء: المرأة، تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غِبْتَ عنا لم تأمنْها على نفسِها ومالِك، والدابة تكون قطوفٍا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تُلْحِقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلةَ المرافق) رواه الحاكم في " المستدرك"(2/162) ، وصححه، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع"(3/70) رقم (3051)، والقطوف: الضيقة المشي.
(539)
رواه ابن حبان (1232) ، وصححه الألباني على شرط الشيخين كما في " الصحيحة" رقم (282) ، وبنحوه الإمام أحمد (1/168) ، وفيه محمد بن أبي حميد، قال الحافظ في " التقريب":(ضعيف) .
(540)
ذكره ابن الجوزي في "أحكام النساء" ص (116) .
نفسِها ولا مالِها بما يكره " (541) .
وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك "(542) .
قال في " عون المعبود":
(يؤخذ من الأحاديث استحبابُ تزوج الجميلة، إلا إذا كانت الجميلة غيرَ دَيّنة، والتي أدنى منها جمالًا متدَينة، فتُقدم ذاتُ الدين، أمَّا إذا تساوتا في الدين، فالجميلة أولى)(543) اهـ.
(541) رواه النسائي (2/72) ، والحاكم (2/161) ، والإمام أحمد (2/251، 432، 438)، وقال الحاكم:" صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي:" سنده صحيح" اهـ من" المغني عن حمل الأسفار"(4/715)، وقال:" ولأبي داود نحوه من حديث ابن عباس بسند صحيح " اهـ.، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1838) .
(542)
رواه البخاري (9/115) في النكاح: باب الأكفاء في الدين، ومسلم رقم (1466) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود رقم (2047) في النكاح: باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين، والنسائي (6/68) في النكاح: باب كراهية تزويج الزناة، وقوله صلى الله عليه وسلم:" تربت يداك " يعني: (التصقت بالتراب، من الدعاء، وهذا الدعاء وأمثاله كان يرد من العرب، ولا يريدون به الدعاء على الإنسان، إنما يقولونه في معرض المبالغة في التحريض على الشيء، والتعجب منه، ونحو ذلك) كذا قال ابن الأثير في " جامع الأصول"(11/430)، وانظر:" عون المعبود"(6/40) .
(543)
" عون المعبود"(6/42)، وانظر:" فتح الباري"(9/135)، ومما ينبغي التنبيه إليه أن: (هناك فكرة مغلوطة يُلبس إبليس بها على بعض الشباب، فقد يرى الواحد منهم فتاة يروقه جمالُها، ولكنها ليست ذات دين، فيدعي أنه يريد من وراء الزواج منها أن يصلحها، وهذه الفكرة خطرة، وغير مأمونة ولا مضمونة، فقد رأينا في الحياة الواقعية أن بعض الشباب كانوا يريدون الإصلاح، فأفسدتهم تلك =
وعلق القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: " فاظفر بذات الدين" قائلًا: " إن اللائق بذوي المروءات، وأرباب الديانات، أن يكون الدين مطمح نظرهم في كل شيء، لا سيما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره، فلذا اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلغه، فأمر بالظفر به، الذي هو في غاية البغية، ومنتهى الاختيار والطلب، الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة، وفائدة جليلة "(544) اهـ.
ويؤكد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله فيما رواه عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"(545) ، أي أن الدنيا متاع زائل، وخير ما فيها من هذا المتاع: المرأة الصالحة، لأنها تُسْعِد صاحبها في الدنيا، وتعينه على أمر الآخرة، وهي خير وأبقى.
وقد روي أن أبا الأسود الدؤلي قال لبنيه:
" يا بنيَّ: قد أحسنت إليكم صغارًا، وكبارًا، وقبل أن تُولدوا! "، قالوا:" كيف أحسنتَ إلينا قبل أن نولد؟ "، قال:(اخترت لكم من الأمهاتِ من لا تُسَبُّونَ بها " (546)) .
وشكا رجل لصديقه عقوق ولده له، وسوء معاملته، ودناءة طبعه، فقال:" لا تَلم أحدًا، ولكن توجه باللوم إلى نفسك، لأنك لم تتخير أمه "، وقديمًا قال الناس:" كادت المرأة أن تلد أخاها "(*) .
= الزوجة) اهـ. من (نظرات في الأسرة المسلمة) لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (36) .
(544)
" إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري"(8/22) .
(545)
أخرجه الإمام أحمد (2/268) ، ومسلم رقم (1467) في الرضاع، والنسائي
(6/69) في النكاح، وابن ماجه رقم (1855) ، والبيهقي (7/80) في النكاح.
(546)
" أدب الدنيا والدين" ص (82) .
(*) نظرات في الأسرة المسلمة" ص (143) .
(وقال الأصمعي: " ما رفع أحد نفسه - بعد الإيمان بالله تعالى - بمثل مَنكح صِدْقٍ، ولا وضع نفسه بعد الكفر بالله تعالى - بمثل منكح سوء ")(547) .
وقال الشاعر:
وليس النبتُ يَنْبُتُ في جِنانٍ
…
كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يرجَى لأطفالٍ كمال
…
إذا ارتضعوا ثُدِي الناقصات (548)
وقال الإمام ابن عبد القوى في " منظومة الآداب":
وخير النسا من سَرَّتِ الزوجَ منظرا
…
ومن حفِظته في مغيب وَمشهَدِ
قصيرةُ ألفاظ قصيرةُ بيتها
…
قصيرةُ طرفِ العين عن كُلِّ أبعَدِ
عليك بذاتِ الدين تظفر بالمنى الـ
…
وَدُودِ الوَلودِ الأصلِ ذاتِ التعبد (549)
ولله دَر من قال:
سعادةُ المرءِ في خمس إذا اجتمعت
…
صلاح جيرانه والبر في ولده
وزوجة حسنت أخلاقها، وكذا
…
خل وفي، ورزق المرء في بلده (550)
(547)" مرآة النساء فيما حسن منهن وساء " ص (160) .
(548)
"أستاذ المرأة " ص (132) بتصرف.
(549)
انظر: " غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب"(2/342-350) .
(550)
" مرآة النساء" ص (21) .