المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[الفصل السابع] المرأةُ … عابدةً فَقُهَتْ المرأة المسلمة عن الله أمره، وتدبرت - عودة الحجاب - جـ ٢

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الخامسة

- ‌ الباب الأول *

- ‌تمهيد

- ‌[فصل]المرأةسلاح ذو حدين

- ‌[فصل]القضية الأمالقرآن والسلطان

- ‌[فصل]بين الترقيع…والأصالة

- ‌[فصل]وضع المرأة ومسئولية الولاة

- ‌[فصل]موقف دعاة الإسلاممن قضية المرأة (52)

- ‌الباب الثانيإهانة الجاهلية للمرأة

- ‌[الفصل الأول]المرأة عند الآخرين (57)

- ‌[الفصل الثاني]المرأة عند العرب في الجاهلية

- ‌الباب الثالثشمس الإسلامتشرق على المرأة

- ‌[الفصل الأول]

- ‌مظاهر تكريم الإسلام للمرأة

- ‌[فصل]دحض بدعة المساواة المطلقةبين الرجل والمرأة

- ‌[فصل]الفروق بين الرجل والمرأة

- ‌مسألة: هل يجب تسوية الوالدينبين أولادهم الذكور والإناث في الهبة

- ‌عود على بدء

- ‌[الفصل الثاني]المرأة أُمًّا

- ‌[فصل]بر الوالدين بعد موتهما

- ‌[فصل]من مواقف الأم المسلمة

- ‌[فصل]الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء

- ‌[الفصل الثالث]المرأة بنتًا

- ‌[الفصل الرابع]المرأة زوجة

- ‌[فصل]الكفاءة في الزواج

- ‌فصلنص القرآن الكريم على تحريم نكاح الزانية

- ‌فصلوأما الأدلة على عدم اعتبار المال في الكفاءة:

- ‌فوائد

- ‌[فصل]الزوجيةبين الحقوق والواجبات والآداب

- ‌أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين

- ‌من مواقف الزوجة المسلمة

- ‌تنبيهات

- ‌ثانيا: حقوق الزوجة على زوجها

- ‌(أ) الحقوق المادية

- ‌(ب) الحقوق الأدبية

- ‌[فصل]لا نكاح إلا بولي

- ‌تنبيهات متفرقة

- ‌عود على بدءمن حقوق المرأة على زوجها

- ‌[فصل]مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)

- ‌ثالثًا: حقوق الزوج على زوجته

- ‌[فصل] (1220)في علاقة الابن بوالديه بعد الزواجوعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221)

- ‌[فصل]وفاؤها لزوجها

- ‌[الفصل الخامس]المرأة مؤمنةً مجاهدةً صابرةً

- ‌[الفصل السادس]المرأة عالِمةً

- ‌[فصل]صور من سيرة المسلمة العالمة

- ‌[الفصل السابع]المرأةُ…عابدةً

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ ‌[الفصل السابع] المرأةُ … عابدةً فَقُهَتْ المرأة المسلمة عن الله أمره، وتدبرت

[الفصل السابع]

المرأةُ

عابدةً

فَقُهَتْ المرأة المسلمة عن الله أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من فتنتهَا، وتجافي جنْبُها عن مضجعها، وتناءى قلبها من المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة، باكية والهة، وحفل التاريخ بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الزهد عن فرط علم، ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة كما تجد في كثير ممن عرفن بالنسك والتصوف من أشتات البلاد.

وثبت في دواوين الإسلام أخبار وأخبار عن النساء العابدات، بدءًا من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون:

فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد، فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفُتخ والقرطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال- وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن (1463) .

وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين.

وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنًا يضاعف لهم ولهم أجر كريم) الحديد (18) .

(1463) انظر تخريجه " بالقسم الثالث" ص (365) .

ص: 600

وكان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة، وحسن الأحدوثة فأصبح بالإسلام مما تفيض به الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضاة الله.

ويتصدر هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس هؤلاء: أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:

(ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودُهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئًا لغد)(1464) .

قال القاسم: " كانت عائشة تصوم الدهر "(1465) .

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها " (كانت تصوم الدهر، لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر)(1466) .

(وعنه قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسَلمُ عليها، فغدوت يوما، فإذا هي قائمة تُسَبحُ، وتقرأ: (فَمَنَّ الله علينا ووقانا عذابَ السَّموم) الطور: (27) ، وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلى وتبكي) (1467) .

(1464)"أحكام النساء" لابن الجوزي ص (125) .

(1465)

أخرجه ابن سعد (8/47) ، ورجاله ثقات، والمعنى أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها كالعيدين، وأيام التشريق، والحيض.

(1466)

" السمط الثمين" ص (90) .

(1467)

" السابق".

ص: 601

وعن عروة قال: (كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به)(1468) .

وقال عروة: (بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمَتها، لم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة: " أنتِ صائمة، فهلا ابتعتِ لنا منها بدرهم لحمًا؟ " قالت: " لو ذكرتِني لفعلت " (1469)، وعنه أيضَا قال:" وإن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها " رضي الله تعالى عنها) (1470) .

عن محمد بن المنكدر عن أم ذَرَّة وكانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غِرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعَت بطبق، وهى صائمة يومئذ، فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت:" يا جاريةُ هلمي فَطُوري "، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذَرَّة:" أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ " فقالت: " لا تُعَنفيني، لو كنت أذكرتِني لفعلتُ "(1471) .

و (عن ابن يمن المكي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطري ثمنه خمسة دراهم، فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي، فانظر إليها، فإنها تُزْهَى (1472) أن تلبسه في البيت، وقد كان منهن درع على عهد

(1468)" السابق" ص (88) .

(1469)

أخرجه أبو نعيم في " الحلية "(2/47) ، والحاكم (4/13) .

(1470)

رواه ابن سعد في " الطبقات "(8/45) .

(1471)

رواه ابن سعد (8/46) في " الطبقات"، وأبو نعيم في " الحلية "(2/47) ، ورجاله ثقات.

(1472)

تزهى أن تلبسه في البيت: أي تترفع عنه، ولا ترضاه.

ص: 602

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تُقَيَّنُ (1473) في المدينة إلا أرسلت إليَّ تستعيره) (1474) .

عن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقلت:" هذا ابن عباس يستأذن "، فأكب عليها ابن أخيها عبد الله، فقال عبد الله:" هذا ابن عباس، وهى تموت "، فقالت:" دعني من ابن عباس "، فقال لها:" يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك، وَيُوَدِّعُكِ، فقالت: " ائذن له إن شئت "، فأدخلته، فلما جلس، قال: " أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم الأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب، إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل:(فتيمموا صعيدًا طَيبّا)(المائدة: 6) ، وكان ذلك في سببك، وما أنزل الله لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار"، فقالت: " يا ابن عباس دعني منك، ومن تزكيتك، فوالله لوددت أني كنت نسيًا منسيا " (1475) .

وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها امرأة صَنَاعا، وكانت تعمل بيدها، وتتصدق به في سبيل الله (1476) .

(1473) تقين بالمدينة: أي تزين لزفافها، والتقين: التزين.

(1474)

" السمط الثمين" ص (87) ، والحديث رواه البخاري (5/241-242) .

(1475)

" أحكام النساء" ص (125-126) .

(1476)

" سير أعلام النبلاء "(2/217) .

ص: 603

وكانت رضي الله عنها صالحة، صوامة، قوامة، بارَة، ويقال لها:"أم المساكين"، وقالت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد موتها:" لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل "(1477)، وعن أنس رضي الله عنه قال:(دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: " ما هذا الحبل؟ "، قالوا: حبلٌ لزينبَ، فإذا فترت تعلًقت به "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد " (1478)) .

وعن عبد الله بن رافع عن بررة بنت رافع قالت: " لما جاء العطاء بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: " غفر الله لعمر، لَغيري من أخواتي كان أقوى على قَسْم هذا مني "، قالوا: " هذا كله لك "، فقالت: " سبحان الله! " واستترت دونه بثوب، وقالت: " صُبوه، واطرحوا عليه ثوبًا "، فصبوه، وطرحوا عليه، وقالت لي: " أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة، فاذهبي إلى آل فلان، وآل فلان " - من أيتامها وذوي رحمها -، فقسمته حتى بقيت منه بقية؛ قالت لها بررة: " غفر الله لك، والله لقد كان لنا من هذا حظ " قالت:" فلكم ما تحت الثوب "، فرفعنا الثوب، فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا، ثم رفعت يدها، وقالت:" اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا "، قالت: فماتت

(1477)" الإصابة "(7/670) .

(1478)

رواه البخاري (3/278) في أبواب التهجد: باب ما يكره من التشديد في العبادة، والنسائي (3/218-219) في قيام الليل: باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، وفى رواية لأبي داود (قالوا:" زينب تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به"، فقال:" خلُّوهُ، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسَل أو فتر فليقعد") .

ص: 604

رضي الله عنها) (1479) .

وحدث محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم حمل إليها فقسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال:" هذه امرأة يراد بها خير "، فوقف على بابها، وأرسل بالسلام، وقال:" قد بلغني ما فرقتِ "، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال (1480) .

ورُوِيَ أنها قالت حين حضرتها الوفاة: " إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إليَّ بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، إن استطعتم إذا أدليتموني أن تصدَّقُوا بِحَقْوي فافعلوا "(1481) .

وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أسرعُكن لحوقًا بي: أطولكن يَدًا "، وإنما عَنَى صلى الله عليه وسلم طول يَدِها بالمعروف، قالت عائشة رضي الله عنها: " فكُنَّ يتطاوَلنَ أيتهُن أطولُ يَدًا، وكانت زينب تعمل وتتصدق (1482) .

قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت زينب بنت جحش تُساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَربُ به إلى الله تعالى ما عدا سَوْرَةً من حِدة كانت فيها تسرع منها الفيئة)(1483) .

(1479)"سير أعلام النبلاء"(2/213 - 215) .

(1480)

أخرجه ابن سعد بسند في الواقدي، كما في "الإصابة"(7/670) .

(1481)

"السابق"(2/217) ، وأخرجه ابن سعد بإسناد فيه الواقدي كما في "الإصابة"(7/669) .

(1482)

" السابق"(2/213) .

(1483)

" السابق"(2/214) .

ص: 605

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية:

كانت رضي الله عنها تُدْعَى أم المساكين، لكثرة معروفها أيضًا (1484) .

أم المؤمنين حفصة بنت أميرِ المؤمنين أبي حَفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

وهي التي كانت تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عابدة، خاشعة، قانتة رضي الله عنها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك، وقال:" إنها صَوامة، قوًامة، وهي زوجتك في الجنة "(1485) ، فأي شهادة وتزكية بعد شهادة الله عز وجل وتزكيته حفصة بنت الفاروق رضي الله عنهما؟!

أسماء بنت أبي بكر عبد الله بن أبي قُحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين: أم عبد الله القرشية، التيمية، والدة الخليفة عبد الله بن الزبير، وأخت أم المؤمنين عائشة، وهى المعروفة بذات النطاقين، كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات.

قال ابن أبي مُلَيكة: (كانت أسماء تصدع، فتضع يدها على رأسها، وتقول: " بذنبي، وما يغفره الله أكثر " (1486)) .

(وعن فاطمة بنت المنذر: " أن أسماء كانت تمرض المرضة، فتعتِقُ

(1484)" السابق"(2/218) .

(1485)

"السابق "(2/228) ، وصححه ابن حجر في " الإصابة "(4/273) .

(1486)

"السابق "(2/290) .

ص: 606

كل مملوك لها ".

وعن محمد بن المنكدر، قال:" كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سَخِية النفس "(1487)) .

وعن الركَين بن الربيع، قال:(دخلتُ على أسماءَ بنتِ أبي بكر، وقد كَبرَت، وهي تصلي، وامرأة تقول لها: " قومي، اقعدي، افعلي، من الكِبَر " (1488)) .

أم الدرداء الصغرى:

السيدة، العالمة، الفقيهة، هُجَيمة زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن وهى صغيرة على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم، والعمل، والزهد.

قال عون بن عبد الله: " كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها "(1489) .

وقال يونس بن ميسرة: " كُنَّ النساء يتعبدن مع أم الدرداء، فإذا ضًعُفنَ عن القيام، تَعَلَّقْنَ بالحبال "، وعنه أيضًا قال:(كنا نحضر أم الدرداء، وتحضرها نساء عابدات، يقمن الليل كله، حتى إذ أقدامهن قد انتفخت من طول القيام)(1490) .

السيدة المكرمة الصالحة نفِيسة، ابنة الحسن بن زيد بن السيد سبطِ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، العلوية، الحَسَنِيَّة. كانت- رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العوابد، زاهدة،

(1487)"السابق "(2/292) .

(1488)

" السابق "(2/295) .

(1489)

"السابق"(4/277-278) .

(1490)

"السابق"(4/278)، وانظر:" صفة الصفوة"(4/296-297) .

ص: 607

تقية، نقيهَ، تقوم الليل، وتصوِم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها:"تَرَفَقي بنفسك "، لكثرة ما رأوْا منها، فقالت:" كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ "، حجَّت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر بن محمد الصادق:(فأقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس، والجذمى، والزَّمْنَى، والمرضَى، وعموم الناس، وكانت عابدة، زاهدة، كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صَلَّى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت بجنازته فأدخِلَتْ إليها المنزل، فصلت عليه)(1491) اهـ.

ومن أخبارها رحمها الله تعالى:

(أنها أقامت بمصر مع زوجها إسحق بن جعفر الصادق، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عُيِّن واليًا على مصر من قِبل أبي جعفر المنصور.

وقد هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في غدٍ، فكتبت رقعة، ووقفت بها في طريقه، وقالت:" يا أحمد بن طولون "، فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها، فإذا فيها:

" ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتُم فعسفتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكبادٍ جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن

(1491)" البداية والنهاية"(10/262) .

ص: 608

يموت المظلوم، ويبقى الظالم.

اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون (وسيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون) ، فعدل لوقته) (1492) .

بل قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع عليها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له (1493)

[توفيت رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها الفطر، فقالت: " واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطِر الآن؟! هذا لا يكون "، وخرجت من الدنيا، وقد انتهت قراءتها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (1494) (الأنعام: 12) ](1495) .

(1492)"إعداد المرأة المسلمة" ص (143 -144) .

(1493)

"مرآة النساء " ص (82) .

(1494)

" السابق".

(1495)

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دُعاة العُبَيْدِية) اهـ. من " سير أعلام النبلاء"(10/106)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:(وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين، وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يعتَقد فيها: ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها) اهـ (10/262) .

ص: 609

أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية، أخت الخليفة الراشد عمر ابن عبد العزيز رحمهما الله تعالى:

كانت مضرب المثل في الكرم والجود، فكانت تقول:" لكل قوم نَهْمة (1496) في شيء، ونهمتي في الإعطاء"، وكانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، وتقول:" أف للبخل، لو كان قميصًا لم ألبسه، ولو كان طريقًا لم أسلكه "(1497) .

عجردة العمية:

عن آمنة بنت يَعْلى بن سُهَيل قالت:

(كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، قالت: فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها، وتقنَّعت، ثم قامت إلى المحراب، فلا تزال تصلي إلى السحَر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها- أو قال لها بعض أهل الدار-: " لو نمتِ من الليل شيئًا؟ "، فبكت، وقالت: "ذكر الموت لا يدعُني أنام " (1498)) .

وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر؛ فإذا كان السحر، نادت بصوت لها محزون: " إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم، ثم تخر ساجدة فيُسمع لها وجبة، ثم لا تزال تدعو، وتبكي إلى الفجر (1499) .

(1496) النهمَة: الشهوة للشيء، والرغبة فيه.

(1497)

" أحكام النساء" ص (137) .

(1498)

"صفة الصفوة"(4/31) .

(1499)

" السابق"(4/ 31) .

ص: 610

حبيبة العدوية:

وعن عبد الله المكي أبي محمد قال:

(كانت " حبيبة العدوية" إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدَّت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: " إلهي قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك "، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر، قالت: " إلهي هذا الليل قَد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها علي فأعزى؟ وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت، لما وقع في نفسي من جودك وكرمك " (1500) .

جارية الحسن بن صاع:

كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلَّت العشاء، افتتحت الصلاة، فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل:" يا أهل الدار قوموا! يا أهل الدار صَلوا! "، فقالوا لها:" نحن لا نقوم إلى الفجر "، فجاءت إلى الحسن ابن صالح، وقالت:(بعتني لقوم ينامون الليلَ كُلَّه، وأخاف أن أكسل من شهود نومهم "، فردها الحسن إليه رحمة بها، ووفاءً بحقها " (1501) .

عابدة من بني عبد القيس:

كانت إذا جاء الليل تحرمت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول:

(1500)" إحياء علوم الدين "(15/2774 - 2775) .

(1501)

" صفة الصفوة "(3/195) .

ص: 611

" المحب لا يسأم من خدمة حبيبه "، وكانت تقول:" عاملوا الله على قدر نِعَمِهِ عليكم، وإحسانِه إليكم، فإن لم تطيقوا: فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا: فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا: فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا: فعلى خوف عقابه "(1502) .

امرأة الهيثم بن جماز:

قال الهيثم: (كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش عليَّ الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برِجلها، وتقول: " أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ "، فوالله إن كنت لأستحي مما تصنع)(1503) .

أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم رحمهما الله: وهى تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت- رحمها الله- إذا جاء النهار تقول:" هذا يومي الذي أموت فيه "، فما تطعم حتى تمسي، فإذا جاء الليل تقول:" هذه الليلة التي أموت فيها "، فتصلي حتى تصبح، ومن قولها:" عجبتُ لعين تنام، وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة القبور "(1505) ، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم (1505) .

(وكانت تصلى الليل الطويل، فكانت تَكِل الرجال، وهي لا

(1502)" السابق"(4/391) .

(1503)

" السابق".

(1504)

" إحياء علوم الدين"(15/2777)، ومما يجب التنبيه عليه: أن الحياة في القبر ليست مجرد رقاد ونوم، بل هي حياة برزخية في نعيم أو جحيم.

(1505)

" صفة الصفوة"(4/22) .

ص: 612

تكلُّ) (1506) .

ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها (1507) ، أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن:" إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحبًا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن"، ولم تتوسد فراشًا بعد مقتل زوجها رحمهما الله تعالى.

شعوانة:

وقال يحيى بن بسطام: (كنت أشهد مجلس شعوانة، فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب في: " لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها؟ " فقال: " أنت وذاك "، قال: فأتيناها، فقلت لها: " لو رفقت بنفسك، وأقصرت عن هذا البكاء شيئًا، فكان أقوى لك على ما تريدين؟ " قال: فبكت، ثم قالت: " والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكى دمًا حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأني لي بالبكاء، وأني لي بالبكاء"، فلم تزل تردد: " وأني لي بالبكاء " حتى غشي عليها)(1508) .

وكانت شعوانة تقول في دعائها: " إلهي ما أشوقني إلى لقائك،

(1506)" تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر" ص (117) .

(1507)

وقصة ذلك أن زوجها صلة بن أشيم (خرج غازيا هو وابنه، فقال صله لابنه: " يا بني! إلى أمك "، فقال ابنه: " يا أبت! أتريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجعة؟! أنت والله كنت خيرًا لأمي مني"، قال: " أما إذا قلتَ هذا فتقدَّمْ، فتقدم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلة عن جسده، وكان رجلًا راميا، حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتِل رحمهما الله تعالى)، انظر:" كتاب الجهاد" للإمام عبد الله بن المبارك ص (129) .

(1508)

" إحياء علوم الدين"(15/2775) .

ص: 613

وأعظم رجائي جزائك، وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي إن كان دنا أجلي، ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟ وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك! إلهي قد جرتُ على نفسي فِى النظر لها، وبقى لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي إنك لم تزل بي بَرّا أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه، أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي، إلهي إن كانت ذنوبي قد أخافتني، فإن محبتي لك قد أجارتني، فتولً من أمري ما أنت أهله، وعُدْ بفضلك على مَن غره جهله، إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعْني بما له هديتني، وأدِمْ في ما به سترتني.. " (1509) .

[وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: (كانت شعوانة قد كَمِدَت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال:

أذري جفونكِ إما كنتِ شاجيةً

إن النياحة قد تَشْفي الحُزَينِينَا

جِدِّي وقُومي وصومي الدهرَ دائبةً

فإنما الدَّوب من فعل المطيعينا

فأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء، وراجعتِ العمل.

وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي، وتبكِى النساكَ معها، تقول:

لقد أمِنَ المغرور دارَ مقامِه

ويوشِك يومًا أن يخاف كما أمِنْ

وعن رَوْح بن سلمة قال: قال في مُضَر: ما رأيت أحدًا أقوى على

(1509)" السابق"(15/2777-2778) .

ص: 614

كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتًا قط أحرقَ لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نَشَجَت، ثم نادت:" يا مَوْتي، وبَني الموتى، وإخوةَ الموتى! ".

وقال أبو عمر الضرير: سمعتها تقول: " من استطاع منكم أن يبكي فليبكِ، وإلا فليرحم الباكي، فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه".

وعن الحارث بن مغيرة، قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:

يُؤمِّل دنيا لتبقى له

فوافَى المنيةَ قبلَ الأمَلْ

حثيثًا يُرَوي أصولَ الفَسيلِ

فعايش الفَسِيلُ (1510) ومات الرجُلْ وعن فضيل بن عياض قال:

(قَدِمَتْ شعوانةُ، فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتُها أن تَدعوَ بدعاء، فقالت: " يا فضيل أمَا بينك وبين الله ما إن دعوتَهُ استجاب لك؟ "، قال: فشهق الفضيل، وخَرَّ مغشيا عليه)(1511) .

منيفة بنت أبي طارق البحرانية:

كانت إذا هجم عليها الليل تقول: " بخ بخ يا نفسُ قد جاء سرور المؤمن "، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.

وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: " بِتُّ ليلةً عند منيفة ابنة أبي طارق، فما زادت على هذه الآية ترددها، وتبكي: (وكيف تكفرون وأنتم تتلَى عليكم آيات الله وفيكم رسولُه ومن يعتصمْ بالله فقد هُدِي

(1510) الفسيل: مفرده الفسيلة، وهي كل عود يقطع من شجرته، فيغرس، كالنخل وغيره.

(1511)

"صفة الصفوة"(4/55-56) .

ص: 615

إلى صراطٍ مستقيم) (1512)(آل عمران: 101) .

أم حيان السُّلَميَة:

قال أبو خلدة: " ما رأيت رجلا قط، ولا امرأة أقوى ولا أصبر على طول القيام من أم حيان السلمية، إن كانت لتقوم في مجلس الحي كأنها نخلة تصفقها الرياح يمينًا وشمالا "، وكانت تقرأ القرآن في يوم وليلة (1513) .

رَحلَة العابدة مولاة معاوية:

عن سعيد بن عبد العزيز قال: " ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحلة".

ودخل عليها نفر من القراء، فكلَّموها في الرفق بنفسها، فقالت:" ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيامُ مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا، والله يا إخوتاه لأصَليَنَ ما أقلَتْنِي جوارحي، ولَأصُومَنَّ له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي"، ثم قالت:" أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟ ".

ولقد قامت- رحمها الله- حتى أقعِدَتْ، وصامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول:" علمي بنفسي قَرحَ فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني، ولم أك شيئًا مذكورًا "، وكانت- رحمها الله- تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله (1514) .

غصنة وعالية:

كانتا من عابدات البصرة، قال أبو الوليد العبدي: " ربما رأيت

(1512)" صفة الصفوة "(4/57) .

(1513)

"السابق"(4/38) .

(1514)

" السابق"(4/ 40- 41) .

ص: 616

غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف في ركعة (1515) .

غنضكة:

وهى من عابدات البصرة، وكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول:" أعوذ بالله من ملائكةٍ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون "، فإذا قضت صلاتها قالت:" هذا الجهد مني، وعليك التكلان "(1516) .

امرأة أبي عمران الجوني:

من عابدات البصرة، كانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها أبو عمران الجوني:" دون هذا يا هذه "، فتقول:" هذا عند طول القيام في الوقف قليل "، فيسكت عنها " (1517) .

هنَيْدة:

عن عامر بن أسلم الباهلي، عن أبيه قال: (كانت لنا جارية في الحي يقال لها: " هُنيْدَة "، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثُلثُه أو نصفه، فتوقِظُ ولدَها وزوجَها وخَدَمَها، فتقول لهم:" قوموا فتوضئوا، وصَلوا، فستغتبِطون بكلامي هذا"، فكان هذا دَأبَها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في منامه:" إن كنت تحب أن تَزَوجَها هناك، فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأبَ الشيخ حتى مات، فأتَى أكبرَ ولدِه في منامه، فقيل له: " إن كنت تحب أن تُجاوِرَ أبويك في درجتهما من الجنة، فاخلفهما في أهلهما بمثل عَمَلِهما "، قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات "، فكانوا

(1515)" السابق "(4/41) .

(1516)

" السابق"(4/43) .

(1517)

" السابق "(4/43) .

ص: 617

يُدْعَوْنَ القوَّامين) (1518) اهـ.

بريرة:

وقال ابن العلاء السعدي: (كانت لي ابنة عم يقال لها: " بريرة "، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: " انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها في كثرة البكاء "، قال: فدخلنا عليها، فقلنا: " يا بريرة كيف أصبحت؟ " قالت: " أصبحنا أضيافًا منيخين بأرض غربة، ننتظر متى نُدْعَى فنجيب"، فقلنا لها: " كم هذا البكاء، قد ذهبت عيناكِ منه "، فقالت: " إن يكن لعيني عند الله خير، فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر، فسيزيدهما بكاءً أطول من هذا "، ثم أعرضت، فقال القوم: " قوموا بنا، فهي والله في شيء غير ما نحن فيه" (1519)) .

شقيقات بشر الحافي:

(وذكر الخطيب أنه كان لبشر الحافي الزاهد المشهور أخوات ثلاث، وهن:" مُخًة"، و " مضغة "، و "زبدة"، وكلهن عابدات زاهدات مثله وأشد ورعًا أيضًا، ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد فقالت:" إني ربما طفئ السراج، وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل عَلَيَّ عند البيع أن أمَيز هذا من هذا؟ "، فقال:" إن كان بينهما فرق، فميزي للمشتري ".

وقالت له مَرًةً إحداهن: " ربما تمر بنا مشاعل بني طاهر في الليل، ونحن نغزل فنغزل الطاق، والطاقين، والطاقات، فَخَلصْني من ذلك "، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كُله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار (1520) .

(1518)"السابق"(4/391) .

(1519)

" إحياء علوم الدين"(15/2777) .

(1520)

وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال لها: " من أنتِ عافاك الله؟ "، =

ص: 618

وَسَألتْهُ عن أنين المريض أفيه شكوى؟ قال: " لا، إنما هو شكوى إلى الله عز وجل "، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله:" يا بني اذهب خلفها فاعلم لي مَن هذه المرأة؟ "، قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته " مخة ") (1521) .

جارية روميهَ:

وقال عبد الله بن الحسن: (كانت لي جارية رومية، وكنت بها معجبًا، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت، فالتمستها، فلم أجدها، فقمت أطلبها، فإذا هي ساجدة، وهي تقول: " بحبك في إلا ما غفرت لي ذنوبي"، فقلت لها: " لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك "- يعني إرشادًا لها إلى التوسل المشروع بالعمل الصالح- فقالت: " لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني، وكثير من خلقه نيام " (1522)) .

سرية:

وقال أبو هاشم القرشي: (قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: " سرية"، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنينًا وشهيقًا، فقلت يوما لخادم لي:" أشرف على هذه المرأة، ماذا تصنع؟ "، قال: فأشرف عليها، فما رآها تصنع شيئًا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهى مستقبلة القبلة، تقول: " خلقتَ سرية، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي

= فقالت: " أخت بشر الحافي" فبكى- رحمه الله وقال: " من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها".

(1521)

" البداية والنهاية "(10/298)، وانظر:" أحكام النساء" ص (142) .

(1522)

" إحياء علوم الدين "(15/2775 - 2776)، وانظر:" صفة الصفوة "(4/46) .

ص: 619

مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى سوء فعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير " (1523)) .

" عفيرة " العابدة:

كانت- رحمها الله- لا تضع جنبها إلى الأرض في ليل، وتقول:" أخاف أن أؤخذ على غِرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: " أما تسأمين من كثرة البكاء؟ "، فقالت: " كيف يسأم إنسان من دوائه وشفائه؟! " (1524) .

وكانت تقول في مناجاتها: " عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنتَ لأطيعنك- ما استطعتُ- بكل جارحة عصيتك بها "(1525) .

وقدا ابن أخ لها طالت غيبته، فَبُشرتْ به، فبكت، فقيل لها:" ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسررو "، فازدادت بكاء، ثمِ قالت:" والله ما أجد للسرور في قلبي مسكنًا مع ذكر الآخرة، ولقد ذكَرني قدومُه يوم القدوم على الله فمِن بين مسرور ومثبور "(1526) .

ودخل عليها قوم، فقالوا:" ادعي لنا "، فقالت:" لو خرس الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين "(1527) .

(1523)" السابق"(15/2776) .

(1524)

" صفة الصفوة"(4/34) .

(1525)

" السابق ".

(1526)

" السابق "، وانظر:" البداية والنهاية"(10/177) .

(1527)

" صفة الصفوة "(4/33) .

ص: 620

وقال أحمد بن علي: (استأذنا على عفيرة، فحجبتنا، فلازمنا الباب، فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا، فسمعتها وهي تقول: " اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك "، ثم فتحت الباب، ودخلنا عليها، فقلنا لها: " يا أمة الله ادعي لنا "، فقالت: " جعل الله قِراكم في بيتي المغفرة "، ثم قالت لنا: " مكث عطاء السلمي أربعين سنة، فكان لا ينظر إلى السماء، فحانت منه نظرة، فخر مغشيًا عليه، فأصابه فتق في بطنه، فياليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص، وياليتها إذا عصت لم تعد)(1528)، وعنها قالت رحمها الله:" ربما اشهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف أنام أو كيف يقدر على النوم، من لا ينام عنه حافظاه ليلًا ونهارًا؟ "(1529) .

جارية حبشية:

وقال بعض الصالحين: (خرجت يوما إلى السوق، ومعي جارية حبشية، فاحتبستها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: " لا تبرحي حتى أنصرف إليك "، قال: فانصرفت، فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي، وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: " يا مولاي لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرًا لله تعالى، فخفت أن يُخسف بذلك الموضع"، فعجبت لقولها، وقلت لها: " أنت حرة "،، فقالت: " ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما " (1530)) .

عبدة البصرية:

وهي امرأة عكفت على العبادة، وأفرطت في السهر، وأسرفت في

(1528)" إحياء علوم الدين"(15/2776) .

(1529)

" صفة الصفوة"(4/33) .

(1530)

" إحياء علوم الدين"(15/2776 - 2777) .

ص: 621

البكاء حتى كف بصرها.

سمعت قائلا يقول: " ما أشد العمى على من كان بصيرًا "! فقالت: " يا عبد الله، عمى القلب عن الله أشد من عمى العين، وددت أن الله وهب لي كنه محبته، وأنه لم يبق مني جارحة إلّا أخذها "(1531) .

آمنة بنت أبي الورع:

(كانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: " أدخِلُوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار، وعاشوا"، ثم تبكي، وكأنها حبة على مِقْلَى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت)(1532) .

وذكر الحافظ ابن الجوزي رحمه الله:

(أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها- وهي تعجن- موتُ زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت:" هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء"!!

وأخرى كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت:" هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء "(1533)) .

ميمونة:

(بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يومًا في وعظها أن ثوبها الذي عليها- وأشارت إليه- له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، قالت:" والثوب إذا لم يُعْص الله فيه لا يتخرق سريعا "، وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا

(1531)" المرأة العربية"(3/97) .

(1532)

" التخويف من النار" للحافظ ابن رجب ص (23) .

(1533)

"أحكام النساء" ص (147) .

ص: 622

حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي: " ألا ندعو البَنَّاءَ ليصلح هذا الجدار؟ "، فأخذت رقعة، فكتبت فيها شيئًا، ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلمَ ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة:(إن الله يمسك السمواتِ والأرضَ أن تزولا) اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه) (1534) .

منيبة:

وعن أبي عياش القطان قال:

[كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن رُبما رآها، وتعجب من عبادتها على حداثتها.

فبينا الحسن ذات يوم جالس، إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت؟ فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها:"يا حبيبتي ما يبكيك؟ "، قالت له:(يا أبا سعيد الترابُ يُحْثَي على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: " احفر لابنتي قبرًا واسعا، وكفنها بكفن حسن"، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف وأنا أجهزُ إلى ظلمة القبور ووحشتها، وبيت الظلمة والدود؟) ] (1535) .

قال الوضاح بن حسان الأنباري: (حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي: " صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي"، ففعلت، فلزمت بيتها، فلم تزدَد إلا خيرًا)(1536) .

(1534)" البداية والنهاية"(11/ 333) .

(1535)

"صفة الصفوة"(4/27) .

(1536)

"صفة الصفوة"(3/192- 193) .

ص: 623

عن ابن السماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنبًا، فَسَعَتْ إليه بالسوط، فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت:" ما تَركتِ التقوى أحدًا يَشْفِي غيظَه "(1537) .

فاطمة بنت نصر العطار:

كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات وقد أثنى عليها الخليفة وغيره والله أعلم (1538) .

رابعة بنت إسماعيل العدوية:

(ومن هؤلاء الناسكات رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وكانت مضرب المثل في تَدَلُّه القلب واحتراق الكبد حبا لله وإيثارًا لرضاه، وكانت على تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، تستقل كل ذلك في جنب الله، قال يوما شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها:" واحزناه! " فقالت: " لا تكذب! بل قل: واقلة حزناه، ولو كنت محزونا لم يتهيأ لك أن تتنفس ".

ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال- وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها-: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك، وهي فزعة:" يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة (1539) لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور ") .

قالت عبدة: (وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها

(1537)" السابق"(3/194) .

(1538)

" البداية والنهاية "(12/299) .

(1539)

بل هي حياة برزخية في نعيم أو عذاب! فكيف يعبر عنها بالنوم؟

ص: 624

الوفاة دعتني، وقالت:" يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحدًا، وكفنيني في جبتي هذه "- وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون) ، ومن قولها:" ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئا "، ومن وصاياها " اكتموا حسناتكم، كما تكتمون سيئاتكم "(1540)) .

عن أزهر بن مروان قال: دخل على رابعة رِياح القيسي، وصالح بن عبد الجليل، وكلاب، فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة:" إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم "، قالوا:" ومن أين تَوَهمت علينا؟ " قالت: " إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه "(1541)

[ (قال خالد بن خِداش: سَمعتْ رابعةُ صالحًا المُريَّ يذكر الدنيا في قصصه، فنادته:" يا صالح، من أحب شيئا أكثر مِنْ ذِكْرِه ".

وقال محمد بن الحسين البرجلاني: حدثنا بشر بن صالح العَتَكي، قال: استأذن ناس على رابعة، ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعةً، وذكروا شيئا من الدنيا، فلما قاموا، قالت لخادمتها:" إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه، فلا تأذني لهم، فإني رأيتهم يحبون الدنيا ".

وعن أبي يسار مِسْمَع، قال:(أتيت رابعة، فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزًا، فآثرتُ حديثك على طبيخ الأرز، فرجعتْ إلى القدر، وقد طُبخَت) .

وعن حماد قال: (دخلت أنا وسلام بن أبي مطيع على رابعة، فأخذ سلام في ذكر الدنيا، فقالت: " إنما يُذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس

(1540)"المرأة العربية"(3/96 - 97) .

(1541)

"صفة الصفوة"(4/29) .

ص: 625

بشيء فلا ") (1542) .

وقال أبو سعيد بن الأعرابي: (أما رابعة، فقد حَمَلَ الناسُ عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشُعبة وغيرهما ما يَدُل على بطلان ما قيل عنها، وقد تمثلته بهذا:

ولقد جعلتُك في الفؤاد مُحَدثي

وَأبَحْتُ جسمي مَنْ أرادَ جُلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.

قلت- أي الحافظ الذهبي-: فهذا غلُو وجهل، ولعل مَنْ نسبها إلى ذلك مُباحِيُّ حلولي ليحتجَّ بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر:" كنت سمعه الذي يسمع به "(1543)) (1544) اهـ.

قال ابن كثير رحمه الله:

وقد (ذكروا لها أحوالًا وأعمالًا صالحة، وصيامَ نهارٍ، وقيامَ ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم) وقال أيضا: (وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر)(1545) اهـ والله أعلم.

زوجة الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي: عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدولة:

كانت -رحمها الله- كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها،

(1542)"سير أعلام النبلاء "(8/241-242) .

(1543)

قطعة من حديث الولاية المشهور، رواه البخاري (11/292-293) في الرقاق: باب التواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1545)

"سير أعلام النبلاء"(8/242 -243) .

(1545)

"البداية والنهاية "(10/186-187) .

ص: 626

وأعفَهن، وأكبرهن صدقة، و (كانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وِرْدها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومهَا الذي فوَّت عليها وِردَها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب " طبلخانة" في القلعة وقت السحر، لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرًا جزيلًا، وجراية كثيرة)(1546) .

وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي (سنة 572 هـ) رحمه الله (1547) .

فخربة بنت عثمان البصرية:

كانت من أسرة عريضة الجاه موفورة الغنى، ولكن ذلك كله لم يطب لها، فخرجت، وتزهدت، وتنسكت، وهجرت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم.

وكانت أشبه الناس برابعة في الوحشة من الدنيا والتدله، هاجرت إلى بيت المقدس وأقامت أربعين عامًا تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج) (1548) .

(1546)" البداية والنهاية "(12/317) .

(1547)

" السابق "(12/295) .

(1548)

" المرأة العربية "(3/98) .

ص: 627