الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل](1220)
في علاقة الابن بوالديه بعد الزواج
وعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221)
(وما يذكره بعضهم من الخلاف اللازم بين
الحماة والكَنة فأمر مبالغ فيه، وما يقع في
تلك الأسرة من بعض خلاف فشيء طبيعي بين
عاطفتين، وبين كبير وصغير، وبين تعجل
وحلم، ولكن حين يتوفر أدب الإسلام في
أفراد الأسرة، ويعرف كل فرد في الأسرة
حقه وواجبه، فإن الحياة تسير رضية سعيدة
في أغلب الأحيان، والله أعلم) (1222) .
1-
من حق الزوج على زوجه: أن تبر أهلَه مِنْ والِدين وأخوات: - إن من أدب الإسلام أن تؤثر الزوجة رضى زوجها على رضي نفسها، وأن تكرم قرابته خصوصا والديه، ويتأكد هذا إذا كانت تقيم معهما، وفي إكرامهم إكرام لزوجها، ووفاء له، وإحسان إليه، لأنه مما يفرحه، ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية، وآصرة الرحمة والمودة بينهما.
(1220) استفدت كثيرا من فقرات هذا الفصل من " نظرات في الأسرة المسلمة" للدكتور محمد الصباغ، بتصرف.
(1221)
الكَنة: امرأة الابن.
(1222)
" المرأة المسلمة" للشيخ وهبي غاوجي ص (153) .
- وإذا كان الزوج أعظم حقا على المرأة من والديها، وإذا كان الابن مأمورا شرعًا بأن يحفظ وُد أبيه (1223) تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة، فإن الزوجة مأمورة شرعًا بأن تحفظ ود أهلِ زوجها من باب أولى لتقوية رابطة الزوجية في الأسرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن من أبر البر أن يحفظ الرجل أهل ود أبيه " (1224) فلأن تحفظ المرأة أهل ود زوجها من باب أولى.
- كما أن إكرام الزوجة إياهما وهما في سن والديها خلق إسلامي أصيل: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرف لعالمِنا حَقَّه "(1225)، وعن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا "(1226)، وعن أنس وأسامة والأشعث رضي الله عنهم مرفوعًا:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا "(1227) .
- وفي إحسانها لوالديه شكر لهما على ما أنعم الله عليها من ولدهما الذي تسببا في وجوده من العدم، وربياه، فأصبح زوجا لها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يشكر الناس لا
(1223) راجع ص (170 - 171) .
(1224)
تقدم برقم (386) .
(1225)
رواه الإمام أحمد (5/323) ، والحاكم (1/122) ، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب"(96) .
(1226)
رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (354) ، والترمذي رقم (1920)، وقال:" حسن صحيح"، والحاكم (1/62) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/185، 207، 222) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع"(5/103) .
(1227)
رواه الترمذي رقم (1919)، وقال:" غريب"، وصححه الألباني في " صحيح الجامع"(5/103) .
يشكر الله " (1228) الحديث، وعن ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم مرفوعَا: " أشكرُ الناس لله أشكرهم للناس " (1229) . يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله:
(إن على الزوجة الفاضلة أن لا تنسى منذ البداية أن هذه المرأة التي قد تشعر أنها منافسة لها في زوجها، هي أم هذا الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلَّد فيه إحساس البر أن يقبل إهانة توجه إليها، فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمدته بالغذاء من لبنها، ووقفت على الاهتمام به حياتها حتى أصبح رجلًا سويا.
- واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، كما أنك أنت أيضًا تحبين أهلك أكثر من أهله، فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم أو أذيته فيهم، فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترامه، وإن لم يقابل الزوج ذلك بادئ الأمر بشيء، فلن يسلم حبه إياها من الخدش والنقص والتكدير.
إِن الرجل الذي يحب أهله ويبر والديه إنسان صالح فاضل جدير بأن تحترمه زوجته، وترجو فيه الخير) (1230) .
(1228) رواه الإمام أحمد (3/73 - 74) ، والترمذي رقم (1954) ، (1955)، وقال:" حسن صحيح"، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة" حديث رقم (3025)(2/911) .
(1229)
رواه الإمام أحمد (3/32) ، (5/211) ، وابن عدي في " الكامل"(5/794) ، والبيهقي (6/182) ، والطبراني (1/135) ، (1/207) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع"(1/337) .
(1230)
" نظرات في الأسرة المسلمة" ص (87 - 88) بتصرف.
ثم يقول في موضع آخر مخاطبا الزوج:
(إن ما تقدم من والديك من إكرام وعناية وإحسان إليك، يجب أن يقابل منك بالعرفان والمكافأة، لقد تعهداك بالرعاية والخدمة وأنت ضعيف لا تملك من أمر نفسك شيئًا، وأنفقا عليك، وَحَرَما أنفسهما من أجلك، وسهرا على شئونك، وتعبا من أجل راحتك، أفلا يجدر بك إن كنت من أهل الخير والمروءة أن تقابل ذلك بعرفان وإحسان؟ و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
والأم ينبغي أن تُقَدَّمَ في البر لضعفها، ولذلك وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات قبل الأب، ثم وصى بالأب، ومما يعينك على تحقيق البر في حياتك أن تضع نفسك في محل أبيك وأمك
…
فهل يَسُرُّك غدًا عندما يصيبك الكبر، ويهن العظم منك، ويشتعل رأسك شيبا أن تلقى من ابنك المعاملة السيئة والإهمال القاسي والإهانة الجارحة؟
أو ما علمت يا أخي أن الأيام دُوَل وأن الزمان لا يبقى على حالة واحدة (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فلا تغتر بشبابك وقوتك ومالك، فسرعان ما يلقاك المشيب، ويعتريك الضعف، ويزول عنك المال، وقد يكون مقدرًا للإنسان أن يكون في آخر عمره مُقْعَدًا، فليتصور هذا الإنسان أنه - وهو في هذه الحالة من العجز - قوبل بالعقوق والجفوة من ابنه بسبب إيثاره زوجته ماذا يكون شعوره في ذاك الوقت وهو على ما ذكرنا؟ تصور هذا يا أخي وأنت تعامل والديك فهذا مما يعينك على تحقيق البر في حياتك) (1231) اهـ.
(إن عقوق الرجل والديه دمار عليه وعلى زوجته وأولاده، لأن
(1231)" نظرات في الأسرة المسلمة" ص (102 - 103) .
العقوق من المعاصي التي تعجل عقوبتها في الدنيا:
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين "(1232)، وعن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: " بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي، والعقوق) (1233) ، وما يشير إليه الحديث أمر مشاهد ينطق به الواقع العملي، وإن من عدل الله تبارك وتعالى وسننه الماضية أن العقوبة عنده تكون من جنس العمل المستوجب لها، فإن أساءت المرأة معاملة والدي زوجها فقد تعاقب- حين تهرم وتشيخ- بأن يقيض الله لها من كَناتها- أي زوجات أولادها- من يسيء معاملتها جزاءً وفاقًا) (1234) اهـ.
وليس من شك في أن الزوجة الصالحة العاقلة، الخيرة الطيبة تكون عونا لزوجها على الخير، وتوصيه بالتزام حكم الشرع وآدابه، وتحرضه على زيادة بر والديه وإكرامهما:
حكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن عابدة: كانت تصلي بالليل لا تستريح، وكانت تقول لزوجها:" قمْ ويحك! إلى متى تنام؟ قم يا غافل قم يا بطَّال، إِلى متى أنت في غفلتك؟ أقسمت عليك ألا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بِر أمكَ، صل رحمك، لا تقطعهم، فيقطع الله بك "(1235) .
(1232) عزاه في " الجامع الصغير" إلى البخاري في " التاريخ"، والطبراني في الكبير، كما في "فيض القدير"(1/151) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع"(1/99) .
(1233)
أخرجه الحاكم (4/177) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/36) ، وصححه الألباني على شرط مسلم، كما في " الصحيحة" رقم (1120) .
(1234)
" نظرات في الأسرة المسلمة" ص (88) بتصرف.
(1235)
"صفة الصفوة"(4/437) .
(إن الرجل الذي لا خير فيه لأبويه لا يمكن أن يكون فيه خير لزوجة ولا ولد ولا لأحد من الناس في هذا الوجود، إن موقف الزوجة الصالحة في إعانته على البر كفيل في كثير من الأحيان في حل المشكلة وتسوية الأزمة، لأن الوالدين عندما يشهدان الحب الصادق والاحترام والحنان من زوجة ابنهما يعطفان عليها وعليه، ويسود الود والتفاهم والصفاء جو الأسرة كلها.
.. واعلم أيها الأخ الفاضل أن تصرفات الوالدين وتصرفاتك أنت أيضا تتغير بعد الزواج.. إنهما في الغالب يصبحان شديدي الحساسية.. والأم أكثر حساسية من الأب، فلتكن في منتهى الحذر
…
واعمل ما وسعك العمل على ألا يتغير قلبها نحوك.
ويساعدك في تحقيق ما تريد من المراعاة للوالدين والزوجة أمور أهمها:
1-
أن تلجأ إلى الله، وتحسن صلتك به عبادة ودعاء والتزامًا لما شرع.
2-
وأن تسكن منفردًا مستقلا عن أهلك وأهل زوجك، وأن لا تدخلا أحدا من أهليكما في مشكلاتكما الخاصة، وأن تتوليا حلها بينكما بروح المودة والرحمة.
3-
وأن تصارح والديك مع الاحترام البالغ بما تنكره من أوضاع جديدة، وتبين لهم الواقع البعيد عن التأويلات، التي قد يوسوس الشيطان بها للإنسان للايقاع بين الأهل والأحباب.
4-
وأن تزيد من برهما المادي والمعنوي، كالهدايا والزيارات والاتصال الدائم، والتكريم الكبير، وإشعار والدتك بأنها ما تزال عندك الأم التي لها حق عظيم.
5-
والتفاهم مع زوجتك على السلوك الذي يحقق إرضاء الوالدين.
6-
هذا، وأنصح الأخ الزوج ألا يلزم نفسه في أول الأمر بما لا يستطع أن يستمر عليه، لأنه إذا بدأ به ثم قطعه فُسر تفسيرا ليس في مصلحته، وجَر عليه أسوأ العواقب
…
واحذر يا أخي أن تعطي والدتك- في تصرفاتك التي قد لا تنتبه إليها- الأدلة التي تشعرها بأن فلذة كبدها قد صارت لغيرها وقد تحولت عنها، إنها عندئذ ستكون شديدة التأثر واللوم
…
وكلما كانت أكثر تعلقا بك وحبا لك كان تأثرها ولومها أكبر وأضخم.
وأنا أعلم أن كثيرا من الأمهات الجاهلات بسبب ما تقدم يحرجن أبناءهن، ويحرمنهم من السعادة، فإذا ابتلي إنسان بأم من هذا النوع كان عليه أن يقابل ذلك بالصبر والاسترضاء.. وهنا تظهر حقيقة البر وقوة الشخصية التي تقوى على الموازنة بين أصحاب الحقوق) (1236) اهـ.
ويقول الدكتور السيد محمد علي نمر حفظه الله مشيرا إلى أن الأمومة صنو التضحية، ونادبَا الأمهات إلى العدل في معاملة الكَنات:
(كثيرًا ما تسوء معاملة الأم لزوجة ابنها، ذلك أن الأم قد سهرت، وتعبت في سبيل أبنائها، وحين ينمو الابن، ويستوي على سوقه، ويصير رجلًا ويتزوج، تظن الأم أن ابنها لم يعد بعد في حوزتها وتحت قبضتها، وقد آلت ملكيته إلى امرأة أخرى، كما أن زوجة الابن تعتقد بدورها أن زوجها لا يشاركها فيه أحد، فتنشب الكراهية بين الأم وزوجة الابن، والأم الصالحة هي التي تعمل لإسعاد أولادها، وكما ضَحت بعمرها، وبذلت كل غال ورخيص ليخرج ولدها إلى الحياة شابًّا صالحا، فعليها أن تضحي حين تسلمه إلى امرأة أخرى، كما عليها أن تعلم أن هذه هي سنة الحياة، ولن
(1236)"نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) .
تجد لسنة الله تبديلًا.
إن الإسلام يطالبها أن تعتدل في نظرها إلى ولدها، حتى لا يكون منه عقوق لها) (1237) اهـ.
(ويطيب لي أن أهمس في آذان الأمهات أن ينتبهن لأنفسهن، وأن يكنَّ عونا لأولادهن على البر، وأن يعملن على تحقيق السعادة لهم.
ويبقى الحنان مفتاحًا في يد الولد العاقل، يجعل أمه سهلة الانقياد، سريعة التأثر، والأمهات أنواع، فقد ترضى الأم بكلمة حلوة، أو هدية متواضعة، أو استرضاء مبلل بالعاطفة الوافرة.
إن قلب الأم - إن لم يتحول بسبب العقوق- قريب المأخذ، يا أخي إن ارتباطك بوالديك أمر محتوم لا خيار لك فيه، ولا فكاك لك منه بحال من الأحوال، وليس في يديك
…
فلا تنس هذه الحقيقة.
ولقد جاء الشرع فقرر لهما من الحقوق ما لم يقرره لمخلوق من الناس إذ أوجب أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا ولو كانا كافرين يدعوانِك للكفر، يا أخي إن أعظم ما يميز مجتمعنا الإسلامي هو هذا الترابط العظيم في علاقاته الأسرية، فلا تتهاون فيه، فإن في بقاء هذا الترابط خيرًا للناس الذين يعيشون معك) (1238) اهـ.
(إن قوة شخصية الإنسان تبدو في القدرة على أن يوازن بين الحق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، وأحيانًا يكونون سطحيين تافهين ضعفاء، إن قوة الشخصية تظهر في القدرة على أداء حق كُلّ من أصحاب الحقوق، دون أن يلحق جورًا بواحد من الآخرين.
(1237)" إعداد المرأة المسلمة" ص (140) .
(1238)
" نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) بتصرف، وانظر ص (88) .
ومن عظمة هذه الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل ودوافع وحوافز متعددة، فللوالدين حقوق، وللزوج حقوق، ولا تعارض بينهما في حقيقة الأمر، والمسلم الواعي قوى الشخصية يستطع أن يعطي كل ذي حق حقه.
ويبدو أن الناس فيما مضى - ولعوامل متعددة - كانوا يراعون حق والدي الزوج رعاية مبالغًا فيها، قد تدخل الجور على الزوجة في كثير من الأحيان عدوانا وظلما، ولكن الأمر - بعد اختلاطنا بالكفرة، وتأثرنا بحضارتهم التي حطمت فيها الأسرة- اختلف حتى أصبح الظلم يصيب الوالدين، وهو إن وجد ينصبُّ أكثر ما ينصب على الأم، لئن كنا في الماضي بحاجة إلى تذكير الزوج بحقوق الزوجة مع مراعاة بر الوالدين، إننا اليوم بحاجة إلى تذكير شبابنا برعاية الموازنة بين حقوق الوالدين وحقوق الزوج، وإلى تحذيرهم من العقوق.
إن كثيرًا من المآسي الاجتماعية والعائلية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن المطلوب، والخسارة الكبرى والإثم العظيم يقع على الزوج أولًا عندما يقع في غضب الجبار، ويدخل النار.
…
أيها الزوج العروس: أنا لا أدعوك إلى ظلم زوجتك، فالظلم حرام بكل أنواعه ومظاهره، ولكنني أذكرك بأن ظلم والديك وعقوقهما من أعظم الذنوب.. واحرص في الوقت ذاته على إنصاف زوجك، والإحسان إليها ما استطعت إلى ذلك سبيلا) (1239) اهـ.
13-
ومن حقه عليها: إرضاع الأطفال وحضانتهم:
الطفل جزء من أمه، وقطعة من كيانها، فهي تحنو له، وتحدب
(1239)"السابق" ص (101: 102) بتصرف.
عليه، وتعكف على راحته، وهذه الصلة الوثيقة التي تربط الأم بطفلها تبلغ ذروتها وأوج قوتها في الأسابيع ثم الأشهر الأولى من ولادته، إذ يبلغ بها الأمر أن تعكف عليه عكوفًا يشبه عبادة العابد، ونسك الناسك، بل تستطيع الأم أن تجعل عملية الإرضاع عبادة سامية إذا استحضرت النية الصالحة من ورائها، لتجني ثمارها كل حين بإذن ربها:
روى أن عمرو بن عبد الله قال لامرأة ترضع ابنًا لها: " لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدَها قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم، ولكن أرضعيه تتوخين ابتناء ثواب الله، وأن يحيا برضاعك خَلْق عسى أن يوحِّد الله ويعبده "(1240) .
إن للطفل حقا ثابتًا على أبويه في الرعاية والعطف والتربية، ومن هنا توجه الخطاب القرآني إلى كل والدة سواء كانت مزوجة أو مطلقة يستحثها ويندبها إلى الاهتمام برضاعة طفلها، فقال جل وعلا:(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) الآية البقرة (233) .
ويثني الله تعالت أسماؤه على الأم إذ تتحلى بهذه السجية الإنسانية، ويعلن ما تستوجبه بهذه العاطفة من التكريم فيقول:(ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفِصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلي المصير) لقمان (14) .
والواقع أن هذا الوضع التشريعي الذي أمر به القرآن هو تحديد وفرض للوضع الطبيعي الذي بنيت عليه غريزة الأم، وانبنى عليها كيان الطفل، إن إرضاع الأم طفلها واجب عليها ديانة باتفاق الفقهاء، تُسأل عنه أمام الله تعالى حفظا على حياة الولد، سواء كانت متزوجة بأبي الرضيع،
(1240) عزاه في " منهج التربية النبوية للطفل" ص (72) إلى " نصيحة الملوك" للماوردي ص (166) .
أم مطلقة منه وانتهت عدتها.
واختلفوا في وجوبه عليها قضاء: أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا (1241) ؟
وقد ذهب جهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإرضاع للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها- أي قضاءً - إلا إذا تعينت مرضعًا بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزًا عن استئجار ظئر (مرضعة) ، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا على الاستحباب بقوله تعالى:(وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) .
ومذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجية، فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع علها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي إرضاعه فهي أحق، ولها أجرة المثل، هكذا كفل الإسلام للطفل حقه في الرضاع حتى بعد طلاق أمه، ولم يكتف بذلك بل تجاوزه إلى تعطيل إقامة الحد على الأم الزانية إلى حين انتهاء فترة رضاعه منها.
ففي قصة الغامدية التي حملت من الزنا، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة، قالت: " هذا قد ولدته"، قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه "، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: " هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام"، فدفع بالصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس
(1241) انظر: " الفقه الإسلامي وأدلته "(7/698-704) .
فرجموها) الحديث (1242) .
وتأمل ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي) الحديث، وفيه:(ثم انطلق بي، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات، قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن (*) .
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يفرض لمولود حتى يفطم، فتراجع عن ذلك، وفرض له من حين ولادته حتى تطول فترة الإرضاع، فبينما هو يطوف ذات ليلة بالمصلى، بكى صبي، فقال لأمه:" أرضعيه"، فقالت:" إن أمير المؤمنين لا يفرض لمولود حتى يُفطم، وإني فطمته"، فقال عمر:" إن كدت لأن أقتله أرضعيه، فإن أمير المؤمنين سوف يفرض له"، ثم فرض بعد ذلك للمولود حين يولد (1243) .
إن الحكمة الإلهية جعلت هذه العاطفة السامية عاطفة الأمومة متجاوبة مع قوة اتصال الوليد بأمه، ومع حاجته الماسة إليها ماديا وعاطفيا، فالطفل يحتاج إلى أمه حاجة تتصل بكيانه كله، وتشمل مشاعره وأحاسيسه.
ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكِحي"(1244) ، قالها
(1242) رواه مسلم ص (1322) ، والبيهقي (6/83) ، والدارقطني (3/ 92) ، والإمام أحمد (5/ 348) ، وغيرهم.
(*) أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " كما في " تحفة الأشراف"(4871) ، وابن خزيمة في " صحيحه "(1986) وعنه ابن حبان (1800 - موارد) ، والحاكم في " المستدرك "(1/430) مختصرًا، وقال: (صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وعزاه الحافظ في "الفتح" إلى الطبراني، وقال: " بسند جيد" اهـ.
(12/441) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب"(1/420) .
(1243)
" المصنف " لعبد الرزاق (5/311) .
(1244)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبو داود رقم (2276) في =
لمن شكت إليه زوجها، ندرك مدى اهتمام الإسلام بالطفل، حيث انتزع الرسول الله صلى الله عليه وسلم طفلًا من أبيه- وهو أقرب الناس إليه- ليكون في رعاية أمه، لأنها أشفق وأقدر على تربيته في هذا السن، كذلك ندرك أمرا آخر وهو أن الأم إذا شُغلت بزواج أو غيره، فهي ليست أهلَا للحضانة، لأن الطفل يجب أن ينشأ في جوٍّ تملؤه المودة والمحبة والعطف والحنان.
نسوق هذا الكلام إلى الذين ينادون بتخلي المرأة عن مهمتها وترك هؤلاء الأطفال إلى دور الحضانة حيث يحرم الطفل من حقه في رعاية أمه وحنانها، أمه التي لا يعوضه عنها أرقى وأعظم دور الحضانة.
إن مما يصادم الفطرة والشرع ما يتصوره بعض الناس من أن حاجة الطفل إلى أمه قاصرة على تغذيته باللبن خلال فترات منتظمة، وهو أمر يمكن استبداله بأي لبن كان، ثم تغيير ثيابه وتنظيفه بين الفينة والأخرى، وهو عمل تستطيعه أي حاضنة أمينة، وإذا تصور هذا أي رجل لم يذق إنسانية الحياة العائلية، فلا يتصوره من النساء إلا امرأة مُسِختْ حقيقتها، وانطوى صدرها على قلب قاس جامد، قد نُحِتَ من صُم الجلاميد الصلاب، ولله دَر من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
…
هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
…
أما تخلَّت أو أبا مشغولا
ألا فلترجع الأم " الهاربة" من ميدان كفاحها إلى بيتها، ولتعد " الأم" المتمردة على فطرتها إلى حجابها الأول:" وقرن في بيوتكن"،
= الطلاق: من أحق بالولد؟، والدارقطني (3/305) ، والحاكم (2/207) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (8/4- 5) ، والإمام أحمد (2/182) ، وحسنه الألباني في " الإرواء"(7/244) .
وسبب وروده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني "، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
ولتؤب إلي " المصنع" الذي رشحها الله لتمارس فيه أشرف وظائف المرأة بعد عبادة الله " والمرأة راعية في بيت زوجها " إنه مصنع الأبطال والمجاهدين والعباد، والدعاة، مصنع العفيفات العابدات العالمات المؤمنات الصابرات.
فإن كانت ممن لا يكتفي بالنصيحة إلا إذا دُعمت بإحصاءات العلم الحديث، ونتائجه المنسوبة إِلى أهله، فلترع سمعها ما يلي: أولًا: ما قالته مؤلفة كتاب " أطفال بلا أسر": (وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الولد في ظل أبويه ينشأ ذكيا، وتنخفض نسبة ذكائه كلما ابتعد عن أمه وأبيه، ففي دور المياتم والحضانة التي تشرف على كل عشرة أطفال فيها فقط مربية واحدة تنخفض نسبة الذكاء 40% عن الطفل الذي ينشأ مع أمه أو إحدى قريباته
…
وقد قام البروفيسور " وين دنيس" الحائز على شهادة الدكتوراة من جامعة كلارك، والذي يعتبر من ألمع أساتذة علم النفس في الولايات المتحدة بجولة علمية زار خلالها لبنان، والولايات المتحدة، وانكلترا، وهولندا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، والمجر، وتبين له مدى الفروق الهائلة في مستوى الذكاء لدى الأطفال من بيئة إِلى أخرى، وأثبتت دراساته أن الذكاء ينخفض لدى الطفل إن كان يعيش مع عشرة أطفال وتشرف على تربيتهم مربية واحدة إلى ما يزيد عن 40% من نسبة الذكاء لدى غيره من الأطفال الذين ينشأون في جو عائلي) (1245) اهـ.
ثانيَا: درج بعض الأطباء الأمريكيين الذين أجروا دراسات على الأطفال على أن يكتب في " الوصفة " لكل أم تذهب إليه بطفلها المريض العبارة التالية:
" العلاج: هو العودة إلى الأم الحقيقية"(1246) .
(1245) انظر: " نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام" ص (218) .
(1246)
"الأخت المسلمة" للجوهري ص (118) .
14-
ومن حقه عليها: أن تحسن القيام عل تربية أولادها منه في صبر وحلم ورحمة:
فلا تغضب على أولادها أمامه، ولا ترفع صوتها عاليًا في مخاطبة أولادها أو زجرهم حتى يسمع خارج المنزل، ولا تدعو عليهم، ولا تسبهم، أو تضربهم، فإن ذلك قد يؤذيه منها، ولربما استجاب الله تعالى دعاءها عليهم، فيكون مصابهما بذلك عظيما.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةَ نَيل، فيها عطاءٌ، فيستجيب لكم) (1247) .
وقد تفننت نساء بعض البلاد في اللعن تفننَا غريبَا، فتسمع الدعاء الفظيع ينهال على الولد البريء الذي تصرف تصرفًا صبيانيًّا لم يوافق هوى أمه ورضاها، إنها تدعو عليه أحيانًا بأن يرسل الله عليه الحمّى والأوجاع المتعددة، وتدعو عليه أحيانًا أن يقتل بالرصاص، أو أن تذهب به داهية الدهس، أو أن يصيبه العمى، تدعو عليه بذلك وغيره، وهو ابنها وفلذة كبدها، وهي لا تدري أنه قد توافق دعواتُها ساعة الإجابة، فتندم ولات ساعة مندم، وقد قيل إن الدعوات كالحجارة التي يرمى بها هدف، فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ (1248) .
وعليها أن تربي أولادها على الطهارة والنظافة والعفة والشجاعة،
(1247) رواه أبو داود رقم (1532) في الصلاة، وهو قطعة من حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر عند مسلم رقم (3006) ، وكذا ابن حبان (2411) .
(1248)
انظر: " أضواء البيان"(3/417) ، " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (161- 162) .
والزهد في سفاسف الأشياء، وملاهي الحياة، كي ينشأوا مسلمين، يعيشون بالإسلام وللإسلام، يكَثر الله تعالى بهم الخير في المجتمع، ويتباهى بهم وبأمثالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا (1249) .
وعليها أن تراعي الأمور الآتية حتى تنجح العملية التربوية: أولًا: أن لا تتصرف أمام أبنائها بصورة توحي بأن سياستها التربوية تخالف سياسة الأب.
ثانيا: أن لا تعترض المرأة على زوجها أثناء تأديبه أولاده وبحضرتهم، فإن كان ولابد، فلها أن تبدي رأيها في أمور التربية على انفراد به، وعليهما الخروج بسياسة تربوية محددة.
ثالثا: أن تحرص على الصدق مع زوجها، وتصارحه بالحقيقة في أمورها كلها، وأن تعلمه بالأحداث التي تتم في غيبته، ولا تتستر على أخطاء أولادها الجسيمة، والتي يجب معرفة الأب بها.
رابعًا: أن لا تأذن ولا تعطي ولدها عند غياب أبيه ما منعه منه.
خامسًا: أن لا تبدي الزوجة أمام أبنائها أي إشارة رفض أو ضجر من بعض عادات الأب أو تصرفاته، وأن تحذر أن تُخَطِّئ أقواله وأفعاله، أو أن تنتقص منه، أو أن تتظلم لأولادها منه قبالتهم.
(1249) ومن خير ما يسترشد به الأبوان في هذه التربية كتاب " منهج التربية النبوية للطفل " لمؤلفه محمد نور سويد جزاه الله خيرا، فإنه في جملته من خير ما يسد هذه الثغرة.
[فصل]
من آداب المرأة المسلمة أن تحسن القيام على أولاد زوجها من امرأة أخرى، كأنهم أولادها، فإن الزوجة الصالحة عون لزوجها على مصاعب الحياة، وأعباء المعيشة، وتأمل ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
(تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" يا جابر، تزوجت؟ " قلت: " نعم"، قال:" بكرًا، أم ثيبا؟ " قلت: " ثيبا"، قال:" فهلا بكرًا تلاعبها؟ " قال: قلت:
" يا رسول الله، إن لي أخوات، فخشيت أن تُدْخِلَ بيني وبينهن"، فقال:" ذاك إذا، إن المرأة تنكَح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين ترِبَتْ يداك "(1250)) .
وفي رواية للبخاري: (" فهلا جارية تلاعبك؟ قلت: يا رسول الله، إن أبي قُتِل يوم أحد، وترك تسع بنات، كُنَّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جاريةً خرقاءَ مثلهن، ولكن امرأة تمشطُهن، وتقوم عليهن "، قال: " أصبت " (1251) .
وفي رواية الترمذي: (فقلت: " يا رسول الله، إن عبد الله مات، وترك سبع بنات أو تسعًا، فجئت بمن تقوم عليهن، فدعا لي " (1252) .
(1250) رواه مسلم رقم (715) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وباب استحباب نكاح البكر.
(1251)
رواه البخاري (9/122) ، (6/121) ، (11/ 190) ط. السلفية.
(1252)
رواه الترمذي رقم (1086، 1100) في النكاح.
فتأمل كيف أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه على نظرته التربوية في اختياره زوجة تنجز بعض المهام التربوية لأخواته الصغار، أليس بالأحرى أن تعين زوجها على بر والديه، والإحسان إلى أبنائه من غيرها؟
قال ابن بطال: (وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها، وإنما هو من جميل العشرة، ومن شيمة صالحات النساء)(1253) اهـ.
15-
ومن حقه عليها: أن تتجنب الغيرة المذمومة:
توجد الغيرة في غالب النساء، غير أن منها ما هو مذموم، ومنها ما هو محمود: [فالمذموم منها تلك التي تتأجَّجُ في صدر صاحبتها نارا تُشعِلُ جيوش الظنون والشكوك كلُّ آن، فتحيلَ حياة الأسرة جحيمَا لا يطاق:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قالوا: (يا رسول الله، الا تتزوج من نساء الأنصار؟ " قال: " إن فيهن لغيرةً شديدة " (1254) .
- ولذلك لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سَلَمة رضي الله عنها، إلا بعد أن دعا أن يذهِبَ الله غيرتها، عن أمَ سلمة قالت: لمّا توفيَ أبو سلمة، استرجعتُ، وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منه، ثم رجعت إلى نفسي، قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عِدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغُ إهابَا لي، فغلست يدي من القَرَظِ (ما يُدبَغ به) وأذِنتُ له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة فِي، ولكني امرأة في غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يُعذِّبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السنُّ، وأنا
(1253)"فتح الباري"(9/513) : باب عون المرأة زوجها في ولده.
(1254)
رواه النسائي (6/69) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " تحقيق جامع الأصول"(إسناده صحيح) اهـ. (11/534) .
ذات عيال، فقال:" أما ما ذكرتِ من غَيرتك فسوف يُذهبها الله عز وجل عنك (وفي رواية النسائي، فأدعو الله عز وجل فيُذهِبَ غيرتك) ، وأما ما ذكرتِ مِن السنّ فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرتِ من العيال فإنما عيالك عيالي ": قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، قالت أمّ سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (1255) .
- أمّا الغيرة المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها، فهي مقبولة بل وقد تُستملَح أحيانًا:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه (وفي رواية عائشة) ، فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين (في رواية أم سلمة، وفي أخرى صفية) بصَحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفةُ، فانفلقتْ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول:" غارتْ أمُّكم، غارتْ أمكم " ثم حبس الخادم، حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها) (1256) .
- أما الغيرة المحمودة، فهي التي تكون إذا ما انتهِكَت محارم الله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غَيرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حَرَّم الله
(1255) رواه أحمد (4/28) واللفظ له، والنسائي (6/ 81) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " جامع الأصول":(إسناده صحيح) اهـ (11/410) .
(1256)
البخاري (9/283) في النكاح، وأبو داود (3567) في البيوع، والترمذي (1359) في الأحكام، والنسائي (7/70) عشرة النساء.
عليه " (1257) ] (1258) .
16-
ومن حقه عليها: حفظه في دينه وعرضه:
وذلك ببعدها عن التبرج والتعرض للأجانب في البيت وخارجه، في الشرفة أو على الباب، أو في الطريق والمحلات التجارية، وقد سبق أن ذلك من حق المرأة على زوجها أن يحفظها من ذلك، لذا فهي لا تبدي زينتها، إلا لزوجها ولذوي محارمها على التأبيد مع أمن الفتنة، ولا تخلو بأجنبي، ولو كان شقيق زوجها، ولا تأذن لمن لا يرضى الزوج دخوله عليها، وهي حافظة لزوجها في غيابه من عرض فلا تزني، ومن سر فلا تفشي، ومن سمعة فلا تجعلها مضغة في الأفواه.
وعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: " خير نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية، إذا اتقين الله، وشرُّ نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثلُ الغراب الأعصم " (1259) .
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره "(1260) .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل " (1261) .
(1257) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (115) .
(1258)
"أسس اختيار الزوجة " للشيخ محمد عيد الصياصنة، " مجلة البحوث الإسلامية " عدد (24) ص (262-264) .
(1259)
انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (130) .
(1260)
" السابق، ص (101) ، وانظر " صحيح الجامع" (2/392) .
(1261)
" السابق" ص (131) .
وعن فضالة بن عبيد مرفوعًا: " ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجُها قد كفاها مُؤنة الدنيا فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم "(1262) " الحديث.
17-
ومن حقه عليها: أن تحفظ حواسه وشعوره، وتتحرى ما يرضيه فتأتيه، وما يؤذيه فتجتنبه:
وينبغي لأبوي المرأة خصوصًا الأم أن تعرفها حق الزوج، وتبالغ في وصيتها، رُوي أن أسماء بن خارجة الفَزَاري (1263) قال لابنته عند التزوج:(إنك خرجت من العش الذي فيه درجت، فصرت إلى فراش لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أرضًا، يكن لك سماءً، وكوني له مهادًا، يكن لك عمادًا، وكوني له أمة، يكن لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك (1264) ، ولا تباعدي عنه فينساك، إن دنا منكِ فاقربي منه، وإن نأى عنك فابعدي عنه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، فلا يشمن منك إلا طيبا، ولا يسمع منكِ إلا حسنًا، ولا ينظر إلا جميلًا) (1265) .
وأوصى عبد الله بن جعفر بن أي طالب ابنته فقال: (إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء "، وقال رجل لزوجته:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
…
ولا تنطقي في سَوْرتي حين أغضبُ
ولا تنقريني نقرك الدفَّ مرةً
…
فإنك لا تدرين كيف المُغيبُ
(1262)" السابق" ص (131) .
(1263)
انظر ترجمته في " الإصابة"(1/195 - 196) .
(1264)
أي: لا تلحي عليه فيكرهك.
(1265)
انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (73) .
ولاتكثري الشكوى فتذهب بالهوى
…
ويأباكِ قلبي والقلوبُ تقلب
فإني رأيت الحب في القلب والأذى
…
إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهب
(وقال بعض العرب: " لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا تنكحوا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة"، أما الأنانة، فهي التي تكثر الأنين والتشكي، وتعصب رأسها كل ساعة، فنكاح الممراضة، أو نكاح المتمارضة لا خير فيه، والمنانة التي تمن على زوجها فتقول: " فعلت لأجلك كذا وكذا"، والحنانة التي تحن إلى زوج آخر، أو ولدِها من زوج آخر، وهذا أيضًا مما يجب اجتنابه، والحداقة التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه، وتكلف الزوج شراءه، والبراقة تحتمل معنيين: أحدهما: أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه، ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع، والثاني: أن تغضب على الطعام، فلا تأكل إلا وحدها، وتستقل نصيبها من كل شيء، وهذه لغة يمانية، يقولون: برقت المرأة، وبرق الصبي الطعام، إذا غضب عنده، والشداقة المتشدقة الكثيرة الكلام)(1266) .
وأوصت أمامة بنت الحارث ابنتها حين زفت إلى زوجها، فقالت: (أي بنية: إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب، لزويت ذلك عنك، ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
أي بنية: لو أن امرأة استغنت عن زوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
(1266)"الإحياء"(4/712-713) .
أي بنية: إنك قد فارقت الحمى الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكًا فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكا، واحفظي له خصالا عشرا، تكن لك ذخرًا:
أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وفٍى حسن المعاشرة مرضاة للرب.
وأما الثالثة والرابعة: فالمعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منكِ إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة" وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سرًّا، ولا تعصين له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحا، والاكتئاب إذا كان فرحًا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وأشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة، واعلمي يا بنية أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت، والله يضع لك الخير، وأستودعك الله) (1267) اهـ.
إن الزوجة التي يندب إليها هي الهينة، اللينة، العفيفة، التي " تعين
(1267) انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (74-78) .
أهلها على العيش، ولا تعين العيش عليهم، لا تؤهل دارا (1268) ، ولا تؤنس جارًا (1269) ، ولا تنفث (1270) نارًا " (1271) .
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى:
(وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه، وتقدم حقه على حق نفسها وحقوق أقاربها، وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة، ولا تفتخر عليه بجمالها، ولا تعيبه بقبيح إن كان فيه
…
) (1272) .
(وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته وبقى ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها، فإنه قد يجد وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسَن قد يقع، فكيف للمكروه؟)(1373) اهـ.
[والقول الجامع في آداب المرأة: أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمنزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن
(1268) لا تؤهل دارا: أي لا تجعل دارها آهلة بدخول الناس عليها.
(1269)
لا تؤنس جارًا: أي لا تؤنس الجيران بدخولها عليهم.
(1270)
لا تنفث نارا: أي لا تنم، ولا تغري بين الناس.
(1271)
" عيون الأخبار " لابن قتيبة (4/4- 5) .
(1272)
" أحكام النساء" ص (72-73) .
(1273)
" السابق" ص (78) .
خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها، أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو: تعرفه، همها صلاح شأنها، وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها، وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضرا لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها، وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج..] (1274) اهـ.
(1274)" الإحياء"(4/749 - 750) .