المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل]الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء - عودة الحجاب - جـ ٢

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الخامسة

- ‌ الباب الأول *

- ‌تمهيد

- ‌[فصل]المرأةسلاح ذو حدين

- ‌[فصل]القضية الأمالقرآن والسلطان

- ‌[فصل]بين الترقيع…والأصالة

- ‌[فصل]وضع المرأة ومسئولية الولاة

- ‌[فصل]موقف دعاة الإسلاممن قضية المرأة (52)

- ‌الباب الثانيإهانة الجاهلية للمرأة

- ‌[الفصل الأول]المرأة عند الآخرين (57)

- ‌[الفصل الثاني]المرأة عند العرب في الجاهلية

- ‌الباب الثالثشمس الإسلامتشرق على المرأة

- ‌[الفصل الأول]

- ‌مظاهر تكريم الإسلام للمرأة

- ‌[فصل]دحض بدعة المساواة المطلقةبين الرجل والمرأة

- ‌[فصل]الفروق بين الرجل والمرأة

- ‌مسألة: هل يجب تسوية الوالدينبين أولادهم الذكور والإناث في الهبة

- ‌عود على بدء

- ‌[الفصل الثاني]المرأة أُمًّا

- ‌[فصل]بر الوالدين بعد موتهما

- ‌[فصل]من مواقف الأم المسلمة

- ‌[فصل]الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء

- ‌[الفصل الثالث]المرأة بنتًا

- ‌[الفصل الرابع]المرأة زوجة

- ‌[فصل]الكفاءة في الزواج

- ‌فصلنص القرآن الكريم على تحريم نكاح الزانية

- ‌فصلوأما الأدلة على عدم اعتبار المال في الكفاءة:

- ‌فوائد

- ‌[فصل]الزوجيةبين الحقوق والواجبات والآداب

- ‌أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين

- ‌من مواقف الزوجة المسلمة

- ‌تنبيهات

- ‌ثانيا: حقوق الزوجة على زوجها

- ‌(أ) الحقوق المادية

- ‌(ب) الحقوق الأدبية

- ‌[فصل]لا نكاح إلا بولي

- ‌تنبيهات متفرقة

- ‌عود على بدءمن حقوق المرأة على زوجها

- ‌[فصل]مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)

- ‌ثالثًا: حقوق الزوج على زوجته

- ‌[فصل] (1220)في علاقة الابن بوالديه بعد الزواجوعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221)

- ‌[فصل]وفاؤها لزوجها

- ‌[الفصل الخامس]المرأة مؤمنةً مجاهدةً صابرةً

- ‌[الفصل السادس]المرأة عالِمةً

- ‌[فصل]صور من سيرة المسلمة العالمة

- ‌[الفصل السابع]المرأةُ…عابدةً

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌[فصل]الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء

[فصل]

الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء

إذا قلبت صفحات تاريخنا الإسلامي، فلا تكاد تقف على عظيم ممن ذَلتْ لهم نواصي الأمم، ودانت لهم الممالك، وطبق ذكرهم الخافقين، إلا وهو ينزع بِعِرْقِهِ وخُلُقِهِ إلى أم عظيمة، وكيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم، وفي مسارب دمائهم:

فالزبير بن العوام: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلغ من بسالته وبطولته، أن عدل به الفاروق رضي الله عنه، ألفًا من الرجال، حين أمد به جيش المسلمين في مصر، وكتب إلى قائدهم عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول:

" أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألفٍ: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد ".

وقد صدقت فِراسة الفاروق رضي الله عنه، وسجل التاريخ في صفحاته أن الزبير لا يعدل ألفًا فحسب، بل يعدل أمة بأسرها، فقد تسلل إلى الحصن الذي كان يعترض طريق المسلمين، وصعد فوق أسواره، وألقى بنفسه بين جنود العدو، وهو يصيح صيحة الإيمان:" الله اكبر ".. ثم اندفع إلى باب الحصن، ففتحه على مصراعيه، واندفع المسلمون، فاقتحموا

ص: 199

الحصن، وقضوا على العدو قبل أن يفيق من ذهوله.

(هذا البطل العظيم إنما قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت حمزة أسد الله، فقد شب في كنفها، ونشأ على طبعها، وتخلق بسجاياها.

والكَمَلَة العظماء: عبد الله، والمنذر، وعروة أبناء الزبير: كانوا ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وما منهم إلا له الأثر الخالد، والمقام المحمود.

وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعبد الله بن جعفر: سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم، تركه أبوه صغيرًا، فتعاهدته أمه أسماء بنتُ عُمَيس، ولها من الفضل والنبل ما لها. وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أريب العرب وألمعيُّها، ورث عن هند بنت عتبة همة تجاوز الثريا، وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها:" إن عاش معاوية ساد قومه " - " ثكِلْتُهُ إن لم يَسُد إلا قومه "، ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: (إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه "، فقالت: " أوَ مِثْلُ معاوية يكون خَلَفا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمِيَ به فيها، لخرج مِن أيها شاء ".

وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي، انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: " أنا ابن

ص: 200

هند ") (443) .

وعبد الله بن زيد المازني: الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قتَل مسيلمة الكذاب بسيفه (444) ، وقتل هو يوم الحرة.

وأخوه حبيب بن زيد بن عاصم المازني: الذي أخذه مسيلمة فقطَّعَه، قطعة قطعة.

كلاهما كان ثمرة أم فاضلة مجاهدة هي أم عُمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكَّائين، شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل) (445) .

وعبد الملك بن مروان: أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكان لها من مضاء العزم، وذكاء القلب، ونفاذ الرأي - ما لم يكن بعض الرجال في شيء منه، وهي التي يعنيها ابن قيس الرقيات في قوله لعبد الملك:

أنتَ ابن عائشة التي

فضلت أُرُومَ (446) نسائها

(443)"المرأة العربية"(133/133-134) بتصرف، وانظر:" معاوية بن أبي سفيان " لمنير الغضبان ص (31) .

(444)

هكذا ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء)(2/281 - 282) ، وهو يخالف ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في قصة مقتل مسيلمة الكذاب في " البداية والنهاية "(6/341) ، (6/268) من أن الكذاب قتله وحشي بن حرب، وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري.

(445)

انظر: " سير أعلام النبلاء "(2/278 - 282) ، وسيأتي مزيد من فضائلها ومناقبها في الفصل الخامس " ص (552) إن شاء الله.

(446)

الأروم: جمع الأرومة: الأصل.

ص: 201

لم تلتفت لِلِداتِها (447)

ومَشت على غُلَوائها (448)

وَلَدَت أغَرَّ مباركًا

كالشمس وَسطَ سمائها (449)

وأبو حفص عمر بن عبد العزيز: أورع الملوك وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالا، وأكرمهن خلالًا، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم، وليس لها ما تعتز به من نشب ونسب، إلا ما جرى على لسانها قول الصدق في نصيحتها لأمها (450) ، وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه.

وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر: الذي ولي الأندلس وهو ولاية تميد بالفتن، وتَشْرَقُ بالدماء، فما لبثت أن قرت له، وسكنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين حصنا في غزوة واحدة، ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، فكان أعظم أمراء بني أمية في الأندلس، حكم مدة خمسين سنة وستة أشهر، وبعد ما كانت قرطبة إمارة، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوربة وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.

أتدري ما سر هذه الهمة، وما مهبط وحيها؟ إنها المرأة وحدها! فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا قتل عمُّه أباه وعمره واحد وعشرون يوما،

(447) لدات: جمع لِدة، واللًدَةُ: التربُ، من وُلِد معك.

(448)

الغُلَواء: الغُلو، وأول الشباب وسرعته.

(449)

" العقد الفريد "(2/216) ط. بولاق، وانظر " السير" للذهبي (4/249) .

(450)

حكى الميداني أن عمر رضي الله عنه مر بسوق الليل - وهي من أسواق المدينة - فرأى امرأة معها لبن تبيعه، ومعها بنت لها شابة، وقد همت العجوز أن تَمْذِقَ لبنها - أي تخلطه بالماء - فجعلت الشابة تقول: يا أمه لا تمذقيه، ولا تغُشيه، فوقف علبها عمر فقال: مَنْ هذه منك؟ قالت: ابنتي، فأمر عاصمًا فتزوجها، وهى جدة عمر بن عبد العزيز لأمه.

ص: 202

فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت) (451) .

وسفيان الثوري: وما أدراك ما سفيان الثوري (452) ؟!.

إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة:(الثوري سيد المسلمين)، وقال الأوزاعي:(ولم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان) ، وما كان ذلك الإمام الجليل، والعَلَم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها، وفضائلها، ومكانتها، وإن كان ضَن علينا باسمها.

روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال:

(قالت أم سفيان لسفيان: " يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي (453) ، فكانت - رحمها الله - تعمل، وتقدم له، ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة- فيما يرويه الإمام أحمد أيضا -:" يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك "(454) .

فهل من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذي بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!

(451)" المرأة العربية "(2/136) بتصرف، وانظر:" الأعلام " للزركلي (3/324) .

(452)

انظر: " الإمام سفيان الثوري " للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ص (36-37) .

(453)

، (454)" صفة الصفوة "(3/189) .

ص: 203

والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقيههم، أبو عمرو الأوزاعي: يقول فيه أبو إسحاق الفزاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خُيرتُ لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي، لأنه كان أكثر توسعًا، وكان والله إمامًا، إذ لا نصيبُ اليوم إمامًا، ولو أن الأمة أصابتها شدة، والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه)(455)، وقال الخريبي:(كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه) .

وقال بقية بن الوليد: (إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير، عرفنا أنه صاحب سنة) وقال العجلي: (شامي ثقة من خيار المسلمين) .

وقال الشافعي: (ما رأيت أحداً أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي (456) .

قال النووي رحمه الله: (وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته، وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له، واعترافهم بمرتبته)(457) .

وعن سفيان الثوري: (أنه لما بلغه مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذِي طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار، ووضعه على رقبته، وكان

(455) يعنى كي يفيدوا من علمه وقضائه وورعه.

(456)

انظر: " تهذيب التهذيب "(6/238-242) .

(457)

" تهذيب الأسماء واللغات "(1/229) .

ص: 204

إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ) (458) .

(وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الطبقات أن الأوزاعي سئل عن الفقه- يعني استُفْتي - وله ثلاثَ عشرةَ سنة)(459) .

ذلك الحَبر البحر كان أيضًا ثمرة أم عظيمة:

قال الذهبي رحمه الله: (قال العباس بن الوليد: فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: " سبحانك تفعل ما تشاء " كان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حَجْر أمه، تنقلُهُ من بلدٍ إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه أن بلغتَه حيث رأيتُه، يا بني " عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعتُ منه كلمةً قطُّ فاضلةً إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكًا قط حتى يُقهقِه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد، أقول في نفسي: أتُرى في المجلس قلبٌ لم يبك؟)(460) .

قال أبو مسهر:

وكان الأوزاعي رحمه الله يحيي الليل صلاةً وقرآنًا وبكاءً، وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت، أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع مُصَلَاه، فتجده رطْبًا من دموعه في الليل) (461) اهـ.

[وهذه أم " ربيعة الرأي " شيخ الإمام مالك: أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خَلًفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما

(458) ، (459)" السابق "(1/300) .

(460)

" سير أعلام النبلاء "(7/110) .

(461)

" سير أعلام النبلاء "(7/120) .

ص: 205

له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة طلية ساقها ابن خلكان، قال:

(وكان فرُّوخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وَخَلَّفَ عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا، وفي يده رمح، فنزل، ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال:" يا عدو الله أتهجم على منزلي؟ "، فقال فروخ: (يا عدو الله أنت دخلت على حرمي؟ "، فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالكَ بن أنس، فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: " لا فارقتك"، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: (أيها الشيخ لك سَعَة في غير هذه الدار "، فقال الشيخ:" هي داري، وأنا فروخ "، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، وقالت:" هذا زوجي، وهذا ابنى الذي خَلَّفه، وأنا حامل به "، فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال:" هذا ابني؟ "، فقالت:" نعم "، قال:" أخرجي المال الذي عندك "، قالت- تُعَرضُ -:" قد دفنته، وأنا أخرجه "، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حِلْقته، فأتاه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت أمُه لزوجها فروخ: (اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها، فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: " من هذا الرجل؟ "، فقيل: " هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن "، فقال: " لقد رفع الله ابني "، ورجع إلى منزله، قال لوالدته: " لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها "، فقالت أمه: " فأيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه؟ "، فقال: " لا والله، بل هذا "، فقالت: " أنفقت المال كله عليه "، قال: " فوالله

ص: 206

ما ضَيَّعْتِهِ ") ] اهـ (462) .

إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله:

قال مطرف: قال مالك: (قلت لأمي: " أذهب، فأكتب العلم؟ "، فقالت: " تعال، فالبس ثياب العلم "، فألبستني مسمرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: " اذهب، فاكتب الآن "، وكانت تقول: " اذهب إلى ربيعة، فتعلًّمْ من أدبه قبل علمه ")(*) اهـ.

ثم إذا نشرنا صفحة العهد العباسي، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها امْرَءَا دنت له قطوف العلم والحكمة، ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد بن إدريس الشافعي فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض، فملأ أقطارها علما وفقهًا، ذلك أيضًا ثمرة الأم العظيمة.

فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها، وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد (463) ، وهي التي تنقلت به من " غزة " مهبطه إلى " مكة " مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك.

(وكانت أم الشافعي رحمها الله - باتفاق النقلة- من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة (464) ، ومن طريف ما يحكى عنها من

(462)"من أخلاق العلماء " للشيخ محمد بن سليمان ص (153-154) .

(*) نقله عن (مقدمة كتاب " الديباج المذهب " لابن فرحون) الأستاذ محمد نور سويد في كتابه " منهج التربية النبوية للطفل " ص (235) .

(463)

" طبقات الأدباء "(6/368) ، " المجموع " للنووي (1/14) .

(464)

" طبقات الشافعية الكبرى " لابن السبكي (2/179) .

ص: 207

الحذق والذكاء: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى (465) مع رجل، فأراد أن يفرق بين المرأتين، فقالت له أم الشافعي: " ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:(أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)(466) ، فرجع القاضي لها في ذلك) (467) .

قال الحافظ ابن حجر: " وهذا فرع غريب، واستنباط قوي "(468) .

وعن وكيع قال: " كان الحسن بن صالح وأخوه وأمهما قد جَزَءوا الليل ثلاثة أجزاء، فكل واحد يقوم ثلثًا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل، ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله "(*) .

وكان جعفر بن يحيى وزير الرشد أرفق الناس برياضة القول، وأعرفهم بفنون الكلام، وكان إذا عقب رسالة، أو وقَع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة، ونهاية الإيجاز، حتى لقد يتدافع الكُتَّابُ على بابه فيشترون من حُجابه كل توقيع بدينار.

" كل ذلك ورثه جعفر عن أمه لا عن أبيه "(469) .

وعن سفيان بن عيينة قال: (قالت أم طَلْقٍ لطَلْقٍ: " ما أحسنَ صوتَك بالقرآن" فليته لا يكون عليك وَبالا يوم القيامة "، فبكى حتى غشي عليه)(470) .

(465) هي أم بشر المريسي كما في " السابق "(2/179) .

(466)

من الآية (282) من سورة البقرة.

(467)

، (468)" توالي التأسيس" لابن حجر ص (46) .

(*)" حلية الأولياء "(7/328)، وانظر:" سير أعلام النبلاء "(7/361) وما بعدها.

(469)

" البيان والتبيين"(1/59) .

(470)

" صفة الصفوة "(3/37) .

ص: 208

أم إبراهيم البصرية العابدة:

حُكي أنه كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثَغْر من ثغور الإسلام، فانْتُدِبَ الناسُ للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيبًا، فَحَضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرةً مجلسَه، وتمادي عبد الواحد على كلامه، ثم وصف الحور العين، وذَكَر ما قيل فيهن، وأنشد في وصف حَوْراء:

غادة ذاتُ دَلال وَمَرَحْ

يَجدُ النًاعِتُ فيها ما اقترحْ

خُلِقَتْ مِن كل شيء حَسَن

طيب فاللَّيْثُ فيها مُطَّرَحْ

زَانَها الله بوجهٍ جُمِعَت

فيه أوصافُ غَريباتِ المُلَح (أ)

وبعين كُحلُها من غُنْجِها (ب)

وبِخَدٍّ مِسكُهُ فيه رَشح

ناعم يجري على صفحتِهِ

نَضرةُ المُلْكِ ولألاءُ الفرح

أتَرى خاطبَها يسمعُها

إذ تُدِيرُ الكأسَ طَوْرًا والقَدَح

في رياض مونق نَرْجَسُها

كلما هبَّتْ له الريحُ نَفَح

وهي تدعوه بِوُد صادق

مُلئ القلبُ به حتى طَفَح

يا حبيبًا لستُ أهوى غيرَه

بالخواتيمِ يتِم المُفْتَتَح

لا تكونن كمن جَدَّ إلي

مُنْتَهى حاجَتِهِ ثم جَمَح

لا، فما يَخْطُبُ مثلي مَنْ سَها

إنما يخطب مِثلي مَنْ ألح

قال: فماج الناسُ بعضُهم في بعض، واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لعبد الواحد: " يا أبا عبيد، ألستَ تعرف ولدي إبراهيم، ورؤساءُ أهل البصرة يخطبونه على بناتهم، وأنا أضربه عليهم، فمَد والله أعجبتني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فَكَررْ ما

(أ) المُلحَة: واحدة المُلَح من الأحاديث.

(ب) الغُنْج: بالضم، وبضمتين، والغُنَاج: الشكْل: الدلال، يقال: غنَجت الجارية، وهي غنِجة.

ص: 209

ذكرتَ من حُسْنِها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء، ثم أنشد:

تَوَلًدَ نورُ النورِ مِن نورِ وجهِها

فمازج طيبَ الطيبِ من خالص العِطْرِ

فلو وَطئَتْ بالنعِل منها على الحصى

لأعْشَبَتِ الأقطارُ من غير ما قَطْر

ولو شِئتَ عَقدَ الخَصْرُ منها عُقْدَتَه

كغصن من الريحان ذي ورق خُضْرِ

ولو تَفَلَتْ في البحر شَهْدَ رُضابها (ج)

لطابَ لأهل البَر شرب مِنَ البحر

يكادُ اختلاسُ اللحظِ يجرح خَدَّها

بجارحِ وَهْمِ القلبِ من خارجِ السترِ

فاضطرب الناسُ أكثر، فوثبت أم إبراهيم، وقالت لعبد الواحد:" يا أبا عبيد، قد والله أعجبتْني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروسا لولدي، فهل لك أن تزوِّجَهُ منها هذه الساعة، وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعا لي ولأبيه في القيامة؟ "، فقال لها عبد الواحد:" لئن فعلتِ لتفوزَن أنتِ وولدك وأبو ولدِكِ فوزا عظيمًا "، ثم نادت ولدها:" يا إبراهيم "، فوثب من وسط الناس، وقال لها:" لبيك يا أماه "، قالت:" أي بُنَي، أرَضِيت بهذه الجارية زوجةً ببذل مهجتك في سبيله، وتركِ العَوْدِ فِي الذنوب؟ "، فقال الفتى:" إي والله يا أماه، رَضِيتُ أي رضًا "، فقالت:" اللهم إني أشهِدك أني زَوَّجت ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك، وترك العود في الذنوب، فتقبلْه مني يا أرحم الراحمين"، قال: ثم انصرَفَتْ، فجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت:" يا أبا عبيد، هذا مهر الجارية تَجَهَزْ به، وجَهِّز الغزاةَ في سبيل الله تعالى "، وانصرفت، فابتاعت لولدها فرسا جيدًا، واستجادت له سلاحا، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيمُ يعدو، والقراءُ حولَه يقرءون: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، قال: فلما أرادت فِراق ولدها، دفعت إليه

(ج) الرضاب: الريق المرشوف، وفُتات المسك، وقطع السكر، والبرد، ولعاب العسل.

ص: 210

كفنًا وحَنُوطًا، وقالت له:" يا بُنَيَّ، إذا أردتَ لقاء العدو فتكفنْ بهذا الكفن، وتحنط بهذا الحَنُوطِ، وإياك أن يراك الله مُقَصرا في سبيله "، ثم ضَمَّتهُ إلى صدرِها، وَقَبلَتْهُ بين عينيه، وقالت له:" يا بني لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عَرَصات القيامة ".

قال عبد الواحد: فلما بَلَغْنَا بلادَ العدو، ونُودِي في النفير، وبرز الناس للقتال، برز إبراهيمُ في المقدمة، فقتل من العدو خَلْقًا كثيرَا، ثم اجتمعوا عليه فقُتِل.

قال عبد الواحد: فلما أردنا الرجوعَ إلى البصرة قلت لأصحابي: " لا تُخبروا أمَّ إبراهيم بخبر ولدها، حتى ألقاها بحسن العزاء، لئلا تجزعَ فيذهبَ أجرُها "، قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناسُ يَتَلَقوْنَنَا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج، قال عبد الواحد: فلما نَظَرَتْ إليَّ قالت: " يا أبا عبيد، هل قُبِلتْ منى هَدِيتي فَأهنأ، أم رُدتْ عَلى فَأعزى؟ "، فقلت لها:(قد قُبِلَتْ هديتُكِ، إن إبراهيمَ حَي مع الأحياء يرزَق " (د)، قال: فخرت ساجدةَ لله شكَرا، وقالت:" الحمد لله الذي لم يخيب ظني، وتقبل نسكي مني "، وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد، فنادت:(السلام عليك يا أبا عبيدٍ بُشْراك "، فقال: " لا زلتِ مُبَشرةً بالخير "، فقالت له: (رأيت البارحةَ ولدي إبراهيم، في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاجٌ وإكليل، وهو يقول: (يا أماه أبشري، فقد قُبِلَ المهرُ، وزُفت العروس ")(هـ) .

(د) الصحيح أن يدعو له بالشهادة، أو يستثني فيقول:" إن شاء الله "، انظر: " فتح الباري، (6/ 89) .

(هـ) ذكر هذه القصة الشيخ محمود العالم رحمه الله في مختصره: (فكاهة الأذواق من =

ص: 211

كذلك كانت النساء في ذلك العهد الكريم مبعث كل شيء في نفوس أبنائهن، والأمر في ذلك ما قال رافع بن هُريم:

فلو كنتم لِمُكْيِسَة لكاست

وكَيس الأم يُعْرَفُ في البنينا

أما بعد:

فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام، وسمت بهن عظمته، وصدعت بقوتهن قوته، وعنهن ذاعت مكارمه، ورسخت قوائمه، وهكذا كانت الأم في عصور الإسلام الزاهية، وأيامه الخالية: مهبط الشرف الحر، والعز المؤثل، والمجد المكين، وصدق الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعبا طيب الأعراقِ

الأم روض إن تعهده الحيا

بالري أورق أيما إيراقِ

الأم أستاذ الأساتذة الألى

شَغلَتْ مآثرهم مدى الآفاق

= مشارع الأشواق، إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام) ص (26-29) ، للعلامة المجاهد أحمد بن إبراهيم النحاس رحمه الله.

ص: 212