المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل]مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915) - عودة الحجاب - جـ ٢

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الخامسة

- ‌ الباب الأول *

- ‌تمهيد

- ‌[فصل]المرأةسلاح ذو حدين

- ‌[فصل]القضية الأمالقرآن والسلطان

- ‌[فصل]بين الترقيع…والأصالة

- ‌[فصل]وضع المرأة ومسئولية الولاة

- ‌[فصل]موقف دعاة الإسلاممن قضية المرأة (52)

- ‌الباب الثانيإهانة الجاهلية للمرأة

- ‌[الفصل الأول]المرأة عند الآخرين (57)

- ‌[الفصل الثاني]المرأة عند العرب في الجاهلية

- ‌الباب الثالثشمس الإسلامتشرق على المرأة

- ‌[الفصل الأول]

- ‌مظاهر تكريم الإسلام للمرأة

- ‌[فصل]دحض بدعة المساواة المطلقةبين الرجل والمرأة

- ‌[فصل]الفروق بين الرجل والمرأة

- ‌مسألة: هل يجب تسوية الوالدينبين أولادهم الذكور والإناث في الهبة

- ‌عود على بدء

- ‌[الفصل الثاني]المرأة أُمًّا

- ‌[فصل]بر الوالدين بعد موتهما

- ‌[فصل]من مواقف الأم المسلمة

- ‌[فصل]الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء

- ‌[الفصل الثالث]المرأة بنتًا

- ‌[الفصل الرابع]المرأة زوجة

- ‌[فصل]الكفاءة في الزواج

- ‌فصلنص القرآن الكريم على تحريم نكاح الزانية

- ‌فصلوأما الأدلة على عدم اعتبار المال في الكفاءة:

- ‌فوائد

- ‌[فصل]الزوجيةبين الحقوق والواجبات والآداب

- ‌أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين

- ‌من مواقف الزوجة المسلمة

- ‌تنبيهات

- ‌ثانيا: حقوق الزوجة على زوجها

- ‌(أ) الحقوق المادية

- ‌(ب) الحقوق الأدبية

- ‌[فصل]لا نكاح إلا بولي

- ‌تنبيهات متفرقة

- ‌عود على بدءمن حقوق المرأة على زوجها

- ‌[فصل]مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)

- ‌ثالثًا: حقوق الزوج على زوجته

- ‌[فصل] (1220)في علاقة الابن بوالديه بعد الزواجوعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221)

- ‌[فصل]وفاؤها لزوجها

- ‌[الفصل الخامس]المرأة مؤمنةً مجاهدةً صابرةً

- ‌[الفصل السادس]المرأة عالِمةً

- ‌[فصل]صور من سيرة المسلمة العالمة

- ‌[الفصل السابع]المرأةُ…عابدةً

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌[فصل]مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)

[فصل]

مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915)

[قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، تتجلى من الاهتمام بشؤونها في كتاب الله زواجًا ورضاعًا وطلاقًا وإرثًا، واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وقد أحسَّ أعداؤنا - وهم يحاولون هدم هذه الأمة - صلابة هذه اللبنة، وقوة هذا الحصن.. ومن أجل ذلك كان في الحقبة الأخيرة هجوم مركز على الأسرة، استخدموا له كل القوى التي يمكن أن تصل إلى أيديهم، وما أكثرها! ! (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) لقد استخدموا سن القوانين التي تفتت الأسرة في كثير من بلاد المسلمين، وشنوا حملات عليها من طريق الفنّ بواسطة وسائل النشر والإعلام من قصص وصحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، ومازالوا في طريقهم ماضين.

ويساعد هذه الحملاتِ المسعورة - في أحيان كثيرة - سيطرةُ النزعة المادية على سواد الناس.

ومما يؤسف له أنّ هذه الأسرة المستهدفة من قبل الأعداء مهددة أيضًا من قبل أصحابها المسؤولين عنها

وإن المسؤولية في الأسرة يتحملها الرجل في قطاع كبير قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع ومسؤول عن رعيته.. والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته " كما أن المرأة أيضا تتحمل مسؤولية قررها

(915) اختصرت هذا الفصل من كتاب " نظرات في الأسرة المسلمة " لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله، بتصرف من ص (28- 31) ، (90-93) ، (142-147) ، (160) .

ص: 378

رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها "، إن على كل أب وكل أم أن يستشعر هذه المسؤولية نحو الأسرة.. فهناك خطر داهم ماحق خطير، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي إن خسرناها نكون قد أضعنا كرامتنا وديننا ومجتمعاتنا، ذلك لأن أكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات: في المدرسة.. ومناهج التعليم.. في السوق والمتجر والمصنع.. في وسائل الإعلام وأدوات تكوين الرأي العام.

وقد حيل - في كثير من بلاد المسلمين - بين الدعاة العاملين والناس، ولم يبق لهذه العناصر المسلمة الخيرة من مجال إلا الأسرة، نعم بقيت المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة.. ونحن لا نودُّ أن نلقي اللوم على الأعداء ونبرئ أنفسنا.. إن كثيرا منا يتحمل في هذا الأمر أكبر نصيب في المسؤولية، ويحسن بنا أن نذكر أهم الأمور التي تعرض الأسرة للخطر الماحق، والتي تعود إلينا نحن، إن الأمور الخمسة الآتية أهم ما يرد في هذا المجال وهي:

1-

عدم تقدير المستقبل:

كثيرًا ما يتصرف المرء بعض التصرفات، ولا يقدر أثرها في المستقبل، فقد يتصور أن سكوته على أمر ما هين يسير، ولكن ذلك يهدم الأسرة هدمًا تاما، وقد يتصور أن أولاده صغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من ورقته الثمين فهو يضحك منهم، ويسخر منهم، ولا يأمر واحدا منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من منكر.. ولا يقدر المستقبل؛ ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلًا كبيرًا، قد يكون له شأنه في البيت، بل في المجتمع كله.

2-

روح اللامبالاة:

وقد سرت هذه الروح في عدد من أبناء أمتنا المجيدة، مع أن الإسلام

ص: 379

يربي في أبنائه الشعور بالمسئولية، وينمي فيهم الاهتمام بشؤون المسلمين، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا تأثير فيه، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله؛ إن هذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة؛ إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقًا وترك وشأنه انطلاقًا من روح اللامبالاة لهلك وهلك ركاب السفينة جميعا.

3-

سيطرة التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين:

وهذا أمر في غاية الأهمية؛ إذ نرى أن كثيرا من هذه التقاليد التي لم يشرعها الله تحل محلّ الدين في كثير من بلاد المسلمين، ومكن لها من السيطرة الجهل بدين الله وتخلف الوعي الإسلامي، وهي تختلف من بلد إلى بلد، ولكنها في هذه البلاد جميعا تسيء في عملية بناء الأسرة بناء متينًا أو في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعاصير.

4-

تسلط المرأة على التوجيه وإدارة البيت:

إن من النقص أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، ومن شأنه أن يكون مُطاعًا لا مطيعًا، ومتبوعا لا تابعا:

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه

فإن شاء أعلاها وإن شاء سَفَّلا

وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباسًا لا يقره الإسلام بحجة أنهنّ صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون وأن المصلحة في مسايرة الزمان، ويضعف الرجل ويوافق.

وقد ترى المرأة أن تقوم بألوان من الاستقبالات التي لا يقرها

ص: 380

الإسلام، يضعف الرجل ويوافق، وفي هذا ما فيه من الهدم للأسرة.

وإنه انتكاس للأمور يمكن أن يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أمارات الساعة فقال: " أن تلد الأمة ربتها "، وليس معنى هذا أن نلغي شخصية المرأة

لا.. ولكنها القوامة.. التي جعلها الله للرجل في حدود شرعه، ومهما يكن من أمر فإن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطرًا وأعظم أثرًا) .

وقد تطغي مشاعر الأمومة الحانية، والأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، و (إزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الأولاد، وإدخال السرور عليهم، وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه الكابح.. إذ إن هذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر أطفال صغار، ومسارع في تحقيق رغبات هؤلاء الذين لا يعرفون من الحياة شيئًا، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم.

وإن كثيرا من أجيال المسلمين اليوم في عدد من بلاد الإسلام لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي.. ومن أجل ذلك تجد في صفات كثير من مسلمي اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة (917) .

(917) يقول الدكتور الصباغ حفظه الله:

(سمعتُ من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشده لتربية ابن له أو بنت ولدت حديثا، فسأله كم عمرها؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى ما يريد، ويكبر على هذا.. فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن.. يظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه) اهـ هامش ص (146-147) .

ص: 381

وعندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطرًا على البيت، كانت شدته وصلابته تخففان من لين الوالدة، وتكفكفان من تدليلها الأولاد.. أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوساط، وأصبح الرجل في بيوت هذه الأوساط لا مهمة له إلا القيام بالخدمات، وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع الفلوس والنفقات، ولم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير التافه، كان هذا الجيل المائع المنهار.

5-

الشغل المتواصل:

أصبح ربُّ الأسرة - في معظم الأحيان - عاجزًا عن أن يجد الوقت الذي يجتمع فيه بنفسه أو بأفراد أسرته يوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم، حتى إن زوجته لا يتاح لها أن تجلس معه وتتفاهم معه على الخطة الرشيدة التي يجب أن يسير بموجبها أفراد الأسرة، ففي الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا لتناول طعام الغداء وأخذ قسط من الراحة تمنع خلاله الحركات والهمسات ولا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نيامًا، وإذا كان هذا الوضع مستنكرًا صدوره من عامة الناس فإنه من المتدينين أشد، واللوم لهم أكثر؛ ذلك لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه - بعد مدة - في واد، وزوجته وأولاده في وادٍ آخر، وسيندم ولات ساعة مَنْدم، ومن المؤسف أن هذا الشغل لم يقتصر على الرجل بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها سحابة النهار وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة.. فيكون من ذلك الضياع التام.

والشغل متنوع، وأكثره في الدنيا والكسب، غير أن هناك نوعًا غريبًا جدا من أنواع الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس

وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة؛ يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا

ص: 382

وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6)، (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه:132) ، وهذا الإهمال لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، وعندئذ لا يقوى على الاستمرار في الدعوة إلى الله.. إذ سرعان ما تلوكه الألسنة، ويقال له:" إن كنت صادقا فأصلح بيتك "، ويكون هذا الوضع الخاص مضعفًا لتأثيره في الناس لأن معنى القدوة يفوت بوجود مثل هذا الوضع، ويكون ذلك سببا في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وفي أن تتولد فيه عقد، وتواجهه مشكلات، قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة.

أيها الزوج العروس:

- لا تنشغل طويلًا عن أهلك، واعلم يا أخي أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتا ضائعًا، لا سيما إن كانت المحادثة تسير في طريق هادف وتسعى نحو قصد محدود، إنّك بذلك تفهم زوجك، وتتيح لها أيضًا أن تفهمك، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى للمعاشرة الحسنة، وكم رأينا في واقع الناس أزواجًا يقضون العشر والعشرين من السنين ولا يفهم أحدهما الآخر.... وكان ذلك سببًا من أسباب النكد والشقاق، إنك يا أخي بجلوسك إلى أهلك ومحادثتك إياها تفسح المجال لك لتقنعها بكثير من آرائك التي تبدو غريبة عليها بادئ الأمر، والكلام أول مرة لا يترك الأثر المطلوب، ولا يلمس الإنسان نتيجته، ولكن التكرار وحسن اختيار الوقت المناسب، والأسلوب المناسب في عرض الفكرة وضرب الأمثلة الكثيرة لابدَّ من أن يترك أثرا كبيرا في الإنسان.

واعلم يا أخي أن الحديث الطويل الهادف غير الممل، والمؤانسة المهذبة الممتعة يُمدان الحياة الزوجية بالقوة والنماء وأفضل الغذاء، وَلتَضَعْ نُصب

ص: 383

عينيك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله "(918)، وفي رواية:" كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله ".

وعن عطاء بن أبي رباح قال: " رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان، فمل أحدهما فجلس، فقال له الآخر: كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة " (919) .

واذكر يا أخي قصة أبي الدرداء مع سلمان رضي الله عنهما، روى البخاري رحمه الله عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة) فقال: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، [أي في النساء، وجاء في رواية الدارقطني: (في نساء الدنيا) وزاد في رواية ابن خزيمة: (يصوم النهار ويقوم الليل) ] .

فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما.

(918) أخرجه الإمام أحمد (4/148)، وأبو داود رقم (2513) في الجهاد: باب في الرمي، والترمذي رقم (1637) في فضائل الجهاد، وقال:" حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (2811) ، والدارمي (2/205) ، والطحاوي في " المشكل"(1/119)، وانظر:" الصحيحة" رقم (315) .

(919)

أخرجه النسائي في "عشرة النساء" رقم (52) ، والطبراني في الكبير"، والبزار، وقال المنذري في " الترغيب" (2/170) : " بإسناد جيد"، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (315) .

ص: 384

فقال له: كُلْ؛ فإني صائم.

قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم.

فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له:" نم"، فلما كان آخرُ الليل قال سلمان:(قم الآن) ، فصليا جميعًا، فقال له سلمان:" إن لربِّك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه ".

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" صدق سلمان"(920) .

نعم إن لأهلك عليك حقا، فللأهل حق، ولله حق، وللنفس حق، والمسلم مطالب أن يعطي كل ذي حق حقه، إنّ الموازنة بين هذه الحقوق أمر مطلوب، ولا يقوى عليه إلا الواعون، والتفريط في هذه الموازنة تفريط في الحياة المتكاملة.

أيها السادة:

هناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بكسب المال، فترى الواحد منهم يكدح طوال النهار وطرفًا من الليل، ولا يعود إلى داره إلا مكدود الجسم، مهدود القوى، قد استنفد طاقته حتى لم يعد لديه استعداد لحديث ولا مؤانسة.. فيخلد إلى الفراش منهارًا مضعضعًا.. وقد يأتي فيجد أهله في نوم عميق بعد أن طال عليها الانتظار.

قد يكسب من وراء هذا السلوك المال.. ولكنه يعرض نفسه لخسران الحياة الزوجية.

(920) تقدم تخريجه برقم (652) .

ص: 385

وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بمعاشرة الأصدقاء، وحضور الحفلات والسهرات، والاشتراك في الرحلات، فترى الواحد منهم بعيدًا عن بيته وأهله في معظم الأوقات.. وإن لم يذهب من الدار جاء هؤلاء الأصدقاء إليه وكان مكلفًا بقِراهم وخدمتهم، وهو بطبيعة الحال سيدعو زوجته إلى إعداد ما سيقدم إلى ضيوفه من أنواع الطعام والشراب.

إن هذا الإنسان قد يكسب ودّ عدد من الأصدقاء، وقد يكسب سمعة اجتماعية جيدة ولكنه يعرض نفسه إلى خسران السعادة البيتية.

وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بأمور محمودة كما شغل أبو الدرداء عن زوجته، فتراهم في ذكر وعبادة، ونصح للناس ودعوة، وقراءة وكتابة.

إن هؤلاء فقدوا القدرة على الموازنة بين الحقوق المتعددة، وفقدان القدرة على هذه الموازنة يورث خللا واضطرابا في الحياة الداخلية للفرد منهم.

في حياته مع زوجه وأولاده، إن الأهل والذرية من أحق الناس بالعناية وبأن توجه الدعوة إليهم، إن الواحد من هؤلاء الذين فقدوا القدرة على تلك الموازنة لا يلبث أن يستيقظ من غفلته، فإذا هو في واد، وزوجته وأولاده في واد آخر، أفكاره غير أفكارهم، ومواقفه تختلف عن مواقفهم، وسلوكه في الحياة بعيد عن سلوكهم وذلك لأنه ترك أهله خاضعين لمؤثرات أخرى من وسائل الإعلام والصحافة ومن البيئة التي قد يسود فيها الانحراف، والعلاقات والقرابات، وربما كان كثير منها لا يتفق مع اتجاهه في الحياة، ومن أصعب الأمور على النفس أن يرى المرء زوجه وأولاده يسيرون في طريق الزيغ والانحراف والضلال.

إن هؤلاء الذين يشغلون عن أهليهم يجنون بعد حين الصاب والعلقم، ويتجرعون غصص العناء والشقاء، والحياة اليوم معقدة الجوانب، مترعة

ص: 386

بأسباب التأثير، أعرف رجلًا متدينًا انصرف في أول حياته الزوجية إلى عمله فجد واجتهد، وكان لا يأتي إلى داره إلا للطعام والنوم، ثم يخرج ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، فإذا جاءت الإجازة ترك زوجته مع أهلها وسافر إلى البلاد الأجنبية في تحقيق أمور تتصل بعمله

فكان من جراء ذلك تدمير الأسرة وتشرد الأولاد وعانى هو من وراء ذلك أعظم الصعوبات.

إنَ الانشغال عن الأهل تفريط في حق الرجل والأسرة، وظلم بين، إذ كيف يسوغ للإنسان أن يحبس زوجه وينطلق هو في عمله وزياراته وقراءته وكتابته وعبادته، ويترك شريكة حياته نهبا للوساوس والخطرات، والوحشة والأزمات، أو يتركها للانغماس في المجتمع الذي يسير في طريق آخر.

فاتق الله يا أخي ووازن بين الحقوق، ومنها حق الأهل، وليكن لك مع أهلك وقت تملؤه بالمؤانسِة العذبة الهادفة والحديث المؤثر الجذاب، وفقك الله ورعاك] اهـ.

وقال فضيلته في موضع آخر:

[إن كثيرًا من الصالحين يشغلون عن أولادهم بأمور عامة تتصل بالدعوة، ويحسبون أنهم بذلك يقومون بخدمة جليلة، وذلك لعمر الله تقصير كبير، إن أحق الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش، وبهم تعرف، وشرهم وخيرهم مقرون بك، وقد تضطرك الأيام إلى أن تكون بحاجة برهم: ورعايتهم، وقد يفيدك أن تحظى بدعوة من أحدهم تخفف عنك ما أنت فيه من الضيق والكرب بعد موتك، أو تزيدك من الخير في آخرتك، من أجل ذلك أود أن أقترح ما يلي:

1-

لابد من أن تخصهم بجلسة أسبوعية على أقل تقدير، وإن استطعت أن تكون في مدة أقل كان أحسن.

2-

إقامة حلقات للأولاد يتولاها ناس ظلهم خفيف ودينهم جيد وبيانهم

ص: 387

مشرق وإن كانت مستوياتها مختلفة للابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي فهو أفضل (فالمرء على دين خليله) .

هذه أمور بأيدينا نحن فلنتق الله فيها.. ولنصلح الفاسد.. ولنحذر غرق سفينة المجتمع.

إن الأسرة هي القلعة الأخيرة التي ينبغي أن نقف حياتنا وإمكانياتنا لحمايتها وحفظها وإنا لمسؤولون] اهـ.

(6)

ومن حقها عليه: أن يغار عليها ويصونها

إن من حب الرجل لزوجته أن يغار عليها، ويحفظها من كل ما يلم بها من أذى في نظرة أو كلمة، والزوجة أعظم ما يكنزه المرء، فلا يليق به أن يجعلها مضغة في الأفواه، تلوكها الألسنة، وتتقحمها الأعين، وتجرحها الأفكار والخواطر.

كلا! إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة، ومن هنا كان كرام الرجال وأفذاذ الشجعان يمتدَحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة، ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون.

وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة، والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة، ومتى ما تحين الرجل الفرص ليأخذ امرأته على غرة، التماسا لعثرة منها بدون أي ريبة كانت هذه غيرة مذمومة، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن من الغيرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة "(921) .

(921) رواه من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه مرفوعا: الإمام أحمد (5/ 445، 446) ، =

ص: 388

إن الرجل هو صاحب القوامة، والمسؤول الأول في الأسرة، والمحافظ على أفرادها، وهو أبعد أهله نظرًا وتبصرًا في العواقب، فمن حقها عليه أن يغار عليها.

وقد نظم الإسلام هذا الأمر فيما نجمله بما يلي:

أولًا: أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية الا بإذنه، فهو أدرى بمصلحة الأسرة لأنه القيم عليها، فقد يكون في دخول أبيها أو أخيها أو أمها مفسدة عليه في أسرته.

أما الأجنبي فلا تأذن له بدخوله عليها، ولو أذن بذلك الزوج، لأنه إثم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ولا يُدخِل هو عليها من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة أو كلمة، ويشعل في البيت شرارة فتنة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خَبَّب (922) خادمًا على أهلها، فليس منا (923) ، ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا "(924) .

= وأبو داود (2659) ، والدارمي (2/149) ، وابن حبان (1313) ، والبيهقي (7/308)(وحسنه الألباني في " الإرواء " رقم (1999)(7/58) .

(922)

خَببَ: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة الأولى، معناه: خدع وأفسد، لأن يحبب إليها كراهية الزوج.

(923)

أي ليس على طريقتنا، ولا من العاملين بقوانين أحكام شريعتنا، وانظر:" فيض القدير "(6/123) .

(924)

أخرجه الإمام أحمد (2/397) ، والبيهقي (8/13) ، وبنحوه أبو داود (5170) ، (2175) ، والحاكم (2/196) ، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1319)، وقال الألباني في إسناده:" هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم " اهـ. من " الصحيحة" رقم (324) .

ص: 389

وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من حلف بالأمانة، ومن خَبَّبَ على امرئ زوجته أو مملوكته، فليس منا "(925) .

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والدخول على النساء"، قالوا:" يا رسول الله أرأيت الحمو؟ "، قال:" الحمو الموت "(926) .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا " تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي " (927)) .

(925) أخرجه الإمام أحمد (5/ 352) ، والحاكم (4/298) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبزار (1500- زوائد) ، وابن حبان (1318) ، وصححه المنذري في " الترغيب"(3/82) .

فائدة: تتعلق بحكم إفساد المرأة على زوجها:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا من أكبر الكبائر فإنه إذا كان الشارع نهى أن يخطب على خطبة أخيه، فكيف بمن يفسد امرأته أو أمته أو عبده، ويسعى في التفريق بينه وبينها حتى يتصل بها، وفي ذلك من الإثم ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يزد عليها، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة، فإن التوبة - وإن أسقطت حق الله - فحق العبد باق، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه) اهـ. كما نقله عنه المناوي في " الفيض"(5/385) .

ويكفى في التنفير عن هذا الجرم العظيم أن صاحبه يتلبس بفعل هو من أحب الأشياء إلى إبليس، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم، فيقول:" فعلت كذا وكذا "، فيقول:" ما صنعتَ شيئًا "، ثم يجيء أحدهم، فيقول:" ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته "، فيُدنيه منه، ويقول:" نِعْمَ أنت، فيلتزمه " رواه مسلم وغيره.

(926)

انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (47) .

(927)

رواه الإمام أحمد (3/38) ، وأبو داود (4832) ، والترمذي (2397) ، والدارمي =

ص: 390

ثانيًا: أن لا تخرج من بيته إلى مجتمعات الرجال، فتخالطهم في الحفلات أو السهرات العائلية، وغير العائلية، وفي الأسواق، ووسائل المواصلات، والمحلات التجارية، عن علي رضي الله عنه قال:" بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال! "(928) .

ثالثا: أن لا يعرضها للعنت فيطيل غيابه عنها، ولا يدفعها إلى الفسوق بمطالعة القصص الفاجرة والمجلات الخليعة، ولا يصطحبها إلى دور الملاهي والخيالة، ولا يسمعها أغاني الفحش والخنا، ولا يودع بيته جهاز " التلفاز " أو ما يسمى بـ " الفيديو " لترى مشاهدهما الآثمة، فإنهما من أعظم أسباب الفساد وتحطيم الأخلاق في هذا العصر، والناس عنهما في غفلة، بل هم فيهما على رغبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج، وإلى أماكن الفساد، ويعاشر المفسدين، فإذا قيل له: " انتقل من هذا المسكن السوء "، فيقول: " أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولى السكن، فهل له ذلك؟ ".

فأجاب: الحمد الله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء؛ بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين:

عقوبة على فجوره، بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته

= (2/103) والبغوي (13/ 69) ، والحاكم (4/128) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (2049) ، وحسنه الألباني في " تحقيق المشكاة "(3/1397) .

(928)

"المغني "(7/27) ، " الزواجر عن اقتراف الكبائر "(2/46) .

ص: 391

وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، والله أعلم) (929) .

(7)

ومن حقها عليه أن لا يَتَخوّنها، ولا يتلمس عثراتها وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها، وقد دل على ذلك أحاديث: منها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجلُ أهلَه طُروقًا (930) ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرقَنَّ أهله ليلًا، (931) وعن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلًا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية " (932) .

وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم " (933)، وعنه أيضًا بلفظ: " لا

(929)"مجموع الفتاوى"(32/264 - 265) .

(930)

رواه البخاري رقم (5243) في النكاح: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، ومسلم رقم (715) في الإمارة، وأبو داود رقم (2776)، والطروق: المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل: طارق، وأصل الطروق: الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقا لأنه يحتاج غالبا إلى دْق الباب، وقيل: بل هو من السكون، فلما كان الليل يسكَن فيه سمى الآتي فيه طارقًا.

(931)

رواه البخاري (9/296، 297) في النكاح، والحج، والإمام أحمد (3/396) ، وأبو نعيم في " الحلية "(8/262) .

(932)

رواه البخاري (3/493) في العمرة: باب الدخول بالعشي، ومسلم في الإمارة باب (56) رقم (180) - واللفظ له -، وأحمد (3/125، 204، 240) .

(933)

رواه الإمام أحمد (1/175) ، (3/302) ، وابن أبي شيبة (12/523) ، وأبو نعيم في " الحلية "(8/315) ، (9/26) .

ص: 392

تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم " (934) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله في طريق عاصم عن الشعبي عن جابر: " إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلًا، التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا، ويرجع ليلًا، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة، كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره: إما أن يجد أهله على غير أهبَة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين قدم معه من سفر: " إذا دخلت ليلًا (935) ، فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغِيبة، وتمتشطَ الشعِثة "، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة، لئلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرِّض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: " أن يتخونهم، ويتطلب عثراتهم " (936) .

(934) أخرجه الإمام أحمد (9/309) ، والترمذي رقم (1172) في الرضاع، (2713) في الاستئذان.

(935)

وفي رواية أنه قال: " أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا - أي عشاء - حتى تستحد المغيبة، الحديث رواه البخاري رقما (5245) ، (5246) في النكاح، ففي هذا: الأمر بالدخول ليلا، وقد ورد النهي عن الدخول ليلا، ويُجْمَعُ بينهما - كما قال الحافظ ابن حجر: (بأن المراد بالأمر بالدخول: في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه، أو الأمر بالدخول ليلا لمن علم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك) اهـ. انظر " فتح الباري" (9/342) ، وفي سنن أبي داود رقم (2777) بلفظ: " إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أولَ الليل ".

(936)

وفي معناه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين =

ص: 393

فعلى هذا من علم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا، لا يتناوله هذا النهى، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال:

(قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، فقال: " لا تطرقوا النساء "، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون)، قال ابن أبي جمرة - نفع الله به -:" فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلًا، فعوقب بذلك على مخالفته " اهـ، وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره "، وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه، وقال فيه:" فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا "، ووقع في حديث محارب عن جابر:" أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلًا، فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا " أخرجه أبو عوانة في صحيحه.

وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصًا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفي عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك نهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى) (937) اهـ.

= أفسدتهم أو كدتَ أن تفسدهم) رواه أبو داود، وصححه النووي، والمناوي كما في " فيض القدير"(1/559) .

(937)

"فتح الباري"(9/340 - 341) .

ص: 394

(8)

ومن أعظم حقوقها المعاشرة بالمعروف

" إني أحَرجُ عليكم حَق الضعيفين:

اليتيم والمرأة " (938)

(حديث شريف)

توارد القول الكريم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في محاسنة الزوجات وموادعتهن، ولبُسهن على بعض ما فيهن، مما يفيض رفقًا ورحمة، ورعاية وعناية، وحسبك أن الله عز وجل جعل المرأة من آيات الله ومنته على الرجل، وجعل المودة والرحمة والألفة عقدة الصلة بينهما، فذلك حيث يقول جل وعلا:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجَا لتسكنوا إليها وجل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ولقد كفى وشفى في الأمر بحسن المعاشرة آية جليلة جامعة، بها تنزل الوحي الإلهي يتلى في المحاريب، ويتقرب به المتعبدون إلى الله سبحانه، فمن ذا الذي يستمع قوله تعالى:(وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا)(النساء: 19) ثم يجفو امرأته، أو يتسخطها بعد ذلك؟

قلب بين أعطاف هذه الآية بصرك، واملأ منها يدك، ورَو من معينها قلبك، ثم انظر هل تقيم على وجدانك، أو تقر على عاطفتك، فيما تكره من امرأتك؟ وما ظنك بأمر تكرهه ثم تظل على لجاجك فيه بعد أن مناك الله بالخير الكثير من ورائه؟ وأين ذلك من حسن الثقة وتمام الإيمان بالله؟

(938) أخرجه ابن ماجه (3678) ، وابن حبان (1266) ، والحاكم (1/63) ، (4/128) ، وأحمد (2/439)، وقال الحاكم:" صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1015) .

ص: 395

ولقد شَبه الله تعالى حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين، فقال تعالى في حق الوالدين:(وصاحبهما في الدنيا معروفًا)، وقال تعالى في حق الزوجات:(وعاشروهن بالمعروف) .

وقوله تعالى: (وعاشروهن) قال السدي: " وخالطوهن "، وقال ابن جرير:(كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو " خالقوهن ")(939) ، (بالمعروف) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل.

قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) :

قال القرطبي: (أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عِشْرة، زوجًا كان أو وليًّا، ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: (فإمساك بمعروف) ، وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبِس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون مُنطَلِقًا في القول لا فَظا ولا غليظًا ولا مُظهرًا ميلًا إلى غيرها) (940) اهـ.

وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كُنَّ ممن لا يخدمن أنفسهن، قال ابن كثير:((وعاشروهن بالمعروف) أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى:(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) الآية) - البقرة (228) .

قوله تعالى: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا)(النساء: 19) قال القرطبي رحمه الله: ((فإن كرهتموهن) أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛

(939)" تفسير الطبري"(4/313) .

(940)

" الجامع لأحكام القرآن "(5/97) .

ص: 396

فهذا يُنْدَبُ فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين

قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنةً إن كرِه منها خُلقًا رضي منها آخر " أو قال: " غيره"، المعنى: أي لا يُيْغِضها بغضًا كُليا يحمله على فراقها، أي لا ينبغي ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب.

وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: " إن الرجل ليستخير الله تعالى فَيُخار له، فيسخط على ربه عز وجل، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خِيرَ له.

وذكر ابن العربي بسنده عن أبي بكر بن عبد الرحمن: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة، وكانت تُقَصر في حقوقه، وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويُعذَلُ بالصبر عليها، فكان يقول:" أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بُعثت عقوبة على ذنبي، فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها " قال علماؤنا: في هذا - أي ما تقدم من الآية والحديث - دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة) (941) اهـ.

(قوله تعالى: (فإن كرهتموهن) أي إن كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك (فعسى أن تكرهوا شيئا) كالصحبة والإمساك (ويجعل الله فيه خيرًا كثيراً) كالولد والألفة التي تكون بعد الكراهة، والمعنى: فإن كرهتموهن

(941)"الجامع لأحكام القرآن"(5/98) بتصرف.

ص: 397

فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل (لكم) فيما تكرهونه (خيرًا كثيرًا) فإن النفس ربما تكره ما يحمد، وتحب ما هو بخلافه، فليكن مطمع النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر" شيئًا " و " خيرًا " ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة، وتعميمًا للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه) (942) اهـ.

[ (وعن ابن عباس في قوله تعالى: (ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا) قال: " الخير الكثير أن يعطف عليها فيُرزق الرجلُ ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا "] .

(وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: فإذا وقع بين الرجل وبين امرأته كلام، فلا يعجل بطلاقها وليتأن بها، وليصبر، فلعل الله سيريه منها ما يحب، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: عسى أن يمسكها وهو لها كاره، فيجعل الله فيها خيرا كثيرًا) ] (943) .

وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: [وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبهت على معنيين: أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودًا، ومحمودٍ عاد مذموما، والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبًا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يُحب، وأنشدوا في هذا المعنى:

ومن لم يُغْمِضْ عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ

ومن يتتبع جاهدًا كل عَثرَة

يَجِدْها، ولا يسلمُ له الدَّهرَ صاحبُ] (944)

(942)"روح المعاني"(4/243) .

(943)

"الدر المنثور"(2/133) .

(944)

"زاد المسير"(2/42) .

ص: 398

ومما يرمي إلى ذلك الغرض الجليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَكُ مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر - أو قال: غيره "(945) .

والفِرك: هو بغض أحد الزوجين الآخر، (والفارك هو المبغض لزوجته، ومن هذا المعنى قول الرضى:

رمت المعالي فامتنعن ولم يزل

أبدًا، يمانع عاشقًا معشوق

فصبرت حتى نلتهن ولم أقل

ضجرًا دواء الفارك التطليق) (946)

فلا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره، لأنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر، فيقابل هذا بذاك (947)، وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال لرجل طلق امرأته:" لم طلقتها؟ "، قال:" لا أحبها "، فقال:" أوَ كل البيوت بني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟ ".

وعن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة خُلِقت من ضلع، وإنك إن تُرِد إقامة الضلع تكسرها، فدارِها، تَعِشْ بها "(948) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة

(945) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسلم رقم (63) في الرضاع: باب الوصية بالنساء.

(946)

"فتح المنعم"(3/264) .

(947)

"شرح الأبي لصحيح مسلم"(4/100)، وقيل: (الحديث خبر لا نهي، أي: لا يبغض الرجل بغضًا تاما، ويعني أن بغض الرجال للنساء بخلاف بغض النساء للرجال اللاتي يكفرن العشير، فإنها إذا رأت منه ما تكره قالت:" ما رأيت منك خيرًا قط"، ألا تراه كيف قال:" إن كره منها خلقًا رضي منها آخر؟ ".

(948)

رواه الإمام أحمد (5/8) ، وابن حبان (1308) ، والحاكم (4/174) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في " صحيح الجامع"(2/163) .

ص: 399

خلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها " (949) ، وعنه أيضًا بلفظ: " واستوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج (950) ، استوصوا بالنساء خيرًا (951) ، ومعنى " خلقت" أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة " من ضِلَع " واحد الأضلاع، فالمراد أن أول النساء خلقت من ضلع، أو المراد التمثيل، قال القاضي:" استعير الضلع للمعوج صورةً ومعنى "، فيكون المراد: إنها مثل الضلع، ويشهد له قوله:" لن تستقيم لك على طريقة".

والعَوج: بفتح العين في الأجسام، وبكسرها في المعاني، قوله:" إن ذهبت تقيمها كسرتها " (أي إن أردت منها تسوية اعوجاجها أدى إلى فراقها، فهو ضرب مثل للطلاق، قوله:" وإن تركته" أي لم تقمه " لم يزل أعوج " فلا تطمع في استقامتهن، قوله: " وإن أعوج شيء في الضلع

(949) رواه مسلم في " الرضاع" رقم (61) ، والحميدي (1168) .

(950)

فيه إشارة إلى الصبر على اعوجاجهن لأنه في الغالب طبع فيهن، ولا يردن به شرا، ومن أراد تقويم المرأة تقويمًا تاما فقد طلب المحال، والعشرة كلها تحتاج إلى صبر وعفو وحلم سواء أكانت مع الرجال أم مع النساء.

(951)

رواه البخاري (9/206) ط. السلفية، ومسلم في " الرضاع" رقم (62) .

فائدة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان مقصود قوله صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا " الحديث: (يؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبِعَت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة) اهـ " فتح الباري"(9/207) .

وقال رحمه الله أيضا: (وفيه رمز إلى التقويم برفق، بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه، وإلى هذا أشار البخاري في الباب) اهـ. (9/206) .

ص: 400

أعلاه " ذكر تأكيد لمعنى الكسر، وإشارة إلى أنها خلقت من أعوج آخر الضلع، مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن، أو ضربه مثلًا لأعلى المرأة، لأن أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الذي يحصل به الأذى، وقوله:

" استوصوا بالنساء خيرًا " الاستيصاء قبول الوصية، فالمعنى: أوصيكم بهن خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهن، فإنهن خلقن من ضِلَع أعوج، فلا يتأتى الانتفاع بهن إلا بأن يداريها، ويلاطفها، ويوفيها حقوقها، أو تكون السين للطلب مبالغة، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية والنصيحة من غيركم بهن، وقد نظم بعضهم معنى هذا الحديث فقال:

هي الضلع العوجاء لست تقيمها

ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

تجمع ضعفًا واقتدارا على الفتى

أليس عجيبا ضعفها واقتدارها؟ ! (952)

رَأي أفِينٌ (953)

حكى منشيء المنار الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنه بقي يدرس مسألة النساء والحياة الزوجية بعمق وتدبر للواقع في بلاد المسلمين والإفرنج مدة ثلث قرن ونيف، وأنه كتب فيها، وناظر المشتغلين بها، والداعين إلى المساواة بين النساء والرجال في الجامعة المصرية فحكمت له الأكثرية الساحقة منهم بالفلج وإصابة صميم الحق، ثم قال رحمه الله تعالى:

(وإنني أعتقد بعد هذا الدرس الطويل العريض العميق، وما اقترن به من الاختبار الدقيق، أن ما يراه الكثيرون من أهل الغرب والشرق من

(952) انظر: " فيض القدير"(1/503) ، و"شرح الأبي"(4/99 - 100) .

(953)

الأفين والمأفون: الضعيف الرأي والعقل.

ص: 401

نوط السعادة الزوجية بتعارف الزوجين قبل الزواج، وعشق كل منهما للآخر، هو رأي أفين، أثبت الاختبار (954) بطلانه، وأن تحاب الشبيبة لا ثبات له بعد الزواج غالبًا، بل كانت العرب تقول:" إن الزواج يفسد الحب".

وإنما القاعدة الصحيحة لهناء الزوجية ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها إليه، وصرحت له بأنها لا تحبه، فقال لها:" إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا، فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام "، يعني أن التزام كل من الزوجين لحفظ شرف الآخر والعمل بما يرشد إليه الإسلام من الواجبات والآداب الزوجية هو الذي تنتظم به الحياة الزوجية، ويعيش الناس به العيشة الهنية.

وينبغي لكل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في قلبه، فإن التطبع يصير طبعًا، ورحم الله عُليَّة بنت المهدي أخت هارون الرشيد حيث قالت:

* تَحَببْ فإن الحبَّ داعيةُ الحب *

فإنه في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم ") (955) انتهى كلامه رحمه الله، وما أشار إليه من قول عمر رضي الله عنه للمرأة التي خاصمت زوجها، جاء مفصلًا في الخبر التالي:

(954) يعني بعد ثبوت حكم الشرع بمنع الاختلاط مع الأجنبي ولو كان خاطبا، مع حرص الشرع على حصول المودة بينهما قبل الشروع في الزواج بإباحته النظر للمخطوبة وتعليل ذلك بأنه " أحرى أن يؤدم بينهما "، وانظر:" القسم الثالث" ص (51-60) .

(955)

"حقوق النساء في الإسلام" ص (187 - 188) .

ص: 402

(رُوي أن ابن أبي عُذرة الدؤلي - أيام خلافة عمر رضي الله عنه كان يخلع النساء اللائي يتزوج بهن، فطارت له في النساء من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته:

- أنشدك بالله هل تبغضينني؟

قالت: لا تنشدني بالله.

قال: فإني أنشدك بالله.

قالت: نعم.

فقال لابن الأرقم: أتسمع؟

ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه، فقال: (إنكم لَتَحَدَّثُونَ أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ "،

فقالت: إني أول من تاب، وراجع أمر الله تعالى، إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب) (956) .

فمع غلظ تحريم الكذب، وتشديد الشرع فيه، غير أنه أباح طرفًا منه ليستصلح الرجل زوجته، ويستطيب نفسها: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرا "، قالت: " ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس،

(956) انظر: " شرح السنة"(13/120) .

ص: 403

وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجَها " (957) .

(957) رواه البخاري (5/220) في الصلح: باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ومسلم (2605) في البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان المباح منه واللفظ له، والإمام أحمد (6/404) من وجه آخر، والبغوي في " شرح السنة" (13/117) وقال رحمه الله:(وأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعددَها ويمنيها، ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها، ويستصلح به خلُقها، والله أعلم) اهـ. (13/119)، وفي حديث أسماء بنت في يزيد رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث" الحديث، وفيه:" والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك" رواه الترمذي (1940) ، وحسنه، وأحمد (6/454، 459، 460) وفيه شهر بن حوشب، وانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (545)

ص: 404

[فصل]

أصفى السرور: اجتماع المودة والرحمة

(قد يجعل الله سبحانه المودة في الرجل ولا يجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق الجفاة الأراذل، يحب أحدهم زوجته لكنه يعاملها معاملة المبغض من الضرب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وقد يكلفها أعمالًا شاقة، ويُضَيِّقُ عليها في النفقة الواجبة، وقد يتزوج عليها فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا مُطَلقة.

وقد يجعل الله الرحمة في الشخص ولا يجعل فيه المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاشرها بكرم الأخلاق، وجميل الوفاق، وبالعطف واللطف والإنفاق، إن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وان الكمال التام متعذر من رجل وامرأة، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص بحسبه، غير أن الناس يتعاشرون بالشرف، وتندر البيوت المبنية على المحبة، والرجل الكريم صاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فأنجبت له أولادا كرامًا قاموا بنفعه، ونشروا فخر ذكره، (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرَا) ، وكم من رجل فُتِن بمحبة امرأة فأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله وخلقه (وعسى أن تحبوا شيئَا وهو شر لكم)) (958) .

ولقد رفع الإسلام حسن الخلق إلى أعلى المقامات، وكان صلى الله عليه وسلم نهاية

(958)"قضية تحديد الصداق" ص (23-24) .

ص: 405

العالَم في حسن الخلق، ولذا قال الله تعالى في حقه:(وإنك لعلى خلق عظيم) فما بالك بما يستعظمه الحق جل شأنه؟

بل جعل الله عز وجل تتميم صالح الأخلاق أحد المقاصد الرئيسية لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق "(959) وفي رواية: " مكارم الأخلاق".

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن "(960) .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أراد سفرا، فقال:" يا رسول الله، أوصني"، فكان من وصيته صلى الله عليه وسلم:" استقم، وليحسن خُلُقُكَ للناس"(961) .

وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعًا: " أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا "(962) .

(959) رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (273) ، وابن سعد في " الطبقات، (1/192) ، والحاكم (2/613) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/318) ، ورواه الإمام مالك في " الموطأ " بلاغا (2/904) في حسن الخلق، وقال الحافظ ابن عبد البر: (وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره) اهـ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقم (45)

(960)

رواه الترمذي رقم (1988) في البر: باب ما جاء في معاشرة الناس، وحسنه. (961) عجز حديث أخرجه ابن حبان (1922) ، والحاكم (4/244) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة، رقم (1228) .

(962)

رواه الطبراني كما في " الترغيب، (3/259) ، و " المجمع" (8/24) ، وقالا: (ورواته محتج بهم في الصحيح) اهـ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (433)

ص: 406

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلى وأقربكم منى في الآخرة مجالسَ أحاسنُكم أخلافا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا، الثرثارون، المتفيهقون المتشدقون "(963) .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" (964) .

ولم يكتف الشرع بعموم النصوص التي تحض على حسن الخلق مع الخلق كافة، بل خص النساء بذلك، وجعل حسن الخلق معهن معيار الخيرية والفضل.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقًا، وخياركم: خياركم لنسائهم، (965) .

إن الزوجة أمانة ووديعة يسلمها وليُّها لمن يحافظ عليها، ويتقي الله فيها، ويحسن صحبتها، عن حجر بن قيس قال: (خطب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، فقال: " هي لك على أن تحسن

(963) أخرجه الترمذي رقم (2019) في البر والصلة: باب ما جاء في معالي الأخلاق، وقال:" حسن غريب من هذا الوجه " وفي سنده مبارك بن فضالة صدوق يدلس ويُسوي، وله شواهد كما في " الترغيب والترهيب"(3/261) .

(964)

أخرجه الترمذي رقم (2003) ، (2004)، في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق، وأبو داود رقم (4799) في الأدب، و " البزار بإسناد جيد " كما في " الترغيب والترهيب"(3/256) .

(965)

أخرجه الترمذي (1/217 - 218)، وقال:"حسن صحيح"، والإمام أحمد (2/250، 472) ، ومن طريق أخرى أخرجه ابن حبان (1311) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (284) .

ص: 407

صحبتها " (966)) .

وإن مما يعين المؤمن على الصبر على أهله، وكف الأذى عنهم، وحسن الخلق معهم، تذكر ساعة فراق الأحباب، التي قد تأتيه بغتة، ولابد أن تأتيه وإن طال العمر، كما رَوى سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا:(أتاني جبريل عليه السلام فقال: " يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به " (967)) .

أيا فرقة الأحباب لا بُد لىِ منكِ

ويا دارُ دُنيا إني راحل عنكِ

وقال الحسن: " ابدأ أهلك بمكارم الأخلاق، فإن الثواء (968) فيهم قليل) (969) .

وقال أيضًا وهو في جنازة: " ابن آدم لئن رجعت إلى أهل ومال، فإن الثوى فيهم قليل) ، وعن هشام قال: (كان الحسن إذا أصبح وإذا أمسى قال لأهله ثلاث مرات: (يا أهلاه! الثوى فيكم قليل "(970)) .

وقال الحسن رحمه الله: " البَرُّ: الذي لا يؤدي الذَرَّ "(971) .

ولا أوذي الأنام وكيف يوذي

عبادَ الله منتظر الرحيل؟

(966) رواه الطبراني في " الكبير"(4/40) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (166) .

(967)

(أخرجه الطبراني في " الأوسط" بإسناد حسن) كما في " المجمع"(10/219) ، و "الترغيب"(2/11) ، وحسنه العراقي كما نقله عنه في "فيض القدير"(1/103) ، وحسنه الألباني بطرقه في " الصحيحة" رقم (831) .

(968)

الثواء: " الإقامة.

(969)

"بر الوالدين" للطرطوشي ص (178) .

(970)

رواه الإمام أحمد في " الزهد" ص (272) .

(971)

"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/125) .

ص: 408

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُيْغِضُ كل جعظرِي جَوَّاظ، سَخاب في الأسواق جيفةٍ بالليل، حِمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة " (972) .

وقد جاء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض كل جعظري جواظ" الحديث قيل: هو الشديد على أهله، المتكبر في نفسه، وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى:(عُتُلّ) قيل: العتل هو الفظ اللسان الغليظ القلب على أهله، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر حين تزوج ثيبًا:" هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك "(973) .

لقد تأثر المسلمون الأوائل بهذه التوجهات الإلهية، والإرشادات النبوية إلى حسن الخلق مع أهليهم، وانفعلوا بها أصدق الانفعال، فحفل تاريخهم بمواقف مشرقة يضرب بها المثل، في الفتوة والصبر والتجمل مع وجود داعي النفرة، وهاك بعض حديثهم في ذلك:

قال أحمد بن عنبر: (لما ماتت أم صالح بن أحمد بن حنبل قال أحمد لامرأة تكون عندهم: " اذهبي إلى فلانة بنت عمها، فاخطبيها لي من نفسها، فأتتها، فأجابته، فلما رجعت إليه قال: " أختها كانت تسمع كلامكِ؟ "، قال: وكانت بعين واحدة، فقالت له: " نعم"، قال: " فاذهبي فاخطبي تِيكَ التي بفرد عين"، فأتتها، فأجابته، وهي أم عبد الله ابنه، فأقام معها سبعا، ثم قالت له: " كيف رأيت يا ابن عمي؟ أنكرتَ شيئًا؟ " قال: " لا، إلا نعلك هذه تصِر ".

(972) رواه ابن حبان (1957) ، والبيهقي متابعة (10/194) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (195) ، وفسر الجعظري بالفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع، والسخاب كالصخاب كثير الضجيج والخصام.

(973)

انظر تخريجه برقم (1250) ، (1251) .

ص: 409

وقال خطاب بن بشر: قالت امرأة أحمد بن حنبل لأحمد، بعد ما دخلت عليه بأيام:" هل تنكر مني شيئًا؟ "، فقال: " لا، إلا هذا النعل الذي تلبسينه، لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فباعته واشترت مقطوعًا فكانت تلبسه) ، وهى ريحانة بنت عمر عَم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (974) .

(قيل: تزوج رجل بامرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: " اشتكيت عيني "، ثم قال: " عميت"، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: " كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها "، فقيل له: " سبقت الفتيان " (975)) .

(وعن محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أمي تقول: سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها، فقلت:" يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟ " فقال: يا مريم لما ترعرعت وأنا بالري، وكانوا يريدونني على الزواج فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت:" يا أبا عثمان قد أحببتك حُبا أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل إليك أن تتزوج بي "!

فقلت: " ألكِ والد؟ " قالت: " نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا "، فراسلتُ أباها أن يزوجها مني، ففرح بذلك، وأحضرت

(974)" طبقات الحنابلة "(1/429) .

(975)

" مدارج السالكين "(2/342)، وقريب من هذه الصورة من الفتوة ما حكاه الحافظ ابن القيم رحمه الله عن أبي علي الدقاق قال:

[ (جاءت امرأة، فسألت حاتمًا عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم: " ارفعي صوتك "، فأوهمها أنه أصم، فَسُرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلقب بحاتم الأصم) وهذا التغافل هو نصف الفتوة] اهـ. من " مدارج السالكين"(2/344) .

ص: 410

الشهود، فتزوجت بها، فلما دخلت وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخَلْق، فقلت:" اللهم لك الحمد على ما قدَّرته لي! ".

وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك فأزيدها بِرا وإكراما، إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها فتركت حضور المجالس إيثارًا لرضاها، وحفظًا لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدى لها شيئًا من ذلك إلى أن ماتت! فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي) (976) اهـ.

ومن المعاشرة بالمعروف:

التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء، إلا في حقوق الله عز وجل، وذلك ما يرشدنا إليه فولُه تعالى:(وإذ أسَرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عَرَّف بعضه وأعرض عن بعض. فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير)(التحريم: 3) .

وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقَا)(977)، وقال:(ولقد خدمت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أفّ، ولا قال لشيء فعلتُه، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟)(978) .

(976)" المنتظم"(6/107) .

(977)

صدر حديث رواه البخاري (10/436) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، ومسلم رقم (2150) في الأدب، وأبو داود رقم (4969) ، والترمذي رقم (333) .

(978)

رواه البخاري (10/383، 384) في الأدب: باب حسن الخلق والسخاء، ومسلم =

ص: 411

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم)(979) .

وعنها رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظُلِمها قط ما لم يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهِك من محارم الله شيء كان من أشَدِّهم في ذلك غَضَبا، وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن مأثمًا)(980) .

ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: " والله لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلًا ما وجد، غير سائل عما فقد "(981) .

ومن المعاشرة بالمعروف:

طلاقة الوجه، والبشاشة:

فقد بين صلى الله عليه وسلم أن ذلك من المعروف: فعن جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك، فإن ذلك من المعروف) (982) ، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن

= رقم (2309) في الفضائل، وأبو داود رقم (4774) في الأدب: باب في الحلم.

(979)

رواه مسلم رقم (2327) في الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وأبو داود رقم (4786) في الأدب: باب التجاوز في الأمر.

(980)

رواه البخاري (6/419) في الأنبياء، والأدب، والحدود، والمحاربين، وأبو داود رقم (4785) .

(981)

" الإحياء"(4/724) .

(982)

قطعة من حديث أخرجه أبو داود رقم (4084) في اللباس، وصححه ابن حبان

(1221)

، (1451)" موارد".

ص: 412

لم يجد فبكلمة طيبة " (983) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والكلمة الطيبة صدقة "(984) .

ومن أحق من الزوجَة بهذا المعروف، وهذه الصدقة؟

(نعم.. ما أجدرنا أن نعود ألسنتنا على الكلام الطيب في أول حياتنا الزوجية، ومما يتصل بالكلمة الطيبة طريقة إلقائها، فقد تزيد هذه الطريقة - إن كانت حلوة عذبة - من تأثيرها، وما أجدرنا أن نعوّد عضلات وجوهنا الابتسامة التي تبسط أكثر المسائل تركيبا وتعقيدًا، وتمنحنا قوة في التغلب على كل المصاعب.

وقد أعجبني كلام سمعته من أستاذ من أساتذتي قاله لشاب يعظه، ولم أنسه أبدًا، قال له: " إذا أردت أن تعرف ما يفعله العبوس فانظر وجهك في المرأة عندما تكون غضبان عابسا.. انظر وجهك كم هو منفر وقبيح!!

وانظر كم يجلب مثل هذا الوجه على صاحبِه من السخط والأذى " (985)) اهـ.

(983) قطعة من حديث طويل رواه البخاري (6/450، 451) في الأنبياء: باب علامات النبوة في الإسلام.

(984)

قطعة من حديث رواه البخاري (5/226) في الصلح: باب فضل الإصلاح بين الناس، وفي الجهاد، ومسلم رقم (1009) في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.

(985)

" نظرات في الأسرة المسلمة " للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (90) .

ص: 413

[فصل](986)

تأملات في قوله تعالى: (وَقُولوا لِلنَّاس حُسنًا)

قال الله تعالى:

(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون)(البقرة 83) .

لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على أمور أساسية في العقيدة والعبادة والسلوك والحياة، من توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى ذي القربى واليتامى، ومساعدة المساكين، والقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكنهم تولوا إلّا قليلا منهم، فكان عاقبة ذلك أن حاقت بهم لعنة الله وصاروا إلى ما صاروا إليه.

جاء في القرطبي:

[.. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البرّ والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون:(فقولا له قولًا لينًا) فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد

(986) هذا الفصل مختصر بتصرف من " نظرات في الأسرة المسلمة" لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله من ص (115-132) .

ص: 414

أمرهما الله تعالى باللين معه.

وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال لا تفعل. يقول الله تعالى وقولوا للناس حسنا فدخل في الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟] (987)

إننا لنقرأ في كتاب الله عز وجل خطابه حبيبه وخيرته من خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) .. فلو كان رسول الله المؤيد بالعصمة والحكمة، والمعزز بالتسديد والتأييد، لو كان صلى الله عليه وسلم فظا غليظ القلب لانفض أصحابه من حوله وبقي وحيدا فإذا كان هذا بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما القول بالناس الآخرين الذين لم يؤيدوا بما أيد به، ولم يؤتوا ما أوتيه من الخلق العظيم الذي أثنى به عليه ربه تبارك وتعالى فقال:(وإنك لعلى خلق عظيم) إن لين الجانب ورقة المعاملة أساس لاجتماع القلوب، وليس هناك وسيلة تحقق ذلك اللين وتلك الرقة أهم من الكلمة الحسنة.. وهي ترضي الله وتدخل صاحبها الجنة.

وعن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني عملا يدخلني الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:" أطعم الطعام، وأفش السلام، وأطب الكلام، وصل بالليل والناس نيام "(988) .

وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما

(987)" الجامع لأحكام القرآن"(2/16) .

(988)

رواه البيهقي (10/158) ، وابن حبان (642)

ص: 415

والناس نيام (989) .

الكلمة الطيبة غذاء للروح.. وشفاء لأمراض النفس، والكلمة الحلوة لها تأثير قد يغير حياة إنسان أو أمة!! من أجل ذلك كان قرن القول الحسن مع هذه الأمور الأساسية في العقيدة والعبادة والسلوك.. فتوحيد الله وإقامة الصلاة وبرّ الوالدين من أهم ما دعت الشريعة إلى تحقيقه وإقامته، وها نحن أولاءِ نجد في الآية قرنًا للقول الحسن بهذه الأمور، ونودّ أن نعيش لحظات في ظلال قوله تعالى:(وقولوا للناس حسنَا) نطل من خلالها على حياتنا الاجتماعية والأسرية (العائلية) .

كم تضيع علينا في حياتنا (العائلية) والاجتماعية فرص سعادة وغنى وأنس كنا على مقربة منها لو قلنا كلمة حلوة.. ولكنَّا أضعناها عندما لم نلق بالكلمهَ الطيبة.

إن كلمة واحدة تستطيع أن تفعل شيئًا كبيرًا

فبسبب كلمة قامت حروب، وبسبب كلمة تآلفت قلوب.

إن الكلمة الطيبة أساس متين تبنى عليه علاقات الحب والمودة والرحمة والانتاج والتربية، إن الكلمة الطيبة تهيئ المناخ المناسب لنمو هذه العلاقات ولتثمر الثمرة المرجوة سعادة وفرحًا وابتهاجًا وانطلاقًا وتحقيقًا لكثير من معاني الخير.

وإن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة في كثير من الأحيان من الحلي الثمين، والثوب الفاخر الجديد، ذلك لأنّ العاطفة المحببة التي تبثها الكلمة

(989) أخرجه الإمام أحمد (5/ 343) ، والحاكم في " المستدرك"(1/80) ، (1/321) ، وصححه عل شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا رواه التزمذي رقم (1985) من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 416

الطيبة غذاء الروح، فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلام حلو لطيف.

لماذا نهمل الكلمة الطيبة في نطاق الأسرة وهي لا تكلفنا شيئًا؟ إن السعادة كلها ربما كانت كامنة في كلمة فيها مجاملة ومؤانسة يقولها أحد الزوجين لصاحبه أو الوالد لابنه.

أجل

إن علينا أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله وبالكلام المعسول الجميل لا سيما عندما نخاطب أزواجنا.. إن المرأة الشرقية عاطفية إلى أبعد الحدود.

إن الخطأ الذى يقوم في حياتنا الزوجية مبني على فهم خاطئ لفكرة رفع الكلفة.. حتى إن كثيرًا من الناس ليقع في الأغلاط المدمرة لحياته الأسرية بحجة رفع الكلفة، يقول أحدهم: إن زوجتي ولدت ولدين أو ثلاثة أو أربعة.. فلم نعد عروسين نحتاج إلى الملاطفة والمجاملة أو الكلمة المأنوسة.. قد مضى وقت ذلك، إن هذا خطأ قادح يجرّ ذيول التعاسة والشقاء على عش الزوجية، وقد يدمر بناء الأسرة ويقضي على نفسية الأولاد.

لماذا لا تكون الملاطفة مع من نعايش؟ لماذا لا تكون الكلمة الطيبة مع الأزواج والأولاد؟ ألسنا بشرًا سواء أكنا عرسانًا أم كنا قد تقدت بنا الأيام والسنون، وسواء أأنجبنا أم لم ننجب؟ ولو أننا نظرنا إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه لرأينا أنها مثال الملاطفهَ والمؤانسة، فلقد كان يؤانسهن ويمازحهن ويعمر نفوسهن بالكلمة الحلوة، والنظرة الحانية، والتصرف الودود، ويحتمل منهن أخطاءهن.

إن تجاهل حاجة الزوجة إِلى العاطفة العذبة التي تفيض بها الكلمة الطيبة، يجعلها تحمل بين جوانبها حجرًا مكان القلب

مما يعكر على الزوج

ص: 417

حياته.. لأننا نعيش بالمعاني لا بالأجساد فقط.. وليس في الحجارة من المعاني شيء

إن رتبة كتف حانية من الزوج مع ابتسامة مشرقة مقرونة بكلمة طيبة تذيب تعب الزوجة، وتنعش فؤادها المشرئب للعطف والحنان، فهل لك يا أخي أن تنتبه إلى نفسك وتتأسى بسيدنا رسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .

اشكر زوجتك على صحن الطعام اللذيذ الذي قد أعدته لك بيديها.. اشكرها بابتسامة ونظرة عطف وحنان.. أثن عليها وتحدث عن محاسنها وجمالها، والنساء يعجبهن الثناء ويوثر فيهنّ.. وإذا كان الكذب محظورًا فقد أباح لك الإسلام طرفا منه في علاقتك الزوجية عندما يكون ذلك سببًا لتعميق المودة وتحقيق التفاهم (990) .

اذكر لها يا أخي امتنانك لرعايتها وخدمتها لك ولبيتك وأولادك، وإن كان هذا من اختصاصاتها، وإن كانت لا تقدم إلا ما تقدمه النساء عادة.. لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التى تؤكد أسباب المودة والرحمة

قل لها الكلمة الطيبة ولو نقصتها شيئًا من الطعام والمال والكساء.. إنها حينئذ ستسعد وستحس بدفء الحنان والعطف والمودة في أعماق قلبها.. وإذا أصبح قلبها مترعًا بهذه المعاني دفع دماءها حارة مغرّدة في عروقها.. وستندفع في خدمتك وتعيش معك العمر آمنة مطمئنة، وسوف ترى أنت بريقا يتراقص في عينيها، وابتسامة مشرقة على شفتيها، وسينطلق لسانها بالحديث عنك وإليك بالكلمة الطيبة.

وربما قالت بعض الزوجات: وماذا يريد الزوج مني؟ ألا يجد طعامه

(990) راجع ص (403-404) .

ص: 418

مطيها، وثوبه مكويا، وبيته نظيفًا، وأولاده لابسين آكلين، وحاجاته مهيأة؟

إنه لا يطلب منى طلبًا إلا حققته، ولا يريد حاجة إلا سارعت في تنفيذها.

ماذا يريد الزوج مني أكثر من ذلك؟

كلا يا سيدتي:

إنه بحاجة إلى العاطفة التي أنت مصدرها.. إنه بحاجة إلى الابتسامة المشرقة من فيك التي تبدد ظلمات الكآبة التي تعترضه في الحياة.

إنه يريد أن يرى الإنسانة التي تعني به وتظهر له الاهتمام الكبير، وتشعرهُ أنه - بالنسبة إليها - قطب الرحى، وأساس السعادة.

إنه يريد أن يسمع باللحن المريح كلمة الشوق والشكر والحب والرغبة في الأنس به واللقاء.

إن ذلك كله مفتاح باب السعادة التي يحويها معنى الزواج.

إن كلمة شكر وامتنان من الزوجة مع ابتسامة عذبة تسديها إلى الزوج بمناسبة شرائه متاعا إلى البيت، أو ثوبًا لها، تدخل عليه من السرور الشيء الكثير، قولي له الكلمة الطيبة ولو كان نصيب المجاملة فيها كبيرًا، لتجدي منه الود والرحمة والتفاهم، مما يحقق لك الجو المنعش الجميل.

رددي بين الفينة والفينة عبارات الإعجاب بمزاياه، واذكري له اعتزازك بالزواج منه وأنك ذات حظ عظيم.. فإن ذلك يرضي رجولته ويزيد تعلقه بك.

قابليه ساعة دخوله بالكلمة الحلوة العذبة، وتناولي منه ما يحمل بيديه وأنت تلهجين بذكره وانتظارك إياه.

فذلك كله من الكلمة الطيبة التي تأتي بالسعادة، ولا تكلفك شيئًا وتعود عليك بالنفع العظيم.

ص: 419

.. وإن مما يتصل بالقول الحسن والكلمة الطيبة أن نعرف آداب إلقاء هاتيك الكلمة الطيبة، والحق أنّ هناك أمورًا كثيرة وهي يسيرة علينا نتجاهلها في حياتنا الزوجية، فنضيّع على أنفسنا سعادة كبيرة، ونَصْلَى من وراء ذلك نار الخلاف والشجار والشحناء والبغضاء مدة العيش المشترك بين الزوجين طالت هذه المدة أم قصرت.

أجل.. هنالك أمور يسيرة على من ينتبه إليها، عظيمة الجدوى والنفع على من يأخذ بها ويحققها، وهي واردة بالنسبة إلى الزوجين، وإن كانت ظروف حياتنا تجعل هذه الأمور مطلوبة من الزوجة بصورة آكد. وأعظم الناس حماقة من يفوت على نفسه السعادة من تجاهله أمرا لا يكلفه شيئًا وإهماله أدبا نصحه الناصحون به.

ومن هذه الأمور الهينة الميسورة أدب الحديث..

أيها السادة:

إن للحديث آدابا تتصل بإلقائه، وآدابًا تتصل بسماعه إن روعيت عادت على أصحابها بالنفع الجليل وحققت أطيب الثمرات المرجُوة.

وإن مما يؤسف له حقًا أن كثيرًا من الأزواج والزوجات يخالفونها معتذرين بأعذار واهية عدة، كدعوى زوال الكلفة، أو دعوى الرغبة في البساطة، أو دعوى الميل إلى المرح، وكل أولئك أعذار باطلة مردودة لا تصح ولا تصدق.

وهذه المخالفة - كما رأينا في الحياة الواقعية - تؤدي في كثير من الأحيان إلى مشكلات اجتماعية يستصرخ منها الأزواج والزوجات ويوسطون الناس لحلها، وقد ييأسون من العلاج فينتهي الأمر في بعض الحالات إلى الفراق والطلاق، ولقد كانوا قادرين على تلافي تلك المشكلات لو أنهم انتبهوا إلى هذه الأمور اليسيرة الهينة، بل لقد كانوا قادرين على إحلال السعادة والتفاهم والرضى والسرور محلها.

ص: 420

آداب إلقاء الحديث

إن من رعاية القول الحسن الاهتمام بآدابه، لاسيما عندما يكون الحديث بين الزوجين:

فمن أهم هذه الآداب أن يراعي المتحدّث حالة المخاطب، فلا يحدثه بقصد التودد وهو يراه متوجعًا متألما، أو مشغولَا بكتابة أو محادثة هاتفية، أو منتظرا أمرَا ذا بال وهو يفكر فيه، أو نعسان يغالبه النوم، أو متضايقا يدافع الأخبثين ويريد دخول الخلاء، أو مستعجلًا يريد الخروج وإدراك موعد له أو ما إلى ذلك من الحالات.

ومن آداب إلقاء الحديث أن يراعي المتحدِّث ألا ينفرد بالحديث وألا يكون آخذًا دائمَا صفة الذي يلقي ويطلب من سامعه دائمًا أن يكون مصغيا لا يفتح فمه. ومن هذه الآداب في إلقاء الحديث أن يجتنب المتحدث إعادة الحديث

وتكراره فليس أثقل على النفس من الحديث المعاد.

ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على الإيجاز وأن يحذر الإطالة والثرثرة، فحمل السامع على متابعتك لمدة طويلة مرهق ومنفر.

ومن آداب إلقاء الحديث أن يتنبه المتحدث إلى صفة التواضع، فليس حسنًا أن يفرط في الفخر بمزاياه العظيمة، وليعلم أن هذا ثقيل على السامع حتى ولو كان زوجَا أو إنسانا من أقرب الناس إليه.

ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على أن يلقي حديثه بتقدير

ص: 421

عميق لمن يكلمه لا سيما إن كان زوجة، فهي قرينته في حياته وشريكته في عمره وهى أم أولاده.

ومن آداب إلقاء الحديث أن يتخيّر المتحدث من الأحاديث ما يعلم اهتمام المخاطب به، وعليه أن يجتنب ما يعلم يقينًا أن سامعه يضيق صدره منه، ومعرفة هذا ميسورة للزوجين بحكم الخلطة المستمرة، واللقاء الدائم والحياة المشتركة.

فإذا كان الزوج في أزمة مالية فمن الغلط أن تحدثه زوجته بحاجة البيت أو أفراد الأسرة إلى بعض المطالب التي لا يقوى على تحقيقها، وكذلك من الخطأ أن يحدث الرجل زوجته عن مزايا في غيرها لا توجد فيها: من نحو كون المرأة على مستوى جيد من المعرفة، أو الذكاء؛ فليس كل كلام صحيح صالحًا لأن يلقى على الناس.

وعليه أن يجتنب الإكثار من الوعظ والعتاب والتوجيهات والتقريعات، فهذه الأمور يجب أن تكون بقدر محدود، وفي ظرف يساعد على قبولها، وأنا أعلم أنه لابد من بعضها، ولكنها إذا كثرت أضحت معولًا يهدم كيان السعادة الزوجية، فهناك أزواج لا يكون كلامهم إلا لومًا أو عتابا أو توجيهًا أو موعظة، ولله درّ القائل:

إذا كنت في كل الأمور معاتبا

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه

مقارف ذنب مرة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

ومن ذا الذي ترضَى سجاياه كلها

كفى المرء نبلًا أن تعدّ معايبه

ومن آداب إلقاء الحديث أن يفرق الإنسان بين الحديث الخاص بين الزوجين وفي خلوتهما وبين حديثهما أمام أهليهما أو الأولاد أو الضيوف.

ص: 422

ومن أهم هذه الآداب أن يراعى أحكام الشرع: فلا يكذب ولا يغتاب ولا يرمي أحدا بما ليس فيه، فاحرص يا أخي على أن يكون كلامك مع أهلك ومع الناس نظيفًا خيرا، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "(991) .

وأود أن أذكر أدبًا مهمُّا يتصل بالعناية بمخارج الحروف وإبلاغ السامع أو السامعين الصوت جليا: فهناك أفراد لا يهتمّون بهذه الناحية حتى تتشابه الكلمات في حديثهم، وربما وصلت الكلمة إلى أذن السامع على نحو يناقض قصد المتكلم، من هنا كان الوضوح في الكلام أدبًا مطلوبًا، ويعين على ذلك أن يتكلم المرء بفمه كله، وأن يتعوّد على هذا، وأن يراعي ما يألف السامعون من الحروف، وأن يمرن لسانه على المخارج الصحيحة.

وكذلك فإنّ عليه أن يسمع المخاطبين، فقد يحمل تكلفُ اللطف وتصنع الرزانة إنسانا على أن يتكلم بصوت منخفض جدا، حتى إن السامع لا يستطع أن يدرك مقصوده، وقد يريد الإسماع فيرفع صوته حتى يصدع رؤوس الناس، والتوسط في هذا هو المطلوب، وما بين ذلك قوام إن شاء الله.

أما أدب الاستماع فهو من الأهمية بمكان لا يقل عن الإلقاء بل يزيد عليه، لأنّ الانتباه إليه أمر مضيَّع قل من يراعيه من الناس.

وحسن الاستماع يزيد في حب الإنسان لصاحبه، ويجعله أكثر إقبالًا على الحديث، والانسجام مع قرينه، فمن هذا المنطلق ينبغي أن يحرص المرء على أن يثبت لمحدثه أنه يحبه لا سيما إن كان زوجًا، ففي ذلك توكيد لأسباب المودة والرحمة، وتوثيق لعرى الزوجية السعيدة، إنَّ عليه اًن يقبل

(991) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي شريح الخزاعي، ومن حديث أبي هريرة: البخاري والترمذي رقم (2502) ، وصححه.

ص: 423

على سماع حديث صاحبه، وأن يلتمس النواحي المشرقة في حديثه، ويقنع نفسه بضرورة الإصغاء له بعناية تامة.

إن الإقبال على المتحدث والإصغاء له دليل على تقديره واحترامه والاهتمام به ورعاية كرامته، وهذا مطلوب من الإنسان المسلم نحو أي مسلم آخر، ولو كان لا يجمع بينه وبينه إلا المرافقة في طريق.. فما بالك بشريكة العمر؟

هذه أهمية حسن الاستماع فما آدابه؟

1-

من آدابه ألّا يتشاغل السامع عن الإصغاء بقراءة أو خياطة أو كنس أو مداعبة لولد أو نحو ذلك.

إن تخصيص جزء من الوقت للحديث المشترك بين الزوجين يقبل فيه كل منهما على صاحبه كفيل بأن يزيل كثيرًا من أسباب الخلاف، ويحُل محلها أسس الود والرحمة.

2-

ومن آدابه ألا يقاطع السامع صاحبه، بل ينتظره حتى يتم حديثه، لأن مخالفة هذا الأدب سبب لكثير من المشكلات الزوجية، وكثيرا ما تكون المقاطعة نتيجة لخوف من أحد الزوجين أن يخسر موضوع الحديث، وهذا خطأ فادح، لماذا لا نسمع ونناقش بهدوء؟ وإذا كنا على خطأ لماذا لا يكون عندنا الاستعداد للتراجع عن الخطأ؟

3-

ومن آداب حسن الاستماع أن يبدي المرء استحسانه لما يسمع، وأن يكون هذا الاستحسان في حدود المعروف المقبول لا يبالغ فيه، إذ إن المبالغة قد تعني التهكم والمداراة، وكل ذلك مسيء للمتحدّث، وقد قيل: إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده.

4-

ومن آدابه ألا ينتقل في تعقيبه على حديث المتكلم إلى موضوع آخر حتى يشعر بأن المتكلم قال كل ما يريد.

ص: 424

5-

ومن آداب حسن الاستماع أن يقبل السامع على الإصغاء لحديث صاحبه حتى ولو كان في أمر يعرفه أدق المعرفة، قال ابن المقفع:[إذا رأيت الرجل يحدث حديثا قد علمته، ويخبر خبرا قد سمعته، فلا تشاركه فيه، ولا تفتح عليه، حرصًا على أن تُعلم الناس أنك قد علمته، فإن ذلك خفة وسوء أدب] ولله درّ أبي تمام:

مَنْ لي بإنسان إذا أغضبتُه

وجهلتُ كان الحلم رد جوابه

وتراه يصغي للحديث بقلبه

وبسمعه ولعله أدرى به

6-

ومن آداب حسن الاستماع أن ينصت سواء أكان الحديث دسما عميقًا أم كان تافها غثا، وألا يظهر لصاحبه ضيقه من ذلك، لأن أي إنسان مهما أوتي من الموهبة لن يستطيع أن يجعل حديث التسلية دائمًا حديثًا عميقَا دسما، وقد قيل: إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم؟ فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم.

7-

وإذا كان الحديث بين زوجين فمن آداب حسن الاستماع ألا يسارع أحدهما إلى الردّ على صاحبه فيما إذا قرر أمرَا لا يراه، ما لم يكن إثمًا أو زيغًا.. إن عليه ما دام الأمر لم يصل إلى دائرة المنكر أن يلوذ بالصمت الملاطف الرفيق، ولا بأس بأن يثني على جانب من الكلام تمهيدا للتعقيب المناسب في الوقت المناسب، ذلك لأنَ المبادرة إلى إبطال قوله قد تترك أثرًا سيئًا في نفس صاحبه، ولايزهدن أحد في المجاملة، فما أكثر ما تكون المجاملة نافعة في الدنيا!!! وليس يعني هذا أن ينسلخ المرء عن رأيه ولا أن يتخلى عن فكره.. لا.. ولكن يسعه الصمت في بادئ الأمر ثم يتخير الوقت المناسب ليقول فيه ما يرى.

8-

ومن آدابه أن يجاري أحد الزوجين صاحبه فيما يسمع.. فإن كان الحديث نكتة صادقة ضحك، وإن كان خبرًا يثير التعجب تعجب..

ص: 425

إن مثل هذه المجاراة والتجاوب يجعل المرء يحس بلذة الحديث، وأنه يتحدث مع حيّ يشاركه الرأي لا مع جماد ميت، ولا مع مشاكس معاند، وليحاول أن يجعل ذلك كله طبيعيًّا لا أثر للتكلف فيه] اهـ.

عود على بدء

ومن المعاشرة بالمعروف:

أن يستمع إلى حديثها، ويحترَم رأيها، ويأخذ بشوراها، إذا أشارت عليه برأي صواب، فقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة يوم الحديبية، فكان في ذلك سلامةُ المسلمين من الإثم، ونجاتهم من عاقبة المخالفة، كما جاء في بعض الروايات:" فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة "، وذلك حين امتنع الصحابة رضي الله عنهم من أن ينحروا هديهم، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يخرج، ولا يكلم أحدًا منهم كلمة حتى ينحر بُدْنه، ويحلق، ففعل صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا، ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قبل مشورة أم سلمة رضي الله عنها (992) ، وكذا قبل صالح مدين مشورة ابنته في استئجار موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

ومن المعاشرة بالمعروف:

أن يسلم على أهله إذا دخل عليهم، فعن أنس رضي الله عنه قال:

(992) رواه البخاري (5/332) ط. السلفية، واعلم - رحمك الله - أنه لا معنى لرفض رأي المرأة العاقلة الفاضلة واطراح مشورتها لمجرد كونها امرأة، كما يفعل البعض اعتمادا على أحاديث ضعيفة مثل:" شاوروهن، وخالفوهن " قال الألباني: " لا أصل له مرفوعا "، وحديث:(طاعة المرأة ندامة"، قال الألباني: " موضوع"، وحديث: " هلكت الرجال حين أطاعت النساء " قال الألباني: " ضعيف "، وانظر: " سلسلة الأحاديث الضعيفة" أرقام (430) ، (435) ، (436) ، و"فتح الباري"(5/347) .

ص: 426

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن سلامُك بركةً عليك، وعلى أهل بيتك) (993) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن للإسلام صُوى ومنارا كمنارات الطريق " الحديث بطوله، وفيه: " وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئًا، فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولي الإسلام ظهره) (994) .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة كلهم ضامن علي الله، الحديث، وفيه: " ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله " (995) .

والمعنى: أنه إذا دخل بيته سلم على أهله ائتمارًا بقوله سبحانه:

(993) رواه الترمذي رقم (2698) في الاستئذان، وقال:" حديث حسن صحيح"، وفيه علي بن زيد بن جدعان، لكن قال الألباني:(هو كما قال - أي الترمذي - فإن له طرقًا كثيرة يتقوى الحديث بها، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في جزء صغير، انتهى فيه إلى تقوية الحديث) اهـ. من " تحقيق الكلم الطيب" رقم (62) .

(994)

أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الإيمان" رقم (3) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (333)، والصوى: جمع "صوة"، وهى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفاوز المجهولة، يستدل بها على الطريق، وعلى طرفيها.

(995)

رواه أبو داود رقم (2494)، وابن حبان رقم (416) ولفظه:(ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رُزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) الحديث، والحاكم (2/73) ، وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3/69)، ومعنى ضامن: صاحب الضمان، وهو الرعاية للشيء كما يقال:" تامر" و "لابن" لصاحب التمر واللبن، ومعنى الحديث أنه في رعاية الله، وضمنه بعلى تضمينًا لمعنى الوجوب، والمحافظة على سبيل الوعد بأن يكلأه الله من الضرر في الدنيا والدين، وانظر:" فيض القدير"(3/319 - 320) .

ص: 427

(فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم)(النور: 61) .

ومن المعاشرة بالمعروف:

أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحق أمامها، ومبادلتهم الزيارات، ودعوتهم في المناسبات، وبذل الإحسان لهم.

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأةٍ نَكَحَتْ على صَداقٍ أو حِباء (996) ، أو عِدة قبل عصمة (997) النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح، فهو لِمَنْ أعطِيَه، وأحَقُّ ما أكرِمَ عليه الرجل ابنتُه وأختُه (998) ".

ومن المعاشرة بالمعروف:

معالجتها ومداواتها إذا مرضت، وإن طال المرض، وحال دون انتفاعه

(996) الحباء: العَطية والهبة للغير أو للزوج زائدا على مهرها.

(997)

(عصمة النكاح: عقدته، يقال: عصمة المرأة بيد الرجل أي عقدة نكاحها، ومنه قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) أي بعقد نكاحهن، والله أعلم) اهـ. من " جامع الأصول ":(7/ 22 - 23) .

(998)

رواه أبو داود رقم (2129) في النكاح: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، والنسائي (6/120) في النكاح: باب التزويج على نواة من ذهب، وابن ماجه (1/308) ، والإمام أحمد رقم (6709) ، والبيهقي (7/248) ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في " المسند"(10/178) ، (وفي الحديث دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حِباء أو عدة، ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها، وما يذكر بعد عقد النكاح فهو لمن جُعِل له سواء كان وليا، أو غير ولي، أو المرأة نفسها) اهـ. من " عون المعبود"(6/165)، وانظر:" السلسلة الضعيفة " حديث رقم (1007) ، و " نيل الأوطار"(6/197) .

ص: 428

بها، فذلك من الوفاء وحسن العشرة، والمعروف الذي أمر الله به.

بل من حسن المعاشرة أن يباشر بنفسه رعايتها، ويلزمها إذا مرضت، فقد تغيب ذو النورين عثمان بن عفان عن غزوة بدر لأن زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أقم معها، ولك أجر من شهد بدرًا وسهمه "(999) .

ومن المعاشرة بالمعروف: العدل بين الزوجات في القَسم والنفقة: قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية (النحل: 90)، وقال جل وعلا:(قل أمر ربي بالقسط)(الأعراف: 29)، وقال سبحانه:(إن الله يحب المقسطين)(المائدة: 42)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا:" المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا "(1000) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما، جاء يومَ القيامة وشِقُّه ساقط "(1001)

وعن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسم من مُكثه عندنا، وكان

(999) رواه البخاري (7/48) في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(1000)

أخرجه مسلم رقم (1827) في الإمارة، والنسائي (8/221) ، والبغوي (10/63) ، والإمام أحمد (2/160) .

(1001)

رواه أبو داود رقم (2133) ، والترمذي رقم (1141) ، والنسائي (7/63) ، وغيرهم، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة"(2/965) ، و"الإرواء"(7/80) .

ص: 429

قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومُها فيبيت عندها) (1002) الحديث.

قال الإمام القرطبي رحمه الله مبينًا العدل الواجب بين الزوجات: (على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة؛ هذا قول عامة العلماء، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار، ولا يُسقِطُ حقَّ الزوجة مرضُها ولا حَيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها، وعليه أن يعدِل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجِز عن الحركة فيقيم حيث يغلب عليه المرض، فإذا صَح استأنف القَسمَ، والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء

ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة

وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء، قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون، فأسهم بينهما أيهما تدلى أوَّل) (1003) اهـ.

تنبيه: ما هو العدل غير المستطاع؟

قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) الآية، (النساء: 129) .

(1002) رواه أبو داود رقم (2135) في النكاح: باب في القسمة بين النساء، وقال محقق " جامع الأصول":" حديث صحيح "(11/514) .

(1003)

" الجامع لأحكام القرآن"(14/217) بتصرف.

ص: 430

قال القرطبي رحمه الله: (أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه السلام يقول: " اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (1004)، ثم نهى فقال:(فلا تميلوا كل الميل) قال مجاهد: " فلا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسْم والنفقة؛ لأن هذا مما يُستطاع "

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل "(1005) . قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) أي لا هي مطلقة، ولا ذات زوج؛ قاله الحسن) (1006) اهـ.

ومن المعاشرة بالمعروف: أن يشاركها في خدمة البيت إن وجد فراغا: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله - يعنى خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة "(1007) .

وعنها رضي الله عنها قالت: " كان بَشَرَا من البشر: يَفْلِي ثوبه،

(1004) رواه أبو داود رقم (2134) ، والترمذي رقم (1140) ، والنسائي (7/64) ، والحاكم (2/187) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، بلفظ:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، وبقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك - يعني القلب) ، والحديث أعله جمع من المحققين كما فصل العلامة الألباني في " الإرواء"(7/82) ، وضعفه.

(1005)

تقدم آنفا برقم (1001) .

(1006)

"الجامع لأحكام القرآن"(5/407) بتصرف.

(1007)

رواه البخاري (2/162) ، (9/507) ، (10/461) ، والترمذي رقم (2489) ، والإمام أحمد (6/126، 206) .

ص: 431

ويَحلُبُ شاته، ويخدِم نفسه " (1008) .

* * *

قال الشافعي رضي الله عنه: (وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره فمطل الواجد القادر على الأداء ظلم بتأخيره) اهـ (1009) .

وقال بعض الشافعية: (كف المكروه: هو أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول أو فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب، ولا يلبس ما يؤذي الآخر)(1010) اهـ.

وبالجملة فكل أمر يتصور في الدين والعرف أنه حسن فهو من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، قال صلى الله عليه وسلم:" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي "(1011) .

وفيما يلي نعرض لقبس من الهدي النبوي في حسن المعَاشرة ليكون نبراسَا لمن أراد أن يمتثل قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) .

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه

(1008) رواه البخاري في " الأدب المفرد"(541) ، والبغوي في " شرح السنة"(3676) ، والإمام أحمد (6/256) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (671) على شرط مسلم.

(1009)

"تكملة المجموع"(15/289) .

(1010)

" السابق"(15/290) .

(1011)

تقدم تخريجه برقم (218) .

ص: 432

جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك، قالت:" سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم، فسبقني، فقال: " هذه بتلك "، وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)(1012) اهـ.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:

" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حَدَّثني، وإلا اضطجع حتى يُؤذَّنَ بالصلاة "(1013) .

وكانا يتبادلان السمر بالأحاديث الخفيفة، والقصص ذات الموعظة الحسنة، كما في حديث أبي زرع وأم زرع، حيث قال لها:" كنت لك كأبي زرع لأم زرع "(1014) ، فأظهر استعداده لتحمل النفقة، والعطف والمودة والإحسان، وحسن المعاشرة، وفي رواية بزيادة: (" إلا أنه طلقها، وأنا لا أطلق "، فقالت عائشة رضي الله عنها: " يا رسول الله

(1012)" تفسير القرآن العظيم "(1/477) .

(1013)

رواه البخاري (3/36) في التطوع، ومسلم رقم (743) في صلاة المسافرين، وأبو داود رقم (1262) ، (1263) في الصلاة، والترمذي رقم (418) في الصلاة.

(1014)

أصل الحديث رواه البخاري (9/220 - 241) في النكاح: باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم رقم (2448) في فضائل الصحابة: باب ذكر حديث أم زرع.

ص: 433

بل أنت خير من أبي زرع " (1015)) .

وعنها أيضًا رضي الله عنها قالت: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع في، وإن كنت لآخذ العَرق فآكل منه، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع فِي "(1016) .

وقال الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء) في " آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ".

(الأدب الثاني: حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن، ترحمًا عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف)، وقال في تعظيم حقهن:(وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا)(1017)، وقال تعالى:(والصاحب بالجنب) قيل هي: المرأة) .

ثم قال: " واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل،

(1015) هذه الزيادة أخرجها النسائي في " عشرة النساء" رقم (256)، وانظر:" بغية الرائد " للقاضي عياض، " مختصر الشمائل المحمدية " للألباني هامش ص (134) .

(1016)

تقدم تخريجه برقم (177) .

(1017)

قال الزمخشري: (الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟) اهـ.

(قال الشهاب الخفاجي: قلت بل قالوا:

صحبة يوم نسب قريب

وذمة يعرفها اللبيب)

انظر " محاسن التأويل "(5/ 1165) .

ص: 434

وراجعت امرأةُ عمر عمر رضي الله عنه في الكلام، فقال:" أتراجعيني يالكعاء؟ "، فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك " (1018) ] (1019) اهـ. ومع انشغاله صلى الله عليه وسلم بتبعات الدعوة الجسام، وبناء الأمة المسلمة كان لا يألو جهدًا عن مطايبة أزواجه صلى الله عليه وسلم:

فكان صلى الله عليه وسلم يرخم اسم عائشة رضي الله عنها، وربما خاطبها:" يا عائش"، و" يا عويش"، و " يا حميراء"، ليدخل السرور على قلبها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول لها رضي الله عنها:" إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غَضْبَى "، قالت: فقلت: " من أين تعرف ذلك؟ "، فقال:(أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: " لا، ورب محمد "، وإذا كنت غضبى قلت: " لا، ورب إبراهيم "!) قالت: " أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك "(1020) .

وعنها رضي الله عنها قالت:

(قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعَب، فقال:" ما هذا يا عائشة؟ " قالت: " بناتي"، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال:" ما هذا الذي أرى وسطهن؟ "، قالت:" فرس "، قال:" وما هذا الذي عليه؟ " قالت: " جناحان "، قال:" فرس له جناحان؟ " قالت: " أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ " قالت: فضحك حتى

(1018) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (2468) في المظالم: باب الغرفة والعلية (5/114- 116) ط. السلفية.

(1019)

" الإحياء"(4/ 720 - 722) .

(1020)

رواه البخاري (9/285) في النكاح: باب غيرة النساء ووجدهن، وفي الأدب، ومسلم رقم (2439) في فضائل الصحابة: باب في فضل عائشة رضي الله عنها.

ص: 435

رأيت نواجذه) (1021) .

وعنها رضي الله عنها قالت: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم عيد، فقال لي: " يا حُمَيراء (1022) ! أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: (نعم) ، فأقامني وراءه، فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم، فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، فنظرت من فوق منكبيه - وفي رواية: من بين أذنه وعاتقه - وهو يقول: " دونكم يا بني أرفدة "، فجعل يقول: " يا عائشة، ما شبعتِ؟ "، فأقول: " لا "، لأنظر منزلتي عنده، حتى شبعت، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا) ، وفي رواية: (حتى إذا مللت، قال: (حسبك؟) ، قلت: " نعم "، قال: "فاذهبي") ، وفي أخرى: (قلت: " لا تعجل"، فقام لي، ثم قال: " حسبك؟ "، قلت: " لا تعجل "، ولقد رأيته يراوح بين قدميه، قالت: " وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه، وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العَرِبة الحديثة السن الحريصة على اللهو " (1023) ، قالت: " فطلع عمر، فتفرق الناس عنها، والصبيان "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر "، قالت عائشة رضي الله عنها: قال صلى الله عليه وسلم يومئذ: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " (1024)) .

(1021) رواه أبو داود رقم (4932) في الأدب: باب في اللعب بالبنات، والنسائي " عشرة النساء " رقم (64) ص (94 - 95) ، وقد تقدم برقم (210) .

(1022)

تصغير الحمراء، يريد البيضاء، كذا في " النهاية "(1/438) .

(1023)

راجع الحاشية رقم (211) .

(1024)

رواه البخاري (1/457) في المساجد، والعيدين، وغيرهما، ومسلم رقم (892) في العيدين، والنسائي (3/ 195 - 196) ، وفي هذه الرواية زيادات جمعها العلامة الألباني، وحققها في " آداب الزفاف " طبعة 1405 هـ ص (272 - 275) .

ص: 436

وتقدم عنها رضي الله عنها: (أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية، قالت: " ولم أحمل اللحم، ولم أبدِّن (1025)، فقال لأصحابه: تقدموا "، فتقدموا، ثم قال: " تعالي أسابقك "، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: " تقدموا"، ثم قال: " تعالي أسابقك "، ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، وبدنت، فقالت: " كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال؟ "، فقال: " لتفعلن"، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: " هذه بتلك السبقة " (1026) .

ويُروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان عندي رسولُ الله وسَوْدَةُ، فصنعتُ خَزِيرا (1027) ، فجئت به، فقلت لسودة:" كُلِي "، فقالت:" لا أحبه "، فقلت:" والله لَتأكلين أو لألطخَنَّ وجهك "، فقالت:" ما أنا بباغية "، فأخذت شيئًا من الصحفَة فلطختُ به وجهها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبينها، فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد مني، فتناوَلَت من الصحفة شيئا، فَمَسَحَت به وجهي، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يضحك) (1028) .

(1025) أي: لم أضعف، ولم أكبر، وفي " القاموس":" وبَدن تبدينا: - بشديد الدال - أسن وضعف"، و " بَدُن، بتخفيف الدال من البدانة، وهى كثرة اللحم والسمنة، انظر: " النهاية" (1/107) .

(1026)

تقدم تخريجه برقم (229) .

(1027)

الخزير والحزيرة: لحم يقطع ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُر عليه الدقيق.

(1028)

رواه النسائي في " عشرة النساء" رقم (31)، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء":(رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، وأبو يعلى بإسناد جيد) اهـ. وانظر: " تخريج أحاديث الإحياء"(4/1681 - 1682) .

ص: 437

وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: (دَخَلَ عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: (ألا تعلمين هذه رُقيَةَ النَّمِلَة (1029) كما عَلًمتِيها الكتابة " (1030) .

وهذا من لغز الكلام ومزاحه، وذلك أن رقية النملة التي كانت تُعرف بين العرب، هي كلام كانت تستعمله نساؤهم يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهي أن يقال:" العروس تحتفل، وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل غير أن لا تعصي الرجل "، فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا، لأنه ألقى إليها سِرًّا فأفشته (1031) .

الوفاء للزوجة بعد مماتها

لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الوفاء للزوجة حتى بعد موتها، بعد أن ضرب هذا المثل الأكمل في المعاشرة بالمعروف حال حياتها.

ومن خبر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يُثني على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "ما غِرْتُ من امرأة ما غِرْتُ من خديجة (1032) ،

(1029) النمِلَة: بفتح النون وكسر الميم، قروح تخرج في الجنب.

(1030)

رواه أبو داود رقم (3887) في الطب: باب ما جاء في الرقى، والحاكم (4/414) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (6/286) ، وابن سعد (8/59) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار"(4/327) ، وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/395) ، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، وابن القيم في "تهذيب السنن"، وقال الهيثمي في " الزوائد"(ورجاله رجال الصحيح) اهـ (5/112) ، إلا إبراهيم بن مهدى البغدادي المصيصي، وهو ثقة.

(1031)

انظر: "عون المعبود"(10/ 373 - 374) .

(1032)

قال الذهبي رحمه الله: (وهذا من أعجب شيء! أن تغار رضي الله عنها من =

ص: 438

من كثرة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها " (1033) ، وفي رواية بزيادة: " وما رأيتها قط، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة " (1034) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يومَا، فحملتني الغيرة، فقلت: " لقد عَوضَك الله من كبيرة السن! " قالت: فرأيته غضب غضبا أسقِطْتُ في خَلَدي (1035) ، وقلت في نفسي: " اللهم إن أذهبتَ غضبَ رسولك عني لم أعُد أذكرها بسوء "، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ، قال: " كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزِقْتُ منها الولد وحرمتموه مني " قالت:" فغدا وراح عَلي بها شهرا "(1036) .

وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت:

(جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله

= امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بمُديدة، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشُهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لها، وميلُه إليها، فرضي الله عنها، وأرضاها) اهـ "السير"(2/ 165) .

(1033)

أخرجه البخاري (7/102) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم (2435) ، والترمذي (3875) .

(1034)

رواه البخاري (7/107 - 108) باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها.

(1035)

الخلد: بالتحريك: البال والقلب والنفس.

(1036)

نسبه الحافظ في " الإصابة"(12/217 - 218) إلى كتاب " الذرية الطاهرة" للدولابي، وقال محقق "سير أعلام النبلاء":(إسناده حسن) اهـ.

(2/112) ، ورواه بنحوه الإمام أحمد (6/117، 118)(وفيها مجالد وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات) كذا في " تحقيق السير"، (2/117) .

ص: 439

صلى الله عليه وسلم: " من أنت؟ "، قالت:" أنا جثامة المزنية "، فقال:" بل أنت حُسَّانة المزنية، كيف أنتم كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ " قالت: " بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله "، فلما خرجت، قلت:" يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ " قال: " إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان "(1037) .

وعنها رضي الله عنها قالت: (لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بقلادة، وكانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَق لها رقة شديدة، قال: " إذا رأيتم أن تُطْلِقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ")(1038) .

(1037) أخرجه الحاكم (1/15-16) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، مع أن صالح بن رستم لم يخرج له البخاري إلا تعليقا، قال فيه أحمد:" صالح الحديث " كما نقله الذهبي في " الميزان"(2/294)، وقال:" وهو كما قال أحمد "، وعزاه الحافظ إلى البيهقي في " الشعب" كما في " الفتح"(10/436) ط. السلفية، وانظر:" إتحاف السادة المتقين"(6/235- 236) .

(1038)

أخرجه الحاكم (4/44 - 45) من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه، عنها رضي الله عنها، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث.

ص: 440