الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل]
بر الوالدين بعد موتهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات الإنسان (374) انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جاريهَ، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له "(375) .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجرى يبلغه أجرها، وعلم يُعْمَلُ به من بعده) (376) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ترْفَع للميت بعد موته درجة، فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك "(377) .
(374) أي المؤمن، فقد بينت السنة اشتراط كون الأب مؤمنًا موحدا كما يأتي إن شاء الله.
(375)
رواه مسلم رقم (1631) في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود رقم (2880) في الوصايا: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، والترمذي رقم (1376) في الأحكام: باب في الوقف، والنسائي (6/251) في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، والطحاوي في مشكل الآثار (1/85) والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/372) .
(376)
أخرجه ابن ماجه (1/106) ، وابن حبان في صحيحه رقما (84، 85) والطبراني في المعجم الصغير ص (79) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/15) ، وصحح إسناده الحافظ المنذري في "الترغيب"(1/58) .
(377)
أخرجه ابن ماجه (3660) ، والإمام أحمد (2/509) والبخاري في " الأدب المفرد"(1/36)، وقال البوصيري في "الزوائد": " إسناده صحيح، رجاله =
ومن البر بهما بعد موتهما: قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام، صام عنه وَلِيُّه "(378) .
ومن البر بهما بعد موتهما: التصدق عنهما:
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمى تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ "، قال: " نعم "، قال: " فإن لي مَخْرَفا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها " (379) .
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلًا قال: "إن أمي افْتُلِتت (380) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ " قال:" نعم، فتصدق عنها ") (381) .
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن
= ثقات" (3/159) وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1598)(4/129) .
(378)
أخرجه البخاري (4/168) في الصوم: باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم (1147) في الصوم: باب قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود رقم (2400) في الصوم: باب فيمن مات وعليه صيام.
(379)
أخرجه البخاري (5/289) في الوصايا: باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهر جائز، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة: وباب إذا وقف أرضا، ولم يبين الحدود فهو جائز، وأبو داود رقم (2882) في الوصايا، والترمذي رقم (669) في الزكاة، والنسائي (6/252، 253)، والمَخْرَفُ: النخل، لأنها تخترف ثمارها، أي: تجتني.
(380)
افْتُلِتَتْ: افتلتت نفس فلان، أي: مات فجأة، كأن نفسه أخذَتْ فَلْتَةً.
(381)
رواه البخاري (5/291) في الوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، وفي الجنائز، ومسلم رقم (1004) في الزكاة، وأبو داود رقم (2881) في الوصايا، والنسائي (6/250) في الوصايا، وابن ماجه (2/ 160) ، والإمام أحمد (6/51) .
أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ "، قال: " نعم ") (382) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عَمْرًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد، فصمتَ، وتصدقتَ عنه، نفعه ذلك ")(383) .
(382) أخرجه مسلم (5/73) ، والنسائي (2/129) ، وابن ماجه (2/160) ، والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/371) .
(383)
أخرجه الإمام أحمد (2/182) ، وقال الألباني في الصحيحة، رقم (484) :(وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في عمرر بن شعيب عن أبيه عن جده) إلى أن قال حفظه الله:
(والحديث دليل واضح على أن الصدقة والصوم تلحق الوالد، ومثله الوالدة بعد موتهما إذا كانا مسلمين، ويصل إليهما ثوابهما، بدون وصية منهما، ولما كان الولد من سعى الوالدين، فهو داخل في عموم قوله تعالى: (وَأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلا داعي لتخصيص هذا العموم بالحديث وما ورد في معناه في الباب، مما أورده المجد ابن تيمية في " المنتقى" كما فعل البعض.
واعلم أن كل الأحاديث التي ساقها في الباب هي خاصة بالأب أو الأم من الولد، فالاستدلال بها على وصول ثواب القرَب إلى جميع الموتى كما ترجم لها المجد ابن تيمية بقوله:" باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى) غير صحيح، لأن الدعوى أعم من الدليل، ولم يأت دليل يدل دلالة عامة على انتفاع عموم الموتى من عموم أعمال الخير التي تهدى إليهم من الأحياء، اللهم إلا في أمور خاصة ذكرها الشوكاني في " نيل الأوطار" (4/78-80) ، ثم الكاتب في كتابه (أحكام الجنائز وبدعها)، من ذلك: الدعاء للموتى، فإنه ينفعهم إذا استجابه الله تبارك وتعالى، فاحفظ هذا تنج من الإفراط والتفريط في هذه المسألة، وخلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويقرأ القرآن عن والديه لأنه من سعيهما، وليس له ذلك عن غيرهما، إلا ما خصه الدليل مما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم) اهـ =
ويُروى عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سَلِمة، فقال: " يا رسول الله: هل بقي مِنْ بِر أبَوَي شيء أبَرهما بعد موتهما؟ "، فقال: (نعم، الصلاةُ عليهما (384) ، والاستغفارُ لهما، وإنفاذ عهدهما مِن بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصَلُ إلا بهما، وإكرام صديقهما ") (538) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج إلى مكة، كان له حمار يتروَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مَرَّ به أعرابي، فقال:" ألست ابنَ فلان؟! "، قال:" بلى"، فأعطاه الحمار، فقال:" اركب هذا "، والعمامةَ، وقال:" اشدُد بها رأسك"، فقال له بعض أصحابه:" غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تَرَوحُ عليه، وعمامة كنت تَشُدُّ بها رأسك؟ ! "، فقال:(إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبَر البر صلة الرجل أهلَ وُد أبيه بعد أن يُوَلّي، وإن أباه كان وُدُّا لعمر ") ] (386) .
= من سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (484) .
(384)
أي الدعاء لهما بالرحمة، وإن لم يكن بلفظ الصلاة، فإن الله تعالى لم يجعل الدنيا عوضًا عن بر الوالدين، بل قال:(وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) أي: سل الله لهما الفوز في الآخرة.
(385)
رواه أبو داود رقم (5142) في الأدب: باب بر الوالدين، وابن ماجه رقم (3664) في الأدب: باب صل من كان أبوك يصل، وابن حبان رقم (2030) ، وفي سنده على بن عبيد الساعدي، الراوي عن أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجال السند ثقات، والحديث ضَعفَ الألباني إسناده في " تحقيق المشكاة، رقم (4936) ، و "ضعيف ابن ماجه " ص (296) رقم (800) .
(386)
رواه مسلم رقم (2552) في البر والصلة: باب فضل صلة أصدقاء الوالد، =
وفي رواية البخاري في "الأدب المفرد"، وكذلك الترمذي مختصرا:"إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ".
ويروى عن عبد الله بن دينار بلفظ: (مر أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابِي صديقًا لعمر رضي الله عنه، فقال للأعرابي: " ألستَ ابن فلان؟ "، قال: " بلى، فأمر له ابن عمر بحِمار كان يستعقب (387) ، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض من معه:(أما يكفيه درهمان؟ " (388)، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " احفظ وُدً أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورَك ") (389) .
وعن ثابت البُناني عن أبي بردة قال: (قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر، فقال:، أتدرى لم أتيتُك؟ " قال: قلت: لا، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ أحَب أن يَصِلَ أباه في قبره، فَلْيَصِل إخوانَ أبيه مِن بعده "، وإنه كان بين أبي: عمرَ، وبين أبيك إخاء وود، فأحببت اًن أصِلَ ذلك)(390) .
= وأبو داود رقم (5143) في الأدب: باب بر الوالدين، والترمذي رقم (1904) في البر والصلة: باب ما جاء في إكرام صديق الوالد، ومعنى (أبر البر، أفضله بالنسبة إلى والده، وكذا والدته، وذلك باْن يحفظ الابن أهل ود أبيه وأمه إذا ماتا أو غابا، فيحسن إلى قرابتهما وأحبائهما، فإن هذا من تمام الإحسان إلى الأب، وإنما عُد هذا من أبر البر، لأنه إذا حفظ غيبه فهو بحفظ حضوره أولى وأحرى.
(387)
أي يستريح عليه إذا ضجر من ركوب البعير كما في الرواية السابقة.
(388)
ولفظ مسلم: (قال ابن دينار: " قلنا له: إنهم الأعراب، وهم يرضَوْن باليسير ") .
ورواه بهذا اللفظ البخاري في " الأدب المفرد" رقم (40) ، وعزاه في الجامع الصغير) إلى الطبراني في " الأوسط" والبيهقي في " شعب الإيمان"، وقال الحافظ العراقي:" إسناده جيد"، وحسنه الهيثمي، والسيوطي كما في:"فيض القدير"(1/196) ، وضعفه الألباني في (ضعيف الجامع" (1/106) رقم (210) .
(390)
أخرجه ابن حبان (2031) ، وصححه الألباني على شرط البخاري، وعزاه =
عاقبة البر، ومواقف سلفية في بر الوالدين
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (" دخلت الجنة، فسمعت قراءة، فقلت: "من هذا؟ " فقيل:
" حارثة بن النعمان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كذلكم البر، كذلكم البر ") وزاد عبد الرزاق في روايته: (وكان أبر الناس بأمه " (391) .
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن لي أمُّا بلغ منها الكِبَرُ أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية - يعني: أحملها إلى مكان قضاء الحاجة - فهل أدَّيت حقها؟)، فقال عمر: " لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه، وتتمنى فراقها) (*) .
وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا يطوف بالكعبة حاملًا أمه على رقبتَه، فقال: يا ابن عمر أترى أني جزيتها؟ قال: " لا، ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا ".
وفي رواية البخاري في " الأدب المفرد": (أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري حدث أنه شهد ابنُ عمر رجلًا يمانيا يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول:
إنى لها بعيرُها المذلَّلْ
…
إن أذعِرت ركابُهَا لم أذعَرْ
الله ربي ذو الجلال الأكبر
= إلى أبي يعلى، و " السلسلة الصحيحة، رقم (1432)(3/417 - 418) .
(391)
رواه الإمام أحمد (6/36، 151 - 152، 166 -167) ، والبغوي في " شرح السنة، (13/71) ، وعبد الرزاق في المصنف"(20119) ، والحاكم (3/208) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة، (1/618) :"إسناده صحيح " اهـ.
(*) نقلًا من " المرأة وحقوقها في الإسلام" للشيخ مبشر الطرازي ص (62-63) .
حملتُها أكثر مما حملت
…
فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة) (392) .
وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما ثلاثةُ نَفَرٍ يتماشَون، أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالًا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يُفَرِّجُها، فقال أحدهم: " اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم، فحلبت، بدأتُ بوالديَّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجَرُ (393) ، فما أتيتُ حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحْلُب، فجئت بالحِلَاب، فقمتُ عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَوْنَ (394) عند قدمي، فلم يزل ذلك دَأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فُرْجة نرى منها السماء، ففرَّج الله لهم حتى يرون السماء" الحديث (539) .
(وكان الفضل بن يحيى أبر الناس بأبيه، بلغ من بِره إياه أنهما كانا في السجن، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء سخن، فمنعهما السجان من
(392) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (11) ، وابن المبارك في البر والصلة، والبيهقي في شعب الإيمان في الخامس والخمسين، والزفرة: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
(393)
نأى بي الشجر: بَعُدَ المرعى والرجوع عنه.
(394)
يتضاغون: يُصَوِّتون باكين.
(395)
رواه البخاري (8/3) ط. الشعب، ومسلم (8/89) في الرقاق، وابن حبان (497- موارد)، وانظر:" مجمع الزوائد "(8/140) .
إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحيى، قام الفضل إلى قُمْقُمَةٍ، وملأها ماءً، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائمًا - وهو في يده - حتى أصبح) (396) .
قال ابن المنكدر: " بِتُّ أكبس رِجْلَ أبى، وبات آخر يصلي - يعنى التهجد- ولا يسرني ليلته بليلتي "(*) .
وعن أبي عبد الرحمن قال: " كان رجل منا بَرُّا بوالديه، فأمراه أو أمره أحدهما أن يتزوج، فتزوج، فوقع بين أمه وبين امرأته شر، ووافقه أهله، فقالت له أمه: طلقْها، قال: فاشتد عليه أن يطلق امرأته، واشتد عليه أن يعق أمه، قال: فرحل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقص عليه قصته، فقال: ما كنت آمرك أن تطلق امرأتك، ولا أن تَعُق أمك، ولكن إن شئت حَدَثتُك حديثًا سمعتهُ من النبي صلى الله عليه وسلم: " الوالد (397) أوسط (398) أبواب الجنة، فإن شئت فحافظ على الباب، أو ضَيعْ "، قال فأنا أشهدكم أنها طالق، فرجع وقد طلق امرأته "(399) .
وعن أبي كثير السُّحَيمي قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه، قال:" والله، ما خلق الله مؤمنًا يسمع إلا أحبني "، قلت:" وما علمك بذلك؟ ! "، قال: (إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى
(396) " بر الوالدين، للطرشوشي ص (78) .
(*) من " المرأة وحقوقها، للشيخ مبشر الطرازي ص (62) .
(397)
الوالد: أي الشخص الوالد، فيشمل الأم والأب.
(398)
أوسط أبواب الجنة: أي خير أبواب الجنة، والمقصود أن طاعته تؤدي إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها.
(399)
الترمذي (1901) في البر والصلة، وقال:" هذا حديث صحيح، وصححه ابن حبان (2023) ، وانظر " شرح السنة) للبغوي (13/10-11)، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته: " لا يحل له أن يطلقها، بل =
الإسلام، وكانت تأبى عَلَي، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكى، فأخبرتُهُ، وسألتهُ أن يدعو لها، فقال:" اللهم اهْدِ أمً أبي هريرة "، فخرجْت أعدو أبشرها، فأتيت، فإذا الباب مُجَاف، وسمعتُ خضخضةَ الماء، وسَمِعَتْ حِسِّي، فقالت:"كما أنت"، ثم فتحتْ، وقد لبِست درعها، وعَجِلت عن خمارها، فقالت:" أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، قال: فرجعت إلى رسول الله، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن؛ فأخبرته، وقلت:" ادعُ الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين "، فقال:" اللهم، حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما "(400) .
وها هو رضي الله عنه يحكى أنه كان يشتد به الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلا الجوع، فيجد نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون:" يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ "، فيقول:" ما أخرجني إلا الجوع) ، يقول أبو هريرة: (فقمنا، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: " ما جاء بكم هذه الساعة؟ "، فقلنا: " يا رسول الله جاء بنا الجوع"، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: " كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا "، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة، وخبأت الأخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟ "، فقلت: " رفعتها لأمي "، فقال: " كُلْها، فإنا سنعطيك لها تمرتين، فأكلتها، فأعطاني لها تمرتين ") (401) .
عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها) اهـ. نقله عنه السفاريني في " غذاء الألباب "(2/331)، وانظر أيضا: " الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/503) .
(400)
أخرجه الإمام أحمد (2/219، 220) ، مسلم (2491) في فضائل الصحابة، وحسنه الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء "(2/593) .
(401)
" سير أعلام النبلاء"(2/592 - 593) ، "طبقات ابن سعد "(4/328 - 329) .
وعن أبي مُرَّة: (أن أبا هريرة كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحُلَيْفَة، فكانت أمه في بيت، وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: " السلام عليكِ - يا أمتاه - ورحمة الله وبركاته "، فتقول: " وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته "، فيقول: " رحمكِ الله كما ربَّيْتِني صغيرا "، فتقول: " رحمك الله كما بررتني كبيرًا "، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله)(402) ، (ولازم أبو هريرة أمه، ولم يحج حتى ماتت لصحبتها)(403) .
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأخذ البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عنه: (كان عمر رضى الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: " أفيكم أويس بن عامر؟ "، حتى أتى عَلَى أويس بن عامر، فقال:" أنت أويس بن عامر؟ " قال: " نعم "، قال: (مِن مراد؟ " قال: " نعم "، قال: " كان بك بَرَصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ " قال: " نعم "، قال: " لك والدة؟ " قال: " نعم "، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قَرَن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسمِ على الله لأبَرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل "، فاستغفِرْ لي، فاستغَفر له،
(402) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (12) ، وروى بعضه الإمام أحمد في (المسند" (4/409، 429، 430، 527) .
(403)
رواه ابن عساكر في " تاريخه "(47/516 - 517) ، كذا عزاه د. محمد عجاج الخطيب في " أبو هريرة راوية الإسلام " ص (120) .
فقال له عمر: " أين تريد؟ قال: " الكوفة"، قال: " ألا اكتب لك إلى عاملها؟ "، قال: " أكون في غبراء الناس أحب إلي ") (404) .
وعن أصبغ بن زيد، قال:" إنما منع أويسًا أن يَقْدَم على النبي صلى الله عليه وسلم بِره بأمه "(*) .
(وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كَهْمَس بن الحسن عقربا في البيت، فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته إلى جُحْرها، فأدخل يده في الجحر يأخذها، وجعلت تضربه، فقيل له: " ما أردت إلى هذا؟، لِمَ أدخلتَ يدك في جحرها تخرجها؟ " قال: " إني أحمد؟ خفت أن تخرج من الجحر فتجيء إلى أمي فتلدغها "، وكان يمينه الذي يحلف به: إني أحمد، وأحمد)(405) اهـ.
وعن الحسن بن نوح قال: (كان كَهمَس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه)(406) اهـ.
(وكان كهمس الدَّعَّاءُ يكسح البيت، ويخدم أمه، فأرسل إليه سليمان بن علي الهاشمي بصُرة، وقال: (اشتر بها خادمًا لأمك "، لأنه كان مشغولًا بخدمتها، وكان أبر شيء بأمه، وأراده على أن يقبلها فأبى، فألقاها في البيت، ومضى، فأخذها كَهمَس، وخرج يتبعه حتى دفعها إليه)(407) اهـ.
وكان عمرو بن عبيد يأتي كهمسًا يسلم عليه، ويجلس عنده هو
(404) رواه مسلم في " صحيحه " - انظر: شرح النووي" (5/223) .
(*)" سير أعلام النبلاء"(6/211) .
(405)
" حلية الأولياء "(6/211) .
(406)
، (407)" السابق "(6/212) .
وأصحابه، فقالت له أمه:" إني أرى هذا وأصحابه، وأكرههم، وما يعجبوني، فلا تجالسهم "، قال:" فجاء إليه عمرو وأصحابه، فأشرف عليهم، فقال: "إن أمي قد كرهتك وأصحابك، فلا تأتوني " (408) اهـ.
وقيل: " إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يُكَلَّمُ الأمير الذي لا يُنْتَصَف منه "(*) .
وعن بعض آل سيرين قال: " ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع "، وعن ابن عون قال:(دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: " ما شأن محمد أيشتكي شيئا؟ " قالوا: " لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ")(409) .
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهما وهو المسمى زين العابدين كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له:" إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة "، فقال:" أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عَيْنها، فأكون قد عققتها "(410) اهـ.
وهذا عبد الله بن عون (نادته أمه فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين)(411) .
(وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يُقَبلُ رأسَ أمه،
(408)"السابق"(6/212) .
(*)"المرأة وحقوقها" للشيخ مبشر الطرازي ص (62) .
(409)
" السابق "(2/273) .
(410)
" عيون االأخبار "(3/97) .
(411)
" حلية الأولياء "(3/39) .
وكان لا يمشى فوق ظهر بيت هي تحته - إجلالا لها -) (412) .
(وحُكي عن ابن القاسم: أنه كان يًقرأ عليه " الموطأ "- إذ قام قياما طويلًا ثم جلس، فقيل له في ذلك، فقال: " نَزَلَت أمي فسألتني حاجة فقامت، فقمتُ لقيامها، فلما صَعِدَتْ جَلَسْتُ ")(413) . (وكان حَيْوَةُ بنُ شُرَيح - وهو أحد أئمة المسلمين - يقعد في حلقته
يعلم الناس، فتقول له أمه:" قم يا حيوةُ، فألقِ الشعير للدَجاج "، فيقوم ويترك التعليم) (414) .
وعن هشام بن حسان قال: (كان الهُذَيلُ بن حفصة يجمع الحطب في الصيف، فَيَقْشرُه، يأخذ القصب، فيفلِقه، قالت حفصة: وكنت أجد قِرةً (*) ، فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي، وأنا في مُصَلَّاي، ثم يقعد فيوقَد بذلك الحطب المقشر، وذاك القصب المفلق وَقودًا لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك.
قالت: وربما أردت أنصرف إليه، فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك، ثم أذكر ما يريد فأدعه (415) .
قال هشام: وكانت له لِقْحة - أي ناقة حلوب غزيرة اللبن - قالت حفصة: كان يبعث إلى بحَلْبَةٍ بالغداة، فأقول:" يا بنى إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة "، فيقول: " يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات
(412) ، (413)" بر الوالدين" للطرطوشي ص (78) .
(414)
"السابق"(79) .
(*) القِرةُ: بكسر القاف، ما أصابك من القُر - بالضم - أي البرد.
(415)
"صفة الصفوة"(4/25) ، وفيه إعانة الوالد ولده على بره.
في ضروع الإبل، اسقِيه من شئتِ ") (416) .
(قال محمد بن سعد: كانت لمسعر بن كدام أم عابدة، فكان يحمل لها لِبدا، ويمشى معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللبد، فتقوم، فتصلي، ويتقدم هو إلى مقدم المسجد، فيصلى، ثم يقعد، ويجتمع إليه من يريد، فيحدثهم، ثم ينصرف إليها، فيحمل لبدها، وينصرف معها)(417) .
(ولى ممات ذَر - وكان من الأولياء - قال أبوه عمر بن ذَر: " اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك "، فقيل له: " كيف كانت عشرته معك؟ "، قال: " ما مشى معى قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى قط سقفا كنت تحته ")(418) .
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: " مات أبي، فما سألت الله - حَوْلا - إلا العفوَ عنه "(499) .
وكان عروة بن الزبير يقول في صلاته - وهو ساجد -: " اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر " يعنى والديه رضي الله عنهما (420) .
وكان أبو يوسف الفقيه يقول عقيب صلاته: " اللهم اغفر لأبَوَيَّ، ولأبي حنيفة "(421) .
(416)" السابق"(4/25 - 26) .
(417)
" السابق "(3/188-189) .
(418)
" بر الوالدين " للطرطوشى ص (76) ، وانظر سير أعلام النبلاء" (6/388) .
(419)
" عيون الأخبار"(3/98) .
(420)
" بر الوالدين للطرطوشي ص (77) .
(421)
السابق.
(وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله بَرا بوالديه، وكان يدعو لهما، ويستغفر لهما مع شيخه حماد، وكان يتصدق كل شهر بعشرين دينارًا عن والديه (أ) .
و (قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمر بن ذرّ كراهيةَ أن يرد قولها، وقال أبو حنيفة: ربما ذهبتُ بها إلى مجلسه، وربما أمرتني أن أذهب إليه، وأسأله عن مسألة، فآتيه، وأذكرها له، وأقول له: (إن أمي أمرتني أن أسألك عنها "، فيقول: " وأنت تسألني عن هذا؟ "، فأقول: " هي أمرتني"، فيقول: " قل لي: كيف هو - يعني الجواب - حتى أخبرك؟ "، فأخبره بالجواب، ثم يخبرني به، فآتيها، وأخبرها عنه بما قال، ونظير ذلك أنها استفتت عن شيء، فأفتيتها، فلم تقبله، وقالت: " لا أقبل إلا بقول زُرعة القاص "، - أي الواعظ - فجاء بها إليه، وقال له: " إن أمي تستفتيك في كذا "، فقال: " أنت أعلم وأفقه، فَأفتِها " قال: " أفتيتها بكذا "، فقال زرعة: " القول ما قال أبو حنيفة " فرضيت، وانصرفت (ب) .
وعن يحيى بن عبد الحميد قال: (كان الإمام يُخْرَجُ كل يوم من السجن، فيضْرَب ليدخل القضاء فيأبى فلما ضُرِب رأسُه، وأثًرَ ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: " إذا رأته أمي بكت، واغتمت، وما علىٌ شيء أشد من غَم أمي)(ج) اهـ.
وقال محمد بن شجاع الثلجي حدثني حبان - رجل من أصحاب أبي حنيفة- قال:
(أ)" أبو حنيفة النعمان " للشيخ: وهبى غاوجي الألباني ص (102) .
(ب)" أخلاق العلماء " للشيخ محمد سليمان ص (79) .
(ج) " أبو حنيفة النعمان ص (102) .
(قال أبو حنيفة حين ضُرِب لِيَليَ القضاء: " ما أصابني في ضربي شيء أشدُّ عَلَيَّ من غَم والدتي "، وكان بها بارُّا) .
وعن يحيى الحماني عن أبيه قال: (كان أبو حنيفة يُضْرَبُ على أن يلى القضاء، فيأبى، ولقد سمعته يبكي، وقال: " أبكي غَما على والدتي "!)(د) .
(د) مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه " للحافظ الذهبي ص (15 - 16) .
[فصل]
التحذير من عقوق الوالدين والأم
وما أحسن قول بعضهم، إغراءً على البر، وتحذيرًا عن العقوق ووباله، وإعلامَا بما يدحض العاق إلى حضيض سفاله، ويحطه عن كماله: (أيها المضيع لأوكد الحقوق، المعتاض عن البر بالعقوق، الناسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بر الوالدين عليك دَين، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنة بزعمك، وهى تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج، وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنًا، وأطارت لأجلك وَسَنًا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغِذا، وصيَّرت حِجرها لك مهدا، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، ولو خُيِّرت بين حياتك وموتها، لآثرت حياتك بأعلى صوتها، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعتَ وهى جائعة، ورويت وهي ضائعة، وقدمت عليها أهلك وأولادك في الإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان، وصعب لديك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها وما لها سواك نصير، هذا، ومولاك قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد (ذلك بما
قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) الحج (10) .
لأمك حَقٌّ لو علمتَ كبير
…
كثيرُك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي
…
لها من جواها أنَّةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة
…
فمن غُصَص منها الفؤاد يطير
وكم غَسَلَتْ عنك الأذى بيمينها
…
وما حَجْرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسِها
…
ومن ثديها شُرب لديك نمير (422)
وكم مرة جاعت وأعطتك قُوتَها
…
حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير
فآهًا لذي عقل ويتبع الهوى
…
وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونَكَ فارغب في عميم دعائها
…
فأنت لما تدعو إليه فقير (423)
(422) النمير لغة: الزاكي من الماء.
(423)
"الزواجر عن اقتراف الكبائر "(2/71-72) .
[فصل]
وفاؤها لأولادها
رغم أن الإسلام لم يحمد من المرأة كرهَها للزواج بعد زوجها (*) ، لقد شكر ذلك لها، وأجزل عليه مثوبتها، إن اعتزمته، وأقدمت عليه، وفاءً لأبنائها، ورعيا لهم، وضَنَا بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم: من سهل بن سعد مرفوعًا: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا: وأشار بالسبابة والوسطى، وفَرَّج بينهما شيئًا "(424) .
ويُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة، إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول لها: " مالك؟ ومن أنت؟ "، فتقول: " أنا أمرأة قعدتُ على أيتام لي)(425) .
ويروى عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال
(*) انظر: " سير أعلام النبلاء "(2/203) ، " سلسلة الأحاديث الصحيحة " رقم (1281) ، رقم (608) .
(424)
رواه مسلم رقم (2983) في الزهد والرقائق: باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، و " الموطأ " (2/948) في الشعر: باب السنة في الشعر.
(425)
ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد "(8/162) وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه عبد السلام بن عجلان، وثقه أبو حاتم، وابن حبان، وقال: " يخطئ، ويخالف " وبقية رجاله ثقات) اهـ، وقال أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري:(رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد حسن، ومعنى " قعدت على أيتام أي مات زوجها، وترك لها أيتاما، فلم تتزوج، وقعدت على أيتامها تربيهم) اهـ من " تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة " ص (178) - الحديث العشرون والمائة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة - وأومأ يزيد بن زريع الراوي بالوسطى والسبابة -، امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا (426) .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة فأعطيتها أياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ")(427)
وفي رواية لمسلم: (جائتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة وأعتقها بها من النار) .
وهذه أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها أخت أمير المؤمنين
(426) أخرجه الإمام أحمد (6/29) وأبو داود رقم (5149) في الأدب: باب فضل من عال يتيما وفي سنده النهاس بن قهم بن الخطاب البصري القاضي قال الحافظ في التقريب: ضعيف والسفعة نوع من السواد ليس بكثير وأراد أنها بذلت نفسها ليتاماها وتركت الزينة والترفه حتى شحب لونها واسود وآمت - بالمد - أقامت بلا زوج ومعنى بانوا انفصلوا واستغنوا وانظر: عون المعبود (14/58) .
(427)
رواه البخاري (4/26) في الزكاة: باب اتقوا النار ولو بشق تمرة وفي الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومسلم رقم (2629) في البر والصلة باب فضل الإحسان إلى البنات والترمذي رقم (1916) في البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات.
علي رضي الله عنه، وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وراوية حديث الإسراء، فَرق الإسلام بينها وبين زوجها (هبيرة) (428) ، وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم هانئ: " يا رسول الله، لأن أحب إليَّ من سمعي ومن بصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضَيِّعَ حق زوجي "، وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم، وشكر لها ذلك، فقال: " إن خير نساءٍ ركبن الإبل نساءُ قريش، أحْناه على ولدٍ في صِغَرِه، وأرْعاهُ على بَعلٍ - أي زوج - في ذات يده " (429) .
وانصرفت أم هانئ إلى الاهتمام بأمور أبنائها وتربيتهم تربية صالحة، فنشأوا عالمين عاملين، وروى بعضهم عنها ما حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث أمثال ابن ابنها جَعْدة المخزومي، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها هارون، وعاشت حتى خلافة أخيها علي رضي الله عنه.
وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت تقول له: " إني مُصبْية "(430)، فأرسل إليها: " أما ما ذكرتِ من أيتامك
(428) انظر: " سير أعلام النبلاء "(2/312 - 313) .
(429)
رواه البخاري (9/107) في النكاح: باب إلى من ينكح؟ وأي النساء خير؟ وفي النفقات: باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة، ومسلم (2527) في فضائل الصحابة: باب خيار الناس، والإمام أحمد (2/269) ، 275، 393، 449، 502) ، وفي رواية " المستدرك " (4/53) :(لكني امرأة مُصبِية، فأكره أن يؤذوك) .
(وقوله: " أحناه على ولد ": أشفقه، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، وحنت المرأة على ولدها: لم تتزوج بعد موت الأب، قال ابن التين: فإن تزوجت فليست بحانية، قال الحسن في الحانية: التي لها ولد، ولا تتزوج) اهـ.
من " فتح الباري "(6/473) .
(430)
أي ذات صبية، والصبي من لم يفطم بعد، وقد كان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم، وعمر وزينب أصغرهم، وربوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى الله وعلى رسوله "، فقالت عند ذلك: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم "(431)
وتلك أم سُليم الغُمَيْصاء رضي الله عنها إحدى السابقات إلى الإسلام، أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلًا رضيعًا، فكانت تقول له: قل: " لا إله إلا الله "، قل:" أشهد أن محمدَا رسول الله " فجعل ينطق بذلك أولَ ما ينطق، فكان مما يثير الغضب في نفس مالك، فيقول لها:" لا تفسدي علي ولدى " فتقول: " إني لا أفسده "! ، ثم أيأسه أمرها فخرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدوا له، فقتله، فلما بلغها قتله - وكانت شابة حَدَثَة، وكثر خُطَابُها - قالت:" لا جَرَمَ، لا أفطم أنسًا حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني " فوفت بعهدها وَبَرَّتْ، وكان أنس رضي الله عنه يعرف لها تلك المنة، ويقول:" جزى الله أمي عني خيرًا، لقد أحسنت ولايتي ".
حتى إذا شب أنس تقدم لخِطتها أبو طلحة زيد - وكان مشركًا - فأبت، ثم قالت له يومًا فيما تقول:" أرأيت حجرًا تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار، فينجرها لك: هل يضرك؟ هل ينفعك؟ "، وأكثرت من أشباه ذلك الكلام، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال:" لقد وقع في قلبي الذي قلتِ "، وآمن بين يديها، قالت:" فإني أتزوجك، ولا أريد منكَ صَداقًا غير الإسلام "(432)، قال ثابت:
(431) انظر روايات الحديث في " الطبقات " لابن سعد (8/90) ، و " المسند " للإمام أحمد (6/313، 314، 317) ، وسنن النسائي (6/81، 82) في النكاح: باب إنكاح الابن لأمه، وقال الحافظ في " الإصابة " (13/223) :(إسناده صحيح) اهـ.
وصححه ابن حبان (1282) ، والحاكم (4/17) ، ووافقه الذهبي.
(432)
أخرجه ابن سعد في " الطبقات "(8/426)، والنسائي (6/114) في النكاح: =
(فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم الإسلام)(433) اهـ.
وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى (أم أثال) - وكانت كأحسن النساء وجها-، فلما مات زوجها، تدافع الخُطَابُ على بابها، فردَّت كل خاطب، وفاءً لابنها أثال:
لعمر أثال لا أفدي بعيشه
…
وإن كان في بعض المعاش جفاءُ
إذا استجمعت أم الفتى غَص طَرفَه
…
وشاعَرَهُ دون الدِّثار بلاءُ (434)
ذلك بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما وُكلَتْ به، وخُلِقَتْ له، بعد العبودية لرب العالمين.
الأمومة والتضحية:
تنتقل المرأة بعد ذلك إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أعدَّت له من كمال النفس، وشرف العاطفة، ذلك طور التضحية، فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن فُصِل عن لحمها ودمها، تسهر لينام، وتظمأ لِيروى، وتحتمل الألم المُمِضَّ- راضية مغتبطة - لتذيقه طعم الدعة، وتُنْشِيَهُ نسيم النعيم.
تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها:
* والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ "
وهاك هذه القصة الشعرية الرمزية، والتي يُظهر فيها الشاعر حقيقة قلب الأم، وما يكنه من مشاعر وعواطف، ورأفة وحنان:
= باب التزوج على الإسلام، ورجاله ثقات خلا خالد بن مخلد، وهو القَطَواني، قال الحافظ في " التقريب " (1/218) :(صدوق يتشيع، وله أفراد) اهـ.
(433)
رواه النسائي (6/114)، وانظر:" المحلى"(9/499 - 500) .
(434)
" بلاغات النساء " ص (132 - 133) .
أغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا
…
بنقوده كيما ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى
…
ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وَأغرزَ خِنجرًا في صدرها
…
والقلبَ أخرجهُ وعاد على الأثر
لكنه من فرطِ سرعتهِ هوى
…
فتدحرجَ القلبُ المقطعُ إذ عَثَر
ناداه قلبُ الأم وَهْوَ مُعَفرٌ
…
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
***
فكأنَّ هذا الصوتَ رغم حُنُوهِ
…
غضبُ السماءِ على الغلامِ قد انهمر
فدرى فظيع جناية لم يَجْنِها
…
ولد سِواه منذ تاريخِ البشر
فارْتَد نحو القلب يغسِلُه بما
…
فاضت به عيناهُ من سيلِ العِبَر
ويقولُ يا قلبُ انتقم مني ولا
…
تغفرْ فإنَّ جريمتي لا تُغتَفَر
واسْتَل خِنجرَهُ ليطعنَ قلبَهُ
…
طعنًا فيبقى عِبْرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كُفَّ يدًا، ولا
…
تطعنْ فؤادي مرتين على الأثر (435)
(435) نقلًا من " خطر التبرج والاختلاط " لعبد الباقي رمضون " ص (134 - 135) .