الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين
الحق الأول: غض الطرف عن الهفوات والأخطاء، وخاصة غير المقصود منها السوء في الأقوال والأفعال، وقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" كُل بَني آدَمَ خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون "(590) .
فعلى كل من الزوج والزوجة أن يحتمل صاحبه، فلكل جواد كبوة، ولكل امرئ هفوة، ولكل إنسان زلة، وأحق الناس بالاحتمال من كان كثير الاحتكاك بمن يعاشر.
قال الشاعر:
إذا كنتَ في كُل الأمور مُعاتِبًا
…
صديقَكَ، لم تَلْقَ الذي لا تُعَاتِبُه
فَعِشْ واحدًا أوْ صِلْ أخاكَ فإنه
…
مُقارفُ ذَنب مرةً ومجَانِبُهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِرارًا على القَذَى
…
ظمِئتَ، وَأي الناس تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟
مَنْ ذَا الذي ترضَى سجاياه كُلها؟
…
كفى المرءَ نُبْلا أن تُعَد مَعَايِبُهْ
وقال آخر:
مَنْ ذا الذي ما ساءَ قط
…
ومَن لَه الحسنى فقط؟!
وقال آخر:
(590) أخرجه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة: باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وابن ماجه رقم (4251) في الزهد: باب ذكر التوبة، والدارمي (2/303) في الرقاق: باب في التوبة، وأحمد (3/198) ، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع"(4/171) .
أرى كُل إنسان يرى عيبَ غيرِه
…
ويعمَى عن العيب الذي هو فيه
إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، فهو لا يرضى لها الضعف في مجال القوة، أو الغضب في مقام الحلم، والسكوت في معرض بيان الحق.. ولكنه يتحمل نفسه، ويتعلل بما يحضره من المعاذير، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين يلتمس كلاهما لقرينه المعاذير، "فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات "، وحين تحسن النوايا، وتتواد القلوب، ويكون التعقل هو مدار المعيشة، يتوفر هذا الجانب الكريم في حياة الأسرة.
وعلى كل طرف ألا يقابل انفعال الآخر بمثله، فإذا رأى أحد الزوجين صاحبه منفعلًا بحدة، فعليه أن يكظم غيظه، ولا يرد على الانفعال مباشرة، وهذه النصيحة يجب أن تعمل بها المرأة أكثر من الرجل رعايةً لحق الزوج، وما أجمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه لزوجته:" إذا رأيتني غَضِبت، فَرَضِّني، وإذا رأيتُكِ غَضبتي رَضيتكِ، وإلا لم نصطحب ".
وعن محمد بن إبراهيم الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: (أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة، فقال لها: " إني سيء الخلق"، فقالت: " أسوأ منك خُلُقًا من أحوجك أن تكون سيء الخلق "، فقال: " إذا أنت امرأتي ")(591) .
وتزوج الإمام أحمد رحمه الله عباسة بنت المفضل، أم ولده صالح، وكان الإمام أحمد يثني عليها، ويقول في حقها:
" أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة "(592) .
(591)"أحكام النساء" ص (82) .
(592)
"طبقات الحنابلة"(1/429) .
الحق الثاني: المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان:
في الهموم والمطالب، وما أصدق كلام عمر رضي الله عنه وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يبكي هو وأبو بكر رضي الله عنه، بعد قبوله الفداء في أسرى بدر ونزول العتاب:
قال: (قلت: يا نبى الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإلا تباكيت لبكائكما)(593) الحديث.
إن المودة لا تهبط علينا هبوطَا، ولا تنبع من تحت أرجلنا نبعَا، إننا إن لم نسع إليها ونأخذ بأسبابها الموصلة إليها لم نبلغها، ومن أعظم هذه الأسباب المشاركة العاطفية والوجدانية، التي إن لم يتشبع بها الجو الأسري، فقد المحبة والتعاون، وحل محلهما الكراهية والتواكل، وهذا هو الخراب الحقيقي للبيت، فإن بيتًا يقوم على الكراهية، والنزاع، والخصام بيت خرب، أشبه ما يكون بأتون يحرق كل من يقترب منه بَلْهَ من يسكنه.
إن المشاركة في الأفراح تجعلها مضاعفة، والمواساة في المصائب تكسر حدتها، والمصيبة إذا عمت خفت.
فليتعاون الزوجان في السراء والضراء، على جلب السرور ودفع الحزن، في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، " والله في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه ".
الحق الثالث: أن ينصح كل منهما قرينه في طاعة الله تعالى، ويتطاوعا في ذلك: وقد تقدم في الحديث الصحيح بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن من أفضل
(593) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (1763) في الجهاد: باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم.
ما يتخذه الإنسان: " زوجةً مؤمنة تعينه على إيمانه "(594) .
قال المباركفوري رحمه الله: (أي على دينه بأن تذكِّرَه الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات، وتمنعه من الزنا، وسائر المحرمات)(595) اهـ.
إِن التعاون على طاعة الله تعالى يتوج التفاهم بين الزوجين، ويبلغ به القمة، والتعاون شعار المجتمع الإسلامي:(وتعاونوا على البر والتقوى) فكيف بالزوجين؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيب بالزوجين أن يجتهد كل منهما في إعانة الآخر على بلوغ الكمال الديني، فيحثه على أخلص العبادة لله، وهى " قيام الليل " فيروي عنه أبو هريرة رضي الله عنه قوله:" رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى، وأيقظ امرأته، فَصَلَّتْ، فإن أبت نضح في وجهها الماء (596) ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبي نضحت في وجهه الماء "(597) .
(594) تقدم تخريجه برقم (537) .
(595)
(تحفة الأحوذي (4/165) .
(596)
نضح: رش، (في وجهها الماء) قال المناوي:(نبه به على ما في معناه نحو ماء ورد أو زهر) اهـ من " فيض القدير "(4/25)، وقال الدكتور نور الدين عتر:(ومعنى النضح الرش الذي لا يؤذي ولا يؤدي إلى استفزاز، ويمكن استعمال شيء آخر كماء الزهر، أو مسح الوجه بشيء من الطيب) اهـ. من " ماذا عن المرأة؟ ".
(597)
رواه أبو داود رقم (1308) في الصلاة: باب قيام الليل، والنسائي (3/205) في قيام الليل: باب الترغيب في قيام الليل، وابن ماجه (1336) ، وابن حبان (646- موارد) ، والحاكم (1/309) ، وصححه على شرط مسلم، والإمام أحمد (2/ 250، 436)، ونقل في " فيض القدير" قول النووي رحمه الله: " إسناده صحيح، اهـ (4/26) .
ويمتثل أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث- ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم:، فيطبقه على نفسه وأهله، فكان هذا ديدنه يصوم النهار، ويقوم الليل: يقوم ثلث الليل، ثم يوقظ امرأته، فتقوم ثلثه، ثم توقظ هذه ابنته، لتقوم ثلثه (598)، وقال أبو عثمان النهدي:(تضيفت أبا هريرة سبع ليال، فكان هو وخادمه وامرأته يعتقبون الليل أثلاًثا " (599) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصليا - أو صلى- ركعتين جميعًا، كُتِبا في الذاكرين الله كثيرا والذاكرات "(600) .
(598)" البداية والنهاية"(8/ 110) .
(599)
"حلية الأولياء"(1/383) .
(600)
رواه أبو داود رقم (1309) في الصلاة: باب قيام الليل، ورقم (1451) باب الحث على قيام الليل، والطبراني في " الصغير"(1/81) ، والحاكم (2/416) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الألباني:(وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، والنووي، والعراقي) اهـ من " المشكاة"(1/390) .
تعاون الزوجين على البر والتقوى
وأثره عليهما وعلى ذريتهما
ولا شك أن لتعاون الزوجين على البر والتقوى آثارًا عظيمة عليهما وعلى ذريتهما في الحاضر والمستقبل.
أما في الحاضر: فإن شيوع هذه الروح في البيت وتشبع الطفل بها، يؤدى إلى حبه لطاعة الله، وتعظيمه لشعائر الإسلام، وسهولة انقياده لأمر الله، اقتداءً بأبويه كما قال تعالى:(ذرية بعضها من بعض) آل عمران (34)، وأما في المستقبل القريب في الدنيا:
فقد بين القرآن الكريم أن صلاح الآباء ينفع الأبناء، وهذا الخضِر عليه السلام وقد بنى الجدار متبرعَا، فيقول له موسى عليه السلام:(لو شئت لتخذت عليه أجرا) الكهف (77) ، فيبين له سبب عدم أخذه على ذلك أجرًا، فيقول:(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحَا) الآية الكهف (82) ، وإذا ما نشأث الذرية على طاعة الله عز وجل، وتعظيم دينه، سهل عليهم أمر التكاليف الشرعية حين يبلغون، فيستحقون بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في قوله:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: " شابا نشأ في عبادة الله عز وجل "(601) ، ثم إذا فارق الأبوان الدنيا نفعهما دعاء الولد
(601) جزء من حديث رواه البخاري (2/119) ، في الجماعة، ومسلم رقم (2031) في الزكاة، والترمذي رقم (2392) في الزهد، والنسائي (8/222) في القضاة، وغيرهم.
الصالح كما في الحديث.
وإذا استقامت الذرية بعد فراق الأبوين على هذا العهد، كان اللقاء بينهم من جديد في جنة الخلد، ودار الكرامة: قال سبحانه: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) الطور (21) .
لهذا قال أحد الصالحين: " يا بني إني لأستكثر من الصلاة لأجلك"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أنزل الله تعالى بعد هذا:(ألحقنا بهم ذريتهم) يعني بإيمان، فأدخل الله عز وجل الأبناء بصلاح الآباء الجنة (602) .
وفي رواية: (ألحقنا بهم ذريتهم) قال ابن عباس: (إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) الطور (21)، يقول: وما نقصناهم " (603) .
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: " إني لأصلي، فأذكر ولدي، فأزيد في صلاتي "(604) .
إن تقوى الله تبارك وتعالى، والعمل الصالح الذي يتعاون عليه الزوجان أعظم ذخيرة يدخرها الأبوان لحماية أولادهما، وأوثق تأمين على مستقبل ذريتهما، وأقوى ضمان لسلامتهم، ورعاية الله لهم في حياتهما، وبعد رحيلهما، خاصة إذا تركاهم ضعافًا يتامى، لا راحم لهم ولا عاصم
(602) " الاعتقاد، للبيهقي ص (74- 75) .
(603)
"الدر المنثور" للسيوطي (6/119) .
(604)
عزاه إلى " حسن الأسوة " صاحب " منهج التربية النبوية للطفل " ص (45) .
من البشر، قال جل وعلا:(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) النساء (9) .