الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) الحقوق الأدبية
(4)
حرية المرأة في اختيار الزوج
لقد حفظ لها الإسلام حقها في اختيار الزوج، واحترم إرادتها فيه، إذ إن هذا الموقف هو أدق المواقف في حياتها، وأمسها بمستقبلها، وهل هناك ما هو أدل على احترام الإسلام رَأي المرأة في هذا الموطن من حديث أم هانئ بنت أبي طالب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:" يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي ومن بصرى، وإني امرأة مُؤتمة، وبني صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولَدٍ في صِغره، وأرعاه على بَعْل في ذات يده "(770) .
تلك امرأة أبدت صفحة العذر عن بلوغ أقدس منزلة تبلغها المرأة المسلمة، وهى منزلة أمومة المؤمنين، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيها إكبارًا قلَّد قريشا بأسرها تلك الشهادة العالية الكريمة.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية يُنْكحُها أهلُها، أتستأمَرُ أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نعم تُستأمر "، فقالت: فقلت له: إنها تستحيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذلك إذنُها إذا هي سكتت "(771)، وفي لفظ النسائي وأحمد: " استأمروا
(770) تقدم برقم (429) .
(771)
أخرجه البخاري رقم (5137) في النكاح، ومسلم- واللفظ له- رقم (1420)(2/1037) ، والنسائي (6/ 85 - 86) ، والبيهقي (7/123) ، وأحمد (6/ 45، 165، 203) .
النساء في أبضاعهن "، قيل: " فإن البكر تستحيي أن تكلم؟ " قال: " سكوتها إذنها ") .
غير أن في المسألة تفصيلا نذكره فيما يلي:
أولًا: البكر الصغيرة:
يجوز للأب تزويج البكر الصغيرة قبل البلوغ بدون إذنها، لأنها لا إذن لها، قال الحافظ ابن حجر:(إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها)(772) ، وقد دل على ذلك القرآن، والسنة، والإجماع:
- أما القرآن الكريم:
فقول الله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يَحضنَ)(الطلاق: 4) ، (فجعل لِلَّائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من الطلاق في نكاح أو فسخ، فدل ذلك على أنها تُزَوج، وتطلق، ولا إذن لها فيعتبر)(773) .
وقال عز وجل: (وأنكحوا الأيامى منكم)(النور: 32)، والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة.
- وأما السنة:
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه زوج ابنته عائشة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهى بنتُ سِتِّ سنين، وبنى بها وهي بنت تسع
(772)" فتح الباري"(9/193) ط. السلفية.
(773)
" المغني"(6/487)، وانظر:" الجوهر النقي"(7/114-115) .
سنين (774)
وعنها رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وَزُفَّت إِليه وهي بنت تسع سنين، ولُعَبُها معها "(775) الحديث.
وعنها رضي الله عنها قالت: " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسِتّ سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، قالت: فقدمنا المدينة، فَوُعِكتُ شهرًا، فَوَفَى شعري جُمَيْمَةً، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي، فصرخَتْ بي، فأتيتها، وما أدرى ما تريد بي، فأخذَتْ بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هَهْ هَهْ حتى ذهب نفَسِي، فأدخلتني بيتًا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: " على الخير والبركة، وعلى خير طائر"، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحْنَنِي، فلم يَرُعْنِي إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضُخى، فأسلمنني إليه "(776) ، ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها.
وقد زَوجَ عَلِىُّ رضي الله عنه ابنته أم كلثوم وهي صغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (777) .
- وأما الإجماع:
فقال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوَّجها من كفء) (778) اهـ.
(774) كما رواه عنها البخاري (9/190) ط. السلفية، ومسلم (2/1039) وغيرهما.
(775)
رواه مسلم (2/1039) .
(776)
رواه مسلم رقم (1422) ، (2/1038)، وانظر:" شرح الأبي"(4/35 - 37) .
(777)
انظر: " سنن البيهقي"(7/114) ، " المستدرك"(3/142) ، " المعجم الكبير" للطبراني (3/36، 37) ، (11/243) .
(778)
" المغني"(6/487)، وانظر:" نيل الأوطار"(6/136) .
تنبيهان:
الأول: اعلم- رحمك الله- أن الحكمة من جواز تزوج الصغيرة قد تكمن في ظهور مصلحة لها في ذلك، ويكون الأب قد وجد الكفء، فلا يُفَوته إلى وقت البلوغ، ومع هذا الجواز فالأفضل أن يتريث حتى تكبر، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في القديم:" أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق "(779) اهـ.
الثاني: أنه - وإن جاز العقد عليها وهي صغيرة - إلا أنه لا يمكن منها حتى تصلحَ للوطء (780) .
ثانيَا: البالغ الثيب: (781)
وهذه لا يجوز تزويجها بغير إذنها، وإذنها الكلام بخلاف البكر فإذنها الصمات، ولا يجوز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جدُّا أو غيرهما، وهذا قول عامة أهل العلم.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وَرَدُّ النكاح إذا كانت ثيبا فَزُوجَتْ بغير رضاها: إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت)(782) اهـ.
(وقال إسماعيل بن إسحاق: " لا أعلم أحدًا قال في البنت بقول الحسن "، وهو قول شاذ خالف فيه أهل العلم والسنة)(783) اهـ.
(779)" المجموع شرح المهذب "(15/58) .
(780)
انظر: " نيل الأوطار"(6/137) .
(781)
الثيب: المرأة فارقت زوجها، أو دُخِل بها، وأصل الثوب: رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، سميت به لأنها تثوب عن الزوج، وقد يطلق على المرأة البالغة وإن كانت بكرًا مجازا واتساعا.
(782)
" فتح الباري " ط. السلفية (9/194) .
(783)
" المغني"(6/492) .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيم أحق (784) بنفسها من وليها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها "(785) .
وروى البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر"، ووقع عند ابن المنذر والدارمي والدارقطني بلفظ:" لا تُنكح الثيب"، وعند ابن المنذر أيضًا:" الثيب تُشاوَر"(786) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وظاهر هذا الحديث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في "الأيم"، ومنه قولهم: " الغزو مأيمة" أي: يقتل الرجال فتصير النساء أيامى)(787) اهـ.
وقال أيضًا: (قوله " حتى تستأمر" أصل الاستثمار طلب الأمر، فالمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله "تستأمر" أنه لا يعقد عليها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي، بل فيه إشعار باشتراطه)(788) اهـ.
فأمر الثيب إلى نفسها، ويحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد،
(784) قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: (واعلم أن لفظة " أحق" هنا للمشاركة، معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقا، ولوليا حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا، وامتنعت: لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولي: أجبر، فإن أصَر زَوجَها القاضي، فدل على تأكيد حقها ورجحانه) اهـ.
من "شرح النووي"(9/204)، ونقل في " عون المعبود" عن ابن الجوزي قوله:(إنه أثبت لها حقا، وجعلها أحق، لأنه لا يجوز للولي أن يزوجها إلا بإذنها) اهـ.
(6/101)، وقال الصنعاني في "سبل السلام":(أحقيته الوِلاية، وأحقيتها رضاها، فَحقها آكد من حقه، لتوقف حقه على إذنها) اهـ (3/119) .
(785)
رواه مسلم رقم: (1412)(2/1037) .
(786)
" فتح الباري"(9/192) ، وانظر رقم (792) .
(787)
، (788)"فتح الباري"(9/192) .
لأن " الأمر " صريح في القول والنطق باللسان، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، قال البغوي:(فإن زوجها وليها بغير إذنها، فالنكاح مردود)(789) .
وعن خنساء بنت خِدام الأنصارية رضي الله عنها: (أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نكاحَها)(790) . ثالثًا: البكر البالغة:
وهذه فيها قولان مشهوران:
أحدهما: أن البكر تُستأذنَ تطييبًا لنفسها، لا أن إذنها شرط في صحة العقد كما في الثيب.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي، وأصحابه.
والثاني: أنه يُشترَطُ إذنُها كما يُشترط إذن الثيب، فلا يجوز إجبارها على النكاح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره أبو بكر عبد العزيز، وصوَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال رحمه الله:(وهذا القول هو الصواب، والناس متنازعون في " مناط الإجبار" هل هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ (791) ؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال
(789)" شرح السنة "(9/31) .
(790)
أخرجه البخاري رقم (5138) في " النكاح": باب إذا زَوج الرجل ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود، وأبو داود (2101) ، والنسائي (6/86) ، والدارمي (2/139) ، وابن ماجه (1873) ، والبيهقي (7/119) ، وأحمد (6/328)، وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:" وهو حديث مجمع على صحته" اهـ.
(791)
كذا بالأصل، ولعلها:" مجموعهما"، وانظر:"زاد المعاد"(5/99) .
في مذهب أحمد وغيره، والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر (792) فقيل له: "إن البكر تستحيي" فقال: " إذنها صماتها"، وفي لفظ في الصحيح: " البكر يستأذنها أبوها".
فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح البكر حتى تُستأذن "، وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضًا: فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعُها أعظم من مالها (793) ، فكيف يجوز أن يتصرف في بُضْعِها مع كراهتها ورشدها؟!
(792) رواه البخاري رقم (5136) ، ومسلم رقم (1419) ، والترمذي (1107) و (1109) ، وأبو داود (2092) ، (2093) ، والنسائي (6/85) ، واعلم أن الاستئمار لا يكون جوابه إلا بالنطق، لأنه طلب الأمر، والأمر لا يكون إلا بالنطق، أما الاستئذان فهو طلب الإذن، وهو يصح بالسكوت، انظر:" فتح الباري"(9/191 - 193) ط. السلفية، و"موسوعة الفقه الإسلامي"(5/132) .
فائدة: (قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن) اهـ (فتح الباري 9/193)، وقال الأبي:(استحباب إعلامها بذلك هو المشهور، ونقل ابن رشد عن ابن مسلمة أن إعلامها بذلك واجب، وعلى القولين يكفي إعلامها مرة واحدة، وقال ابن شعبان: يقال ذلك لها ثلاًثا: " إن رضيت فاسكتي، وإن كرهت فانطقي، واستحب ابن الماجشون الوقوف عندها قليلًا) اهـ من " إكمال إكمال المعلم" للأبي (4/30) .
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: (ومعلوم أن إخراج مالها كُله بغير رضاها، أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها) اهـ. من " زاد المعاد"(5/97) .
وأيضا: فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضًا فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفوًا، وعين الأب كفوًا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد، فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب، كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها " وفي رواية: " الثيب أحق بنفسها من وليها "، فلما (794) جعل الثيب أحق بنفسها، دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق (795) ، وليس ذلك إلا للأب والجد، هذه عمدة المجبرين، وهم تركَوا العمل بنص الحديث، وظاهره؛ وتمسكوا بدليل خطابه؛ ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قوله:" الأيم أحق بنفسها من وليها " يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد (796) ، و"الثاني"
(794) كذا كالأصل (32/24)، ومقتضى السياق:(قالوا: فلما جعل) .. إلخ وتنتهي حكاية كلامهم عند قوله: (إلا للأب والجد) فتأمل.
(795)
راجع الحاشية رقم (784) ، والجواب عما ذكروه أن المفهوم الذي يستدلون به هنا لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، وفي حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي:" والبكر يستأمرها أبوها"، وهذه زيادة زادها ابن عيينة في حديثه، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة. (796) قال ابن قدامة رحمه الله:
(أما البكر فإذنها صماتها في قول أهل العلم منهم شريح والشعبي وإسحاق والنخعي والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وأبو حنيفة، ولا فرق بين كون الولي أبا أو غيره، وقال أصحاب الشافعي: "في صمتها في حق غير الأب وجهان: =
قوله: " والبكر تستأذن"، وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحب (797)، حتى طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا:" لما كان مستحبا اكتفي فيه بالسكوت"، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر، فلابد من النطق، وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم؟ ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها.
= أحدهما: لا يكون إذنا لأن الصمات عدم الإذن، فلا يكون إذنا، ولأنه محتمل للرضى والحياء وغيرهما، فلا يكون إذنا كما في حق الثيب، وإنما اكتفي به في حق الأب لأن رضاءها غير معتبر "، وهذا شذوذ عن أهل العلم وترك للسنة الصحيحة الصريحة، يصان الشافعي عن إضافته إليه، وجعله مذهبا له مع كونه من أتبع الناس لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرج منصف على هذا القول) اهـ من " المغني" (6/493) ، وقال الحافظ ابن حجر: (وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحيي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار لجميع الأولياء) اهـ من " الفتح" (9/193) ، وانظر: " المجموع شرح المهذب" (15/55، 58) ، " بداية المجتهد" (2/5) .
(797)
قال ابن قدامة رحمه الله: " لا نعلم خلافا في استحباب استئذانها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر به، ونهى عن النكاح بدونه، وأقل أحوال ذلك: الاستحباب، ولأن فيه تطييب قلبها، وخروجا من الخلاف، وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم تستأمر"، وقال: " استأمروا النساء في أبضاعهن، فإن البكر تستحيي فتسكت، فهو إذنها" متفق عليهما، ورُوي عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمر بناته إذا أنكحهن، قال: كان يجلس عند خدر المخطوبة، فيقول: " إن فلانا يذكر فلانة" فإن حركت الخدر لم يزوجها، وإن سكتت زوجها) اهـ من " المغني" (6/ 491) .
وأما المفهوم: فالنبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: " لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر "، فذكر في هذه لفظ " الإذن" وفي هذه لفظ " الأمر"، وجعل إذن هذه الصمات، كما أن إذن تلك النطق، فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن "البكر" لما كانت تستحيي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها؛ بل تخطب إلى وليّها، ووليُّها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداءً، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها، وأما الثيب لقد زال عنها حياء البكر، فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها، فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها (798) فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذَن للبكر، فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟) إلى أن قال رحمه الله:(والشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج، وحصل بينهما شقاق، فإنه يُجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره؛ فكيْفَ تؤسر معه أبدًا بدون أمرها؟ والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (799) :
(798) كذا بالأصل، ولعل الصواب:" يطيعها".
(799)
" مجموع الفتاوى"(32/22-28) مع اختصار يسير.
" اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله "(800)) اهـ.
ومما يدل لهذا المذهب إضافة إلى ما تقدم:
- ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: (أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم (801) .
ويروَى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (قال لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " اخطب عَلي ابنة صالح "، فقال:" إن له يتامى، ولم يكن ليؤثرنا عليهم "، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب، فانطلق زيد إلى صالح، فقال:" إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك"، فقال:" لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي - أي أهين قرابتي -، وأرفع لحمكم، أشهدكم أني أنكحتها فلانا " - وكان هوى أمها إلى عبد الله ابن عمر -، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:" يا نبي الله، خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيما في حَجْرِه، ولم يؤامرها"، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح فقال:" أنكحت ابنتك، ولم تؤامرها؟ "،
(800) تقدم تخريجه برقم (240) .
(801)
أخرجه أبو داود رقم (2096) في النكاح: باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها، وابن ماجه رقم (1875) في النكاح: باب من زوج ابنته وهي كارهة، والإمام أحمد في " المسند"(1/273) ، من حديث جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الحديث (صححه ابن القطان، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": " ولا معنى للطعن في الحديث، فإن طرقه تقوى بعضها بعضا ") اهـ نقلاً من " تحفة الأحوذي"(2/180) ط. الهند، وانتصر لتصحيحه الإمام المحقق ابن القيم في " زاد المعاد"(5/96 -97) ، وفي " تهذيب السنن "(6/120-122) ، وذكره الألباني في " صحيح ابن ماجه" برقم (1520)(1/315) .
فقال: " نعم"، فقال:" أشيروا على النساء في أنفسهن "(802) ، وهي بِكر، فقال صالح:" فإنما فَعَلْتُ هذا لما يُصْدِقُها ابن عمر، فإن له في مالي مثلَ ما أعطاها "(803) .
وقد وقعت لابن عمر قصة أخرى خلاف هذه:
قال رضي الله عنهما: (توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون - قال عبد الله: وهما خالاي - قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوَّجَنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني إلى أمها - فأرْغَبَها في المال، فحطَّت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: " يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتُها ابنَ عمتها عبد الله بن عمر فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها "، قال: فانتُزِعَتْ والله مني بعد أن ملكتُها، فزوجوها المغيرة بن شعبة (804) .
(802) أخرجه الإمام أحمد (2/97) ، (4/192) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار، (4/369) ، وأورده الهيثمي وقال: " رواه أحمد، وهو مرسل، ورجاله ثقات "، قال في " الفتح الرباني": " وفي سنده اضطراب وانقطاع" اهـ (17/161) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" (3/442 - 443) .
(803)
(معناه: أني ما زوجتها لليتيم إلا لأن ابن عمر سمَّى لها من الصداق شيئا لا يزيد عما يستحقه اليتيم في مال، فاليتيم أولى، والله أعلم) اهـ. من " الفتح الرباني"(17/161) .
(804)
أخرجه الإمام أحمد (2/130) ، والدارقطني (3/230)، وقال الألباني في إسناده:(وهذا إسناد جيد، رجاله رجال الشيخين غير ابن إسحق، وقد صرح بالتحدث، وقد توبع، فرواه الدارقطني، والحاكم (2/167) عن ابن أبي ذئب =
والحاصل (805) : أنه لا يجوز أن تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، فإن وقع لم يصح العقد، وهذا مذهب الأوزاعي، والثوري، والحنفية، وغيرهم، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم.
وهذا هو المذهب الحق الذي يجب أن ندين الله به، ولا نعتقد سواه، للأسباب الآتية:
أولاً: أنه موافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ثانيا: أنه موافق لأمره صلى الله عليه وسلم، فإنه قال:" والبكر تستأذن"، وهذا أمر مؤكد، لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوتهِ ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه. ثالثا: أنه موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهو الوارد في قوله:" لا تنكح البكر حتى تُستأذن " فَأمَرَ، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إِثبات للحكم بأبلغ الطرق.
رابعا: أنه موافق لقواعد شرعه صلى الله عليه وسلم، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، فكيف يجوز أن يُرِقها، ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شيء إليها؟
= عن عمر بن حسين به نحوه مختصرا، وفيه عند الحاكم:" لا تنكحوا النساء حتى تستأمروهن، فإذا سكتن فهو إذنهن"، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا) اهـ. "السلسلة الصحيحة"(3/444) .
(805)
ملخصًا من " زاد المعاد"(5/95 -99) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإنه إذا امتنع لا يكون عاقا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه) (806) اهـ.
خامسا: أنه موافق لمصالح الأمة، ولا يخفى مصلحةُ البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك ممن تُبغِضه وتنفر عنه، قال الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله:" لا يجوز أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره (807) راجعان إليها "(807) اهـ.
وقد ثبتت أحاديث تدل على أن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما (809) : فمن ذلك: ما ثبت من أن بَرِيرة - وهى جارية حبشية - ملكها عتبة بن أبي لهب وزوجها عبدا من عبيد المغيرة ما كانت لترضاه لو كان لها أمرها، فأشفقت عليها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فاشترتها، وأعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ملكتِ نفسك، فاختاري "، وكان زوجها مغيث يطوف خلفها في سكك المدينة، يبكي عليها، وهي تأباه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" ألا تعجبون من شدة حبه لها، وبغضها له؟ "، ثم قال صلى الله عليه وسلم لها:" لو راجعتِهِ، فإنه أبو ولدكِ "، قالت: " يا رسول الله،
(806)" مجموع الفتاوى"(32/30) .
(807)
أي: ضرر العقد ونفعه.
(808)
" حجة الله البالغة"(2/127) .
(809)
انظر: " فتح الباري"(9/415) .
أتأمرني؟ " وفي رواية: " أشيء واجب علي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا، إنما أنا شافع "، قالت: " فلا حاجة لي فيه، لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده " (810) .
ومما يقوى اعتبارَ الإسلام لوجود الألفة والمحبة والمودة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوَّج (811) امرأة: " أنظرتَ إليها؟ " قال: "لا"، قال:" اذهب فانظر إليها"(812) .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما "(813) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندنا يتيمة، وقد خطبها رجل مُعْدِم، ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَم ير للمتحابين مِثْلُ النكاح " (814) .
فلينظر الآباءُ كيـ
…
ـف يكونُ تزويج البنات
(810) رواه البخاري (9/358) في الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد، وباب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، وأبو داود رقم (2231) ، (2232) في الطلاق، والترمذي رقم (1156) في الرضاع، والنسائي (8/245) في القضاة.
(811)
أي: أراد ذلك.
(812)
رواه مسلم رقم (1424) في النكاح: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها.
(813)
انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (321) .
(814)
أخرجه ابن ماجه (1847) ، والحاكم (2/160)، وقال:" صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي والبيهقي (7/78) ، والطبراني في " الكبير"(11/17)، وانظر:" البيان والتعريف" لابن حمزة الحسيني (3/126) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (624) .
يستأذنونَ البكر في التز
…
ويجِ مثلَ الثيبات
حتى يَعِشْنَ مَعَ الرجا
…
لِ مُنَعماتٍ راضِيات
طَعمُ الحياةِ مَعَ السُّجو
…
نِ أمَرُّ مِنْ طَعمِ الممات (815)
وقد حكى العرب عن آباء تعسفوا مع بناتِهم، وتأذى بناتُهم بذلك العَسف حتى صدر منهن ما لا يحمد من البنت في حق أبيها، فمن ذلك: - أن إحداهن زوجها أبوها، وهي حَدَثة بغير إذنها، فقالت:
أيا أبتا عَنَّيتني وابتليتني
…
وصيَّرتَ نفسي في يَدَيْ من يُهِينُها
أيا أبتا لولا التحرجُ قد دعا
…
عليك مجابًا دعوة يستدينها (816)
(ومما يروَى: أن عبد الله بن جعفر (817) قد زوَّج ابنته من الحجاج
(815)" أستاذ المرأة" ص (214) .
(816)
" المرأة العربية"(2/53) .
(817)
عبد الله بن جعفر " قطب السخاء" أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه أسماء بنت عميس أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث لأمها، هاجر أبواه إلى الحبشة، وهنالك كان مولده قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، ووافي أبواه المدينة وله سبع سنين، وفي هذه السن بايع عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبوه في غزوة مؤتة، وكان أمير القوم فيها، فكفله صلى الله عليه وسلم ودعا له بقوله:(اللهم اخلف جعفرًا في ولده) ، ثم انتقل إلى كفالة أبي بكر، ثم إلى كفالة عمه علي رضى الله عنه، وكان أحد أمراء جنده في يوم صفين، وزوجه علي رضي الله عنه بابنته رضي الله عنها فولدت له عليا وعونا وعباسا ومحمدَا وأم كلثوم، وكان عبد الله علماً من أعلام الجود حتى لقب بقطب السخاء، ومما قالوه أن امرأة سألته فأعطاها مالا عظيمًا، فقيل له:" إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير"، فقال:" إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي"، وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقته، فنزل له عنها، وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم، وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه يقول القائل:
وما كنت إلا كالأغر بن حاتم
…
رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا =
ابن يوسف على كره منها، لأنه ليس في شيء من سَنَاء نسبها، ولا كرم سجاياها، وما حمله على ذلك إلا ضيق ذات يده، وألف ألف درهم حُمِلَتْ مهرا إليه، فلما زُفت نظر الحجاج إلى عَبْرتها تجول في عينيها، فقال:" بأبي أنتِ وأمي مِم تبكين؟ " فقالت: " أبكي من شرف اتضع، ومن ضَعة شُرفت "، حتى إذا علم عبد الملك ين مروان بأمرها، كتب إلى الحجاج بطلاقها، فقال لها:" إن أمير المؤمنين كتب إلي بطلاقك" فقالت: " هو أبرُّ بي ممن زوجَنيك "(818) .
= وفي سبيل جوده احتمل الدين والمتربة، حتى رضي أن يزوج ابنته من الحجاج بن يوسف لأنه وَفي عنه دينه، وأعطاه ألف ألف درهم، أما ابنته هذه فاسمها " أم أبيها "، وكانت كأوضأ النساء وجها وأبينهن بيانا، وأسمحهن يدا، وهي صغرى بناته، ولم تنكشف عن عقب رحمها الله) اهـ. من "المرأة العربية"(2/ هـ 53-54) بتصرف.
(818)
"المرأة العربية"(2/53) .