الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل]
وفاؤها لزوجها
إن الثبات على صدق الوفاء من أفضل ما تتحلى به النساء، ولهذا (درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها ومصافاته، واستخلاص نفسها له، واحتمال نبوة الطبع منه، وأكثر ما كان صفاء نفسها، وسماح خلقها وعذوبة طبعها، إذا استحال الدهر بالرجل فرزأهُ في ماله، أو نَكَبَهُ في قُوَّته، أو بدَّله بكرم المنصب، وروعة السلطان، أعرافًا من السجن، وأصفادًا من الحديد.
بل لقد كان وفاؤها له بعد عفاء أثره، وامِّحاء خبره، عديل وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره، وكان إيثار الإسلام له بمَدِّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها، ولا تزدان، ولا تفارق داره إلى دار أبيها - سُنَّةً من سنن هذا الرفاء، وآية من آياته.
لذلك كانت المرأة المسلمة ترى الوفاء لزوجها بعد الموت، آثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها، فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل موطن ومقام، بل ربما عرض ذكره وهي بين خليفته من بعده، فلا تتحرج في ذكر فضائله وتفضيله إن كانت ترى الفضل له) (1275) .
ومن حديث ذلك أن أسماء بنت عُميس كانت لجعفر بن أبي طالب، ثم لأبي بكر من بعده، ثم خلفهما علي رضي الله عنه، فتفاخر مرة ولداها
(1275) انظر: " المرأة العربية"(2/89) .
محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل يقول:" أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك "، فقال لها علي:" اقضي بينهما يا أسماء"، قالت:" ما رأيت شاًّبا من العرب خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرًا من أبي بكر "، فقال علي:"ما تركتِ لنا شيئًا، ولو قلتِ غير الذي قلت لمَقتُّكِ! "(1276) فقالت أسماء: " إن ثلاثا أنت أقَلهم لخيار "(1277) .
وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تُغَسلَه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، ففعلت، وكانت صائمة، فسألت من حضر من المهاجرين: وقالت: " إني صائمة، وهذا يوم شديد البرد، فهل عَلَي من غُسل؟ "، فقالوا:" لا "، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عزم عليها (1278) لما أفطرت، وقال:" هو أقوى لك"، فذكرت يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت:" والله لا أتْبِعُهُ اليومَ حِنْثًا "(1279) .
ومن ذلك أيضًا ما رُوِي من أن النساء قمْنَ (حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحُد يسألن الناس عن أهلهن، فلم يُخْبَرن حتى أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا قال واحدة إلا أخبرها، فجاءته حَمْنَة بنت جحش، فقال:" يا حَمْنَةُ، احتسبي أخاك عبد الله بن جحش، قالت: " إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله، وغفر له "، ثم قال: " يا حمنة، احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب " قالت: " إنا لله، وإنا إليه راجعون، رحمه الله،
(1276) وقيل: لعلها: (لومقتك) أي: أحببتك!
(1277)
رواه ابن سعد في " الطبقات "(8/208 - 209) ، وأبو نعيم في " الحلية "(2/76)، وانظر:" سير أعلام النبلاء "(2/286 - 287)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:(أخرجه ابن السكن بسند صحيح عن الشعبي) اهـ. من "الإصابة "(7/ 491) .
(1278)
أي: أقسم عليها.
(1279)
رواه ابن سعد في " الطبقات "(8/208) .
وغفر له"، ثم قال: يا حمنة احتسبي زوجك مُصعب بن عمير "، فقالت:"يا حَرَباه، (1280) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن للمرأة لشُعبة من الرجل ما هى له في شيء " (1281) ، ولعمرك إن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلاغا لما أوثرت المرأة به، وَأبَرَّت فيه من فرط الحنو على زوجها، وفضل الوفاء له بعد موته (1282) .
ولما تسور المجرمون الفَسَقَةُ على أمير البررة، وقتيل الفجرة، عثمان رضي الله عنه، وتبادروه بالسيوف، ألقت زوجته " نائلة بنت الفُرافِصة " بنفسها عليه حتى تكون له وِقاء من الموت، فلم يَرعَ القتلةُ الأثمةُ حرمتها، وضربوه بالسيف ضربة انتظمت أصابعها، ففصلتهن عن يدها، ونفذت إليه، فجندلته، ثم ذبحوه رضي الله تعالى عنه (1283) ، ولما خطبها أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أبت، وقالت:" والله لا قَعَدَ أحد مني مقعدَ عثمان أبدًا "(1284) .
* * *
(1280) الحَرَبُ: السلَب، وفي لفظ ابن ماجه:" قالت: " واحزناه ") .
(1281)
رواه ابن ماجه في سننه رقم (1590) بلفظ: (إن للزوج من المرأة لشعبَة، ما هي لشيء) ، وكذا ابن سعد في " الطبقات"(8/175)، وابن إسحق في السيرة بلفظ:(إن زوج المرأة منها لبمكان) ، وضعفه الألباني في " ضعيف ابن ماجه" رقم (347) ص (120) ، وكذا في " ضيف الجامع" رقم (1960) .
(1282)
ومن ثم قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: " ولا ينبغي لوالدي المرأة، ولا لجميع أهلها أن يطلبوا منها الميل إلى إيثارهم أكثر من ميلها إلى زوجها، فإنها تميل إلى زوجها بالطبع، وقد أخبر عنها الشارع بذلك، فلتعذر في ذلك" اهـ. من " أحكام النساء" ص (70) .
(1283)
" الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) ، " المرأة العربية"(2/117) .
(1284)
" العقد الفريد، لابن عبد ربه، كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن (ج 3) ، و " الأعلام " (7/343) .
ومع أن رغبة الأيم عن الزواج، وكراهيتها له، واعتكافها دونه، لم يكن من مبادئ الإسلام في شيء، فقد قال تعالى:(وأنكحوا الأيامى منكم) الآية، النور (32) .
وعن جابر عن أم مبشر الأنصارية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور (1285) فقالت: " إني اشترطت لزوجي ألا أتزوج بعده "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن هذا لا يصلح "(1286) .
ومع الرخصة لهن في النكاح والتوسعة عليهن في أمره - فإن كثيرًا من الأيامى أنفن أن يتبدلن ببعولتهن زوجا آخر، وفاءً لهم، وبقيًا على ذكراهم، بل أملا أن تمتد الزوجية بينهم في الدار الآخرة:
فقد كان مما بشر به الإسلام المرأة الصالحة، أن المؤمن إذا دخل الجنة، ألحق به أزواجه: قال تعالى: (جَنات عدن يدخلونها ومن صَلَح من ءابائهم وأزواجهم وذُرياتهم)(الرعد: 23) ، فيجمعهم الله في الجنات منعمِين، يتكئون في ظلالها مسرورين فرحين:(هم وأزواجهم في ظلال على الأرائِك متكون)(يس: 56)، (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحْبَرُون) (الزخرف: 70) .
وكان من آيات وفاء كثير من الصالحات لأزواجهن بعد موتهن إمساكُهن عن الزواج، لا لغرض إلا ليكن زوجات لهن في الجنة.
فعن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(1285) أي خطبها لزيد بن حارثة بعد أن مات أهله، كما في رواية البخاري في " التاريخ الكبير ".
(1286)
رواه الطبراني في " المعجم الكبير "(2/14) ، و " الصغير "(2/138) ، والحديث حسنه الحافظ في " الفتح"(9/219) ، وكذا حسنه الألباني بشاهده عند البخاري في" التاريخ الكبير"، انظر:" الصحيحة" حديث رقم (608) .
أم الدرداء، فأبت أن تَزَوَّجَهُ، وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر لآخر أزواجها "(1287) .
وعن عكرمة: (أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: " يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تَزَوجْ بعده جُمع بينهما في الجنة)(1288) .
وكل حذيفة رضي الله عنه أنه قال لزوجته: " إن شئتِ أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا "(1289) .
وعن جبير بن نفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء:" إنك خَطَبتَنِي إلى أبَوَي في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة"، قال:" فلا تنكحين بعدي"، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال:" عليكِ بالصيام "(1290) .
وقال الأصمعي: (خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلب بن أبي صفرة من دمشق متنزهين، فمرا بالجبانة، وإذا امرأة جالسة
(1287) انظر: " المطالب العالية"(1673) ، و" كنز العمال"(45557) ، (45580) ، " تاريخ بغداد "(9/228) ، " الفقيه والمتفقه"(48) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (1281) بشواهده.
(1288)
انظر: " الصحيحة" للألباني (3/276) ، و "التذكرة" للقرطبي ص (576) .
(1289)
أخرجه البيهقي في "سننه"(7/69- 70) وتتمته: " فلذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده، لأنهن أزواجه في الجنة "، وفيه أبو إسحق السبيعي.
(1290)
"سير أعلام النبلاء"(4/278) .
على قبر تبكي، فهبت الريح، فرفعت البرقع عن وجهها، فكأنها غمامة جَلَت شمسا، فوقفنا متعجبين، ننظر إليها، فقال لها ابن المهلب:" يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلا؟ "، فنظرت إليهما، ثم نظرت إِلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي، فإنه
…
بملحود هذا القبر يا فتيانِ
وإني لأستحييه والتربُ بيننا
…
كما كنت أستحييه وهو يراني
فانصرفنا ونحن متعجبون) (1291) .
وأخيرًا: هذا مثل للزوجة المسلمة الفاضلة ينبغي لكل مسلمة أن تجعله نصب عينيها:
(إن فاطمة بنت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كان لأبيها - يوم تزوجت- السلطان الأعظم على الشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والسند وقفقاسيا والقريم وما وراء النهر إلى نجارا وجنوة شرقَا، وعلى مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وإسبانيا غربا، ولم تكن فاطمة هذه بنت الخليفة الأعظم وحسب، بل كانت كذلك أخت أربعة من فحول خلفاء الإسلام وهم: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد ابن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وكانت فيما بين ذلك زوجة أعظم خليفة عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأول، وهو أمير المؤمنين " عمر ابن عبد العزيز ".
بنت الخليفة، والخليفة جَدُّها
…
أخت الخلائف، والخليفة زوجها " (1292)
(1291)" الدر المنثور" ص (465-466) ، و" أخبار النساء " ص (138) ، وهذا الأخير منسوب خطأ لابن قيم الجوزية، كما حققه العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في " ابن قيم الجوزية: حياته، وآثاره" ص (121-126) .
(1292)
" البداية والنهاية، (9/193) .
وهذه السيدة التي كانت بنت خليفة، وزوجة خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهى مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال إن من هذه الحلي قرطي (1293) مارية اللذين اشتهرا في التاريخ، وتغني بهما الشعراء، وكانا وحدهما يساويان كنزا.
ومن فضول القول أن أشير إلى أن عروس عمر بن عبد العزيز كانت في بيت أبيها تعيش في نعمة لا تعلو عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا لذلك العهد، ولو أنها استمرت في بيت زوجها تعيش كما كانت تعيش قبل ذلك لتملأ كرشها في كل يوم، وفي كل ساعة بأدسم المأكولات وأندرها وأغلاها، وتنعم نفسها بكل أنواع النعيم الذي عرفه البشر، لاستطاعت ذلك،.. إِلا أن الخليفة الأعظم عمر بن عبد العزيز اختار- في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض- أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم (1294) ، ورضيت بذلك زوجة الخليفة التي كانت بنت خليفة وأخت أربعة من الخلفاء فكانت مغتبطة بذلك لأنها تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة وهذه الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ وألوان الترف، بل اقترح
(1293)(وكان أبوها عبد الملك بن مروان رحمه الله قد أعطاها قرطي مارية، والدرةَ اليتيمة، وكانت أحب أخواتها إليه، وكان قد دعا لها قائلا: " اللهم احفطني فيها" فتزوجها ابن عمها عمر بن عبد العزيز) اهـ من " البداية والنهاية"(9/67) .
(1294)
(وقد خيرها عقب توليه الخلافة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكى جواريها لبكائها، فسمِعَت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله) اهـ من " البداية والنهاية"(9/198) .
عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة، فتخرج عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها وعنقها وشعرها ومعصميها، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع ثمنه بطون شعب برجاله ونسائه وأطفاله، فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي والمجوهرات واللآلئ والدرر التي حملتها معها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين.
وتوفي عقب ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئًا، فجاءها أمين بيت المال، وقال لها:" إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرتها أمانة لك، وحفظتها لذلك اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها ".
فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت:" وما كنت لأطيعه حيُّا، وأعصيه ميتًا ".
وأبت أن تسترد من مالها الحلال الموروث ما يساوى الملايين الكثيرة، في الوقت الذي كانت محتاجة فيه إلى دريهمات، وبذلك كتب الله لها الخلود، وها نحن نتحدث عن شرف معدنها ورفيع منزلتها بعد عصور وعصور، رحمها الله، وأعلى مقامها في جنات النعيم) (1295) .
(1295)(مقدمة " آداب الزفاف في السنة المطهرة ") للألباني ص (84-88) بقلم الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى) طبعة سنة (1409 هـ) .