الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: (وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قولِ أكثر أهل العلم)(850) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يُعَزرون من يفعل ذلك اقتداءً بعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مذهب الشافعي، بل طائفة منهم يُقيمون الحدَّ في ذلك بالرجم وغيره)(851) .
وقال- رحمه الله في موضع آخر:
(دَلَّ القرآن في غير موضع، والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يُزَوِّجُ النساءَ الرجالُ، لا يُعرفُ عن امرأة تزوج نفسها، وهذا مما يُفَرَّقُ فيه بين النكاح ومتخذات أخدان، ولهذا قالت عائشة: " لا تزوج المرأة نفسها، فإن البغي هي التي تزوج نفسها ")(852) اهـ.
تنبيهات متفرقة
الأول: الحكمة من اشتراط الولي في النكاح:
- إن من مقاصد هذا التشريع الحكيم صيانة المرأة عن أن تباشر بنفسها ما يشعر بوقاحتها، ورعونتها، وميلها إلى الرجال، مما ينافي حال أرباب الصيانة والمروءة، قال الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله:
(وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم، واستبدادُ النساء بالنكاح وقاحة منهن، منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على الأولياء، وعدم اكتراث
(850)"الجامع لأحكام القرآن"(3/74)، وانظر:" المحلى"(9/456)
(851)
"مجموع الفتاوى"(32/21)
(852)
" السابق"(32/131) .
لهم، وأيضًا يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير، وأحق التشهير أن يحضره أولياؤها) (853) اهـ.
- كما أن المرأة - لقلة تجربتها في المجتمع، وعدم معرفتها شئون الرجال وخفايا أمورهم - غير مأمونة حين تستبد بالأمر لسرعة انخداعها، وسهولة اغترارها بالمظاهر البراقة دون ترو وتفكير في العواقب، وقد اشترط إذن الولي مراعاة لمصالحها لأنه أبعد نظرا، وأوسع خبرة، وأسلم تقديرًا، وحكمه موضوعي لا دخل فيه للعاطفة أو الهوى، بل يبنيه على اختيار مَنْ يكون أدومَ نكاحا، وأحسن عشرة.
- وكيف لا يكون لوليها سلطان في زواجها وهو الذي سيكون - شاءت أم أبت، بل شاء هو أو أبى - المرجع في حالة الاختلاف، وفي حالة فشل الزواج يبوء هو بآثار هذا الفشل، ويجني ثمرات خطأ فتاته التي تمردت عليه، وانفردت بتزويج نفسها؟ !
إن الهدف من رقابة الولي على اختيار الزوج ليس فقط تسهيل الزواج، وإنما أيضا تأمينه وتوفير عوامل الاستقرار له، ورعاية مصالح الفتاة التى ائتمنه الله عليها، وإن قصر نظرها عن إدراكها، ومن هنا كان مبنى الولاية على حسن النظر، والشفقة، وذلك معتبر بمظنته، وهي القرابة، فأقربهم منها أشفقهم عليها، وهذا أغلب ما يكون في العَصَبَة (854) .
(853)"حجة الله البالغة "(2/127) .
(854)
وعَصبَة الرجل لغة: بنوه وقرابته لأبيه، أو أولياؤه الذكور من ورثته، وسموا عصبة لأنهم عصبوا بنسبه - أى: استكفوا به، وأحاطوا به لحمايته، ودفع العدوان عنه، مِنْ " عَصبَ القوم بفلان" إذا استكفوا حوله، ومفردها عاصب، وجمع العصبة عصبات، فهي جمع الجمع، وهي في اصطلاح الفرضيين: القرابة الذكور من جهة الأب.
الثاني: واجب الولي:
يجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وأن يراعي خصال الزوج، فلا يزوجها ممن ساء خَلْقُه أو خُلُقُه، أو ضعف دينه، أو قصر عن القيام بحقها، فإن النكاح يشبه الرق، والاحتياط في حقها أهم، لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، [ (وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عندكم عوان، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله الا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة.
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: (وألفيا سيدها لدى الباب)) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته (855)، وقال يعض السلف:(من زوج كريمته من فاجر فقد قطع (856) رحمها) ] (857) .
وقال رجل للحسن: (" قد خطب ابنتي جماعة، فمِمن أزوجها؟ "
(855) قال الحافظ العراقي رحمه الله: (حديث " النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته، رواه أبو عمر التوقاني في " معاشرة الأهلين" موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، قال البيهقي: وروى ذلك مرفوعاً والموقوف أصح) اهـ من " تحقيق أحاديث الإحياء "(4/719) ، وانظر الحاشية رقم (241) .
(856)
قال الحافظ العراقي رحمه الله: (رواه ابن حبان في " الضعفاء" من حديث أنس، ورواه في " الثقات" من قول الشعبي بإسناد صحيح) اهـ، وزاد الزبيدي رحمه الله:(وروى الديلمي من حديث ابن عباس: " من زوج ابنته أو واحدة ممن يشرب الخمر فكأنما قادها إلى النار) اهـ.
(857)
"مجموع الفتاوى"(32/263) بتصرف.
قال: (مِمَّن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها ")(858) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(وإذا رضيت رجلًا، وكان كفؤًا لها، وجب على وليها - كالأخ ثم العم - أن يزوجها به، فإن عَضَلَها أو امتنع عن تزويجها زَوَّجَها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه؛ ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة؟ وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم
(858)"عيون الأخبار، لابن قتيبة (4/17) ، ومما يجمل ذكره هنا قصة زواج مبارك أبي الإمام العظيم عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكان رجلا تركيا، وكان عبدا لرجل خوارزمي من التجار من همذان من بني حنظلة، وكان رجلا تقيا صالحا، كثير الانقطاع للعبادة، محبا للخلوة، شديد التورع، ومن حديثه: " أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زمانا، ثم إن مولاه صاحبَ البستان جاءه يوما، وقال له:"أريد رمانا حلوا"، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانا، فكسره فوجده حامضا، فَحَرَد - أي غضب - عليه، وقال:" أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟ هاتِ حُلْوا "، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضا حامضا، فاشتد حرده عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك:" أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ "، ففال:" لا "، فقال:" وكيف ذلك؟ "، فقال:" لأني ما أكلت منه شيئا حتى أعرفه "، فقال:" ولِمَ لم تأكُلْ؟ "، قال:" لأنك ما أذنت لي بالأكل منه "، فعجب من ذلك صاحب البستان، وكشف عن ذلك فوجده حقا، فعظم في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطِبَتْ كثيرًا؛ فقال له:" يا مبارك، مَنْ ترى تزوجُ هذه البنت؟ "، فقال:" أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين "، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها:" ما أرى لهذه البنت زوجا غير مبارك"، فتزوجها، فجاءت بعبد الله بن المبارك"، فتمت عليه بركة أبيه، وأنبته الله نباتا صالحًا، وربَّاه على عينه، انظر: " وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/237) ، و" شذرات الذهب" لابن العماد (1/296) ، و" مرآة الجنان" لليافعي (1/379) .
لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك، أو يُخْجِلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية، والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة؛ لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها فقال:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء (58) وهذا من النصيحة الواجبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا: " لمن يا رسول الله؟ " قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " والله أعلم) (859) .
الثالث: حكم عدم وجود الأولياء حقيقة:
في حالة عدم وجود الولي أصلا، بَيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي، والسلطان وَلِي مَنْ لا ولي له "(860) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما من لا ولي لها، فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها هو، وأمير الأعراب، ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زَوَّجها أيضًا بإذنها، والله أعلم)(861) .
(859)"مجموع الفتاوى"(32/52-53)، وانظره:(32/39 - 40) ، و " المغني "(6/460) ، و"المنهاج مع شرح مغني المحتاج"(3/153) .
(860)
رواه الإمام أحمد (1/250) ، والطبراني في " الكبير"(11/142) ، وابن عدي في " الكامل"(6/2448)، وانظر:" مجمع الزوائد"(4/286) .
(861)
" مجموع الفتاوى"(32/35) .
الرابع: عدم وجود الأولياء حكما:
وذلك بأن يكونوا أحياء في الوقت الذي يحتاج إليهم لتدبير أمور عقد النكاح، ولكن لا يمكن الرجوع إليهم، وذلك في حالات:
(1)
إما لأجل سفر الولي الأقرب، وغيبته غيبة بعيدة، بحيث يكون في موضع لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب عنه، وفي هذه الحالة يتولى تزويجها الولي الأبعد من عَصَبَتها، فإن لم يكن فالسلطان، وهذا مذهب الإمام أبي القاسم الخرقي رحمه الله (862) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. فأما إن غاب - أي الولي - غيبة بعيدة، انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم)(863) اهـ.
الخامس: عدم اتفاق الأولياء عل اختيار الخاطب:
وضع رسول الله حَلا لهذه المشكلة في قوله صلى الله عليه وسلم:
" فإن اشتجروا - أي الأولياء - فالسلطان ولي من لا ولي له "(864) .
قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:
(فإن كان الأولياء في التعدد سواء، كان أولاهم بذلك أفضلهم، فإن استووا في الدرجة والفضل وتشاحوا، نظر الحاكم في ذلك، فما رآه
(862)"المغني"(6/478)، وانظر:" مغني المحتاج" للشربيني (3/157) .
(863)
"مجموع الفتاوى"(32/31) ، وأما تحديد مقدار الغيبة أو المسافة التي تعطي الحق للولي الأبعد أو السلطان فهذا بابه التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة، فترد إلى ما يتعارفه الناس بينهم مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، كما أفاده ابن قدامة في المغني (6/479) .
(864)
رواه أبو داود (2083) ، والترمذي (1/204) ، وحسنه، وابن ماجه (1879) ، وأحمد (6/47، 66، 166) ، والدارمي (2/137) ، وصححه الألباني في " الإرواء"(6/243) .
سدادًا ونظرًا أنفذه، وعقده، أو رَدَّه إلى من يعقده منهم) (865) .
السادس: وجوب التحري الدقيق عن صفات الزوج:
عن معقل بن يسار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يُحِطْها بنصحه، إلا حَرَّم الله عليه الجنة "(866) .
ومن هذه النصيحة الواجبة أن يجتهد ولي المرأة في تحري الصفات الطيبة فيمن يزوجه موليته، وذلك بأن يستشير أولي العلم، وذوي الصلاح والتقوى ممن يوثق بأمانتهم ومعرفتهم حَقَّ الشهادة لله عز وجل، ممن لا تحمله البغضاء على الحسد وكتمان الجميل، ولا يحمله الود على المجاملة وستر العيوب، ويجب ألا يكتفي بالمعرفة السطحية، والشهادة العابرة (867) ، لأن في ذلك خضرًا على النساء، وتقصيرًا من الأولياء الذين هم رعاة مسئولون أمام الله عز وجل عن رعيتهم.
وما أدق ذلك الميزان الذي وضعه الفاروق رضي الله عنه لمعرفة قيم الرجال، فقد [جاء رجل يطلب منه أن يوليه عملًا، فقال:" ائتني بمن يعرفك "، وعاد الرجل وبصحبته آخر، فسأله عمر:" أتعرف هذا الرجل؟ "، قال:" نعم "، قال:" هل أنت جاره الذي يعرف مداخله ومخارجه؟ "، قال:" لا "، فقال عمر: " هل صاحبته في السفر، الذي
(865)"الكافي في فقه أهل المدينة"(2/525) .
(866)
رواه البخاري (13/112) في الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان: باب استحقاق الولي الغاش لرعيته النار، وفي الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والإمام أحمد في " المسند"(5/25، 27) .
(867)
وكذا لا يعتمد على المحترفات الخاطبات، اللائي لا هَم لهن غالبا إلا ترويج السلعة، حرصًا على الأجر المنشود، والثمن الموعود.
تعرف به مكارم الأخلاق؟ "، فأجاب الرجل: " لا "، فاستطرد أمير المؤمنين رضي الله عنه قائلًا: " هل عاملته بالدرهم والدينار الذي يُعرف به ورع الرجل؟ "، قال الرجل: " لا "، فقال الفاروق متعجبًا: " لعلك رأيته قائمًا قاعدا يصلي بالمسجد؟ "، فرد الرجل بالإيجاب، فقال له أمير المؤمنين: " اذهب فإنك لا تعرفه! "، والتفت إلى الرجل الأول، فقال له: " ائتني بمن يعرفك ".
وفي رواية أخرى: أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: " إن فلانا رجل صِدْق"، قال:" هل سافرت معه؟ "، قال:" لا"، قال:"فكانت بينك وبينه خصومة؟ "، قال:" لا"، قال:" فهل ائتمنته على شيء؟ "، قال:" لا "، قال له عمر:" فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد"] (868) .
من أجل ذلك فإنه لا يكفي للتحري عن الزوج أقوال الناس عنه، فإن موازينهم تختلف باختلاف أمزجتهم، وصلابة دينهم، وقوة ورعهم، فما قد يراه البعض فضيلة، قد يراه البعض الآخر من أقبح المنكرات، لا سيما في هذا الزمان، الذي أعرض فيه الكثيرون عن موازين الإسلام المحكمة، ومعاييره الصادقة.
السابع: جواز عرض الرجل موليته على أهل الخير والصلاح: جرت عادة الناس بأن يبحث الرجل عن المرأة التي يرغب الزواج بها، ويخطبها من وليها، فإذا اتفقا، وكتب لهما الوفاق والوئام تزوجها على عادة الناس، وفقًا للشريعة الغراء.
وقد يقع من بعض العقلاء والحكماء خلاف هذه العادة، فيبحث
(868)" عيون الأخبار"(3/158) .
الرجل عن الزوج الصالح لابنته من أهل الكفاءة والديانة والأمانة، فيعرضها عليه، ويحصل هذا غالبًا ممن لديهم بُعْد نظر، وحسن تفكير، وليس أدل على ذلك من فعل أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته الثاني، ومن نزل القرآن موافقا رأيه، فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:
(إن عمر بن الخطاب حين تأيمت (869) حفصة بنت عمر من خنيس ابن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال:" سأنظر في أمري"، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال:" قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا"، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت:" إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر "، فصمت أبو بكر فلم يرجع في شيئًا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان (870) ، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال:" لعلك وجدت عَلَي حين عرضت عَلي حفصة فلم أرجع عليك؟ "، قال: قلت: " نعم "، قال أبو بكر:" فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتُها ") (871) .
وعرضت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها أختها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(869) أي صارت أيمًا، وهي التي يموت زوجها، أو تبين منه، وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها، وانظر " القسم الثالث " ص (64) .
(870)
أي كان أشد غضبا عليه منه على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، لقوة المودة بينه وبين أبي بكر، ولأن عثمان أجابه أولًا ثم اعتذر، أما أبو بكر فإنه لم يجبه بشيء.
(871)
تقدم تخريجه برقم (839) .
" إن هذا لا يحل لي "(872) ، وعرض أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ابنة عمه عمارة بنت حمزة رضي الله عنهما، فاعتذر صلى الله عليه وسلم بأنها ابنة أخيه من الرضاعة (873)، وقال صالح مدين لموسى عليه السلام:(إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) الآية (القصص: 27) قال القرطبي: (فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته كل صالح بني إسرائيل)(874) إلخ.
(هكذا كان شأن الرعيل الأول من أصحاب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في فهمهم للإسلام، وأخذهم بآدابه، واجتهادهم في تحري الصالحين لبناتهم أو أخواتهم، وصراحتهم في العرض، وعدم تحرجهم في القبول أو الرفض، إذ كان هدف الجميع دائمًا القيام بحق الله تعالى، سواء بالنسبة لبناتهم وأخواتهم، باعتبارهن أولى الناس ببرهم واجتهادهم، أو بالنسبة لإخوانهم في الله: باعتبارهم أحق الناس بمصاهرتهم وإكرامهم، ولكن غفلة كثير من الناس في هذا الزمان عن هذه الآداب السامية، قلب الأوضاع في نظرهم، وأصبح التأسي بمثل هؤلاء الكرام البررة محل غرابة واستنكار، وظنه البعض محاولة لترويج بضاعة كاسدة، فأحجم ذوو النفوس العالية عن عرض بناتهم وأخواتهم
(872) رواه البخاري (9/121) في النكاح: باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ، وباب (وأن تجمعوا بين الأختين) وغيرهما، ومسلم رقم (1449) في الرضاع، وأبو داود رقم (2056) ، والنسائي (6/96) كلاهما في النكاح.
(873)
رواه مسلم رقم (1446) في الرضاع: باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، والنسائي (6/99) في النكاح: باب تحريم بت الأخ من الرضاعة.
(874)
" الجامع لأحكام القرآن "(13/271) .
على أقرب الناس إليهم، ضَنُّا بكرامتهم أن تمتهن) (875) .
ونقول لهؤلاء: إنكم لستم بأفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد عرض ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما، ولا من سعيد بن المسيب، وقد زوَّج ابنته على أحد طلبته دون طلب من التلميذ (876) ، وكان يخطبها ولد أمير المؤمنين، وأمهرها زوجها درهمين فقط، لأنه ربما كان لا يجد سواهما.
بل لقد بلغ من سماحة الإسلام وواقعيته، أنه - من ناحية أخرى - أباح للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وأن تقترح زواجها منه رغبة في صلاحه، واطمئنانًا إلى تقواه (877) ، لا سيما إذا لم يكن لها ولي ينوب عنها في التعبير عن ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال:
(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه نفسها- أي: ليتزوجها- قالت: " يا رسول الله: ألك بي حاجة؟، فقالت بنت أنس - وكانت حاضرة: " ما أقل حياءها! واسوأتاه
…
واسوأتاه! "، فقال أنس رضي الله عنه أي لابنته: " هي خير منكِ، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه ") (878) ، فلا حرج على الفتاة إذا بلغت مبلغ الزواج، وتقدم لها خاطب كفؤ دَين على خلق، أن تطالب وليها بالزواج الحلال تعف نفسها بالطريقة المشروعة، وعلى الأب أن يلبي رغبتها، وييادر بتزويجه،
(875)"اختيار الزوجين في الإسلام" ص (92) .
(876)
انظر الحاشية رقم (1405) .
(877)
وقد خطبت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لنفسها، فكانت خير زوجة له صلى الله عليه وسلم، ناصرته وآوته وأعانته بمالها ونفسها، ولم يعب أحد ذلك، وكان يخطبها كبار قريش وأشرافهم، وكانت تسمى في الجاهلية:
"الطاهرة" رضي الله عنها.
(878)
انظر: " فتح الباري"(9/178) .
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما النساء شقائق الرجال "(879) .
الثامن: استحباب مشاورة المرأة في تزويج بنتها:
عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جلَيْبِيب (880) امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال:" حتى أستأمر أمها "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" فنعم إذا "، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت:" لاها الله (881) ، إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا وقد منعناها من فلان وفلان"، قال: والجارية في سترها تستمع، فال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية:" أتريدون أن تردُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه "، فكأنها جلت (882) عن أبويها، وقالا:" صدقت "، فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" إن كنت قد رضيته فقد رضينا"، قال:" فإني قد رضيته "، فزوَّجَها، ثم فزع (883) أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم (884)، قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن
(879) تقدم برقم (139) .
(880)
قال الحافظ في " الإصابة": (غير منسوب، وهو تصغير جلباب) اهـ (1/495) .
(881)
أي: هذا يمين، و " لا " لنفي كلام الرجل، و " ها " بالمد والقصر، ولفظ الجلالة مجرور بها لأنها بمعنى واو القسم، وجملة " إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلخ "، جواب القسم، وإنما قالت ذلك المرأة لأن جليبيبا كان في وجهه دمامة كما في رواية أبي يعلى، وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه أن المرأة قالت:" لا لعمر الله لا تزوجه"، وهي مؤيدة لرواية أنس مفسرة لها.
(882)
بفتح اللام: أي كشفت، وأوضحت أمرا خفي عليهما.
(882)
الفزع: الخوف، أي أخافهم العدو، وفي حديث أبي برزة:" فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة " يعني: ومعه جليبيب رضي الله عنه.
(884)
وفي رواية أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد: (فوجده إلى جنب سبعة قد قتلهم،
أنفق (885) بيت في المدينة ") (886) .
والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا ".
ورُويَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمروا النساء في بناتهن "(887) قال ابن الأثير: (" آمروا النساء" أي استأذنوهن وشاوروهن، قال الخطابي:" وهو أمر استحباب من جهة استطابة أنفسهن، وحسن العشرة معهن، لأن في ذلك بقاء الصحبة بين البنت وزوجها، إذا كان برضى الأم، خوفًا من وقوع الوحشة بينهما إذا لم يكن برضاها، إذ البنات إلى الأمهات أمْيَلُ، وفي سماع قولهن أرغبُ، ولأن المرأة ربما علمت من حال بنتها - الخافي عن أبيها - أمرًا لا يصلح معه النكاح، من علة تكون بها؛ أو آفة تمنع من وفاء حقوق النكاح، وعلى نحو هذا يُتأول قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج البكر إلا بإذنها، وإذنها سكوتها " وذلك أنها قد تستحيي أن تُفْصح بالإذن، وأن تظهر الرغبة في النكاح، فيستدل
= ثم قتلوه، فقالوا:" يا رسولَ الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عليه، فقال: " قتل سبعة وقتلوه؟ هذا مني، وأنا منه، مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، وحُفِر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله) .
(885)
بفتح الفاء من النفاق بفتح النون مشددة، وهو ضد الكساد، والمعنى أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، يتسابق إليها الخطاب بعد موت جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها إذ رُوي أنه دعا لها فقال:" اللهم صبَّ عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كَدا كدا ".
(886)
(رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيحين، وأخرجه أبو يعلى مختصرًا، ويشهد له حديث أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد) ، كما في " الفتح الرباني "(6/148) .
(887)
أخرجه الإمام أحمد (2/34)، وأبو داود رقم (2095) في النكاح: باب فى الاستئمار، والبيهقي (7/115) ، والبغوي في " شرح السنة"(9/32)، وقال محققه:(وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته) ، وانظر الحاشية رقم (802) .
بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح) (888) اهـ.
التاسع: الكفاءة في السن:
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة"، فخطبها علي فزوَّجها منه)(889) .
قال السندي في حاشيته على النسائي: (قوله: (فخطبها عليّ، أي عقب ذلك بلا مهلة، كما تدل عليه الفاء، فعلم أنه لاحظ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى علي، فزوجها منه، ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يُترَكُ ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة رضي الله تعالى عنها، والله أعلم)(890) اهـ.
والتكافؤ بين الزوجين في السن هو القاعدة، وإن أجاز الشرع غيره ما دام الرجل قادرَا على أعباء الزوجية، وتحققت فيه كفاءة الدين والخُلُق، وارتضته الفتاة زوجا لها، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وكان يكبرها بخمس وأربعين سنة، ومن قبل تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة، وتزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت تصغره بسنين كثيرة.
وإنما العمدة في تحقيق السعادة الزوجية التوافق الروحي بين الزوجين،
(888)"جامع الأصول"(11/465) .
(889)
رواه النسائي (6/62) باب: تزويج المرأة مثلها في السن، والحاكم (2/168) ، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان (2224)، وقال الألباني في " تحقيق المشكاة" رقم (6095) :(وإسناده جيد) اهـ. (3/1723) .
(890)
" حاشية السندي على النسائي "(6/62) .
فعن أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف "(891)
(891) رواه البخاري (4/162) ، ومسلم (159، 160) ، وأبو داود (4834) ، والإمام أحمد (2/ 295، 527، 539) ، وغيرهم.