الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ مَحَاسِنِ الشُّيُوخِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَجَلَسْت عِنْدَهُ وَسَمِعْت كَلَامَهُ وَلِي مِنْهُ إجَازَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الطَّبَقَاتِ: دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ الْوَاسِطِيِّ، وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ، وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مِنْهَا فِي الْفِقْهِ الْقَصِيدَةُ الطَّوِيلَةُ الدَّالِيَّةُ وَكِتَابُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لَمْ يُتِمَّهُ، وَكِتَابُ الْفُرُوقِ، وَعَمِلَ طَبَقَاتٍ لِلْأَصْحَابِ، وَحَدَّثَ وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَبَّازِ فِي مَشْيَخَتِهِ. قَالَ: وَتُوُفِّيَ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ. قَالَ الشَّيْخُ مُوسَى بْنُ أَحْمَدَ بْنُ مُوسَى بْنُ سَالِمٍ الْحَجَّاوِيُّ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ: وَلَمَّا نَظَمَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الْفِقْهِ أَتْبَعَهَا بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ فِي الْآدَابِ اقْتِدَاءً بِطَرِيقَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، كَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي، وَابْنِ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتِهِ، وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ، وَغَيْرِهِمْ فِي إتْبَاعِ الْكِتَابِ بِخَاتِمَةٍ فِي الْآدَابِ، فَأَتْبَعَ كِتَابَهُ بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ. قُلْت: وَمِمَّنْ سَلَكَ هَذَا الْأُسْلُوبَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ زَيْدٍ الْجِرَاعِيِّ فِي كِتَابِهِ غَايَةِ الْمَطْلَبِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ آدَابِهِ الْكُبْرَى: وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَعْنِي الْآدَابَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَأَبِي دَاوُد الْإِمَامِ السِّجِسْتَانِيِّ صَاحِبِ السُّنَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَفْصٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ: وَصَنَّفَ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدُّعَاءِ وَالطِّبِّ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى.
الْكَلَامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سَاقِطَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّظْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَنْظُومَةِ تَتِمَّةً لِلْقَصِيدَةِ الطَّوِيلَةِ، أَوْ أَنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَتَى بِهَا لَفْظًا أَوْ لَفْظًا وَخَطًّا كَمَا
هُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَسْقَطَهَا بَعْضُ النُّسَّاخِ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِهَا فَنَقُولُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّمَا بَدَأَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ تَأَسِّيًا بِالْكِتَابِ الْقَدِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَمَلًا بِحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» أَيْ ذَاهِبُ الْبَرَكَةِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ.
فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِاسْتِعَانَةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا أَوْلَى. أَمَّا كَوْنُهُ فِعْلًا؛ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ خَاصًّا فَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُؤَخَّرًا لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِالْبَسْمَلَةِ حَقِيقَةً، وَالِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، أَوْ السِّمَةُ وَهِيَ الْعَلَامَةُ.
وَاَللَّهُ عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ كَعَلِمَ إذَا تَحَيَّرَ لَتَحَيُّرِ الْخَلْقِ فِي كُنْهِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلِيهُ إذَا عَلَا، أَوْ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إذَا احْتَجَبَ.
وَهُوَ عَرَبِيٌّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَزَعَمَ الْبَلْخِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقِيلَ عَرَبِيٌّ وَقِيلَ سُرْيَانِيٌّ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَدَمُ الْإِجَابَةِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ مَعَ الدُّعَاءِ بِهِ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا الْإِخْلَاصُ وَأَكْلُ الْحَلَالِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَجَمَعَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ. قَالَ فِي نُونِيَّتِهِ:
اسْمُ الْإِلَهِ الْأَعْظَمِ اشْتَمَلَا عَلَى اسْ
…
مِ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ مُقْتَرِنَانِ
فَالْكُلُّ مَرْجِعُهَا إلَى الِاسْمَيْنِ يَدْ
…
رِيّ ذَاكَ ذُو بَصَرٍ بِهَذَا الشَّانِ
وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى كَثِيرِ الرَّحْمَةِ جِدًّا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الْبَالِغِ فِي الرَّحْمَةِ غَايَتَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ الْكَثِيرَةِ، فَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَأَتَى بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الرَّحْمَةِ وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَمَا دَلَّ عَلَى جَلَائِلِهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مَقْصُودٌ أَيْضًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ اسْمُ ذَاتٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُمَا اسْمَا صِفَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَالذَّاتُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصِّفَةِ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ خَاصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ، وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانًا
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاَللَّهِ خَاصٌّ بِاَللَّهِ لُغَةً وَشَرْعًا. قَالَ وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ عَنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى بَلْ عَامٌّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَاهُ.
وَاعْتُرِضَ بِمَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ الرَّحِيمُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَحِلَهُ، وَحَمَلَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ عَلَى الْمُعَرَّفِ بِأَلْ دُونَ الْمُنَكَّرِ وَالْمُضَافِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ كَمَا أَشَرْنَا لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ عَلَى الرَّحِيمِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى غَالِبًا كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَبْلَغِ لِيَرْتَقِيَ مِنْهُ إلَى الْأَبْلَغِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ، فَالْجَوَابُ قَدْ قِيلَ إنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَقِيلَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَقِيلَ الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ. وَقِيلَ إنَّمَا خُولِفَتْ الْعَادَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُرْدَفَ الرَّحْمَنُ الَّذِي تَنَاوَلَ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولِهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِتَنَاوُلِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي: الْحَقُّ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّحْمَنَ لَيْسَ بِصِفَةٍ بَلْ عَلَمٍ. قَالَ وَبِهَذَا لَا يُتَّجَهُ السُّؤَالُ وَيَنْبَنِي عَلَى عَلَمِيَّتِهِ أَنَّهُ فِي الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا بَدَلٌ لَا نَعْتٌ، وَأَنَّ الرَّحِيمَ بَعْدَهُ نَعْتٌ لَهُ لَا نَعْتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، إذْ لَا يُقَدَّمُ الْبَدَلُ عَلَى النَّعْتِ. قَالَ وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ غَيْرُ صِفَةٍ مَجِيئُهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ نَحْوُ {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2]{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] انْتَهَى.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 28] أَيْ نَوْعٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَاخْتِلَافِ السَّمَوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صِفَةٌ كَالرَّحِيمِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَمُشْتَقَّانِ مِنْ رَحُمَ بِجَعْلِهِ
لَازِمًا بِنَقْلِهِ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَوْ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إذْ هُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ وَهِيَ لَا تُشْتَقُّ مِنْ مُتَعَدٍّ.
وَرَحْمَتُهُ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِنْعَامَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِرِقَّةٍ فِي الْقَلْبِ تَقْتَضِي الْإِنْعَامَ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَلِيقُ بِرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُتَّصِفَ بِهَا تَعَالَى لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقِيقَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ الَّتِي يَرُدُّونَ الرَّحْمَةَ إلَيْهَا هِيَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِإِرَادَةِ الْمَخْلُوقِ، إذْ هِيَ مَيْلُ قَلْبِهِ إلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَكَذَا رَدُّ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى إلَى الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّ إنَّمَا يَكُونُ لِجَلْبِ نَفْعٍ لِلْفَاعِلِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَا فَرُّوا إلَيْهِ فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ نَظِيرُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى الْمَجَازِ فِي رَحْمَتِهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ نَفْيِهَا عَنْهُ وَضَعْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا فِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَجَازِ، إذْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِأَسَدٍ وَلَيْسَتْ جَرَاءَتُهُ كَجَرَاءَتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّفَةَ تَارَةً تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِهِ تَعَالَى، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَلَيْسَتْ الِاعْتِبَارَاتُ الثَّلَاثَةُ مُتَمَاثِلَةً إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» قَدْ رُوِيَ بِلَفْظِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» رَوَاهُ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ «بِحَمْدِ اللَّهِ» ، وَالْكُلُّ بِلَفْظِ «أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ " أَجْذَمُ " وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» أَيْضًا وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ» فَتَكُونُ الرِّوَايَاتُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَبِحَمْدِ اللَّهِ، وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقْطَعُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَبْتَرُ وَأَجْذَمُ.
وَمَعْنَى " ذِي بَالٍ " أَيْ صَاحِبِ حَالٍ وَشَأْنٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا، فَيَخْرُجُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ، وَمَعْنَى " الْأَبْتَرُ، وَالْأَقْطَعُ، وَالْأَجْذَمُ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْبَتْرَ قَطْعُ الذَّنَبِ، وَالْقَطْعُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَذْمُ قَطْعُ الْأَطْرَافِ أَوْ