الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ النَّمِيمَةِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّهَا
وَتَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (نَمِيمَةٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّمِيمَةُ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ نَمًّا فَهُوَ نَمَّامٌ، وَالِاسْمُ النَّمِيمَةُ. وَنَمَّ الْحَدِيثُ إذَا ظَهَرَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّمُّ التَّوْرِيشُ وَالْإِغْرَاءُ، وَرَفْعُ الْحَدِيثِ إشَاعَةً وَإِفْسَادًا وَتَزْيِينُ الْكَلَامِ بِالْكَذِبِ، يَنِمُّ وَيَنُمُّ فَهُوَ نَمُومٌ وَنَمَّامٌ وَمِنَمٌّ كَمِجَنٍّ. وَالنَّمِيمَةُ الِاسْمُ وَصَوْتُ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةُ وَوَسْوَاسُ هَمْسِ الْكَلَامِ. وَنَمَّ الْمِسْكُ سَطَعَ.
وَالنَّمَّامُ نَبْتٌ طَيِّبٌ مُدِرٌّ مُخْرِجٌ لِلْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدُّودِ وَيَقْتُلُ الْقَمْلَ وَخَاصِّيَّتُهُ النَّفْعُ مِنْ لَسْعِ الزَّنَابِيرِ شُرْبًا مِثْقَالًا بِسَكَنْجَبِينَ. انْتَهَى.
وَيُسَمَّى النَّمَّامُ قَتَّاتًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ قَتَّاتٌ وَقَتُوتٌ وَقَتَّنِي نَمَّامٌ. أَوْ يَسْتَمِعُ أَحَادِيثَ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ سَوَاءٌ نَمَّهَا أَوْ لَمْ يَنِمَّهَا. وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ:
لَامَ الْعَذُولَ وَفِي الْحَشَا لَوْعَاتِي
…
وَهُوَ الظَّلُومُ لَنَا الْغَشُومُ الْعَاتِي
يَا وَيْحَهُ مَا يَعْذُرُ الصَّبَّ الَّذِي
…
يَبْكِي مَدَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ
أَوْ مَا يَرِقُّ عَلَى رَقِيقٍ فِي الْهَوَى
…
قَدْ صَارَمَ الْأَفْرَاحَ وَاللَّذَّاتِ
عَافَ الْمَنَامَ وَقَامَ فِي غَسَقِ الدُّجَى
…
يَشْكُو الْغَرَامَ لِعَالِمِ الذَّرَّاتِ
أَهْوَى بِهِ دَاءُ الْهَوَى فَتَرَاهُ فِي
…
حَالَاتِهِ مُتَغَيِّرَ الْحَالَاتِ
أَحْفَى هَوَاهُ عَنْ الْأَنَامِ لَعَلَّهُ
…
يَخْفَى فَبَانَ لِدَمْعِهِ الْقَتَّاتُ
يَعْنِي النَّمَّامَ.
وَسَمَّى الدَّمْعَ نَمَّامًا لِأَنَّهُ يَنِمُّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُظْهِرُ مِنْ حَالِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «قَتَّاتٌ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: الْقَتَّاتُ وَالنَّمَّامُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمَاعَةٍ يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ، وَالْقَتَّاتُ الَّذِي يَتَسَمَّعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِيهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» هُوَ النَّمَّامُ، يُقَالُ قَتَّ الْحَدِيثَ يَقُتُّهُ إذَا زَوَّرَهُ وَهَيَّأَهُ وَسَوَّاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَزَادَ: وَالْعَسَّاسُ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الْأَخْبَارِ ثُمَّ يَنُمُّهَا.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا «النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ» وَفِي لَفْظٍ «أَنَّ النَّمِيمَةَ وَالْحِقْدَ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ لَوْنَهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَكُمْ قَمِيصُهُ، فَقُلْنَا مَا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ، قُلْنَا فِيمَ ذَاكَ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ. فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَا رَطْبَتَيْنِ» .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ «فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ» أَيْ هَيِّنٍ عِنْدَهُمَا وَفِي ظَنِّهِمَا لَا أَنَّهُ هَيِّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ» قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. أَوْ يُقَالُ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ هَيِّنٌ تَرْكُهُ وَالتَّحَرُّزُ مِنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحِ: «قَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، يَمْشِي أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتْرُكُ الْآخَرُ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ الْبَوْلِ» ، فَهَذَا تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ. وَذَلِكَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوقِعَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا.
قَالَ وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ أَعْظَمُ عَذَابًا. كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ الْبَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الَّتِي الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الْبَوْلِ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا وَشُرُوطِهَا فَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا. انْتَهَى. وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ نُكْتَةَ ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّا يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْضِي فِيهِ الْحَقُّ جل جلاله الصَّلَاةُ وَالدِّمَاءُ.
وَالطَّهَارَةُ أَقْوَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَنَزَّهْ مِنْ الْبَوْلِ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْ مِنْهُ فَقَدْ فَرَّطَ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ. وَسَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِرَاقَتِهَا بِغَيْرِ حَقِّ الْعَدَاوَةُ، وَمُقَدِّمَتُهَا النَّمِيمَةُ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الْعَدَاوَةِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ مُقَدِّمَةُ عَذَابِ النَّارِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُقَدِّمَاتِ أَوَّلًا. فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ وَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] » .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» .