الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، فَبَقِيت عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا أُرَاعِي ذَلِكَ الْغِبَّ، فَنِمْت لَيْلَةً وَأَنَا مُتَفَكِّرٌ فِيهِ فَأَصْبَحْتُ وَقَدْ نَسِيت الْقُرْآنَ كُلَّهُ.
وَفِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ نَصْرٍ الدَّقَّاقُ الْكَبِيرُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: جَاوَرْت بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ فَكُنْت أَشْتَهِي اللَّبَنَ، فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي فَخَرَجْت إلَى عُسْفَانَ وَاسْتَضَفْت حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرْت إلَى جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ بِعَيْنِي الْيُمْنَى فَأَخَذَتْ بِقَلْبِي، فَقُلْت لَهَا قَدْ أَخَذَ كُلُّكَ بِكُلِّي فَمَالِي لِغَيْرِك مَطْمَعٌ، قَالَتْ تُفْتَحُ بِكَ الدَّوَايَ الْغَالِبَةُ، لَوْ كُنْت صَادِقًا لَذَهَبَتْ عَنْك شَهْوَةُ اللَّبَنِ، قَالَ: فَقُلِعَتْ عَيْنِي الْيُمْنَى الَّتِي نَظَرْت بِهَا إلَيْهَا، فَقَالَتْ مِثْلُك مَنْ نَظَرَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَرَجَعْت إلَى مَكَّةَ وَطُفْت أُسْبُوعًا ثُمَّ نِمْت فَرَأَيْت فِي مَنَامِي يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عليه السلام، فَقُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْك لِسَلَامَتِك مِنْ زُلَيْخَا، فَقَالَ لِي يَا مُبَارَكُ بَلْ أَنْتَ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْك بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُسْفَا، ثُمَّ تَلَا عليه السلام {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَصِحْت مِنْ طِيبِ تِلَاوَتِهِ وَرَخَامَةِ صَوْتِهِ وَانْتَبَهْت وَإِذَا بِعَيْنِي الْمَقْلُوعَةِ صَحِيحَةٌ.
وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الْكَتَّانِيِّ قَالَ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا فِي الْمَنَامِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ عَرَضَ عَلَيَّ سَيِّئَاتِي فَقَالَ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَقُلْت نَعَمْ، قَالَ وَفَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أُقِرَّ، فَقُلْت: فَمَا كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ؟ قَالَ مَرَّ بِي غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَنَظَرْت إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّرَّادِ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ: غَفَرَ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَقْرَرْت بِهِ إلَّا ذَنْبًا وَاحِدًا اسْتَحْيَيْت أَنْ أُقِرَّ بِهِ، فَأَوْقَفَنِي فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي، قِيلَ مَا الذَّنْبُ؟ قَالَ: نَظَرْت إلَى شَخْصٍ جَمِيلٍ.
وَقَدْ أَنْهَيْت الْكَلَامَ بِمَا لَعَلَّ فِيهِ كِفَايَةً فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِي قَرْعِ السِّيَاطِ فِي قَمْعِ أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَطْلَبٌ: فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ
(الْمَقَامُ الثَّالِثُ) فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ، وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ، تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ.
مِنْهَا مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ قَالَ: وَقَعَتْ مَسْأَلَةُ مَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَعَلِقَ حُبُّهَا بِقَلْبِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَلَوْ أَعَدْت النَّظَرَ إلَيْهَا لَرَأَيْتهَا دُونَ مَا فِي نَفْسِك فَسَلَوْت عَنْهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ ثَانِيًا لِهَذَا الْمَعْنَى؟ قَالَ: فَكَانَ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ هَذَا لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ:(أَحَدُهَا) أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ الْقَلْبِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْعَبْدِ.
(الثَّانِي) : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِ بِصَرْفِ الْبَصَرِ لَا بِتَكْرَارِ النَّظَرِ.
(الثَّالِثُ) : أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ لَهُ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَهُ الثَّانِيَةُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ دَاؤُهُ مِمَّا لَهُ وَدَوَاؤُهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ.
(الرَّابِعُ) : أَنَّ الظَّاهِرَ قُوَّةُ الْأَمْرِ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَقْصُهُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا رَآهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا تَحْسُنُ الْمُخَاطَرَةُ بِالْإِعَادَةِ.
(الْخَامِسُ) : رُبَّمَا رَأَى فَوْقَ الَّذِي فِي نَفْسِهِ فَزَادَ عَذَابُهُ.
(السَّادِسُ) : أَنَّ إبْلِيسَ عِنْدَ قَصْدِهِ لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ يَقُومُ فِي رِكَابِهِ فَيُزَيِّنُ لَهُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ لِتَتِمَّ الْبَلِيَّةُ.
(السَّابِعُ) : أَنَّهُ لَا يُعَانُ عَلَى بَلِيَّةٍ إذَا أَعْرَضَ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَتَدَاوَى بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ جَدِيرٌ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ الْمَعُونَةُ.
(الثَّامِنُ) : أَنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَشَدُّ سُمًّا فَكَيْفَ يَتَدَاوَى مِنْ السُّمِّ بِالسُّمِّ.
(التَّاسِعُ) : أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ فِي مَقَامِ مُعَامَلَةِ الْحَقِّ عز وجل فِي تَرْكِ مَحْبُوبِهِ كَمَا زَعَمَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْضِيًا تَرَكَهُ، فَإِذًا يَكُونُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ غَرَضَهُ لَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَيْنَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى بِتَرْكِهِ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِهِ.
الْعَاشِرُ) : يَتَبَيَّنُ بِضَرْبِ مَثَلٍ مُطَابِقٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ أَنَّك إذَا رَكِبْت فَرَسًا جَدِيدًا فَمَالَتْ بِك إلَى طَرِيقٍ ضَيِّقٍ لَا يُنْفِذُ وَلَا يُمَكِّنُهَا تَسْتَدِيرُ فِيهِ لِلْخُرُوجِ، فَإِذَا هَمَّتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَاكْبَحْهَا لِئَلَّا تَدْخُلَ، فَإِنْ دَخَلَتْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ فَصِحْ بِهَا وَرُدَّهَا إلَى وَرَاءٍ عَاجِلًا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ دُخُولُهَا، فَإِنْ رَدَدْتهَا إلَى وَرَائِهَا سَهُلَ الْأَمْرُ وَإِنْ تَوَانَيْت حَتَّى وَلَجَتْهُ وَسُقْتهَا دَاخِلًا ثُمَّ قُمْت تَجْذِبُهَا بِذَنَبِهَا عَسُرَ عَلَيْك أَوْ تَعَذَّرَ خُرُوجُهَا، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ طَرِيقَ تَخْلِيصِهَا سَوْقُهَا إلَى دَاخِلٍ. وَكَذَلِكَ النَّظْرَةُ إذَا أَثَّرَتْ فِي الْقَلْبِ فَإِنْ عَجَّلَ الْحَازِمُ وَحَسَمَ الْمَادَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا سَهُلَ عِلَاجُهُ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ الصُّورَةِ وَنَقَلَهَا إلَى قَلْبٍ فَارِغٍ فَنَقَشَهَا فِيهِ تَمَكَّنَتْ الْمَحَبَّةُ.
وَكُلَّمَا تَوَاصَلَتْ النَّظَرَاتُ كَانَتْ كَالْمَاءِ يَسْقِي الشَّجَرَةَ، فَلَا تَزَالُ شَجَرَةُ الْحُبِّ تُنَمَّى حَتَّى يَفْسُدَ الْقَلْبُ وَيُعْرِضَ عَنْ الْفِكْرِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، فَيَخْرُجَ بِصَاحِبِهِ إلَى الْمِحَنِ وَيُوجِبَ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ وَالْفِتَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ رُفِعَتْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَلْوَذَانِيِّ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا رُقْعَةٌ فِيهَا:
قُلْ لِأَبِي الْخَطَّابِ نَجْمِ الْهُدَى
…
وَقُدْوَةِ الْعَالَمِ فِي عَصْرِهِ
لَا زِلْت فِي فَتْوَاك مُسْتَأْمَنًا
…
مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ أَوْ مَكْرِهِ
مَاذَا تَرَى فِي رَشَإٍ أَغْيَدَ
…
حَازَ اللَّمَا وَالدُّرَّ فِي ثَغْرِهِ
لَمْ يَحْكِ بَدْرَ التِّمِّ فِي حُسْنِهِ
…
حَتَّى حَكَى الزُّنْبُورَ فِي خَصْرِهِ
فَهَلْ يُجِيزُ الشَّرْعُ تَقْبِيلَهُ
…
لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ
أَمْ هَلْ عَلَى الْمُشْتَاقِ فِي ضَمِّهِ
…
مِنْ غَيْرِ إدْنَاءٍ إلَى صَدْرِهِ
إثْمٌ إذَا مَا لَمْ يَكُنْ مُضْمِرًا
…
غَيْرَ الَّذِي قُدِّمَ مِنْ ذِكْرِهِ
فَأَجَابَ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ:
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الْأَدِيبُ الَّذِي
…
قَدْ فَاقَ أَهْلَ الْعَصْرِ فِي شِعْرِهِ
تَسْأَلُ عَنْ تَقْبِيلِ بَدْرِ الدُّجَى
…
وَعَطْفِ زَنْدَيْك عَلَى نَحْرِهِ
هَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْلِيلِهِ
…
لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ
مَنْ قَارَفَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ ادَّعَى الْ
…
عِصْمَةَ قَدْ نَافَقَ فِي أَمْرِهِ
هَلْ فِتْنَةُ الْمَرْءِ سِوَى الضَّمِّ وَالَتَّ
…
قُبَيْل لِلْحِبِّ عَلَى ثَغْرِهِ
وَهَلْ دَوَاعِي ذَلِكَ الْمُشْتَهَى
…
إلَّا عِنَاقُ الْبَدْرِ فِي خِدْرِهِ
وَبَذْلُهُ ذَاكَ لِمُشْتَاقِهِ
…
يُزْرِي عَلَى هَارُوتَ فِي سِحْرِهِ
وَلَا يُجِيزُ الشَّرْعُ أَسْبَابَ مَا
…
يُوَرِّطُ الْمُسْلِمَ فِي حَظْرِهِ
فَانْجُ وَدَعْ عَنْك صُدَاعَ الْهَوَى
…
عَسَاك أَنْ تَسْلَمَ مِنْ شَرِّهِ
هَذَا جَوَابُ الْكَلْوَذَانِيِّ قَدْ
…
جَاءَ يَرْجُو اللَّهَ فِي أَجْرِهِ
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ إيرَادِهِ لِمَا ذَكَرْنَا: فَهَذَا جَوَابُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي مِنْ عَدَمِ إبَاحَةِ النَّظَرِ لِلْمَحْبُوبِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ النَّظَرَ رُبَّمَا يُذْهِبُ مَا الْتَاعَ بِهِ فُؤَادُهُ الْمَحْجُوبُ.
فَإِنَّ احْتِمَالَ مَفْسَدَةِ أَلَمِ الْحُبِّ مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَعَدَمِ تَقْبِيلِهِ وَضَمِّهِ أَقَلُّ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ أَعْنِي مَفْسَدَةَ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ تَجُرُّ إلَى هَلَاكِ الْقَلْبِ وَفَسَادِ الدِّينِ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ سَقَمُ الْجَسَدِ أَوْ الْمَوْتُ تَفَادِيًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَامِ.
فَأَيْنَ إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى؟ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَنَحْوَهُ لَا يَمْنَعُ السَّقَمَ وَالْمَوْتَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْحُبِّ بَلْ يَزِيدُ الْحُبُّ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
فَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ
…
مِنْ الْوِصَالِ كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلِ
وَفِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ أَبَا الْخَطَّابِ سُئِلَ أَيْضًا بِمَا لَفْظُهُ:
قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ مَسْأَلَةً
…
جَاءَتْ إلَيْك وَمَا خَلْقٌ سِوَاك لَهَا
مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ
…
لَاحَتْ لِنَاظِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا
فَأَجَابَهُ تَحْتَ سُؤَالِهِ:
قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ
…
سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْت لَهَا
إنَّ الَّذِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ
…
خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا
إنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ
…
فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا
وَمِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُد الظَّاهِرِيَّ الْعَالِمَ الْمَشْهُورَ فِي فَنِّ الْعُلُومِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ قَوْلٌ فِي الْفِقْهِ.
قَالَ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: هُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْإِيلَاءِ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ أَحْذَقُ مِنْك بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي
…
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ
…
يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجِمِ خَاطِرِي
…
فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
فَلَسْت أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ وَلَوْ شِئْت لَقُلْت:
وَمُطَاعِمٌ كَالشَّهْدِ فِي ثَغَمَاتِهِ
…
قَدْ بِتُّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
صَبًّا بِهِ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ
…
وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ فِي وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إذَا مَا الصُّبْحُ لَاحَ عَمُودُهُ
…
وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ، فَقَالَ سُرَيْجٌ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُك فِي قَوْلِك:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي
…
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
فَضَحِكَ الْوَزِيرُ وَقَالَ لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظَرْفًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ أَنَّ ابْنَ دَاوُد هَذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ فُتْيَا مَضْمُونُهَا:
يَا ابْنَ دَاوُد يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ
…
أَفْتِنَا فِي فَوَاتِكِ الْأَحْدَاقِ
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحٍ
…
أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ
فَكَتَبَ الْجَوَابَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:
عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ
…
فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ
لَمَّا سَأَلْتَ عَنْ الْهَوَى هَيَّجْتنِي
…
وَأَرَقْت دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ
إنْ كَانَ مَعْشُوقٌ يُعَذِّبُ عَاشِقًا
…
كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ
قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ فَهْدٍ صَاحِبُ الْإِنْشَاءِ، وَقُلْت فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى وَزْنِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ:
قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ
…
هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ
…
إنْ ثُنِيَ الْحَدُّ عَنْ دَمٍ مِهْرَاقٍ
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ نَصْفَحَ
…
عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ
إنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ
…
وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًا وَهُوَ بَاقٍ
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةُ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةُ الْمُشْتَاقِينَ عَنْ الْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ.
قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْأَشْرَافِ أَنَّهُ اجْتَازَ بِمَقْبَرَةٍ وَإِذَا بِجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ كَأَنَّهَا الْبَدْرُ أَوْ أَسْنَى وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ سُودٌ، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَعَلَقَتْ بِقَلْبِهِ فَكَتَبَ إلَيْهَا:
قَدْ كُنْت أَحْسَبَ أَنَّ الشَّمْسَ وَاحِدَةٌ
…
وَالْبَدْرَ فِي نَظَرِي بِالْحُسْنِ مَوْصُوفٌ
حَتَّى رَأَيْتُك فِي أَثْوَابِ ثَاكِلَةٍ
…
سُودٍ وَصَدْغُك فَوْقَ الْخَدِّ مَعْطُوفٌ
فَرُحْت وَالْقَلْبُ مِنِّي هَائِمٌ دَنِفٌ
…
وَالْكَبِدُ حَرَّى وَدَمْعُ الْعَيْنِ مَذْرُوفٌ
رُدِّي الْجَوَابَ فَفِيهِ الشُّكْرُ وَاغْتَنِمِي
…
وَصْلَ الْمُحِبِّ الَّذِي بِالْحُبِّ مَشْغُوفٌ
وَرَمَى بِالرُّقْعَةِ إلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا كَتَبَتْ:
إنْ كُنْت ذَا حَسَبٍ ذَاكَ وَذَا نَسَبٍ
…
إنَّ الشَّرِيفَ بِغَضِّ الطَّرْفِ مَعْرُوفٌ
إنَّ الزُّنَاةَ أُنَاسٌ لَا خَلَاقَ لَهُمْ
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّك يَوْمَ الدِّينِ مَوْقُوفٌ
وَاقْطَعْ رَجَاك لَحَاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ
…
فَإِنَّ قَلْبِي عَنْ الْفَحْشَاءِ مَصْرُوفٌ
فَلَمَّا قَرَأَ الرُّقْعَةَ زَجَرَ نَفْسَهُ وَقَالَ: أَلَيْسَ امْرَأَةٌ تَكُونُ أَشْجَعَ مِنْك، ثُمَّ تَابَ وَلَبِسَ مِدْرَعَةً مِنْ الصُّوفِ وَالْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّوَافِ وَإِذَا بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَقَالَتْ لَهُ مَا أَلْيَقَ هَذَا بِالشَّرِيفِ هَلْ لَك فِي الْمُبَاحِ؟ فَقَالَ قَدْ كُنْت أَرُومُ هَذَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ اللَّهَ وَأُحِبَّهُ.
وَالْآنَ فَقَدْ شَغَلَنِي حُبُّهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَحْسَنْت، ثُمَّ طَافَتْ وَأَنْشَدَتْ:
فَطُفْنَا فَلَاحَتْ فِي الطَّوَافِ لَوَائِحٌ
…
غَنِينَا بِهَا عَنْ كُلِّ مَرْأًى وَمِسْمَعِ
وَفِيهِ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: وَلَّيْنَا عَلَى بِلَادِ مِصْرَ رَجُلًا، فَوَجَدَ عَلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ، فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ الْوَالِي فَهَوِيَتْهُ فَكَتَبَتْ إلَيْهِ:
أَيُّهَا الزَّانِي بِعَيْنَيْ
…
هـ وَفِي الطَّرْفِ الْحُتُوفُ
إنْ تُرِدْ وَصْلًا فَقَدْ
…
أَمْكَنَك الظَّبْيُ الْأَلُوفُ