الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ارْتَفَعَتَا إلَى نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد عليه السلام ادَّعَتَا وَلَدًا مَعَهُمَا، فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد عليه السلام لِلْكُبْرَى، فَقَالَ سُلَيْمَانُ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَسَمَحَتْ الْكُبْرَى بِذَلِكَ، وَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ رَحِمَك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى.
قَالَ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرِضَى الْكُبْرَى بِذَلِكَ وَأَنَّهَا قَصَدَتْ الِاسْتِرْوَاحَ إلَى التَّأَسِّي بِمُسَاوَاةِ الصُّغْرَى فِي فَقْدِ وَلَدِهَا، وَشَفَقَةُ الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَامْتِنَاعُهَا مِنْ الرِّضَا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أُمُّهُ. وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ هُوَ مَا قَامَ بِقَلْبِهَا مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قَلْبِ الْأُمِّ. انْتَهَى.
مَطْلَبٌ: هَلْ الْمُرَادُ بِمَا أُبِيحَ بِهِ الْكَذِبُ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا
؟
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَذِبَ مَذْمُومٌ، وَفَاعِلُهُ مِنْ الْخَيْرِ مَحْرُومٌ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْكَذِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَادُ بِهِ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا.
فَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِمَامِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ ابْتِدَاءً. وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ تَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا» زَادَ مُسْلِمٌ قَالَتْ وَلَمْ أَسْمَعْهُ «يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ» ، يَعْنِي الْحَرْبَ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا، وَذَكَرَهُ. وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ:«مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا «كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ: رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» وَفِي
رِوَايَةٍ «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ» وَهِيَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَفِي أُخْرَى لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً.
وَيَتَحَدَّثَ بِمَا يُقَوِّي أَصْحَابَهُ وَيَكِيدُ بِهِ عَدُوَّهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. .
وَالْكَذِبُ لِلزَّوْجَةِ هُوَ أَنْ يَعِدَهَا وَيُمَنِّيَهَا وَيُظْهِرَ لَهَا مِنْ الْمَحَبَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ لِيَسْتَدِيمَ بِذَلِكَ صُحْبَتَهَا وَيُصْلِحَ بِهِ خُلُقَهَا. قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إبَاحَةُ كَذِبِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ دُونَ كَذِبِهَا لَهُ. قَالَ وَالظَّاهِرُ إبَاحَتُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَجْنَبِيَّيْنِ فَجَوَازُهُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَعْلِهَا أَفْضَلُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا فِي عَهْدِ عُمَرَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: نَشَدْتُك بِاَللَّهِ هَلْ تُحِبِّينِي؟ فَقَالَتْ أَمَا إذَا نَشَدَتْنِي بِاَللَّهِ فَلَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَقَالَ أَنْتِ الَّتِي تَقُولِينَ لِزَوْجِك لَا أُحِبُّك، فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشَدَنِي بِاَللَّهِ أَفَأَكْذِبُهُ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَكْذِبِيهِ، لَيْسَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ. وَلَكِنَّ النَّاسَ يَتَعَاشَرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ.
وَالْكَذِبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هُوَ أَنْ يُنْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَى صَاحِبِهِ خَيْرًا وَيُبَلِّغَهُ جَمِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ، أَوْ كَانَ سَمِعَ مِنْهُ كَلَامًا قَبِيحًا فَبَدَّلَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، إذْ لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ لَزَادَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَنَشَأَتْ الْعَدَاوَةُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ الْبَوَائِنِ خَيْرًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
(تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِنَا رضي الله عنه وَالْأَصْحَابِ جَوَازُ الْكَذِبِ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ، وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَفِيهِ شَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَعَلَى كُلٍّ فَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلصُّلْحِ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، ثُمَّ حَطَّ كَلَامَهُ بَعْدَ الْإِطَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ أَوْ كُفَّارٍ وَجَوَازُهُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ.
وَقَالَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَغَيْرِ مُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، أَوْ