الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةً شَدِيدَةً كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى (تَقْبِيلُ) مِنْ الْقُبْلَةِ، وَهِيَ عَرَبِيَّةٌ وَالْبُوسُ فَارِسِيٌّ (الثَّرَى) أَصْلُهُ النَّدَى وَالتُّرَابُ النَّدِيُّ أَوْ الَّذِي إذَا بُلَّ لَمْ يَصِرْ طِينًا لَازِبًا.
وَالْمُرَادُ هُنَا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَيُكْرَهُ (بِتَشَدُّدٍ) ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسُجُودٍ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ عَلَى طَهَارَةٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ إلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهَذَا إنَّمَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ فَمُهُ، وَذَلِكَ لَا يَجْزِي فِي السُّجُودِ قَالَهُ النَّاظِمُ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَهَذَا يَعْنِي تَقْبِيلَ الْأَرْضِ لَا يُفْعَلُ غَالِبًا إلَّا لِلدُّنْيَا، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الِانْحِنَاءِ، وَمِنْ تَقْبِيلِ الْيَدِ لِلدُّنْيَا.
مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الِانْحِنَاءِ وَجَوَازِ تَقْبِيلِ الرَّأْسِ وَالْيَدِ
وَيُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا
…
وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ
(وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (مِنْك الِانْحِنَاءُ) أَيْ الِالْتِوَاءُ وَالِانْعِطَافُ (مُسَلِّمًا) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْ يُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ لِأَجْلِ السَّلَامِ أَوْ فِي السَّلَامِ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ وَصَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا قَالَ أَفَيُلْزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنَّ التَّحِيَّةَ بِانْحِنَاءِ الظَّهْرِ جَائِزٌ، وَقِيلَ: هُوَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ.
قَالَ: وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الشَّامَ حَيَّاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَقَالَ: هَذَا تَعْظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالْجَوَازِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنَافِي الْكَرَاهِيَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَقْبِيلُ رَأْسِ الْإِنْسَانِ وَيَدِهِ وَنَحْوِهِمَا فَحَلَالٌ، وَلِذَا قَالَ رحمه الله (وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ) أَيْ الْإِنْسَانِ تَدَيُّنًا (حَلَّ) فِي الشَّرْعِ (وَ) كَذَا تَقْبِيلُهُ (فِي الْيَدِ) بِلَا كَرَاهَةٍ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ.
مَطْلَبٌ: يُبَاحُ تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالْمُعَانَقَةُ تَدَيُّنًا
قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إبَاحَتِهِ لِأَمْرِ الدُّنْيَا. وَاخْتَارَهُ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْكَرَاهَةُ أَوْلَى.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبْلَةِ الْيَدِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّدَيُّنِ فَلَا بَأْسَ، قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما. وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا فَلَا إلَّا رَجُلًا تَخَافُ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَيْضًا: وَكَرِهَهَا عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا. وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ التَّابِعِيُّ: الْقُبْلَةُ سُنَّةٌ.
وَقَالَ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرًا يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَخَدَّهُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا. وَرَأَيْته لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْت سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ يُقَبِّلُ جَبْهَتَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَهُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ: رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ يُقَبِّلُونَهُ يَعْنِي أَبَاهُ بَعْضُهُمْ يَدَهُ وَبَعْضُهُمْ رَأْسَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ غَيْرَهُ، وَلَمْ أَرَهُ يَشْتَهِي أَنْ يُفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ لَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ: تَرَى أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَقْبِيلُ الْيَدِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَهُ إلَّا قَلِيلًا.
وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمْ «لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ مُؤْتَةَ وَقَالُوا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ أَنَا فَيْئَةُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ» .
وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ «أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَهُ قَبَّلُوا يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» . ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ.
وَقَبَّلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةِ أُمِّهِ فَقُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ لِيَرْكَبَ فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ فَقَالَ خَلِّ عَنْهَا يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَكَذَا نَفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: وَرَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ، وَكَرِهَهُ آخَرُونَ كَمَالِكٍ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: هِيَ السَّجْدَةُ الصُّغْرَى.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ تَقْبِيلُ الْيَدِ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِمَدِّ يَدِهِ لِلنَّاسِ لِيُقَبِّلُوهَا، وَقَصْدُهُ لِذَلِكَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَلَمَّا تَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَدَ عُمَرَ رضي الله عنهما لِيُقَبِّلَهَا قَبَضَهَا، فَتَنَاوَلَ رِجْلَهُ فَقَالَ مَا رَضِيت مِنْك بِتِلْكَ فَكَيْفَ هَذِهِ.
وَقَبَضَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَهَا، وَقَالَ: مَهْ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا مِنْ الْعَرَبِ إلَّا هَلُوعٌ، وَمِنْ الْعَجَمِ إلَّا خَضُوعٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قُبْلَةُ يَدِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ طَاعَةٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: قُبْلَةُ الْوَالِدِ عِبَادَةٌ، وَقُبْلَةُ الْوَلَدِ رَحْمَةٌ، وَقُبْلَةُ الْمَرْأَةِ شَهْوَةٌ، وَقُبْلَةُ الرَّجُلِ أَخَاهُ دَيْنٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الظَّالِمِ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ. وَقَالَ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ وَيُذَلُّ لَهُ. قَالَ: وَمِنْ التَّوَاضُعِ تَقْبِيلُ يَدِهِ.
وَقَبَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ أَحَدُهُمَا يَدَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ وَالْآخَرُ رِجْلَهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَمَّا تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ لِرِفْدِهِ وَالسَّيِّدِ لِسُلْطَانِهِ فَجَائِزٌ، وَأَمَّا إنْ قَبَّلَ يَدَهُ لِغِنَاهُ فَقَدْ رُوِيَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ» انْتَهَى.
وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبَّلُوا يَدَ الْمُصْطَفَى كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَارِّ عِنْدَ قُدُومِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ «قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَا عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَقَبَّلَا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ اللَّهِ» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ «فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَهُ» وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ كَمَا فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ، وَفِيهَا «ثُمَّ جَاءَ مُنْذِرٌ الْأَشَجُّ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَهَا وَهُوَ سَيِّدُ الْوَفْدِ وَكَانَ دَمِيمًا فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى دَمَامَتِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَا يُسْقَى فِي مُسُوكِ أَيْ جُلُودِ الرِّجَالِ إنَّمَا يُحْتَاجُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى أَصْغَرَيْهِ: لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ فِيك خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ» الْحَدِيثَ.
وَرُوِيَ أَيْضًا قِصَّةُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَمَّا طَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ «اصْبِرْنِي، فَقَالَ: اصْطَبِرْ، أَيْ قُدْنِي، فَقَالَ اتَّقِدْ، قَالَ إنَّ عَلَيْك قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، قَالَ إنَّمَا أَرَدْت هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» .
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَجَاهُ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي
…
مُغَلْغِلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْك عَبْدًا
…
وَعَبْدُ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
وَفِي الْهَدْيِ لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ «أَنَّ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ عليهم السلام {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْهُ قَوْلًا فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ رضي الله عنه مُعْتَذِرًا:
لَعَمْرُكَ إنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً
…
لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَك الْمُدْلِجُ الْحَيْرَانُ أَظْلَمَ لَيْلُهُ
…
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أَهْدِي وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلَّنِي
…
عَلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْته كُلَّ مُطْرَدِ
أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدِ
…
وَأَدَّعِي كَأَنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ
هُمُو مَا هُمُو مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُو
…
وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلِمُّ وَيُفْسِدُ
أُرِيدُ لِأُرْضِيهِمْ وَلَسْت بِلَائِطٍ
…
مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدِ فِي كُلِّ مَقْعَدِ
فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا
…
وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلْكَ عِيرِي أَوْعِدْ
فَمَا كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا
…
وَمَا كَانَ عَنْ جَرْيِ لِسَانِي وَلَا يَدِي
قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ
…
تُرَايِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُوْدُدِ
» قَالَ فِي الْهَدْيِ، كَابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ:«إنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا قَالَ: وَدَلَّنِي عَلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْته كُلَّ مُطْرَدِ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ أَنْتَ طَرَدَتْنِي كُلَّ مُطْرَدِ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ رضي الله عنه» .
قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَيُقَالُ إنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمَ حَيَاءً مِنْهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ. كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ» .
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ رضي الله عنه بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَيَّ فَمَا نَطَقْت بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْت. انْتَهَى.
وَحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلَاقِي تَدَيُّنَا
…
وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِ افْهَمْ أَوْ قَيِّدِ
(وَحَلَّ) لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَلَاقِينَ مِنْ سَفَرٍ (عِنَاقٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الِالْتِزَامُ. يُقَالُ: عَانَقَهُ إذَا جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى عُنُقِهِ وَضَمَّهُ إلَى نَفْسِهِ (لِ) لِشَخْصِ الْمُسْلِمِ (الْمُلَاقِي) غَيْرَهُ مِنْ سَفَرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِنَاقِ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ أَوْ الْمُقِيمِ لِلْقَادِمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا لِغَيْرِ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ فَظَاهِرُ النَّظْمِ كَالْإِرْشَادِ لَا يُطْلَبُ.
قَالَ فِي الْإِرْشَادِ الْمُعَانَقَةُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ حَسَنَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ فَقَيَّدَهَا بِالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي، وَالْمَنْصُوصُ فِي السَّفَرِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ رضي الله عنه لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمُعَانَقَةِ وَالْقِيَامِ: أَمَّا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَلَى التَّدَيُّنِ يُحِبُّهُ لِلَّهِ أَرْجُو لِحَدِيثِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إذَا الْتَقَوْا صَافَحُوا بَعْضَهُمْ، فَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ عَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَانَقَهُ» ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى جَاءَ سُوقَ