الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ فِي صَدْرِ شَرْحِ بَانَتْ سُعَادُ: التَّشْبِيبُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ جِنْسٌ يَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: ذِكْرُ مَا فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَحُمْرَةِ الْخَدِّ وَرَشَاقَةِ الْقَدِّ وَكَالْجَلَالَةِ وَالْخَفَرِ.
وَالثَّانِي: ذِكْرُ مَا فِي الْمُحِبِّ مِنْ الصِّفَاتِ أَيْضًا كَالنُّحُولِ وَالذُّبُولِ وَالْحُزْنِ وَالشَّغَفِ.
وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ هَجْرٍ وَوَصْلٍ وَشَكْوَى وَاعْتِذَارٍ وَوَفَاءٍ وَإِخْلَافٍ.
(وَالرَّابِعُ) : مَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُمَا بِسَبَبِهَا كَالْوُشَاةِ وَالرُّقَبَاءِ وَيُسَمَّى النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ تَشْبِيبًا أَيْضًا. وَفِي قَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ، إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ التَّشْبِيبِ. وَلَمَّا خَشِيَ تَوَهُّمَ إطْلَاقِ الْإِبَاحَةِ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَتَشَبَّبُ بِمُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَاسْتِمَاعِهِ.
مَطْلَبٌ: فِي سَمَاعِهِ صلى الله عليه وسلم شِعْرَ أَصْحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ
فَمِمَّا سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِعْرِ أَصْحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ قَصِيدَةُ (كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ) رضي الله عنه الَّتِي مَدَحَ بِهَا سَيِّدَ الْكَائِنَاتِ سَيِّدَنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أَنْشَدَهَا بِحَضْرَتِهِ الشَّرِيفَةِ وَبِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رِيَاحٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ وَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ آخِرَ الْحُرُوفِ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ، كَانَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه لَا يُقَدِّمُ عَلَى أَبِيهِ أَحَدًا فِي الشِّعْرِ وَيَقُولُ أَشْعَرُ النَّاسِ الَّذِي يَقُولُ وَمَنْ، وَمَنْ، وَمَنْ، يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ فِي مُعَلَّقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنُلْنَهُ
…
لَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمْ
وَمَنْ يَكُ ذَا مَالٍ فَيَبْخَلْ بِمَالِهِ
…
عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمْ
مَنْ لَا يَزَلْ يَسْتَحْمِدُ النَّاسَ نَفْسَهُ
…
وَلَا يُغْنِهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ يَنْدَمْ
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبُ عَدُوًّا صَدِيقَهُ
…
وَمَنْ لَا يُكْرِمْ نَفْسَهُ لَا يُكْرَمْ
وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ
…
يُهْدَمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ يُظْلَمْ
مَنْ لَا يُصَانِعُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ
…
يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمْ
الْمَنْسِمِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ طَرَفُ خُفِّ الْبَعِيرِ.
وَالْقَصِيدَةُ الَّتِي مَدَحَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا وَأَنْشَدَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِحُضُورِ أَصْحَابِهِ هِيَ قَوْلُهُ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
…
مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَسَبَبُ إنْشَائِهِ لَهَا وَإِنْشَادِهِ إيَّاهَا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِ الْعَالَمِ صلى الله عليه وسلم مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَنْبَارِيُّ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، أَنَّ كَعْبًا وَبُجَيْرًا بَنِي زَهْمٍ خَرَجَا إلَى (أَبْرَقِ الْعَزَّافِ) وَهُوَ رَمْلٌ لِبَنِي سَعْدٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ زَرُودَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اُثْبُتْ فِي هَذَا الْغَنَمِ حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْمَعَ كَلَامَهُ وَأَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ، فَأَقَامَ كَعْبٌ وَمَضَى بُجَيْرٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ كَلَامَهُ فَآمَنَ بِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ زُهَيْرًا فِيمَا زَعَمُوا كَانَ يُجَالِسُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ آنَ مَبْعَثُهُ صلى الله عليه وسلم وَرَأَى زُهَيْرٌ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ قَدْ مُدَّ سَبَبٌ مِنْ السَّمَاءِ وَأَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ لِيَتَنَاوَلَهُ فَفَاتَهُ، فَأَوَّلَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ، فَأَخْبَرَ بَنِيهِ بِذَلِكَ وَأَوْصَاهُمْ إنْ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْلِمُوا.
وَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ إسْلَامِ بُجَيْرٍ بِأَخِيهِ كَعْبٍ أَغْضَبَهُ ذَلِكَ فَقَالَ:
أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً
…
فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت وَيْحُك هَلْ لَكَا
سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً
…
فَانْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَفَارَقْت أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْته
…
عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبُ عِزِّك دَلَّكَا
عَلَى مَذْهَبٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا
…
عَلَيْهِ وَلَمْ تَعْرِفْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ
…
وَلَا قَائِلٍ إمَّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
وَأَرْسَلَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ.
فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سَمِعَ عليه الصلاة والسلام قَوْلَهُ سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ قَالَ مَأْمُونٌ وَاَللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُونَ وَلَمَّا سَمِعَ
قَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبٍ وَيُرْوَى عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا الْبَيْتَ، قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ. ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الطَّائِفِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ بُجَيْرٌ رضي الله عنه بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَك فِي الَّتِي
…
تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهُوَ أَحْزَمُ
لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ
…
مِنْ النَّاسِ إلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ
…
وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ
وَكَتَبَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَهْدَرَ دَمَك، وَأَنَّهُ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانُوا يَهْجُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ كَابْنِ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ قَدْ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَمَا أَحْسَبُك نَاجِيًا فَإِنْ كَانَ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا وَلَا يُطَالِبُهُ بِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ أَتَى إلَى مُزَيْنَةَ لِتُجِيرَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ عَدُوِّهِ فَقَالُوا هُوَ مَقْتُولٌ، فَقَالَ الْقَصِيدَةَ يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَذْكُرُ خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، فَأَتَى بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ.
وَعَرَفَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ لَهُ النَّاسُ وَكَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ، أَصْحَابِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الْمَائِدَةِ مِنْ الْقَوْمِ يَتَحَلَّقُونَ حَوْلَهُ حَلْقَةً ثُمَّ حَلْقَةً، فَيُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُحَدِّثُهُمْ ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُحَدِّثُهُمْ، فَقَامَ كَعْبٌ إلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ الَّذِي يَقُولُ مَا يَقُولُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْتَنْشِدُهُ الشِّعْرَ، فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً، فَقَالَ كَعْبٌ لَمْ أَقُلْ هَكَذَا إنَّمَا قُلْت: سَقَاك أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ، وَانْهَلَكَ الْمَأْمُونُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم مَأْمُونٌ وَاَللَّهِ.
وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ عَنْك فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا. فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيِّ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: إذَا عَرَدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ يَعْرِضُ بِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى قَوْلِهِ:
إنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
…
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ مَسْلُولُ
رَمَى عليه الصلاة والسلام إلَيْهِ بِبُرْدَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بَذَلَ لَهُ فِيهَا عَشَرَةَ آلَافٍ، فَقَالَ مَا كُنْت لِأُوثِرَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ كَعْبٌ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إلَى وَرَثَتِهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ. قَالَ وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ السَّلَاطِينِ إلَى الْيَوْمِ. انْتَهَى.
قُلْت: قَدْ ذَهَبَتْ الْبُرْدَة الْمَذْكُورَةُ لَمَّا اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ وَمُقَدِّمُهُمْ (هُولَاكُو) نَهَارَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَقَدْ وَضَعَ هُولَاكُو الْبُرْدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي طَبَقٍ نُحَاسٍ وَكَذَا الْقَضِيبُ فَأَحْرَقَهُمَا وَذَرَّ رَمَادَهُمَا فِي دِجْلَةَ، وَقَتَلَ الْخَلِيفَةَ وَوَلَدَهُ، وَقُتِلَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ بَقِيَّةُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ، وَأُسِرَتْ بَنَاتُهُ وَمِنْ بَنَاتِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ وَالْأَكَابِرِ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ بِكْرٍ، وَبَلَغَ الْقَتْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَثَلَثِمِائَةِ أَلْفِ نَسَمَةً كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي التَّوَارِيخِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَحَصَلَ مِنْ إنْشَادِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ رضي الله عنه بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِعْطَائِهِ عليه الصلاة والسلام الْبُرْدَةَ عِدَّةُ سُنَنٍ: إبَاحَةُ إنْشَادِ الشِّعْرِ وَاسْتِمَاعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْإِعْطَاءِ عَلَيْهِ، وَسَمَاعِ التَّشْبِيبِ، فَإِنَّهُ فِي قَصِيدَةِ كَعْبٍ رضي الله عنه فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَحْبُوبَتَهُ وَمَا أَصَابَ قَلْبَهُ عِنْدَ ظَعْنِهَا ثُمَّ وَصَفَ مَحَاسِنَهَا وَشَبَّهَهَا بِالظَّبْيِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَغْرَهَا وَرِيقَهَا وَشَبَّهَهُ بِخَمْرٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْمَاءِ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذَا إلَى وَصْفِ ذَلِكَ الْمَاءِ ثُمَّ مِنْ هَذَا إلَى وَصْفِ الْأَبْطَحِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ إلَى ذِكْرِ صِفَاتِهَا فَوَصَفَهَا بِالصَّدِّ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالتَّلَوُّنِ فِي الْوُدِّ، وَعَدَمِ التَّمَسُّكِ بِالْعَهْدِ، وَضَرَبَ لَهَا عُرْقُوبًا مَثَلًا، ثُمَّ لَامَ نَفْسَهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَوَاعِيدِهَا ثُمَّ أَشَارَ إلَى بُعْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُهُ إلَيْهَا إلَّا نَاقَةٌ مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ