الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَقَدَّمْت، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً تَأَخَّرْت.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْبَلْخِيُّ: مَا خَطَوْت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خُطْوَةً لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل.
وَقِيلَ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: لَوْ تَنَحَّيْت مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ، فَقَالَ هَذِهِ خَطًّا لَا أَدْرِي كَيْفَ تُكْتَبُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمَّا صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إرَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ صَلَحَتْ جَوَارِحُهُمْ فَلَمْ تَتَحَرَّكْ إلَّا لِلَّهِ عز وجل مِمَّا فِيهِ رِضَاهُ.
[مَطْلَب: الْقُلُوبُ ثَلَاثَةٌ]
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُلُوبَ ثَلَاثَةٌ:
قَلْبٌ خَالٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَجَمِيعِ الْخَيْرِ فَذَلِكَ قَلْبٌ مُظْلِمٌ قَدْ اسْتَرَاحَ الشَّيْطَانُ مِنْ إلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ اتَّخَذَهُ بَيْتًا وَوَطَنًا وَتَحَكَّمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ غَايَةَ التَّمَكُّنِ.
الثَّانِي: قَدْ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَأَوْقَدَ فِيهِ مِصْبَاحَهُ، لَكِنْ عَلَيْهِ ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ وَعَوَاصِفُ الْأَهْوِيَةِ، فَلِلشَّيْطَانِ هُنَاكَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، وَمُجَاوَلَاتٌ وَمَطَامِعُ، فَالْحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَالٌ.
وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُ هَذَا الصِّنْفِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْقَاتُ غَلَبَتِهِ لِعَدُوِّهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْقَاتُ غَلَبَةِ عَدُوِّهِ لَهُ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَارَةً وَتَارَةً.
الثَّالِثُ: قَلْبٌ مَحْشُوٌّ بِالْإِيمَانِ، قَدْ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ حُجُبُ الشَّهَوَاتِ، وَأَقْلَعَتْ عَنْهُ تِلْكَ الظُّلُمَاتُ، فَلِنُورِهِ فِي صَدْرِهِ إشْرَاقٌ، وَإِيقَادٌ لَوْ دَنَا مِنْهُ الْوَسْوَاسُ لَأَدْرَكَهُ الِاحْتِرَاقُ، فَهُوَ كَالسَّمَاءِ الْمَحْرُوسَةِ بِالنُّجُومِ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ وَلَا هُجُومٌ، وَلَيْسَتْ السَّمَاءُ بِأَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّتِي حَرَسَهَا بِالنُّجُومِ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ.
فَكَمَا أَنَّ السَّمَاءَ مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَمُسْتَقَرُّ الْوَحْيِ السَّدِيدِ، فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ مُسْتَقَرُّ التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْمَجِيدِ، فَهُوَ حَرِيٌّ أَنْ يُحْرَسَ وَيُحْفَظَ وَيُبْعَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ وَيُدْحَضَ، قَدْ امْتَلَأَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ.
فَأَيُّ شَيْطَانٍ يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الْقَلْبِ، وَإِنْ أَرَادَ سَرِقَةَ شَيْءٍ مِنْهُ رَشَقَتْهُ الْحَرَسُ بِنَبْلِ الْيَقِينِ، وَسِهَامِ الدُّعَاءِ، وَمَنْجَنِيقِ الِالْتِجَاءِ، وَسُيُوفِ الْمَحَبَّةِ وَالْقُرْبِ، وَرُبَّمَا ظَفِرَ مِنْهُ بِخَطْفَةٍ يَخْطَفُهَا أَوْ شُبْهَةٍ يَقْذِفُهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْعَبْدِ وَغَيْرَةٍ فِيهِ فَيُشَبِّهُ لَهُ وَتَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْكَرَّةُ، لِأَنَّهُ بَشَرٌ، وَأَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ.
فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: لَسْت أَسْكُنُ الْبُيُوتَ وَلَا تَسَعُنِي، وَأَيُّ شَيْءٍ يَسَعُنِي وَأَيُّ بَيْتٍ يَسَعُنِي وَالسَّمَوَاتُ حَشْوُ كُرْسِيٍّ، وَلَكِنْ أَنَا فِي قَلْبِ الْوَادِعِ التَّارِكِ لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَايَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا مَعْنَى الْأَثَرِ الْآخَرِ «مَا وَسِعَتْنِي سَمَوَاتِي وَلَا أَرْضِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» .
وَقَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْوَاسِطِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ فَنَاءَ الدُّنْيَا وَزَوَالَهَا، وَبَقَاءَ الْآخِرَةِ وَدَوَامَهَا، فَيَزْهَدُ فِي الْفَانِي وَيَرْغَبُ فِي الْبَاقِي، فَيَبْدَأُ بِالسَّيْرِ وَالسُّلُوكِ فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ. وَأَوَّلُ السَّيْرِ فِيهَا تَصْحِيحُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْمُحَاسَبَةِ وَرِعَايَةِ الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَإِلَخْ، وَكَفِّهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَحَارِمِ وَالْمَكَارِهِ وَالْفُضُولِ. هَذَا أَحَدُ شَطْرَيْ الدِّينِ، وَيَبْقَى الشَّطْرُ الْآخَرُ وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، فَتَحْقِيقُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَنَاهِي مِنْ قَلْبِهِ وَقَالِبِهِ أَمَّا الْقَالِبُ فَلَا يَعْصِي اللَّهَ بِجَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَمَتَى زَلَّ أَوْ أَخْطَأَ تَابَ.
وَأَمَّا الْقَلْبُ فَيُنَقَّى مِنْهُ الْمُوبِقَاتُ الْمُهْلِكَاتُ مِثْلُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْبُغْضِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَرَدِّ الْحَقِّ وَاسْتِثْقَالِهِ وَالِازْدِرَاءِ بِالْخَلْقِ وَمَقْتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْكَبَائِرِ الْقَالَبِيَّةِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ كَبَائِرُ ظَاهِرَةٌ وَتِلْكَ كَبَائِرُ بَاطِنَةٌ.
قَالَ فَمَنْ انْطَوَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَلَمْ يَتُبْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِدَلِيلِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وَجَاءَ أَنَّ «الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» . وَجَاءَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْته وَشِرْكَهُ» .
وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] فَمَتَى تَنَقَّى الْقَلْبُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ وَالرَّذَائِلِ طَهُرَ وَسَكَنَتْ فِيهِ الرَّحْمَةُ فِي مَكَانِ الْبُغْضِ، وَالتَّوَاضُعُ فِي مُقَابَلَةِ الْكِبْرِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْغِشِّ، وَالْإِخْلَاصُ فِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاءِ، وَرُؤْيَةُ الْمِنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعُجْبِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَتَصْعَدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَطْهُرُ الْقَلْبُ، وَيَبْقَى مَحَلًّا لِنَظَرِ الْحَقِّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ.
فَهَذَا أَحَدُ شَطْرَيْ