الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَمْتَازُ الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: الْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هَجْرُ ذَوِيَ الْبِدَعِ، أَوْ مُجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ وَلَا يَقْدَمُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا.
قَالَ فِي الْفُصُولِ: لِيَحْذَرْ مِنْهُ أَوْ يَكْسِرْهُ عَنْ الْفِسْقِ، وَلَا يَقْصِدْ بِهِ الْإِزْرَاءَ عَلَى الْمَذْكُورِ وَالطَّعْنَ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَخْطُبُ إلَيْهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ فَيَكُونُ رَجُلَ سُوءٍ فَيُخْبِرُهُ مِثْلَ مَا «أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ: مُعَاوِيَةُ عَائِلٌ، وَأَبُو جَهْمٍ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ» ، يَكُونُ غِيبَةٌ إنْ أَخْبَرَهُ؟ قَالَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ يُخْبِرُهُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ يَقُولُ مَا أَرْضَاهُ لَك وَنَحْوَ هَذَا أَحْسَنُ.
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ يَعْنِي فِي النَّصِيحَةِ، قَالَ إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْت أَحْمَدَ رضي الله عنه يَقُولُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ.
وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ فِيهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الْأَشْهَرُ عَنْهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْلِنِ وَغَيْرِهِ.
وَظَاهِرُ الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ جَازَتْ غِيبَتُهُ. قَالَ وَمُرَادُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ لَا فَلَا.
وَقَدْ احْتَجَّ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَلَى غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» .
مَطْلَبٌ: هَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ لِمَصْلَحَةٍ
؟
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي التَّحْرِيرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النُّصْحِ وَالتَّعْبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالتَّنْقِيصِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَاصَّةٌ لِبَعْضِهِمْ
وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. قَالَ وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ هَذَا فِي كُتُبِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ جَرْحِ الرُّوَاةِ وَالْغِيبَةِ، وَرَدُّوا عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَتَّسِعُ عِلْمُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّعْنِ فِي رُوَاةِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ، وَبَيْنَ تَبَيُّنِ خَطَأِ مَنْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ تَمَسَّكَ مِنْهُمَا بِمَا لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِيَحْذَرْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا أَخْطَأَ بِهِ.
قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا. قُلْت: وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا عَنْ صَاحِبِ الْآدَابِ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ، لَكِنَّ مُرَادَ الْحَافِظِ بِالْجَوَازِ مَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَهُمْ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُمْتَلِئَةً مِنْ الْمُنَاظَرَاتِ وَرَدِّ أَقْوَالِ مَنْ تَضْعُفُ أَقْوَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا أَدَّعِي أَنَّ فِيهِ طَعْنًا عَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا ذَمًّا وَلَا تَنْقِيصًا.
قَالَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ يَفْحُشُ فِي الْكَلَامِ يُسِيءُ الْأَدَبَ فِي الْعِبَارَةِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ إفْحَاشَهُ وَإِسَاءَتَهُ دُونَ أَصْلِ رَدِّهِ، قَالَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُلَمَاءَ الدِّينِ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْعِلْمِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذِ شَيْءٍ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ مَرْتَبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا ادَّعَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، فَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْمُجْمَعِ عَلَى عِلْمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ مِمَّنْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَيُوصُونَ أَتْبَاعَهُمْ وَأَصْحَابَهُمْ بِقَبُولِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ فِي غَيْرِ قَوْلِهِمْ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا خَطَبَ وَنَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ وَرَدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَقَالَ امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. وَذَكَرَ مِنْ هَذَا أَشْيَاءَ نَفِيسَةً جِدًّا ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يَعْنِي النَّظَرَ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَا يَكْرَهُهُ طَبْعُهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ فَهُوَ حَسَنٌ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِبَعْضٍ: لَا حَتَّى تَقُولَ فِي وَجْهِي مَا أَكْرَهُ، فَإِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ بِعَيْبِهِ لِيَجْتَنِبَهُ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، وَيَحِقُّ لِمَنْ أُخْبِرَ بِعَيْبِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقْبَلَ النُّصْحَ وَيَرْجِعَ عَمَّا أُخْبِرَ بِهِ مِنْ عُيُوبِهِ أَوْ يَعْتَذِرَ مِنْهَا إنْ كَانَ لَهُ مِنْهَا عُذْرٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْيِيرِ فَهُوَ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ. وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَتُحِبُّ أَنْ يُخْبِرَك أَحَدٌ بِعُيُوبِك؟ فَقَالَ إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُوَبِّخَنِي فَلَا. فَالتَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ بِالذَّنْبِ مَذْمُومٌ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْحَافِظُ: وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ صَاحِبُهُ. قَالَ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيَفْضَحُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ فَإِنَّ ظُهُورَ عَوْرَاتِهِمْ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَحَقُّ شَيْءٍ بِالسَّتْرِ الْعَوْرَةُ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَك» وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ «الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَيَّرَ رَجُلًا بِرَضَاعِ كَلْبَةٍ لَرَضَعَهَا» . وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْحَافِظُ إسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَدْحَ لَا يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً فِي مَوَاضِعَ. إمَّا لِكَوْنِ الْمَقْدُوحِ فِيهِ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا مُعْلِنًا. أَوْ فِي الْمَشُورَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، أَوْ كَوْنُ مَا يَكْرَهُهُ صَارَ لَهُ لَقَبًا كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ، أَوْ ذَكَرَ ضَعْفَهُ وَكَذِبَهُ فِي الْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِأَجْلِ حِفْظِ السُّنَنِ، أَوْ مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا رَفَعَهُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَصَّلًا.
وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
الْقَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ
…
مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرٍ
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ
…
طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرٍ