الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالَّذِي تضمنه الْكَلَام نَحْو قَوْله صلى الله عليه وسلم َ -:
لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان رَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ: " لَا يحكم الْحَاكِم أَو لَا يقْضِي بَين اثْنَيْنِ "، وَرَوَاهُ أَصْحَاب الْكتب بِلَفْظ:" لَا يقضين حَاكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ".
فالآية إِنَّمَا سيقت لبَيَان أَحْكَام الْجُمُعَة لَا لبَيَان أَحْكَام البيع، فَلَو لم يُعلل النَّهْي عَن البيع
حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ شاغلا عَن السَّعْي لَكَانَ ذكره لاغيا لكَونه غير مُرْتَبِط بِأَحْكَام الْجُمُعَة.
وَلَو لم يُعلل النَّهْي [عَن] الْقَضَاء عِنْد الْغَضَب بِكَوْنِهِ يتَضَمَّن اضْطِرَاب المزاج الْمُقْتَضِي تشويش الْفِكر المفضي إِلَى الْخَطَأ فِي الحكم غَالِبا، لَكَانَ ذكره لاغيا، إِذْ البيع وَالْقَضَاء لَا يمنعان مُطلقًا لجَوَاز البيع فِي غير وَقت النداء، وَالْقَضَاء مَعَ عدم الْغَضَب أَو مَعَ يسيره فَلَا بُد إِذا من مَانع، وَلَيْسَ إِلَّا مَا فهم من سِيَاق النَّص ومضمونه من شغل البيع عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فتفوت، واضطراب الفكرة لأجل الْغَضَب فَيَقَع الْخَطَأ فَوَجَبَ إِضَافَة النَّهْي إِلَيْهِ.
وَأما الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، فَجعلُوا الحَدِيث وَنَحْوه من النَّوْع الْآتِي: وَهُوَ قَوْله: [وَمِنْهَا اقتران الحكم بِوَصْف مُنَاسِب كأكرم الْعلمَاء وأهن الْجُهَّال] .
فَهُوَ وصف مُنَاسِب وَمِنْه: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38]، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {إِن الْأَبْرَار لفى نعيم} وَإِن الْفجار لفى جحيم} [الانفطار: 13، 14] .
فالإكرام للْعلم، والإهانة للْجَهْل، وَالْقطع للسرقة، وَالْجَلد للزِّنَا وَالنَّعِيم للبر، والجحيم للفجور، وَنَحْوه؛ لِأَن الْمَعْلُوم من تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء تَرْتِيب الْأَحْكَام على الْأُمُور الْمُنَاسبَة، وَالشَّرْع لَا يخرج عَن تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء؛ وَلِأَنَّهُ قد ألف من الشَّارِع اعْتِبَار / المناسبات دون إلغائها، فَإِذا قرن بالحكم فِي لَفظه وَصفا مناسبا غلب على الظَّن اعْتِبَاره.
فَفِي قَوْله: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان "، تَنْبِيه على أَن عِلّة ذَلِك مَا فِيهِ تشويش الْفِكر فيطرد ذَلِك فِي كل مشوش؛ لِأَن خُصُوص كَونه غَضْبَان لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسب للْحكم فَيلْحق بِهِ الجائع والحاقن وَنَحْوه.
وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا مُلَازمَة بَين التشويش وَالْغَضَب؛ لِأَن التشويش إِنَّمَا ينشأ عَن الْغَضَب الشَّديد لَا مُطلق الْغَضَب.
وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْغَضَب مَظَنَّة التشويش فَكَانَ هُوَ الْعلَّة، كالسفر مَعَ الْمَشَقَّة، وَكلما كَانَ مَظَنَّة من جوع وَنَحْوه يكون كَذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن هَذَا سبق التَّمْثِيل بِهِ لما أَجمعُوا على أَنه عِلّة، فَالْمُرَاد بالتمثيل بِهِ هُنَا أَن يكون فِي الِابْتِدَاء قبل أَن يجمعوا.
قَوْله: [فَإِن ذكر الْوَصْف صَرِيحًا وَالْحكم مستنبط مِنْهُ ك {وَأحل اللَّهِ البيع} صِحَّته مستنبطة من حلّه، فمومى إِلَيْهِ فِي الْأَصَح، وَعَكسه بعكسه كحرمت الْخمر، الْوَصْف مستنبط من تَحْرِيمه] .
إِذا كَانَ الحكم مَقْرُونا بِوَصْف لم يشْتَرط فِي وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون مَذْكُورا، بل قد يكون وَاحِد مِنْهُمَا مستنبطا.
مِثَال كَون الْوَصْف مَذْكُورا مُصَرحًا بِهِ وَالْحكم مستنبطا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل اللَّهِ البيع} [الْبَقَرَة: 275] ، فَإِن الْوَصْف الَّذِي هُوَ حل البيع مُصَرح بِهِ، وَالْحكم وَهُوَ الصِّحَّة مستنبط من الْحل، فَإِنَّهُ يلْزم من حلّه صِحَّته.
وَأما الْعَكْس وَهُوَ كَون الحكم مَذْكُورا وَالْوَصْف مستنبطا، فَهُوَ الَّذِي فِي أَكثر الْعِلَل المستنبطة كَقَوْلِه: حرمت الْخمر، فَإِن الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم مُصَرح بِهِ، وَالْوَصْف وَهُوَ الْإِسْكَار مستنبط [مِنْهُ] ، وكعلة الرِّبَا مستنبطة من حكمه فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ خلاف.
وَالصَّحِيح أَن النَّوْع الأول من الْإِيمَاء، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره، وَذكره عَن الْمُحَقِّقين، للُزُوم الصِّحَّة للْحلّ لذكره، لِأَن التَّلَفُّظ بِالْوَصْفِ إِيمَاء إِلَى تَعْلِيل الحكم الْمُصَرّح بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ أَيْضا.
وَلنَا قَول آخر أَنه لَيْسَ / من الْإِيمَاء، لِأَن الْعلَّة غير مُصَرح بهَا فِيهِ كَمَا لَو صرح بالحكم.
وَالصَّحِيح: أَن النَّوْع الثَّانِي لَيْسَ من الْإِيمَاء، جزم بِهِ الْآمِدِيّ، والطوفي فِي " شَرحه "، وَمَال إِلَيْهِ الْهِنْدِيّ، وَقَالَ: الْخلاف فِيهِ بعيد نقلا وَمعنى؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون الْعلَّة والإيماء متلازمين لَا يَنْفَكّ أَحدهمَا، وَادّعى بَعضهم الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
وَلنَا قَول آخر أَنه من الْإِيمَاء، لِأَن الْإِيمَاء اقتران الْوَصْف بالحكم وَهُوَ حَاصِل هُنَا ثمَّ لاستلزام، وَهُوَ ظَاهر مَا نَصره ابْن مُفْلِح.
قَوْله: [وَلَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد ابْن الْمَنِيّ وَالْأَكْثَر، وَعند الْغَزالِيّ والجوزي بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة، وَمَعْنَاهُ للموفق وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل] .
لَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر بِنَاء على أَن الْعلَّة الْمُعَرّف.
وَقيل: يشْتَرط بِنَاء على أَنَّهَا بِمَعْنى الْبَاعِث.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهل يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ؟ أطلق بعض أَصْحَابنَا وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: اشْتَرَطَهُ قوم، ونفاه آخَرُونَ، ثمَّ اخْتَار إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة اشْترط؛ لِأَن الْمُنَاسبَة فِيهِ منشأ للإيماء مثل " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ". وَإِلَّا، فَلَا لِأَنَّهُ بِمَعْنى الأمارة. وَمَعْنَاهُ فِي الرَّوْضَة، وجدل أبي مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ.
وَقَالَ الْمجد: تَرْتِيب الحكم على اسْم مُشْتَقّ يدل أَن مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق عِلّة فِي قَول [أَكثر] الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ ابْن الْمَنِيّ.
وَقَالَ قوم: إِن كَانَ مناسبا، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب فِي تَعْلِيل الرِّبَا من الِانْتِصَار، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ وَإِنَّمَا ذكر أَبُو الْخطاب منعا وتسليما. اسْتدلَّ لعدم الِاشْتِرَاط: أَنه لَو اشْترط لم يفهم التَّعْلِيل من تَرْتِيب الحكم على وصف غير مُنَاسِب كأهن الْعَالم، وَأكْرم الْجَاهِل، وَلم يلم عَلَيْهِ. / رد: لم يفهم مِنْهُ واللوم للإساءة فِي الْجَزَاء، وَلِهَذَا توجه اللوم لَو سكت عَن الْجَزَاء فِي مَوضِع يفهم من السُّكُوت ".