الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: (فصل القوادح)
لما فَرغْنَا من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية شرعنا فِي ذكر مَا يحْتَمل أَنه من مبطلاتها.
فإيراد القوادح مَا يقْدَح فِي الدَّلِيل بجملته سَوَاء الْعلَّة وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ قد يطْرَأ على من يثبت عَلَيْهِ الحكم اعْتِرَاض يقْدَح فِي علية مَا ادَّعَاهُ عِلّة، وَذَلِكَ من أحد وُجُوه يعبر عَنْهَا بالقوادح، وَرُبمَا كَانَت قادحة لَا فِي خُصُوص الْعلَّة فَلذَلِك ترجمها ابْن الْحَاجِب وَغَيره بالاعتراضات.
وَإِنَّمَا ترجمت [لَهَا] بقوادح الْعلَّة تبعا لجَماعَة؛ لِأَنَّهَا ترجع إِلَى الْقدح فِي الْعلَّة كَمَا ستعرفه، وَلِأَن أغلبها موجه إِلَى الْعلَّة بالخصوص.
قَوْله: (ترجع إِلَى الْمَنْع فِي الْمُقدمَات أَو الْمُعَارضَة فِي الحكم عِنْد الْمُعظم، وَقيل: إِلَى الْمَنْع وَحده) .
قَالَ أهل الجدل: الاعتراضات رَاجِعَة إِمَّا إِلَى منع فِي مُقَدّمَة فِي الْمُقدمَات، أَو مُعَارضَة فِي الحكم، فَمَتَى حصل الْجَواب عَنْهَا فقد تمّ الدَّلِيل، وَلم يبْق للمعترض مجَال، فَيكون مَا سوى ذَلِك من الأسئلة بَاطِلا فَلَا يسمع.
وَقَالَ بَعضهم، وَتَبعهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن
الْحَاجِب "، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع ": إِنَّهَا ترجع إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن الْكَلَام إِذا كَانَ مُجملا لَا يحصل غَرَض الْمُسْتَدلّ بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره تَسْتَلْزِم منع تحقق الْوَصْف، وَمنع لُزُوم الحكم عَنهُ.
وَقد ذكرنَا هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا خَمْسَة وَعشْرين قادحا، وَذكرهَا فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة " للطوفي فِي اثْنَي عشر بِصِيغَة: قيل.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " قَالَ بعض أهل الْعلم يتَوَجَّه على الْقيَاس اثْنَا عشر سؤالا ".
وَهَذِه القوادح لم يذكرهَا الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " بل أعرض عَنْهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا كالعلاوة على أصُول الْفِقْه، وَإِن مَوضِع ذكرهَا علم الجدل. الَّذِي ذكرهَا يَقُول: إِنَّهَا من مكملات الْقيَاس الَّذِي هُوَ من أصُول الْفِقْه، ومكمل الشَّيْء من ذَلِك الشَّيْء.
ولهذه [الشُّبْهَة] أَكثر قوم من ذكر الْمنطق والعربية وَالْأَحْكَام الكلامية؛ [لِأَنَّهَا] من مواده ومكملاته.
قَوْله: (ومقدمها) .
أَي: القوادح.
(الاستفسار) .
أَي: هُوَ طَلِيعَة لَهَا، كطليعة الْجَيْش؛ لِأَنَّهُ الْمُقدم على كل اعْتِرَاض، وَإِنَّمَا كَانَ مقدم الاعتراضات؛ لِأَنَّهُ إِذا لم يعرف مَدْلُول اللَّفْظ اسْتَحَالَ توجه الْمَنْع أَو الْمُعَارضَة، وهما مُرَاد الاعتراضات كلهَا.
وَكَانَ الْإِسْنَوِيّ يَقُول: فِي [كَونه] من الاعتراضات نظر؛ لِأَنَّهُ طَلِيعَة جنس الاعتراضات لَا بهَا، لِأَنَّهَا خدش كَلَام الْمُسْتَدلّ، والاستفسار لَيْسَ فِيهِ خدش بل تعرف للمراد، ويتبين الْمَطْلُوب ليتوجه عَلَيْهِ السُّؤَال.
وَيقرب مِنْهُ حِكَايَة الْهِنْدِيّ عَن بعض متأخري أهل الجدل: أَنه أنكر هَذَا السُّؤَال.
وَهَذَا وَاضح؛ لِأَن غَايَته اسْتِفْهَام لَا اعْتِرَاض، وَهُوَ من الفسر، وَهُوَ لُغَة: طلب الْكَشْف والإظهار، وَمِنْه التَّفْسِير.
قَوْله: (وَهُوَ طلب معنى لفظ الْمُسْتَدلّ لإجماله أَو غرابته، وبيانها على الْمُعْتَرض فِي الْأَصَح باحتماله، / أَو بِجِهَة الغرابة بطريقة، وَلَا يلْزمه بَيَان تَسَاوِي الِاحْتِمَالَات) .
والاستفسار: طلب معنى اللَّفْظ الَّذِي قَالَه الْمُسْتَدلّ، وَإِنَّمَا يسمع إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ إِجْمَال أَو غرابة، وَإِلَّا فَهُوَ تعنت مفوت لفائدة المناظرة؛ إِذْ يَأْتِي فِي كل لفظ يُفَسر بِهِ لفظ ويتسلسل.
وَلذَلِك قَالَ الباقلاني: مَا يُمكن فِيهِ [الاستبهام] حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام. وَذَلِكَ [إِمَّا] لإجماله كَمَا لَو قَالَ الْمُسْتَدلّ: الْمُطلقَة تَعْتَد بالإقراء، فَلفظ الإقراء مُجمل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: مَا مرادك بِالْأَقْرَاءِ؟ فَإِذا قَالَ: الْحيض أَو الْأَطْهَار.
أجَاب: بِحَسب ذَلِك من تَسْلِيم أَو منع.
وَإِمَّا لغرابته؛ إِمَّا من حَيْثُ الْوَضع كَقَوْلِنَا: لَا يحل السبد أَي: الذِّئْب، وكما لَو قَالَ فِي الْكَلْب الَّذِي لم يعلم: خرَاش لم يبل، فَلَا يُطلق فريسته كالسبد.
وَمعنى: لم يبل: لم يختبر.
قَالَ الْجَوْهَرِي: بلاه وأبلاه بلَاء حسنا وابتلاه اختبره.
والفريسة: الصَّيْد، من فرس الْأسد فريسته: إِذا دق عُنُقهَا، ثمَّ كثر حَتَّى أطلق على كل قَتِيل فرسا.
والسبد: الذِّئْب، وَهُوَ بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة.
والخراش: الْكَلْب، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء، وَقبل الْألف رَاء بعْدهَا شين مُعْجمَة.
وَإِمَّا من حَيْثُ الِاصْطِلَاح، أَي: من الغرابة خلط اصْطِلَاح باصطلاح، كَمَا يُقَال فِي القياسات الْفِقْهِيَّة لفظ الدّور، أَو التسلسل أَو الهيولى، أَو الْمَادَّة، أَو المبدأ، أَو الْغَايَة.
نَحْو أَن يُقَال فِي شُهُود الْقَتْل إِذا رجعُوا: لَا يجب الْقصاص؛ لِأَن وجوب الْقصاص تجرد مبداه عَن غَايَة مَقْصُوده فَوَجَبَ أَن لَا يثبت.
وَكَذَا مَا أشبه ذَلِك من اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين إِلَّا أَن يعرف من حَال خَصمه أَنه يعرف ذَلِك فَلَا غرابة حِينَئِذٍ.
إِذا علم ذَلِك فبيان كَونه مُجملا أَو غَرِيبا حَتَّى يحْتَاج إِلَى تَفْسِير على الْمُعْتَرض على الْأَصَح بطريقه، إِلَّا أَن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَعدم الغرابة، فيبين أَن / اللَّفْظ مُجمل لكَونه مُتَعَددًا وَلَا يُكَلف بَيَان التَّسَاوِي لعسره.
فَإِن قَالَ: إِن الأَصْل عدم رُجْحَان بَعْضهَا.
فَهُوَ جيد، وَيكون ذَلِك تَبَرعا من الْمُعْتَرض، هَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ.
وَقيل: لِأَنَّهُ سلمه لما سلم الِاسْتِعْمَال، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك.
رد: لَا ينْحَصر سَبَب الْإِجْمَال فِي الِاشْتِرَاك.
قَوْله: (وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَنْع احْتِمَاله أَو بَيَان ظُهُوره فِي مَقْصُوده بِنَقْل، أَو عرف، أَو قرينَة، أَو تَفْسِيره إِن تعذر إبِْطَال غرابته، وَلَو قَالَ: يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال، أَو فِيمَا قصد بِهِ لعدم ظُهُوره [فِي الآخر] اتِّفَاقًا كفى فِي الْأَصَح، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى، وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة) .
بَيَان أَنه لَيْسَ بمجمل وَلَا غَرِيب على الْمُسْتَدلّ؛ لِأَن شَرط الدّلَالَة على المُرَاد عدم إجماله أَو غرابته.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: هَذَا ظَاهر فِي مقصودي، وَيبين ذَلِك:
إِمَّا بِنَقْل من اللُّغَة، كَمَا لَو اعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: الْوضُوء قربَة فَتجب لَهُ النِّيَّة، فَيَقُول الْوضُوء يُطلق على النَّظَافَة وعَلى الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة، فَمَا الَّذِي تُرِيدُ بِالَّذِي تجب لَهُ النِّيَّة؟ فَيَقُول: حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة، وَهِي الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة.
وَإِمَّا من الْعرف، كالدابة.
أَو بقول ظَاهر لقَرِينَة مَعَه، مثل قَوْله: قرء تحرم فِيهِ الصَّلَاة فَيحرم الصَّوْم، فقرينة تَحْرِيم الصَّلَاة فِيهِ يدل [أَن] المُرَاد بِهِ الْحيض.
وَفِي الغرابة، مثل: قَوْله طلة زوجت نَفسهَا، فَلَا يَصح، فالطلة: الْمَرْأَة بِدَلِيل قَوْله زوجت نَفسهَا، لَا صفة الْخمر.
أَو يُفَسر مَقْصُوده إِن تعذر إبِْطَال غرابته بِأَن يَقُول: مرادي الْمَعْنى الْفُلَانِيّ، لَكِن لابد أَن يفسره بِمَا يحْتَملهُ اللَّفْظ وَإِن بعد، كَمَا يَقُول: يخرج فِي الْفطْرَة الثور، ويفسره بالقطعة من الأقط.
فَلَو قَالَ: الْمُسْتَدلّ: هُوَ غير ظَاهر فِي غير مرادي بِاتِّفَاق مني ومنك، فَيكون ظَاهرا فِي مرادي؛ / لِئَلَّا يكون الْإِجْمَال.
فَمنهمْ من رده بِرُجُوعِهِ إِلَى قَوْله إِن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَالْفَرْض أَن الْمُعْتَرض بَين أَنه مُجمل، وَأَيْضًا فَلَا يلْزم من عدم [ظُهُوره] فِي الآخر ظُهُوره فِي مَقْصُوده؛ لجَوَاز عدم الظُّهُور فِيهَا جَمِيعًا.
وَصَوَّبَهُ بَعضهم دفعا لمحذور الْإِجْمَال، وَذَلِكَ حَيْثُ [لَا يكون] اللَّفْظ مَشْهُورا بالإجمال، أما إِذا اشْتهر باللإجمال كَالْعَيْنِ والقرء والجون وَنَحْوهَا، فَلَا يَصح فِيهِ دَعْوَى الظُّهُور أصلا.
وَأما إِذا فسره بِمَا لَا يحْتَمل فلعب، فَلَا يسمع؛ لِأَن غَايَته أَنه ينْطق بلغَة [غَيره] مَعْرُوفَة.
قَالَ الْحوَاري: وَهَذَا الْحق.
وَقَالَ [العميدي] : لَا يلْزمه التَّفْسِير أصلا.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَابْن الْحَاجِب وتابعناه: " وَلَو قَالَ يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال وَفِيمَا قصدته؛ لعدم ظُهُوره فِي الآخر اتِّفَاقًا كفى، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى " انْتهى.
لَكِن هَذَا كُله إِذا لم يكن اللَّفْظ مَشْهُورا، فَإِن كَانَ مَشْهُورا فالجزم تبكيت الْمُعْتَرض. وَيُقَال: مر فتعلم ثمَّ ارْجع فَتكلم، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة.
قَوْله (فَسَاد الِاعْتِبَار: مُخَالفَة الْقيَاس نصا، أَو إِجْمَاعًا، وَجَوَابه: بضعفه، أَو منع ظهروه، أَو تَأْوِيله، أَو القَوْل بِمُوجبِه، أَو معارضته بِمثلِهِ، وَهُوَ أَعم من فَسَاد الْوَضع، وَفَسرهُ ابْن الْمَنِيّ: بتوجيه الْمُنَازعَة فِي دلَالَة الْقيَاس) .
الثَّانِي من القوادح والاعتراضات: فَسَاد الِاعْتِبَار.
هَذَا نوع ثَان من القوادح، وَهُوَ الْمُسَمّى بِفساد الِاعْتِبَار، وَهُوَ كَون الْقيَاس مُخَالفا للنَّص أَو الْإِجْمَاع؛ فَإِن ذَلِك يدل على فَسَاده.
سَوَاء كَانَ النَّص نَص الْقُرْآن، كَمَا يُقَال فِي تبييت الصَّوْم: صَوْم مَفْرُوض، فَلَا يَصح بنية من النَّهَار كالقضاء.
فَيُقَال: هَذَا فَاسد الِاعْتِبَار [لمُخَالفَته] قَوْله تَعَالَى {والصائمين والصائمات} [الْأَحْزَاب: 35] ، فَإِنَّهُ يدل على أَن كل صَائِم يحصل لَهُ أجر عَظِيم، وَذَلِكَ يسْتَلْزم الصِّحَّة.
أَو كَانَ النَّص سنة، كَمَا يُقَال: لَا يَصح السّلم فِي الْحَيَوَان؛ لِأَنَّهُ يشْتَمل على غرر فَلَا يَصح فِي الْمُخْتَلط.