الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذا عرفت أَن الْمُعَارضَة مَقْبُولَة فَالْجَوَاب عَنْهَا من وُجُوه:
مِنْهَا: منع وجود الْوَصْف، مثل أَن يُعَارض الْقُوت بِالْكَيْلِ، فَيَقُول: لَا نسلم أَنه مَكِيل؛ لِأَن الْعبْرَة بعادة زمن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم َ -
وَكَانَ حِينَئِذٍ مَوْزُونا.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بِكَوْن وصف الْمعَارض مؤثرا.
يُقَال: وَلم قلت: إِن الْكَيْل مُؤثر وَهَذَا إِنَّمَا يسمع من الْمُسْتَدلّ إِذا كَانَ مثبتا للعلية بالمناسبة أَو الشّبَه، حَتَّى يحْتَاج الْمعَارض فِي معارضته إِلَى بَيَان مُنَاسبَة أَو شبه، بِخِلَاف مَا إِذا أثْبته
بالسبر، فَإِن الْوَصْف يدْخل فِي السبر بِدُونِ ثُبُوت الْمُنَاسبَة بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال.
وَمِنْهَا: بَيَان خفائه.
وَمِنْهَا: عدم انضباط هَذِه الْأَرْبَعَة؛ لما علمت أَن الظُّهُور والانضباط شَرط فِي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ، فَلَا بُد فِي دَعْوَى صلوح الْوَصْف عِلّة من بَيَانهَا، وللصاد عَنْهُمَا أَن يبين عدمهما، وَأَن يُطَالب بِبَيَان وجودهما.
وَمِنْهَا: بَيَان أَن الْوَصْف عدم معَارض فِي الْفَرْع.
مِثَاله: أَن يقيس الْمُكْره على الْمُخْتَار فِي الْقصاص بِجَامِع الْقَتْل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: معَارض بالطواعية فَإِن الْعلَّة هِيَ الْقَتْل مَعَ الطواعية.
فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الطواعية عدم الْإِكْرَاه الْمُنَاسب لنقيض الحكم، وَهُوَ عدم الْقصاص، فحاصله عدم / معَارض، وَعدم الْمعَارض طرد لَا يصلح للتَّعْلِيل؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْبَاعِث فِي شَيْء كَمَا علمت.
وَمِنْهَا: أَن يبين كَون الْوَصْف الْمعَارض ملغى؛ إِذْ قد تبين اسْتِقْلَال الْبَاقِي بالعلية فِي صُورَة مَا بِظَاهِر نَص أَو إِجْمَاع.
مِثَاله: إِذا عَارض فِي الرِّبَا الطّعْم بِالْكَيْلِ.
فيجيب: بِأَن النَّص دلّ على اعْتِبَار الطّعْم فِي صُورَة مَا، وَهُوَ قَوْله:" لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ".
وَمِثَال آخر: أَن يَقُول فِي يَهُودِيّ صَار نَصْرَانِيّا، أَو بِالْعَكْسِ: بدل دينه فَيقْتل كالمرتد.
فيعارضه بالْكفْر بعد الْإِيمَان.
فيجيب: بِأَن التبديل مُعْتَبر فِي صُورَة مَا لقَوْله: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَهَذَا إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم، فَلَو عمم وَقَالَ: فَيثبت ربوية كل مطعوم، أَو اعْتِبَار كل تَبْدِيل للْحَدِيث لم يسمع؛ لِأَن ذَلِك إِثْبَات للْحكم بِالنَّصِّ دون الْقيَاس، وَلَا تتميم للْقِيَاس بالإلغاء، وَالْمَقْصُود ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت الْعُمُوم لَكَانَ الْقيَاس ضائعا، وَلَا يضر كَونه عَاما إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم وَلم يسْتَدلّ بِهِ.
وَمعنى هَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَلم يذكرهُ فِي الْمَتْن.
قَوْله: (وَاكْتفى الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا فِي بَيَان استقلاله، بِإِثْبَات الحكم فِي صُورَة دونه؛ لِأَن الأَصْل عدم غَيره، وَيدل عَلَيْهِ عجز الْمعَارض عَنهُ، وَقيل: لَا، لجَوَاز عِلّة أُخْرَى، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَلَو أبدى وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء، وَيُسمى تعدد الْوَضع، لتَعَدد أصليهما، وَجَوَاب إِفْسَاد الإلغاء إِلَى أَن يقف أَحدهمَا) .
قَالَ: " رُبمَا يظنّ أَن إِثْبَات الحكم فِي صُورَة دون وصف الْمعَارض كَاف فِي فِي إلغائه.
وَالْحق: أَنه لَيْسَ بكاف؛ لجَوَاز وجود عِلّة أُخْرَى، لما تقدم من جَوَاز تعدد الْعلَّة وَعدم وجوب الْعَكْس.
وَلأَجل ذَلِك لَو أبدى الْمُعْتَرض فِي صُورَة عدم وصف الْمُعَارضَة وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ، بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء؛ لابتنائه على اسْتِقْلَال الْبَاقِي فِي تِلْكَ الصُّورَة، وَقد بَطل.
وَتسَمى هَذِه الْحَالة تعدد / الْوَضع لتَعَدد أصليهما، وَالتَّعْلِيل فِي أَحدهمَا بِالْبَاقِي على وضع، أَي: مَعَ قيد، وَفِي الآخر على وضع آخر، أَي: مَعَ قيد آخر.
مِثَاله: أَن يُقَال فِي مَسْأَلَة أَمَان العَبْد للحربي: أَمَان من مُسلم عَاقل فَيقبل كَالْحرِّ؛ لِأَن الْإِسْلَام وَالْعقل مظنتان لإِظْهَار مصلحَة الْإِيمَان، أَي: بذل الْأمان وَجعله آمنا.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هُوَ معَارض بِكَوْنِهِ حرا، أَي: الْعلَّة كَونه مُسلما عَاقِلا حرا، فَإِن الْحُرِّيَّة مَظَنَّة فرَاغ قلبه للنَّظَر، لعدم اشْتِغَاله بِخِدْمَة السَّيِّد، فَيكون إِظْهَار مصَالح الْإِيمَان مَعَه أكمل.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: الْحُرِّيَّة ملغاة لاستقلال الْإِسْلَام وَالْعقل بِهِ فِي صُورَة العَبْد الْمَأْذُون لَهُ من قبل سَيّده فِي أَن يُقَاتل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: إِذن السَّيِّد لَهُ خلف عَن الْحُرِّيَّة، فَإِنَّهُ مَظَنَّة لبذل
الوسع فِيمَا تصدى لَهُ من مصَالح الْقِتَال، أَو لعلم السَّيِّد صَلَاحه، لإِظْهَار مصَالح الْإِيمَان.
وَجَوَاب تعدد الْوَضع: أَن يلغي الْمُسْتَدلّ ذَلِك الْخلف، بإبداء صُورَة لَا يُوجد فِيهَا الْخلف.
فَإِن أبدى الْمُعْتَرض خلفا آخر، فَجَوَابه: إلغاؤه، وعَلى هَذَا إِلَى أَن يقف أَحدهمَا فَتكون الدبرة عَلَيْهِ، فَإِن [ظَهرت] صُورَة لَا خلف فِيهِ تمّ الإلغاء، وَبَطل الِاعْتِرَاض، وَإِلَّا ظهر عجز الْمُعْتَرض ".
قَوْله: (وَلَا يُفِيد الإلغاء لضعف المظنة بعد تَسْلِيمهَا) .
" قد عرفت أَن من أجوبة الْمُعَارضَة الإلغاء، فالإلغاء [هَل] يثبت ضعف الْمَعْنى، إِذا سلم وجود المظنة المتضمنة لذَلِك الْمَعْنى؟ الْحق أَنه لَا يثبت.
مِثَاله: أَن يَقُول: الرِّدَّة عِلّة الْقَتْل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: بل مَعَ الرجولية؛ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْإِقْدَام على قتال الْمُسلمين، إِذْ يعْتَاد ذَلِك من الرِّجَال دون النِّسَاء.
فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الرجولية وَكَونهَا مَظَنَّة الْإِقْدَام لَا تعْتَبر، وَإِلَّا لم يقتل مَقْطُوع الْيَدَيْنِ؛ لِأَن احْتِمَال الْإِقْدَام فِيهِ ضَعِيف، بل أَضْعَف من احْتِمَاله فِي النِّسَاء.
وَهَذَا لَا يقبل من حَيْثُ سلم أَن الرجولية مَظَنَّة اعتبرها الشَّارِع، وَذَلِكَ
كترفه الْملك فِي السّفر، لَا يمْنَع رخص السّفر فِي / حَقه، إِذْ الْمُعْتَبر المظنة وَقد وجدت، لَا مِقْدَار الْحِكْمَة لعدم انضباطها ".
قَوْله: (وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه، خلافًا للآمدي، أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه خلافًا للآمدي، لقُوَّة بعض أَجزَاء الْعلَّة، كَالْقَتْلِ على الْعمد الْعدوان.
أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا لاحْتِمَال جزئه الْقَاصِر ".
لم يذكر ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على كَونه مُعَللا، إِنَّمَا ذكر الأول والأخير.
فَلهَذَا قَالَ الْعَضُد: " هَذَانِ وَجْهَان توهما جَوَابا للمعارضة وَلَا يكفيان.
الأول: رُجْحَان الْمعِين، وَهُوَ أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَاب الْمُعَارضَة: مَا عينته من الْوَصْف رَاجِح على مَا عارضت بِهِ، ثمَّ يظْهر وَجها من وُجُوه التَّرْجِيح وَهَذَا الْقدر غير كَاف؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على أَن اسْتِقْلَال وَصفه أولى
من اسْتِقْلَال وصف الْمُعَارضَة، إِذْ لَا يُعلل بالمرجوح مَعَ وجود الرَّاجِح، لَكِن احْتِمَال الْجُزْئِيَّة بَاقٍ، وَلَا بعد فِي تَرْجِيح بعض الْأَجْزَاء على بعض، فَيَجِيء التحكم.
الثَّانِي: [كَون] مَا عينه الْمُسْتَدلّ مُتَعَدِّيا وَالْآخر قاصرا غير كَاف فِي جَوَاب الْمُعَارضَة، إِذْ مرجعه التَّرْجِيح بذلك، فَيَجِيء التحكم، هَذَا والشأن فِي التَّرْجِيح فَإِنَّهُ إِن رجحت المتعدية بِأَن اعْتِبَاره يُوجب الاتساع فِي الْأَحْكَام، وبأنها مُتَّفق على اعْتِبَارهَا، بِخِلَاف القاصرة، رجحت القاصرة بِأَنَّهَا مُوَافقَة للْأَصْل، إِذْ الأَصْل عدم الْأَحْكَام، وَبِأَن اعْتِبَارهَا إِعْمَال للدليلين مَعًا، دَلِيل الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَدَلِيل القاصرة بِخِلَاف إلغائها ".
قَوْله: (وَيجوز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ فِي الْأَصَح، فَيجوز اقْتِصَار الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَفِي " الْوَاضِح ": لَا، فَيجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع، وَقيل: لَا، فللمستدل الِاقْتِصَار فِي جَوَابه على أصل وَاحِد، وَقيل: لَا) .
قد اخْتلف فِي جَوَاز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ:
فَقيل: لَا يجوز، بل يجب عَلَيْهِ [الِاكْتِفَاء] بِأَصْل وَاحِد إِذْ مَقْصُوده الظَّن، وَهُوَ يحصل بِوَاحِد، فيلغوا مَا زَاد عَلَيْهِ.
وَالصَّحِيح: أَنه جَائِز؛ لِأَن الظَّن يقوى بِهِ، وكما أَن أصل [الظَّن] مَقْصُود، فقوته - أَيْضا - مَقْصُودَة.
فعلى هَذَا إِذا تعدد الأَصْل فَهَل يجوز للمعترض / أَن يقْتَصر فِي الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَلَا يتَعَرَّض لسَائِر الْأُصُول؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: يجوز الِاقْتِصَار على أصل وَاحِد؛ لِأَن إبِْطَال جُزْء من كَلَامه يبطل كَلَامه كُله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجوز، وَجزم بِهِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَنَّهُ لَو سلم لَهُ أصل لكفاه الْمَقْصُود، فَلَا بُد من إبِْطَال الْجَمِيع.
فعلى هَذَا القَوْل يجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع للنشر.
وَقيل: لَا، للتيسير على الْمُعْتَرض.
وعَلى كَونه لَا يجوز الِاكْتِفَاء بِوَاحِد بل تجب الْمُعَارضَة فِي جَمِيع الْأُصُول، لَو عَارض فِي الْجَمِيع وَدفع الْمُسْتَدلّ معارضته عَن أصل وَاحِد، فَهَل يجوز وَيكون ذَلِك كَافِيا؟
فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَجهه أَنه يحصل بِهِ مَطْلُوبه.
وَالثَّانِي: الْمَنْع وَوَجهه أَنه الْتزم الْجَمِيع، فَلَزِمَهُ الذب عَن الْجَمِيع كَأَن الْجَمِيع صَار مدعى بِالْعرضِ.
قَوْله: (التَّرْكِيب، سبق، كالبالغة أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كَبِنْت خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها، وَهُوَ صَحِيح فِي الْأَصَح، وَقَالَ الْفَخر: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة، ثمَّ هُوَ غير صَحِيح.
يَعْنِي: هَذَا سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ الْوَارِد على الْقيَاس الْمركب، وَقد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل.
يَعْنِي: الْقيَاس الْمركب، وتقسيمه، وَوجه تَسْمِيَته بذلك، وتوجيه الْإِيرَاد عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (التَّرْكِيب سبق فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " من الأسئلة، وَقَالَ: هُوَ الْقيَاس الْمركب من اخْتِلَاف مَذْهَب
الْخصم، نَحْو: الْبَالِغَة: أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كابنة خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها.
فَقيل: فَاسد لرد الْكَلَام إِلَى سنّ الْبلُوغ وَلَيْسَ بِأولى من عَكسه.
وَقيل: يَصح؛ لِأَن حَاصله مُنَازعَة فِي الأَصْل، فَيبْطل الْمُسْتَدلّ مَا يَدعِي الْمُعْتَرض تَعْلِيل الحكم بِهِ ليسلم مَا يَدعِيهِ جَامعا فِي الأَصْل. [وَاخْتَارَ] بعض أَصْحَابنَا الصِّحَّة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة. ثمَّ هُوَ غير صَحِيح؛ لاشْتِمَاله على منع حكم على مَذْهَب إِمَام نَصه / بِخِلَافِهِ، فَلَا يجوز) .
وَسَيَأْتِي كَلَام الْعَضُد قَرِيبا فِي التَّعْدِيَة.
قَوْله: (التَّعْدِيَة: مُعَارضَة وصف الْمُسْتَدلّ بِوَصْف آخر مُتَعَدٍّ: كَقَوْلِه فِي بكر بَالغ: بكر فأجبرت كبكر صَغِيرَة، فيعترض: بالصغر ويعديه إِلَى ثيب صَغِيرَة، وَيرجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يخرج عَنْهَا، وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة، خلافًا للداركي) .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين عَن التَّرْكِيب والتعدية: " هَذَانِ اعتراضان يعدهما الجدليون فِي عداد الاعتراضات، وهما راجعان إِلَى بعض من سَائِر الاعتراضات، وَنَوع مِنْهُ خص باسم، وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا سؤالا بِرَأْسِهِ.
فَالْأول: سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا عَرفته حَيْثُ قُلْنَا: شَرط حكم [الأَصْل] أَن لَا يكون ذَا قِيَاس مركب، وَأَنه قِسْمَانِ: مركب الأَصْل ومركب الْوَصْف، وَأَن مرجع أَحدهمَا منع حكم الأَصْل، أَو منع الْعلَّة، ومرجع الآخر منع حكم الأَصْل، أَو منع وجود الْعلَّة، فِي الْفَرْع فَلَيْسَ، بِالْحَقِيقَةِ سؤالا بِرَأْسِهِ، وَقد عرفت الْأَمْثِلَة فَلَا معنى للإعادة.
الثَّانِي: سُؤال التَّعْدِيَة، وَذكر فِي مِثَاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي الْبكر الْبَالِغَة: بكر فتجبر كالصغيرة.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا معَارض بالصغر.
وَمَا ذكرته وَإِن تعدى بِهِ الحكم إِلَى الْبكر الْبَالِغَة، فَمَا ذكرته قد تعدى بِهِ الحكم إِلَى الثّيّب الصَّغِيرَة، وَهَذَا التَّمْثِيل يَجْعَل هَذَا السُّؤَال رَاجعا إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِوَصْف آخر، وَهُوَ الْبكارَة بالصغر، مَعَ زِيَادَة تعرض للتساوي فِي التَّعْدِيَة، فَلَا يكون سؤالا.
النَّوْع الْخَامِس من الاعتراضات: مَا يرد بِاعْتِبَار الْمُقدمَة الثَّالِثَة، وَهِي دَعْوَى وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع سَوَاء، وَهُوَ إِمَّا بِدفع وجودهَا بِالْمَنْعِ، أَو بالمعارضة، وَإِمَّا بِدفع الْمُسَاوَاة بِاعْتِبَار ضميمة شَرط فِي الأَصْل، أَو مَانع فِي الْفَرْع، وَيُسمى الْفرق، أَو بِاعْتِبَار نفس الْعلَّة، لاخْتِلَاف فِي الضَّابِط، أَو فِي الْمصلحَة، فَهَذِهِ خَمْسَة أَنْوَاع " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لم أذكر فِي الاعتراضات مَا ذكر ابْن الْحَاجِب من التَّرْكِيب؛ لِأَنَّهُ / قد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَكَذَلِكَ لم أذكر مِنْهَا سُؤال التَّعْدِيَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة خلافًا للداركي ".
قَوْله: (منع وجود وصف الْمُسْتَدلّ فِي الْفَرْع: كأمان عبد، [أَمَان] صدر من أَهله كالمأذون فَيمْنَع الْأَهْلِيَّة، فَيُجِيبهُ: بِوُجُود مَا عناه بالأهلية
فِي الْفَرْع: كجواب مَنعه فِي الأَصْل، وَالأَصَح منع الْمُعْتَرض من تَقْرِير نفي الْوَصْف عَن الْفَرْع) . من الاعتراضات أَن نقُول: لَا نسلم وجود الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ فِي الْفَرْع.
مِثَاله أَن نقُول فِي أَمَان العَبْد: أَمَان صدر عَن أَهله كَالْعَبْدِ الْمَأْذُون لَهُ فِي الْقِتَال.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَا نسلم أَن العَبْد أهل للأمان.
وَالْجَوَاب: بِبَيَان مَا يعنيه بالأهلية، ثمَّ بِبَيَان وجوده، بحس، أَو عقل، أَو شرع كَمَا تقدم، ثمَّ فِي منع وجوده من الأَصْل.
فَيَقُول: أُرِيد بالأهلية كَونه مَظَنَّة لرعاية مصلحَة الْأمان، وَهُوَ بِإِسْلَامِهِ وبلوغه كَذَلِك عقلا.
فَلَو تعرض الْمُعْتَرض لتقدير معنى الْأَهْلِيَّة بَيَانا لعدمه.
فَالصَّحِيح أَنه لَا يُمكن مِنْهُ؛ لِأَن تَفْسِيرهَا وَظِيفَة من تلفظ بهَا؛ لِأَنَّهُ الْعَالم بمراده، وإثباتها وَظِيفَة من ادَّعَاهَا، فيتولى تعْيين مَا ادَّعَاهُ، كل ذَلِك لِئَلَّا ينتشر الْجِدَال.
قَوْله: (الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي نقيض حكم الْمُسْتَدلّ، بِأحد طرق الْعلَّة، يقبل عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَا يعْتَرض بِهِ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء، وَيقبل التَّرْجِيح بِوَجْه تَرْجِيح، عِنْد أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، فَيتَعَيَّن الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي دَلِيله، خلافًا لقوم فيهمَا) .
[من الاعتراضات الْمُعَارضَة: فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي الحكم فِيهِ بِأَن يَقُول مَا ذكرته من الْوَصْف] ، وَإِن اقْتضى ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع فعندي وصف آخر يَقْتَضِي نقيضه، فَيتَوَقَّف دليلك، وَهُوَ المعني بالمعارضة إِذا أطلقت، ولابد من بنائِهِ على أصل بِجَامِع ثَبت عليته، وَله الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات عليته بِأَيّ مَسْلَك من مسالك الْعلَّة شَاءَ، على نَحْو طرق إِثْبَات الْمُسْتَدلّ للعلية سَوَاء فَيصير هُوَ مستدلا آنِفا، والمستدل مُعْتَرضًا؛ فتنقلب الوظيفتان. /
وَقد اخْتلف فِي قبُول سُؤال الْمُعَارضَة.
وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر؛ لِئَلَّا تختل
فَائِدَة المناظرة، وَهُوَ ثُبُوت الحكم، لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد الدَّلِيل، مَا لم يعلم عدم الْمعَارض.
قَالَ الْمُخَالف: فِيهِ قلب التناظر، لِأَنَّهُ [اسْتِدْلَال] من معترض، فَصَارَ الِاسْتِدْلَال إِلَى الْمُعْتَرض، والاعتراض إِلَى الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ خُرُوج مِمَّا قصداه، من معرفَة صِحَة نظر الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله إِلَى أَمر آخر، وَهُوَ معرفَة صِحَة نظر الْمُعْتَرض فِي دَلِيله، والمستدل لَا تعلق لَهُ بذلك، وَلَا عَلَيْهِ أتم نظره أم لَا.
وَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا يكون قلبا للتناظر لَو قصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيله، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَصده إِلَى هدم دَلِيل الْمُسْتَدلّ، وقصوره عَن إِفَادَة مَدْلُوله، فَكَأَنَّهُ يَقُول: دليلك لَا يُفِيد مَا ادعيت بِقِيَام الْمعَارض، وَهُوَ دليلي، فَعَلَيْك إبِْطَال دليلي ليسلم لَك دليلك فَيُفِيد، وَكَيف يقْصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ معَارض بِدَلِيل الْمُسْتَدلّ فَإِن الْمُعَارضَة من الطَّرفَيْنِ، وكل يبطل حكم الآخر.
وَالْجَوَاب عَن سُؤال الْمُعَارضَة جَمِيع مَا مر من الاعتراضات من قبل الْمُعْتَرض على الْمُسْتَدلّ ابْتِدَاء، وَالْجَوَاب: لَا فرق.
وَقد يُجَاب التَّرْجِيح بِوَجْه من وجوهه الَّتِي نذكرها فِي بَاب التراجيح. وَقد اخْتلف فِي قبُول التَّرْجِيح.
وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب؛ لِأَنَّهُ إِذا ترجح وَجب الْعَمَل بِهِ، للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بالراجح، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُود.
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يقبل؛ لِأَن تَسَاوِي الظَّن الْحَاصِل بهما غير مَعْلُوم، وَلَا يشْتَرط ذَلِك، وَإِلَّا لم تحصل الْمُعَارضَة، لِامْتِنَاع الْعلم بذلك. ،
نعم، الْمُعْتَبر حُصُول أصل الظَّن، وَأَنه لَا ينْدَفع بالترجيح.
وعَلى الصَّحِيح: هَل يجب الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي متن الدَّلِيل؟ بِأَن يَقُول: أَمَان من مُسلم عَاقل مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة فِيهِ خلاف:
وَالصَّحِيح: أَنه لَا يجب؛ لِأَن التَّرْجِيح على مَا يُعَارضهُ خَارج عَن الدَّلِيل، وَتوقف الْعَمَل على التَّرْجِيح لَيْسَ جُزْء الدَّلِيل، بل شَرط لَهُ لَا مُطلقًا بل إِذا حصل الْمعَارض، واحتيج إِلَى دَفعه، فَهُوَ من تَوَابِع ظُهُور الْمعَارض لدفعه؛ / لِأَنَّهُ جُزْء من الدَّلِيل فَلَا يجب ذكره من الدَّلِيل.
وَقيل: يجب؛ لِأَنَّهُ شَرط فِي الْعَمَل بِهِ فَلَا يثبت الحكم دونه، فَكَانَ كجزء الْعلَّة.
قَوْله: (الْفرق رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل أَو الْفَرْع وَقيل: بل إِلَيْهِمَا مَعًا، فَلهَذَا لَا يقبل، وَقيل: بلَى، فهما سؤالان جَازَ الْجمع بَينهمَا، وَقيل وَاحِد، وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لقوم، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع) .
من القوادح الْفرق، وَهُوَ: إبداء الْمُعْتَرض معنى يحصل بِهِ الْفرق بَين الأَصْل وَالْفرع حَتَّى لَا يلْحق بِهِ فِي حكمه، وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأول: أَن يَجْعَل الْمُعْتَرض تعين صُورَة الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهَا هُوَ الْعلَّة فِي الحكم:: كَقَوْل حنبلي فِي النِّيَّة فِي الْوضُوء طَهَارَة عَن حدث فَوَجَبَ لَهُ النِّيَّة كالتيمم.
فَيَقُول الْمُعْتَرض بِالْفرقِ: الْعلَّة فِي الأَصْل كَون الطَّهَارَة بِتُرَاب، فَذكر لَهُ خُصُوصِيَّة لَا تعدوه.
وكقول حَنَفِيّ فِي التبييت: صَوْم عين فيتأدى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال كالنفل. فَيُقَال: صَوْم نفل فينبني على السهولة، فَجَاز بنية مُتَأَخِّرَة بِخِلَاف الْفَرْض.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقسم رَاجع إِلَى مُعَارضَة فِي الأَصْل، أَي: مُعَارضَة عِلّة
الْمُسْتَدلّ فِيهِ لعِلَّة أُخْرَى، وَلِهَذَا بناه الْبَيْضَاوِيّ، وكثيسر من الْعلمَاء على تَعْلِيل الحكم بعلتين فَصَاعِدا.
وَوجه الْبناء: أَن الْمُعْتَرض عَارض عِلّة الْمُسْتَدلّ بعلة أُخْرَى، فَمن منع التَّعْلِيل بعلتين رَآهُ اعتراضا يلْزم مِنْهُ تعدد الْعِلَل، وَهُوَ مُمْتَنع عِنْده، وَمن لم يمْنَع لم يره سؤالا قادحا لجَوَاز كَون الحكم لَهُ عِلَّتَانِ.
وَذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى عدم الْبناء.
النَّوْع الثَّانِي: أَن يَجْعَل تعين الْفَرْع مَانِعا من ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ، كَقَوْلِهِم: يُقَاد الْمُسلم بالذمي قِيَاسا على غير الْمُسلم، بِجَامِع الْقَتْل الْعمد الْعدوان.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تعين الْفَرْع وَهُوَ الْإِسْلَام مَانع من وجوب الْقصاص عَلَيْهِ. وَلَعَلَّه - أَيْضا -: مَبْنِيّ على / جَوَاز التَّعْلِيل بالقاصرة.
لَكِن بناه الْبَيْضَاوِيّ، وَغَيره على الْخلاف فِي النَّقْض إِذا كَانَ لمَانع: هَل يقْدَح فِي الْعلية أم لَا؟
فَإِن قُلْنَا لَا يقْدَح فَهَذَا كَذَلِك؛ لِأَن الْوَصْف الَّذِي ادّعى الْمُسْتَدلّ عليته لما وجد فِي الْفَرْع وتخلف فِيهِ الحكم لمَانع قَامَ بِهِ، فَهَذَا نقض لمَانع، فيقدح عِنْد الْقَائِل بالقدح بِالنَّقْضِ لمَانع، وَإِلَّا فَلَا.
فَيكون مُخْتَار الْبَيْضَاوِيّ قدح النَّوْع الأول فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَعدم قدح النَّوْع الثَّانِي مُطلقًا، لاختيار جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَأَن النَّقْض لمَانع غير قَادِح.
إِذا علم ذَلِك فالقدح رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، فَحكمه فِي الرَّد وَالْقَبُول حكمه، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
وَذهب كثير من الْمُتَقَدِّمين: إِلَى أَن الْفرق مُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع مَعًا، حَتَّى لَو اقْتصر على أَحدهمَا لَا يكون فرقا.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي " أَنه وَإِن اشْتَمَل على معَارض، وَلَكِن لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ الْمُعَارضَة، وَإِنَّمَا الْغَرَض مِنْهُ المناقضة للْجمع ".
فَالْكَلَام فِي الْفرق وَرَاء الْمُعَارضَة وخاصته وسره، فقد تنَاقض أصل الْجمع، وَقد رده من يقبل الْمُعَارضَة.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي قبُول الْفرق مذهبان: أَحدهمَا: أَنه مَرْدُود، فَلَا يكون قادحا، وَعَزاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ للمحققين، لِأَنَّهُ جمع بَين أسئلة مُخْتَلفَة.
وأصحهما؛ أَنه مَقْبُول وَأَنه قَادِح؛ لِأَنَّهُ على أَي وَجه ورد يوهن غَرَض
الْمُسْتَدلّ من الْجمع، وَيبْطل مَقْصُوده.
وَذكر فِي " الملخص ": " أَنه " أفقه شَيْء يجْرِي فِي النّظر، وَبِه يعرف فقه الْمَسْأَلَة ".
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي: أَنه الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء، لِأَن [شَرط] عِلّة الْخصم خلوها من الْمعَارض.
وَعند ابْن السَّمْعَانِيّ: " أَنه عِنْد الْمُحَقِّقين أَضْعَف سُؤال يذكر، وَلَيْسَ [مِمَّا] يمس الَّتِي الْعلَّة وصفهَا الْمُعَلل بِوَجْه مَا ".
ورد على أبي الْمَعَالِي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْحق مَا سبق: أَنه إِذا كَانَ كعارضته فِي الْفَرْع فَهُوَ قَادِح، تَفْرِيعا على سَماع النَّقْض وقدحه مُطلقًا، وَإِن / كَانَ فِي الأَصْل فمبني على تعدد الْعِلَل.
وَاخْتلف - أَيْضا - فِي أَنه سُؤال وَاحِد أَو سؤالان:
فَقيل: وَاحِد، لِاتِّحَاد الْمَقْصُود مِنْهُ، وَهُوَ قطع الْجمع، فعلى هَذَا مَقْبُول قطعا.
وَقَالَ ابْن سُرَيج: سؤالان، لاشْتِمَاله على مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة، ثمَّ على مُعَارضَة عِلّة الْفَرْع بعلة مستنبطة فِي جَانب الْفَرْع،، لِأَنَّهُ أدل على الْفرق. فعلى قَوْله فِي قبُوله خلاف:
مِنْهُم من رده وَقَالَ: يَنْبَغِي أَن يُورد كل سُؤال على حياله.
وَمِنْهُم من قبله، وَهُوَ الْأَصَح، وَلَو كَانَ فِيهِ جمع سؤالين؛ لِأَنَّهُ أضبط للغرض، وَأجْمع لتفرق الْكَلَام.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: حَاصِل مَذَاهِب الجدليين فِيهِ ثَلَاثَة:
رده تَفْرِيعا على رد الْمُعَارضَة.
وَهُوَ مَذْهَب سَاقِط.
وَقَول ابْن سُرَيج، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، أَنه لَيْسَ سؤالا وَاحِدًا إِنَّمَا هُوَ مُعَارضَة معنى الأَصْل بِمَعْنى، ومعارضة الْفَرْع لعِلَّة مُسْتَقلَّة، ومعارضة الْعلَّة بعلة مَقْبُولَة.
قَالَ: وَالثَّالِث الْمُخْتَار: أَنه مَقْبُول مُطلقًا، وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ كل من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " فَعلم أَن الْقَائِل بِأَنَّهُ سؤالان؛ لم يقبله على أَنه فرق، بل مُعَارضَة.
وَإِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ قَادِح.
فَقيل: يجب على الْفَارِق نَفْيه عَن الْفَرْع؛ لِأَن قَصده افْتِرَاق صُورَتَيْنِ.
وَقيل: لَا يجب.
وَقيل: بالتفصيل بَين أَن يُصَرح فِي إِفْرَاد الْفرق بالافتراق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَلَا بُد من نَفْيه عَنهُ، وَإِن لم يُصَرح بل قصد الْمُعَارضَة وَدَلِيله غير تَامّ فَلَا.
قَالَ: المقترح: إِنَّه أقرب إِلَى الصَّوَاب.
هَذَا إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ وَاحِدًا، فَإِن تعدد:
فَقيل: بِالْمَنْعِ؛ لإفضائه بالانتشار، مَعَ [إِمْكَان] حُصُول الْمَقْصُود
بِوَاحِد مِنْهَا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا، وَلَو جَازَ تعدد الْعِلَل.
وَقيل: يجوز؛ لما فِيهِ من تَكْثِير الْأَدِلَّة، وَهُوَ أقوى فِي إِفَادَة الظَّن، وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
نعم، إِذا فرعنا على جَوَاز التَّعَدُّد.
إِذا فرق الْمُعْتَرض بَين أصل وَاحِد وَبَين الْفَرْع هَل يَكْفِيهِ ذَلِك؟ الْأَصَح: - كَمَا قَالَ الْهِنْدِيّ - / نعم؛ لانخرام غَرَض الْمُسْتَدلّ فِي إِلْحَاقه لجَمِيع تِلْكَ الْأُصُول.
وَالثَّانِي: يحْتَاج أَن يفرق بَين الْفَرْع وَبَين كل وَاحِد.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: الْمُخْتَار إِن كَانَ غَرَض الْمُسْتَدلّ من الأقيسة المتعددة إِثْبَات الْمَطْلُوب بِصفة الرجحان، [وَغَلَبَة] الظَّن الْمَخْصُوص -[فَالْفرق] الْمَذْكُور قَادِح فِي غَرَضه وَيحصل لغَرَض الْمُعْتَرض، وَإِن كَانَ
غَرَضه إِثْبَات أصل الْمَطْلُوب كفى ".
قَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع.
وَمثل: الصَّبِي غير الْمُكَلف فَلَا يزكّى كمن لم تبلغه [الدعْوَة] ، فينتقض بِعشر زرعه، والفطرة.
فسؤال صَحِيح، بِخِلَاف التَّفْرِقَة بِالْفِسْقِ بَين النَّبِيذ وَالْخمر، لِأَنَّهُ
لَيْسَ من حكم الْعلَّة، ثمَّ يجوز جلبها للتَّحْرِيم فَقَط، لِأَنَّهُ أَعم.
وَمن يرى أَن الْعلَّة لَا تستدعي أَحْكَامهَا لَا يلْزم؛ لِأَنَّهَا تكون عِلّة فِي مَوضِع دون آخر.
وَمثل: النِّكَاح الْمَوْقُوف لَا يبح فَبَطل.
فَيُقَال: اعْتبرت فَسَاد الأَصْل بِفساد الْفَرْع؛ لِأَن الْإِبَاحَة حكم العقد: ففاسد لِأَن العقد يُرَاد لأحكامه، قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَوْله: (اخْتِلَاف الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع: كتسببوا بِالشَّهَادَةِ فَوَجَبَ الْقود كالمكره، فَيُقَال: ضباط الْفَرْع الشَّهَادَة، وَالْأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق تساويهما، وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ مضبوط عرفا أَو بِأَن إفضاءه فِي الْفَرْع مثله، أَو أرجح) .
من القوادح اخْتِلَاف الضَّابِط.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: فِي قياسك اخْتِلَاف الضَّابِط من الأَصْل وَالْفرع، فَلَيْسَ ضَابِط الأَصْل فِيهِ هُوَ ضَابِط الْفَرْع، فَلَا وثوق بِمَا ادعيت جَامعا بَينهمَا.
مِثَاله: قَوْلنَا فِي شَهَادَة الزُّور بِالْقَتْلِ: تسببوا بِالشَّهَادَةِ إِلَى الْقَتْل عمدا فَعَلَيْهِم الْقصاص كالمكره.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: الضَّابِط فِي الْفَرْع وَالشَّهَادَة، وَفِي الأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق التَّسَاوِي بَينهمَا.
وَحَاصِل هَذَا السُّؤَال يرجع إِلَى منع وجود الأَصْل فِي الْفَرْع. /
وَفِي " شرح المقترح " لأبي الْعِزّ حِكَايَة قَوْلَيْنِ فِي قبُوله، قَالَ: " ومدار الْكَلَام فِيهِ يَنْبَنِي على شَيْء وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمُعْتَبر فِي الْقيَاس الْقطع بالجامع، أَو ظن وجود الْجَامِع كَاف.
وَيَنْبَنِي على ذَلِك الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب، فَمن اعْتبر الْقطع منع الْقيَاس فِيهَا، إِذا لَا يتَصَوَّر عَادَة الْقطع بتساوي المصلحتين، فَلَا يتَحَقَّق جَامع بَين الوصفين بِاعْتِبَار يثبت حكم السَّبَبِيَّة بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا، وَمن اكْتفى بِالظَّنِّ صحّح ذَلِك، إِذْ يجوز تَسَاوِي المصلحتين، فَيتَحَقَّق الْجَامِع وَلَا يمْتَنع الْقيَاس ".
وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ مضبوط عرفا. أَو بِأَن إفضاء ضَابِط الْفَرْع إِلَى الْمَقْصُود أَكثر، كَمَا لَو كَانَ أصل الْفَرْع المغري للحيوان بِجَامِع التَّسَبُّب، فَإِن انبعاث الْوَلِيّ على الْقَتْل بِسَبَب الشَّهَادَة للتشفي أَكثر من انبعاث الْحَيَوَان بالإغراء، لنفرته من الْإِنْسَان، وَعدم علمه بِجَوَاز الْقَتْل وَعَدَمه، فاختلاف أصل التَّسَبُّب لَا يضر، فَإِنَّهُ اخْتِلَاف أصل وَفرع.
وَلَا يُفِيد قَول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: التَّفَاوُت فِي الضَّابِط ملغى لحفظ النَّفس: كَمَا ألغي التَّفَاوُت بَين قطع الْأُنْمُلَة وَقطع الرَّقَبَة فِي قَود النَّفس؛ لِأَن الإلغاء المتفاوت فِي صُورَة لَا توجب عُمُومه: كإلغاء الشّرف وَغَيره دون الْإِسْلَام وَالْحريَّة.
قَوْله: (وَمِنْه: أولج فِي فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فحد كزان، فَيُقَال: حكمه الْفَرْع الصيانة عَن رذيلة اللواط، وَحكمه الأَصْل دفع مَحْذُور اشْتِبَاه الْأَنْسَاب، وَقد يتفاوتان فِي نظر الشَّرْع، وَحَاصِله مُعَارضَة فِي الأَصْل، وَجَوَابه بحذفه عَن الِاعْتِبَار) .
لم نذْكر من القوادح مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا: اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة، اكْتِفَاء باخْتلَاف الضَّابِط؛ لِأَن تعدد الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع، تَارَة يكون مَعَ اتِّحَاد الْمصلحَة، وَتارَة يكون مَعَ اختلافها.
فَإِذا قدح مَعَ الِاتِّحَاد، فَلِأَن يقْدَح مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس فِي التَّأْثِير أولى، فَإِنَّهُ يحصل جِهَتَيْنِ فِي التَّفَاوُت: جِهَة فِي كمية الْمصلحَة ومقدارها، وجهة فِي إفضاء / ضابطها إِلَيْهَا، فالتساوي يكون أبعد، قَالَ ذَلِك الْبرمَاوِيّ وتابعناه.
وَجَوَاب قَادِح اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة بحذفه من الِاعْتِبَار، وَسبق فِي السبر.
قَوْله: (مُخَالفَة حكم الْفَرْع لحكم الأَصْل، وَجَوَابه: بِبَيَان اتِّحَاد الحكم عينا: كصحة البيع على النِّكَاح، وَالِاخْتِلَاف عَائِد إِلَى الْمحل، واختلافه شَرط فِيهِ، أَو جِنْسا: كَقطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ، كالأنفس بِالنَّفسِ) . بعد تَسْلِيم عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع.
يَقُول الْمُعْتَرض: الحكم فِي الْفَرْع مُخَالف للْحكم فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَإِن ساواه بدليلك صُورَة، وَالْمَطْلُوب مساواته لَهُ حَقِيقَة، فَمَا هُوَ مطلوبك غير مَا أَفَادَهُ دليلك إِذا نصب فِي غير مَحل النزاع كَانَ فَاسِدا؛ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات مَحل النزاع.
مِثَاله: أَن يُقَاس النِّكَاح على البيع، أَو البيع على النِّكَاح، فِي عدم الصِّحَّة لجامع فِي صُورَة.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: الحكم يخْتَلف، فَإِن عدم الصِّحَّة فِي البيع حُرْمَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَفِي النِّكَاح حُرْمَة الْمُبَاشرَة.
وَالْجَوَاب: أَن الْبطلَان شَيْء وَاحِد، وَهُوَ عدم ترَتّب الْمَقْصُود من العقد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اخْتلف الْمحل بِكَوْنِهِ بيعا ونكاحا، وَاخْتِلَاف الْمحل لَا يُوجب
اخْتِلَاف مَا حل فِيهِ، بل اخْتِلَاف الْمحل شَرط فِي الْقيَاس ضَرُورَة، فَكيف يَجْعَل شَرطه مَانِعا عَنهُ، فيستلزم امْتِنَاعه أبدا.
قَوْله: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره القَاضِي، والموفق، وَغَيرهمَا، وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة: لَا، وَحكي عَن القَاضِي) .
قَالَ: ابْن مُفْلِح: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَذكره القَاضِي، وَمثله: بقول الْحَنَفِيَّة فِي ضم الذَّهَب إِلَى الْفضة فِي الزَّكَاة: كصحاح ومكسرة.
فالضم فِي الأَصْل بالأجزاء، وَفِي الْفَرْع بِالْقيمَةِ عِنْدهم. ثمَّ لما نصر جَوَاز قلب التَّسْوِيَة، لِأَن الحكم التَّسْوِيَة فَقَط: كقياس الْحَنَفِيَّة طَلَاق الْمُكْره على الْمُخْتَار.
فَيُقَال: فَيجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار.
وَقَالَ: فعلى هَذَا يجوز قِيَاس الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُور، وَمن منع هَذَا لتضاد حكم / الأَصْل وَالْفرع لم يجزه لاختلافهما.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَصَارَ لَهُ قَولَانِ: وَالْمَنْع فيهمَا قَول بعض الشَّافِعِيَّة.
وَالْجَوَاز قَول الْحَنَفِيَّة.
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد "
وَفِي " الْوَاضِح " فِي " مَسْأَلَة الضَّم ": إِن اعْترض بِأَن حكم الأَصْل لم يَتَعَدَّ، حَيْثُ ألحقت فِي وجوب الضَّم لَا صفته.
وَيُمكن الْمُعْتَرض أَن يَقُول: الضَّم فِي الأَصْل بفرع غير الْفَرْع.
وَجعله الْآمِدِيّ كالقلب الثَّالِث، وَسَيَأْتِي.
وَجعله فِي " الْوَاضِح " كالقلب الثَّانِي) .
قَوْله: (وَإِن اخْتلف الحكم جِنْسا ونوعا، كوجوب على تَحْرِيم، وَنفي على إِثْبَات، وَبِالْعَكْسِ - فَبَاطِل) .
وَذَلِكَ لِأَن الحكم إِنَّمَا شرع لإفضائه إِلَى مَقْصُود العَبْد، واختلافه مُوجب للمخالفة بَينهمَا فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْحِكْمَة.
فَإِن كَانَ بِزِيَادَة فِي إفضاء حكم الأَصْل إِلَيْهَا، لم يلْزمه من شَرعه شرع الحكم فِي الْفَرْع؛ لِأَن زِيَادَة الْإِفْضَاء مَقْصُودَة، وَيمْتَنع كَون حكم الْفَرْع أفْضى إِلَى الْمَقْصُود، وَإِلَّا كَانَ تنصيص الشَّارِع عَلَيْهِ أولى.
فَإِن قيل: الحكم لَا يخْتَلف؛ لِأَنَّهُ كَلَام اللَّهِ وخطابه، بل يخْتَلف تعلقه ومتعلقه.
قَوْلكُم: كَانَ النَّص عَلَيْهِ أولى إِنَّمَا يلْزم لَو لم يقْصد التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، ثمَّ يحْتَمل أَنه لمَانع مُخْتَصّ بِهِ.
رد الأول: بَان التَّعَلُّق دَاخل فِي مَفْهُوم الحكم، كَمَا سبق فِي حد الحكم، فَيلْزم من اختلافه اختلافه.
وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ لَو كَانَ لجَاز إِثْبَات الشَّرْع فِي الأَصْل.
وَالثَّالِث: بِأَنَّهُ يلْزم فِيهِ امْتنَاع ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ.
قَوْله: (الْقلب: تَعْلِيق نقيض الحكم أَو لَازمه على الْعلَّة إِلْحَاقًا بِالْأَصْلِ، فَهُوَ نوع مُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الْأَكْثَر، [وَقيل: إِفْسَاد] ، وَقيل: تَسْلِيم للصِّحَّة، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره) .
الْقلب قِسْمَانِ: قلب الدَّعْوَى، وقلب الدَّلِيل.
وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي، وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ:
قلب دلَالَة الْأَلْفَاظ، وقلب الْعِلَل.
فَالْأول: أَن يبين الْمُعْتَرض أَن مَا ذكره الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل / يدل عَلَيْهِ لَا لَهُ، يَأْتِي مِثَاله.
وَالثَّانِي قلب الْعِلَل، وَهُوَ تَعْلِيق الْمُعْتَرض نقيض الحكم الْمُسْتَدلّ الَّذِي ادَّعَاهُ على علته الَّتِي تثبت ذَلِك الحكم عَلَيْهَا بِعَينهَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " الْقلب: إِمَّا خَاص بِبَاب الْقيَاس، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره هُنَا؛ لِأَن كَلَامهم فِي الْقيَاس، وَإِمَّا أَعم مِمَّا يعْتَرض
بِهِ على الْقيَاس وعَلى غَيره من الْأَدِلَّة ". فَهُوَ نوع الْمُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن اكثر الْعلمَاء بل أولى بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ اشْترك فِيهِ الأَصْل، وَالْجَامِع، وَإِن نَشأ من نفس دَلِيل الْمُسْتَدلّ، لَكِن لما الْتزم فِي دَلِيله وجود الْوَصْف لم يمنعهُ.
وكالشركة فِي دلَالَة النَّص، كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي " مَسْأَلَة الساجة "، وَعدم نقض بِنَاء الْغَاصِب بقوله:" لَا ضَرَر وَلَا ضرار " وَاسْتدلَّ غَيره لمنع الْمَغْصُوب أَخذ مَاله.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: الْقلب إِفْسَاد لَا مُعَارضَة، فَلَا يتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا يتَكَلَّم على الْعلَّة المبتدأة؛ لِأَن الْعلَّة الْوَاحِدَة لَا يعلق عَلَيْهَا حكمان متضادان.
رد: لَيْسَ الْقلب بحكمين متضادين من كل وَجه، بل لَا يُمكن الْخصم الْجمع بَينهمَا بِمَعْنى آخر، فالحجة مُشْتَركَة، ولابد لتَعلق الْحكمَيْنِ بِالْعِلَّةِ تَرْجِيح.
وَمنع جمع من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم من الْقلب، بل هُوَ تَسْلِيم للحجة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
لِأَنَّهُ لَيْسَ للمعترض فرض مَسْأَلَة على الْمُسْتَدلّ.
رد: بالمشاركة فِي دلَالَة النَّص، ثمَّ إِنَّمَا شَاركهُ فِي علته وَأَصله فِي معنى الحكم الَّذِي فرض فِيهِ.
قَالُوا: اعْترف الْمُعْتَرض باقتضاء الدَّلِيل لما رتبه عَلَيْهِ من الحكم، ومجال اقْتِصَاره لمقابل ذَلِك الحكم من جِهَة احْتج لَهَا الْمُسْتَدلّ لاقْتِضَاء الْعلَّة من جِهَة وَاحِدَة للْحكم ويقتضيه.
وَمن جِهَة أُخْرَى لَيْسَ بقلب؛ لِأَنَّهُ لابد فِيهِ من اتِّحَاد الْعلَّة فِي القياسين، بل معارضته بِدَلِيل مُنْفَصِل.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": إِنَّمَا لَا يجْتَمع الشَّيْء وضده إِذا صرح بِهِ، وَإِلَّا جَازَ وَإِن أدّى أَحدهمَا إِلَى نفي الآخر.
وَأجَاب غَيره: بِأَن التَّنَافِي حصل فِي الْفَرْع لما هُوَ بغرض الِاجْتِمَاع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " وَفِي قَول: إِن الْقلب تَسْلِيم للصِّحَّة مُطلقًا. وَهَذَا / مَأْخُوذ من قَول بعض أَصْحَابنَا:
الْقلب شَاهد زور كَمَا [يشْهد لَك] يشْهد عَلَيْك ".
قَوْله: (فَمِنْهُ اعْلَم أَن الْقلب أَنْوَاع: أَحدهَا: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا. وَالثَّانِي: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح) .
هَذِه أمثله لأنواع الْقلب.
فمثال الأول - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا -: مَا يُقَال فِي بيع الْفُضُولِيّ: عقد فِي حق الْغَيْر بِلَا ولَايَة، فَلَا يَصح كالشراء لَهُ.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تصرف فِي مَال الْغَيْر فَيصح: كالشراء للْغَيْر فَإِنَّهُ يَصح للْمُشْتَرِي وَإِن لم يَصح لمن اشْترى لَهُ.
وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح -: بِهِ قَول الْحَنَفِيّ فِي الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يكون قربَة بِنَفسِهِ: كالوقوف بِعَرَفَة، وغرضه التَّعَرُّض لاشْتِرَاط، الصَّوْم فِيهِ، وَلَكِن لم يتَمَكَّن من التَّصْرِيح بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أصل لَهُ يقيسه عَلَيْهِ.
فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ أَو الشَّافِعِي الْمُعْتَرض: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم: كالوقوف بِعَرَفَة، فقد تعرض لِلْعِلَّةِ بتصريحه بنقيض الْمَقْصُود.
قَوْله: (وقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ فَقَط صَرِيحًا: كالرأس مَمْسُوح فَلَا يجب استيعابه كالخف، فَيُقَال: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كالخف، أَو لُزُوما: كَبيع غَائِب عقد مُعَاوضَة، فَيصح مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ، فَيُقَال: فَلَا يعْتَبر خِيَار رُؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم) .
هَذَا الْقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا أَو لُزُوما.
مِثَال الأول - وَهُوَ الثَّالِث -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي مسح الرَّأْس: عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء، فَلَا يَكْفِي أَقَله كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء.
فَفِيهِ نفي مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا، وَلم يثبت مذْهبه لاحْتِمَال أَن يكون
الْحق فِي غير ذَلِك، وَهُوَ الِاسْتِيعَاب، كَمَا هُوَ قَول أَحْمد، وَمَالك.
وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الرَّابِع -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي بيع الْمَجْهُول: عقد مُعَاوضَة فَيصح، مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ.
فَيُقَال: عقد مُعَاوضَة فَلَا يعْتَبر فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فثبوت خِيَار الرُّؤْيَة لَازم لصِحَّة بيع الْغَائِب عِنْدهم، / وَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم.
قَوْله: (وقلب الْمُسَاوَاة خلافًا للباقلاني، والسمعاني: كالخل مَائِع طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ، فَيُقَال: يَسْتَوِي فِيهِ الْحَدث والخبث) .
هَذَا قلب الْمُسَاوَاة.
وَمِثَال الْخَامِس: قِيَاس طَلَاق الْمُكْره على طَلَاق الْمُخْتَار.
فَيُقَال: يجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار.
وَمثله أَيْضا - قَول الْحَنَفِيَّة فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بالخل: مَاء طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ.
فَيُقَال: فيستوي فِيهِ الْحَدث والخبث كَالْمَاءِ.
وَهَذَا قَول الْأَكْثَر، وَمِنْهُم الْأُسْتَاذ.
قَوْله: (وَمِنْه: قَول أبي الْخطاب، وَالشَّيْخ، وَغَيرهمَا: يَصح جعل الْمَعْلُول عِلّة، وَعَكسه: كمن صَحَّ طَلَاقه ظِهَاره، وَعَكسه، فَالسَّابِق عِلّة الآخر، وَهَذَا نوع ثَالِث من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة، عِنْد أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَخَالف الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم) .
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْقلب ثَلَاثَة أَنْوَاع:
الحكم بِحكم مَقْصُود غير حكم الْمُعَلل.
وَالثَّانِي: قلب التَّسْوِيَة.
" وَالثَّالِث: يَصح أَن يَجْعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا.
كَقَوْل أَصْحَابنَا فِي ظِهَار الذِّمِّيّ: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: أجعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا، وَأَقُول: الْمُسلم. إِنَّمَا صَحَّ طَلَاقه؛ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَاره، وَمَتى كَانَ الظِّهَار عِلّة للطَّلَاق لم يثبت ظِهَار الذِّمِّيّ بِثُبُوت طَلَاقه.
فَقَالَ أَصْحَابنَا: هَذَا لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ قوم: لَا يَصح أَن يكون عِلّة، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين.
وَالدّلَالَة على صِحَة ذَلِك أَن علل الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل وَنصب ناصب، وَهُوَ صَاحب الشَّرْع عليه الصلاة والسلام، وَغير مُمْتَنع أَن يَقُول صَاحب الشَّرْع: من صَحَّ طَلَاقه فاعلموا أَنه يَصح ظِهَاره، فإيهما ثَبت مِنْهُ صِحَة أَحدهمَا حكمنَا بِصِحَّة الآخر مِنْهُ.
وَاحْتج الْمُخَالف: بِأَنَّهُ إِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة الآخر وقف كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر، فَلَا يثبت وَاحِد مِنْهُمَا، كَمَا لَو قَالَ: لَا يدْخل زيد الدَّار حَتَّى / يدْخل بكر، وَلَا يدْخل بكر حَتَّى يدْخل زيد، فَلَا يُمكن دُخُول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا.
الْجَواب: أَن هَذَا يعْتَبر فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة؛ لِأَن الحكم لَا يجوز أَن يثبت فِي الْعقل بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة، وَأما فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يجوز أَن يثبت بطرِيق آخر فيستدل بِهِ على الحكم الآخر " انْتهى. وَأطَال فِي ذَلِك.
قَالَ ابْن مُفْلِح عَن كَلَامه: فَالسَّابِق فِي الثُّبُوت عِلّة للْآخر، وَهَذَا نوع من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة.
قَوْله: (وَزيد قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا: ككل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا، فدليل الرُّؤْيَة: الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا، أَو مَعَ عَدمه: كشكر الْمُنعم وَاجِب لذاته فيقبله) .
تابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح فَإِنَّهُ قَالَ: أما قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا فَمثل كل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا؛
فدليل الرُّؤْيَة الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا.
وَمَعَ عدم إضماره، مثل: شكر الْمُنعم وَاجِب لذاته.
فيقبله فَيُقَال: شكر الْمُنعم لَيْسَ بِوَاجِب لذاته.
قَوْله: (وقلب الاستبعاد كالإلحاق تحكيم الْوَلَد، فِيهِ تحكم بِلَا دَلِيل،
فَيُقَال: تحكيم الْقَائِف تحكم بِلَا دَلِيل) .
ذكر ذَلِك - أَيْضا - ابْن مُفْلِح، وَذكره قبله الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَلم يزدْ تعليلا غير مَا ذكر
وَذكر أَيْضا، الَّذِي قبله وَهُوَ قلب الدَّعْوَى، وَالظَّاهِر أَنه تَابع فِي ذَلِك الْآمِدِيّ.