الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: (فصل))
(السَّادِس الدوران: ترَتّب حكم على وصف وجودا وعدما، يُفِيد الْعلَّة ظنا عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَقيل: قطعا، وَلنَا وَجه، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، لَا يفيدها كأكثر الْحَنَفِيَّة والآمدي وَغَيره) . السَّادِس من مسالك الْعلَّة: الدوران.
وَسَماهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: الطَّرْد وَالْعَكْس لكَونه بِمَعْنَاهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح.
الطَّرْد وَالْعَكْس وَهُوَ: الدوران، وَهُوَ أَن يُوجد الحكم، أَي: تعلقه عِنْد وجود وصف وينعدم عِنْد عَدمه، وَيُسمى ذَلِك الْوَصْف حِينَئِذٍ مدارا وَالْحكم دائرا.
ثمَّ الدوران: إِمَّا فِي مَحل وَاحِد كالإسكار فِي الْعصير، فَإِن الْعصير قبل أَن يُوجد الْإِسْكَار كَانَ حَلَالا، فَلَمَّا / حدث الْإِسْكَار حرم، فَلَمَّا زَالَ الْإِسْكَار وَصَارَ خلا صَار حَلَالا، فدار التَّحْرِيم مَعَ الْإِسْكَار وجودا وعدما.
وَإِمَّا فِي محلين كالطعم مَعَ تَحْرِيم الرِّبَا، فَإِنَّهُ لما وجد الطّعْم فِي التفاح كَانَ ربويا، وَلما لم يُوجد فِي الْحَرِير مثلا لم يكن ربويا، فدار جَرَيَان الرِّبَا مَعَ الطّعْم.
قَالَ الطوفي: " لَكِن الدوران فِي صُورَة أقوى مِنْهُ فِي صُورَتَيْنِ على مَا هُوَ مدرك ضَرُورَة أَو نظرا ظَاهرا ".
إِذا علم ذَلِك فَهَل يُفِيد الدوران ظن الْعلية، أَو الْقطع، أَو لَا يُفِيد مُطلقًا؟ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه يُفِيد ظن الْعلية فَقَط، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجرجاني، والسرخسي،
والرازي، وَأَتْبَاعه، [وَقَالَهُ] الجدليون.
وَأهل [الْعرَاق] من الشَّافِعِيَّة مشغوفون بِإِثْبَات الْعِلَل، حَتَّى كَانَ أَبُو الطّيب يَدعِي فِيهِ الْقطع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُفِيد الْقطع بالعلية، وَعَلِيهِ بعض الْمُعْتَزلَة، وَرُبمَا قيل: لَا دَلِيل فَوْقه.
قيل: وَلَعَلَّ من يَدعِي الْقطع إِنَّمَا هُوَ من يشْتَرط ظُهُور الْمُنَاسبَة فِي قِيَاس الْعِلَل مُطلقًا، وَلَا يَكْتَفِي بالسبر وَلَا بالدوران بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذا انْضَمَّ الدوران.
إِلَى الْمُنَاسبَة ارْتقى بِهَذِهِ الزِّيَادَة إِلَى الْيَقِين، وَإِلَّا فَأَي وَجه لتخيل الْقطع فِي مُجَرّد الدوران.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه لَا يُفِيد بِمُجَرَّدِهِ ظنا وَلَا قطعا، أَي: لَا يُفِيد ظن الْعلية وَلَا الْقطع بهَا، لَا أَنه لَا يُفِيد الحكم، بل قد يثبت الحكم بالدوران، بل وبالطرد وَحده، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا، فِي الْكَلَام على الِاسْتِدْلَال فِي التلازم.
وَهَذَا قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة، كالكرخي، وَأبي زيد، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْغَزالِيّ، وَابْن
الْحَاجِب، والآمدي، وَذكره قَول الْمُحَقِّقين من أَصْحَابهم.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: لَو دعِي رجل باسم فَغَضب، وَبِغَيْرِهِ لم يغْضب، وتكرر وَلَا مَانع، دلّ أَنه سببب الْغَضَب.
رد: بِالْمَنْعِ بل بطرِيق السبر، لجَوَاز مُلَازمَة الْوَصْف الْعلَّة كرائحة الْخمر / مَعَ الشدَّة المطربة، وَلِهَذَا الدوران فِي المتضايفين وَلَا عِلّة، فَإِن المتضايفين يُوجد أَحدهمَا مَعَ وجود الآخر وينتفي مَعَ انتفائه، وَلَيْسَ أَحدهمَا عِلّة فِي الآخر.
أُجِيب: الْجَوَاز لَا يمْنَع الظُّهُور كالقطع بِأَن الرَّائِحَة لَيست عِلّة، وَكَذَا الدوران فِي المتضايفين كالأبوة والبنوة؛ وَلِأَن كلا مِنْهُمَا مَعَ الآخر.
وَأجَاب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن الْعلَّة: بِأَن الْعلَّة الأمارة الْمعرفَة للْحكم، فالمدار مَعَه عِلّة، لَكِن التَّعْلِيل بالشدة المطربة مقدم على الطَّرْد الْمَحْض.
وقاس أَصْحَابنَا على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة.
قَالَ الْغَزالِيّ: الطَّرْد سَلَامَته من النَّقْض، وسلامته من مُفسد لَا يُوجب سَلَامَته من كل مُفسد، [وَلَو] سلم فالصحة بمصحح وَلَا أثر للعكس؛ لِأَنَّهُ غير شَرط فِيهَا.
رد: للاجتماع تَأْثِير، كأجزاء الْعلَّة.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة ": وَيُشبه ذَلِك شَهَادَة الْأُصُول، نَحْو الْخَيل لَا زَكَاة فِي ذكورها مُنْفَرِدَة، فَكَذَا فِي إناثها كَبَقِيَّة الْحَيَوَان وَصَححهُ القَاضِي.
وللشافعية وَجْهَان. .
قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع ضرّ عِنْد مَانع علتين أَو إِلَى فرع آخر طلب التَّرْجِيح) .
تبِعت فِي ذَلِك " جمع الْجَوَامِع " وَتَبعهُ شراحه، وَسَيَأْتِي كَلَام الْبرمَاوِيّ.
إِذا ثَبت أَنه يُفِيد الظَّن فَهَل يشْتَرط نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ بالعلية أم لَا يشْتَرط؟
الْمُخْتَار عدم الِاشْتِرَاط؛ لِأَنَّهُ لَو لزمَه ذَلِك للَزِمَ نفي سَائِر القوادح، وينتشر الْبَحْث، وَيخرج الْكَلَام عَن الضَّبْط.
وَمن ادّعى وَصفا أَصْلِيًّا فَعَلَيهِ إبداؤه، أطبق على ذَلِك الجدليون. وَذهب القَاضِي أَبُو بكر: إِلَى أَنه يلْزمه ذَلِك.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَهُوَ بعيد فِي حق المناظر مُتَّجه فِي حق الْمُجْتَهد، فَإِن عَلَيْهِ تَمام النّظر لتحل لَهُ الْفَتْوَى فَهَذَا مَذْهَب ثَالِث.
فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر، / فَإِن كَانَ قاصرا يرجح الْوَصْف الَّذِي أبداه الْمُسْتَدلّ بِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ بِنَاء على تَرْجِيح المتعدية على القاصرة.
وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع الْمُتَنَازع فِيهِ بني على جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين، فَإِن منعناه ضرّ، وَإِلَّا فَلَا، لجَوَاز اجْتِمَاع معرفين على معرف وَاحِد.
وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى فرع آخر غير الْمُتَنَازع فِيهِ طلب تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل خارجي، فَلَو كَانَ وصف الْمُسْتَدلّ غير مُنَاسِب وَوصف الْمُعْتَرض مناسبا قدم قطعا.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَزَاد فِي " جمع الْجَوَامِع " هُنَا أَنه لَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، وَأَنه إِذا أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَلَكِن هَذَا مَعَ كَونه من مبَاحث الجدل، لَا يخْتَص بِالْوَصْفِ الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ بالدوران) انْتهى.
قَوْله: (والطرد: مُقَارنَة الحكم للوصف بِلَا مُنَاسبَة) .
الطَّرْد: مُقَارنَة الحكم للوصف، وَلَيْسَ مناسبا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بالتبع، كَمَا سبقت الْإِشَارَة فِي كَلَام الباقلاني وَغَيره.
مِثَاله فِي قَول بَعضهم فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِنَحْوِ الْخلّ: مَائِع لَا يبْنى على جنسه القناطر، وَلَا يصاد مِنْهُ السّمك، وَلَا تجْرِي عَلَيْهِ السفن، أَو لَا ينْبت فِيهِ الْقصب، أَو لَا تعوم فِيهِ الجواميس، أَو لَا يزرع عَلَيْهِ الزَّرْع وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يزَال بِهِ النَّجَاسَة كالدهن.
وَقَول بَعضهم: فِي عدم نقض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر: طَوِيل ممشوق، فَلَا يجب بمسه الْوضُوء كالبوق.
وَقَول بَعضهم فِي طَهَارَة الْكَلْب: حَيَوَان مألوف، لَهُ شعر كالصوف فَكَانَ طَاهِرا كالخروف.
وَاعْلَم أَن الْمُقَارنَة لَهَا ثَلَاثَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَن يقارن فِي جَمِيع الصُّور، وَعَلِيهِ جرى جمع مِنْهُم التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، ويشعر بِهِ كَلَام جمَاعَة أَيْضا حَيْثُ قَالُوا: إِنَّه وجود الحكم عِنْد وجود الْوَصْف.
الثَّانِيَة: الْمُقَارنَة فِيمَا سوى صُورَة النزاع / وَهُوَ الَّذِي عزاهُ فِي " الْمَحْصُول " للأكثرين، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيثبت حِينَئِذٍ الحكم فِي صُورَة النزاع إِلْحَاقًا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، فَإِن الاستقراء يدل على إِلْحَاق النَّادِر بالغالب.
وَلَكِن هَذَا ضَعِيف فقد يمْنَع أَن كل نَادِر يلْحق بالغالب؛ لما يرد عَلَيْهِ من النقوض الْكَثِيرَة.
وَأَيْضًا: فَلَا يلْزم من علية الاقتران كَونه عِلّة للْحكم.
الثَّالِثَة: أَن يقارن فِي صُورَة وَاحِدَة.
وَهُوَ ضَعِيف جدا؛ لِأَن من يَقُول بالطرد فَإِنَّمَا مُسْتَنده غَلَبَة الظَّن عِنْد التّكْرَار، وَالْفَرْض عَدمه.
قَوْله: (وَلَيْسَ دَلِيلا وَحده عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَجوزهُ الْكَرْخِي جدلا لَا عملا أَو فَتْوَى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: إِن قارنه فِيمَا عدا صُورَة النزاع أَفَادَ، وَقيل: تَكْفِي مقارنته فِي صُورَة، قَالَ الشَّيْخ وَغَيره: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية: إِلَى مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع، وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ الطَّرْد وَحده دَلِيلا فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة، والمتكلمين.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد علما وَلَا ظنا، فَهُوَ تحكم.
وَبَالغ الباقلاني فِي الْإِنْكَار على الْقَائِل بِهِ، وَقَالَ: إِنَّه هازىء بالشريعة فَقَالَ هُوَ والأستاذ: من طرد عَن غرر فجاهل، وَمن مارس الشَّرِيعَة واستجازه فهازىء بالشريعة.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره: " قِيَاس الْمَعْنى تَحْقِيق، والشبه تقريب، والطرد تحكم ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه حجَّة مُطلقًا، وتكفي الْمُقَارنَة وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة، كَمَا سبق.
وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن قَارن فِي غير صُورَة النزاع وَهُوَ مَا سبق عَن الرَّازِيّ، والبيضاوي ألحاقا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، وَتقدم.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه يُفِيد [فِي] المناظرة المناظر، وَلَا يُفِيد النَّاظر الْمُجْتَهد لنَفسِهِ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي / فِي " الْبُرْهَان ": وَقد نَاقض، إِذْ المناظر بحث عَن المآخذ الصَّحِيحَة، فَإِذا كَانَ مذْهبه أَنه لَا يصلح مأخذا فَهَذَا مُرَاد خَصمه من الجدل، فَلَيْسَ فِي الجدل مَا يقبل، مَعَ الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ بَاطِل.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية إِلَى: مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع مُؤثر فِي نقل حكمه. وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران.