الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: [فصل] )
[الثَّالِث: السّير والتقسيم: حصر الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا لَا يصلح، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي عِلّة] .
الثَّالِث من مسالك الْعلَّة وَهِي الطّرق الدَّالَّة على الْعلية: السبر والتقسيم.
وَهُوَ: ذكر أَوْصَاف فِي الأَصْل الْمَقِيس [عَلَيْهِ] محصورة وَإِبْطَال بَعْضهَا بِدَلِيل، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي للعلية.
سمي بذلك؛ لِأَن النَّاظر يقسم الصِّفَات ويختبر صَلَاحِية كل وَاحِد مِنْهَا للعلية، فَيبْطل مَا لَا يصلح ويبقي مَا يصلح.
والسبر فِي اللُّغَة: هُوَ الاختبار، فالتسمية بِمَجْمُوع الاسمين
وَاضِحَة، وَقد يقْتَصر على السبر فَقَط.
والتقسيم مقدم فِي الْوُجُود عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تعداد الْأَوْصَاف الَّتِي يتَوَهَّم صلاحيتها للتَّعْلِيل ثمَّ يسبرها، أَي: يختبرها ليميز الصَّالح للتَّعْلِيل من غَيره، فَكَانَ الأولى أَن يُقَال: التَّقْسِيم والسبر؛ لِأَن الْوَاو وَإِن لم تدل على التَّرْتِيب لَكِن الْبدَاءَة بالمقدم أَجود، وَقَالَهُ ابْن الْعِرَاقِيّ.
وَأجِيب عَنهُ: بِأَن السبر وَإِن تَأَخّر عَن التَّقْسِيم فَهُوَ مقدم عَلَيْهِ أَيْضا، لِأَنَّهُ أَولا يسبر الْمحل، هَل فِيهِ أَوْصَاف أم لَا؟ ثمَّ يقسم، ثمَّ يسبر ثَانِيًا، فَقدم السبر فِي اللَّفْظ بِاعْتِبَار السبر الأول.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَفِيه نظر؛ لِأَن لنا تقسيما سَابِقًا على هَذَا السبر الْمُدعى وَهُوَ أَن يَقُول: إِن هَذَا الحكم إِمَّا لَهُ عِلّة أَو تعبدي لَا عِلّة [لَهُ] ، ثمَّ يسبر بِنَفْي كَونه تعبدا، ثمَّ يقسم الْأَوْصَاف إِلَيْهَا، فكونه علما بِاعْتِبَار السبر الأول والتقسيم من غير نظر إِلَى السبر الثَّانِي خلاف الظَّاهِر. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُجَاب: بِأَن الْمُؤثر فِي علم الْعلية إِنَّمَا هُوَ السبر، وَأما التَّقْسِيم فَإِنَّمَا هُوَ لاحتياج السبر إِلَى شَيْء يسبر، وَرُبمَا سمي بالتقسيم / الحاصر " انْتهى.
قَوْله: [وَيَكْفِي المناظر بحثت فَلم أجد غَيره، أَو الأَصْل عَدمه] .
يَكْفِي المناظر فِي بَيَان الْحصْر إِذا منع أَن يَقُول: بحثت فَلم أجد غير هَذِه الْأَوْصَاف فَيقبل قَوْله؛ لِأَنَّهُ ثِقَة أهل للنَّظَر، فَالْحكم بِنَفْي مَا سوى هَذَا مُسْتَندا إِلَى [ظن] عَدمه، لَا إِلَى عدم الْعلم بِوَصْف آخر؛ لِأَن الْأَوْصَاف الْعَقْلِيَّة والشرعية لَو كَانَت لما خفيت على الباحث عَنْهَا.
مِثَاله: أَن يَقُول فِي قِيَاس الذّرة على الْبر فِي الربوية: بحثت عَن أَوْصَاف الْبر فَمَا وجدت مَا يصلح عِلّة للربوية فِي بادىء الرَّأْي إِلَّا الطّعْم أَو الْقُوت أَو الْكَيْل، لَكِن الطّعْم والقوت لَا يصلح لذَلِك عِنْد التَّأَمُّل، فَيتَعَيَّن الْكَيْل. أَو يَقُول: الأَصْل عدم مَا سواهَا فَإِن بذلك يحصل الظَّن الْمَقْصُود. قَوْله: [فَإِن بَين الْمُعْتَرض وَصفا آخر لزم إِبْطَاله] . مثل أَن يَقُول: هُنَا وصف آخر، وَهُوَ كَونه خير قوت، فَإِذا بَين ذَلِك، لزم الْمُسْتَدلّ إِبْطَاله؛ إِذْ لَا يثبت الْحصْر الَّذِي قد ادَّعَاهُ بِدُونِهِ.
قَوْله: [وَلَا يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان صلاحيته للتَّعْلِيل] . للمعترض بعد إتْمَام الْمُسْتَدلّ السبر والتقسيم إبداء وصف زَائِد على
الْأَوْصَاف [الَّتِي] ذكرهَا الْمُسْتَدلّ كَمَا تقدم، لَكِن لَا يلْزمه أَن يبين أَن الْوَصْف الْمَذْكُور صَالح للتَّعْلِيل، بل إبِْطَال صلاحيته لذَلِك وَظِيفَة الْمُسْتَدلّ لَا يتم دَلِيله إِلَّا بذلك.
قَوْله [وَلَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ فِي الأَصْل إِلَّا بعجزه عَن إِبْطَاله، والمجتهد يعْمل بظنه] ، لَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بِمُجَرَّد إبداء الْمُعْتَرض الْوَصْف بِظُهُور بطلَان مَا ادَّعَاهُ من الْحصْر، وَإِلَّا كَانَ كل منع قطعا والاتفاق على خِلَافه، وَهَذَا الصَّحِيح وَعَلِيهِ عَمَلهم.
وَقيل: يَنْقَطِع؛ لِأَنَّهُ ادّعى حصرا وَقد ظهر بُطْلَانه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَجَوَابه: أَنه لَا يظْهر بُطْلَانه إِلَّا إِن عجز عَن دَفعه ".
قَالَ الْعَضُد: " وَالْحق: أَنه إِذا أبْطلهُ فقد سلم حصره، وَكَانَ لَهُ أَن يَقُول: هَذَا مِمَّا علمت أَنه لَا يصلح فَلم أدخلهُ فِي حصري. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لم يدع الْحصْر قطعا، بل قَالَ: إِنِّي مَا وجدت أَو [أَظن] الْعَدَم وَهُوَ فِيهِ صَادِق، فَيكون كالمجتهد إِذا ظهر لَهُ مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ وَإنَّهُ غير مستنكر / " انْتهى.
وَقَالَ ابْن السُّبْكِيّ: " وَعِنْدِي أَنه يَنْقَطِع إِن كَانَ مَا اعْترض بِهِ الْمُعْتَرض
مُسَاوِيا فِي الْعلَّة لما ذكره الْمُسْتَدلّ فِي حصر الْأَوْصَاف، وأبطله؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذكر الْمَذْكُور وإبطاله أولى من ذَلِك الْمَسْكُوت عَنهُ الْمسَاوِي لَهُ، وَإِن كَانَ دونه فَلَا انْقِطَاع لَهُ، إِلَّا أَن لَهُ أَن يَقُول: هَذَا لم يكن عِنْدِي مختلا أَلْبَتَّة بِخِلَاف مَا ذكرته وأبطلته ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: مَا من وصف يَأْتِي بِهِ الْمُعْتَرض إِلَّا والمستدل يُنَازع فِي مساواته، وَلِهَذَا يَدْفَعهُ، فَأَيْنَ مَحل هَذَا التَّفْصِيل " انْتهى.
وَأما النَّاظر الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ يعْمل بظنه فَيرجع إِلَيْهِ، فَإِذا حصل لَهُ الظَّن عمل بذلك وَكَانَ مؤاخذا بِمَا اقْتَضَاهُ ظَنّه، فَيلْزمهُ الْأَخْذ بِهِ وَلَا يكابر نَفسه
قَوْله: [وَمَتى كَانَ الْحصْر والإبطال قَطْعِيا فالتعليل قَطْعِيّ وَإِلَّا فظني] . السبر والتقسيم ضَرْبَان: أَحدهمَا: مَا يكون الْحصْر فِي الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا يبطل مِنْهَا قَطْعِيا فَيكون دلَالَته قَطْعِيَّة بِلَا خلاف، وَلَكِن هَذَا قَلِيل فِي الشرعيات.
وَالثَّانِي: مَا يكون حصر الْأَوْصَاف ظنيا أَو السبر ظنيا، أَو كِلَاهُمَا، وَهُوَ الْأَغْلَب، فَلَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَيعْمل بِهِ فِيمَا لَا يتعبد فِيهِ بِالْقطعِ من العقائد وَنَحْوهَا.
قَوْله: [وَمن طرق الْحَذف الإلغاء وَهُوَ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة] . إبِْطَال بعض الْأَوْصَاف لَهُ طرق يعرف بهَا:
أَحدهَا: أَن يدل بِدَلِيل شَرْعِي على إلغائه كَمَا تقدم، فالإلغاء من الطّرق وَهُوَ بَيَان الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي ذَلِك فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة، وَإِلَّا لكفى فِي أصل الْقيَاس، فَإِن ثَبت فِي صُورَة الإلغاء بالسبر فَالْأَصْل الأول تَطْوِيل / بِلَا فَائِدَة، وَإِن بَينه بطرِيق آخر لزم مَحْذُور آخر وَهُوَ الِانْتِقَال.
وَعلل، بَعضهم: بِجَوَاز أَن الْوَصْف [الْمَحْذُوف] جُزْء عِلّة وأعم من الْمَعْلُوم، فَلَا يلْزم من وجود الحكم دونه وَعدم الحكم عِنْد وجوده اسْتِقْلَال الْبَاقِي.
قَوْله: [وَيُشبه الإلغاء نفي الْعَكْس، وَلَيْسَ هُوَ] .
يشبه الإلغاء نفي الْعَكْس الَّذِي لَا يقبل، لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات الحكم بِدُونِ الْوَصْف، وَلَيْسَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ لم يقْصد فِي الإلغاء لَو كَانَ الْمَحْذُوف عِلّة لَا نتفى عِنْد انتفائه، بل لَو قصد أَن الْبَاقِي جُزْء عِلّة لما اسْتَقل.
قَوْله: [وَمِنْهَا]، أَي: من طرق الْحَذف.
[طرد الْمَحْذُوف مُطلقًا [كطول وَقصر، أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الحكم كالذكورية فِي الْعتْق.
وَمِنْهَا: عدم ظُهُور مناسبته.
وَيَكْفِي المناظر: بحثت.
فَلَو قَالَ معترض: الْبَاقِي كَذَلِك بعد تَسْلِيمه مناسبته لم يقبل، وَإِلَّا فسبر الْمُسْتَدلّ أرجح وَلَيْسَ لَهُ بَيَان الْمُنَاسبَة.
وَاخْتَارَ الْمُوفق: لَيْسَ مِنْهَا لمعارضة خَصمه لَهُ بِمثلِهِ وَلَا يَكْفِيهِ نقضه. والسبر الظني حجَّة مُطلقًا فِي ظَاهر كَلَام القَاضِي وَغَيره، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَالْأَكْثَر.
وَخَالف الْحَنَفِيَّة.
قَالَ أَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي: لَا يَصح لجَوَاز التَّعَبُّد.
وَأَبُو الْمَعَالِي: حجَّة إِن أجمع على تَعْلِيل الحكم.
وَقيل: للنَّاظِر دون المناظر] ) .
فَائِدَة: يَكْفِي فِي حصر الْأَوْصَاف اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفي مَا عَداهَا، وَأما إِذا اتفقَا مثلا على أَن الحكم مُعَلل، وَأَن الْعلَّة فِيهِ أحد الْمَعْنيين،
وَاخْتَارَ الْمُسْتَدلّ وَاحِدَة والمعترض الْأُخْرَى، فَقَالَ الْمُسْتَدلّ: لعلتي مُرَجّح، وَهُوَ كَذَا فَهَل يَكْفِي ذَلِك؟
قَالَ أَبُو الطّيب فِي مناظرته مَعَ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ: لَا يَكْفِي، فَإِن اتفاقي مَعَك على أَن الْعلَّة أحد الْمَعْنيين لَيْسَ دَلِيلا، فَإِن إجماعنا لَيْسَ بِحجَّة، وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي إِجْمَاع الْأمة.
وَقَالَ الْقَدُورِيّ: يَكْفِي لقطع الْمُنَازعَة.
قَوْله: [وَلَو أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ لم يدل على صِحَة علته، لكنه طَرِيق لإبطال مَذْهَب خَصمه وإلزام لَهُ صِحَة علته، وَقيل: لَا تثبت عِلّة الأَصْل باستنباط وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَقيل: لَا يقبل سبر فِي ظَنِّي، وَقيل: وَلَا فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي مَاء] .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأما إِن أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ فِي الرِّبَا لم يدل على صِحَة علته لتعليل بعض الْفُقَهَاء بِغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ إجماعهما دَلِيلا على من خالفهما، لَكِن يكون طَرِيقا فِي إبِْطَال مَذْهَب خَصمه وإلزاما لَهُ صِحَة علته.
وَفِي " الرَّوْضَة ": فِي هَذِه الصُّورَة / الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا وَفِيه نظر. وَقد ذكر القَاضِي عَن ابْن حَامِد أَن عِلّة الأَصْل كعلة الرِّبَا لَا تثبت بالاستنباط، قَالَ: وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فَسَأَلَهُ مهنا: " هَل نقيس بِالرَّأْيِ؟ قَالَ: لَا هُوَ أَن يسمع الحَدِيث فيقيس عَلَيْهِ ". وَعلله بِعَدَمِ الْقطع بِصِحَّتِهَا. ثمَّ اخْتَار أَنه يَصح، وَذكر كَلَام أَحْمد فِي عِلّة الرِّبَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُخَالف ابْن حَامِد فِي استنباط سَمْعِي وَهُوَ التَّنْبِيه والإيماء، وَهَذِه أشهر.
وَعَن [البخاريين] : لَا يقبل السبر [فِي ظَنِّي] ، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَذكر أَيْضا عَن النهرواني والقاشاني: لَا يقبل فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ يصبهُ فِي مَاء، وافقهما أَبُو هَاشم) . انْتهى.
قَوْله: [فَائِدَة: لكل حكم عِلّة عِنْد الْفُقَهَاء تفضلا، وَعند الْمُعْتَزلَة وجوبا، قَالَ: أَبُو الْخطاب كلهَا معللة وتخفى نَادرا، قَالَ القَاضِي: هِيَ الأَصْل وَترك نَادرا، وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَقيل: الأَصْل عدمهَا، قَالَ ابْن عقيل: أَكثر الْأَحْكَام غير معللة] .
لما فَرغْنَا من السبر والتقسيم ذكرنَا دَلِيل وجوب الْعَمَل بالطرق الدَّالَّة على الْعلية من السبر، وَكَذَا تَخْرِيج المناط، والشبه، وَتَقْرِيره: أَنه لابد للْحكم من عِلّة للْإِجْمَاع على أَن أَحْكَام اللَّهِ مقترنة بِالْعِلَّةِ.
وَإِن اخْتلفُوا فِي اقترانها بِالْعِلَّةِ بطرِيق الْوُجُوب أَو بطرِيق اللطف، قَالَه الْأَصْفَهَانِي شَارِح " الْمُخْتَصر "، تبعا للآمدي.
وَهَذِه الْفَائِدَة الَّتِي ذَكرنَاهَا إِنَّمَا هِيَ كالاستدلال للمسألة الْمُتَقَدّمَة وَهِي صِحَة مَسْلَك السبر والتقسيم.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَجه الأول يَعْنِي أَن السبر مَسْلَك صَحِيح، لابد للْحكم من عِلّة.
وَذكر الْآمِدِيّ: إِجْمَاع الْفُقَهَاء بطرِيق الْوُجُوب عِنْد الْمُعْتَزلَة، وبطريق اللطف والاتفاق عِنْد الأشعرية وَسبق فِي مَسْأَلَة التحسين. /
وَكَذَا ذكر أَبُو الْخطاب: وَإِنَّمَا ثَبت حكمه بِنَصّ أَو إِجْمَاع كُله مُعَلل وَيخْفى علينا علته نَادرا.
وَاحْتج الْآمِدِيّ بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} [الْأَنْبِيَاء: 107] ، فَظَاهره جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ، فَلَو خلا حكم عَن عِلّة لم يكن رَحْمَة، لِأَن التكاليف بِهِ بِلَا حِكْمَة وَفَائِدَة: مشقة، كَذَا قَالَ. ثمَّ لَو سلم فالتعليل الْغَالِب، قَالَ القَاضِي: التَّعْلِيل الأَصْل، ترك نَادرا.
لِأَن تعقل الْعلَّة أقرب إِلَى الْقبُول من التَّعَبُّد؛ وَلِأَنَّهُ المألوف عرفا وَالْأَصْل مُوَافقَة الشَّرْع لَهُ، فَيحمل مَا نَحن فِيهِ على الْغَالِب وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي علل الْأَحْكَام إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ.
وَقيل: الأَصْل عدم التَّعْلِيل؛ لِأَن الْمُوجب الصِّيغَة، وبالتعليل ينْتَقل حكمه إِلَى مَعْنَاهُ، فَهُوَ كالمجاز من الْحَقِيقَة. وَنَصره بعض الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّعْلِيل لَا يجب للنَّص دَائِما فَيعْتَبر لدعواه دَلِيل.
وَفِي " وَاضح ابْن عقيل " فِي مَسْأَلَة الْقيَاس أَكثر الْأَحْكَام غير مُعَلل.
وَقَالَ فِي " فنونه " لمن قَاس الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي على الْعشْر وَبَين الْعلَّة، فأبطلها ابْن عقيل فَقَالَ لَهُ: مَا الْعلَّة إِذن؟ فَقَالَ: لَا يلْزم، ويتبرع، فَيَقُول: سؤالك عَن الْعلَّة قَول من من يُوجب لكل حِكْمَة عِلّة، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن من النَّاس من يَقُول: الْأُصُول معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول غير معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول: بَعْضهَا مُعَلل وَبَعضهَا غير مُعَلل، فَيجوز أَن هَذَا لَا عِلّة [لَهُ] ، أَوله عِلّة خافية عَنَّا.
قَالُوا: شرع الحكم لَا يسْتَلْزم الْحِكْمَة وَالْمَقْصُود؛ لِأَنَّهُ من صَنِيعَة، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم ذَلِك كخلق العَاصِي، وَمَوْت الْأَنْبِيَاء، وإنظار إِبْلِيس، وَالتَّخْلِيد فِي النَّار، وتكليف من علم عدم إيمَانه، وَخلق الْعَالم فِي وقته الْمَحْدُود وشكله الْمُقدر.
رد: لَيست الْحِكْمَة قَطْعِيَّة وَلَا مُلَازمَة لجَمِيع أَفعاله.
سلمنَا لُزُومهَا لَكِن قد تخفى علينا) انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
وَزَاد مَسْأَلَة تعلق الْقُدْرَة بالحدوث والإرادة وَالْحَال فِي ذَلِك.
وَقد بحث الْمَسْأَلَة / الْأَصْفَهَانِي، والعضد وَغَيرهمَا من شرَّاح " الْمُخْتَصر ".
قَوْله: [الرَّابِع: الْمُنَاسبَة والإخالة واستخراجها يُسمى تَخْرِيج المناط، وَهُوَ تعْيين عِلّة الأَصْل بإبداء الْمُنَاسبَة من ذَات الْوَصْف لَا بِنَصّ وَغَيره
كالإسكار والمناسبة لغوية فَلَا دور] .
من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية الْمُنَاسبَة، وَيُقَال: الإخالة، وَهُوَ: أَن يكون الأَصْل مُشْتَمِلًا على وصف مُنَاسِب للْحكم، فَيحكم الْعقل بِوُجُود تِلْكَ الْمُنَاسبَة أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم كالإسكار للتَّحْرِيم، وَالْقَتْل الْعمد الْعدوان للْقصَاص.
وَالْمرَاد بالمناسبة اللُّغَوِيَّة بِخِلَاف الْمُعَرّف، وَهُوَ الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الاصطلاحي حَتَّى لَا يكون تعريفا للشَّيْء بِنَفسِهِ. وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا:" الإخالة " بِكَسْر الْهمزَة وبالخاء الْمُعْجَمَة من خَال إِذا ظن، لِأَنَّهُ بِالنّظرِ إِلَيْهِ يخال أَنه عِلّة. وَتسَمى أَيْضا: تَخْرِيج المناط، لما فِيهِ من [إبداء] مَا نيط بِهِ الحكم، أَي علق عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيُزَاد فِيهَا الإخالة وَتَخْرِيج المناط.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي عظم فِيهِ الْخلاف بَين الْعلمَاء على مَا يَأْتِي بعد الْفَرَاغ من المسالك.
قَوْله: [ويتحقق الِاسْتِقْلَال بِعَدَمِ مَا سواهُ بالسبر] .
يتَحَقَّق الِاسْتِقْلَال على أَن الْوَصْف الَّذِي أبداه هُوَ الْعلَّة بِعَدَمِ مَا سواهُ بطرِيق السبر، وَلَا يَكْفِي أَن يَقُول: بحثت فَلم اجد غَيره، وَإِلَّا يلْزم الِاكْتِفَاء بِهِ ابْتِدَاء، وَلَا قَائِل بِهِ بِخِلَاف مَا سبق فِي طَرِيق السبر والتقسيم، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بذلك؛ لِأَن الْمدَار هُنَاكَ على الْحصْر، فَاكْتفى فِيهِ ببحثه فَلم يجد، وَهنا على أَنه ظفر بِوَصْف فِي الأَصْل مُنَاسِب، فَافْتَرقَا.
قَوْله: [وَالْمُنَاسِب: مَا تقع الْمصلحَة عقبه، قَالَ الْمُوفق والطوفي، وَزَاد لرابط عَقْلِي، وَقوم: الملائم لأفعال الْعُقَلَاء عَادَة، والبيضاوي وَغَيره: مَا يجلب نفعا أَو يدْفع ضَرَرا، وَأَبُو زيد: مَا لَو عرض على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ، والآمدي وَمن تبعه /: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة] .
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " وَمعنى الْمُنَاسب: أَن يكون فِي إِثْبَات الحكم عَقِبَيْهِ مصلحَة.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الْمُنَاسب هُوَ مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عَقِيبه لرابط مَا عَقْلِي ".
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " اخْتلف فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب، واستقصاء القَوْل [فِيهِ] من الْمُهِمَّات؛ لِأَن عَلَيْهِ مدَار الشَّرِيعَة، بل مدَار الْوُجُود؛ إِذْ لَا وجود إِلَّا وَهُوَ على وفْق الْمُنَاسبَة الْعَقْلِيَّة، لَكِن أَنْوَاع الْمُنَاسبَة تَتَفَاوَت فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والخفاء والظهور، فَمَا خفيت عَنَّا مناسبته سمي تعبدا، وَمَا ظَهرت مناسبته سمي مُعَللا.
وَقَوْلنَا: الْمُنَاسب مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عقبه، أَي: إِذا وجد أَو إِذا سمع، أدْرك الْعقل السَّلِيم كَون ذَلِك الْوَصْف سَببا مفضيا إِلَى مصلحَة من الْمصَالح لرابط من الروابط الْعَقْلِيَّة بَين تِلْكَ الْمصلحَة، وَذَلِكَ الْوَصْف، وَهُوَ معنى قولي: لرابط مَا عَقْلِي.
مِثَاله: إِذا قيل: الْمُسكر حرَام، أدْرك الْعقل أَن تَحْرِيم الْمُسكر مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ الْعقل من الِاضْطِرَاب، وَإِذا قيل: الْقصاص مَشْرُوع، أدْرك الْعقل أَن مَشْرُوعِيَّة الْقصاص سَبَب مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ النُّفُوس.
ثمَّ قَالَ: قلت لرابط عَقْلِي، أخذا من النّسَب الَّذِي هُوَ الْقَرَابَة، فَإِن الْمُنَاسب هُنَا مستعار ومشتق من ذَلِك، وَلَا شكّ أَن المتناسبين فِي بَاب النّسَب كالأخوين وَابْني الْعم وَنَحْوه، إِنَّمَا كَانَا متناسبين لِمَعْنى رابط بَينهمَا وَهُوَ الْقَرَابَة، فَكَذَلِك الْوَصْف الْمُنَاسب هُنَا، لابد وَأَن يكون بَينه وَبَين مَا يُنَاسِبه
من الْمصلحَة رابط عَقْلِي، وَهُوَ كَون الْوَصْف صَالحا للإفضاء إِلَى تِلْكَ الْمصلحَة عقلا " انْتهى.
وَقَالَ جمَاعَة: الْمُنَاسب الْوَصْف الملائم لأفعال / الْعُقَلَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْأَرْجَح، وَهَذِه الملائمة تدْرك بِوَاسِطَة الْعَادة الَّتِي أجراها اللَّهِ تَعَالَى.
أَي: يَقْصِدهُ الْعُقَلَاء لتَحْصِيل الْمَقْصُود كَمَا يُقَال: هَذِه اللؤلؤة تناسب هَذِه اللؤلؤة، وَهَذِه الْجُبَّة تناسب الْعِمَامَة، وَلها تَفْصِيل لِأَنَّهَا إِمَّا لجلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة، وَإِمَّا بِأَنَّهَا ضَرُورِيّ، أَو حاجي، أَو تحسيني وَنَحْوه مِمَّا يَأْتِي مفصلا وموضحا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا يحمل قَول ابْن الْحَاجِب فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب وَبَين ذَلِك ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مغايرا لتعريفه بل بِهَذَا التَّقْدِير يكون بسطا لَهُ وإيضاحا وَإِن غاير بَينهمَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلَكِن هَذَا عِنْدِي أَجود. انْتهى.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره: " الْمُنَاسب مَا يجلب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا ".
وَقيد بالأنسان لتعالي الرب - سُبْحَانَهُ - عَن الضَّرَر وَالِانْتِفَاع.
وَقد اعْترض على هَذَا التَّعْرِيف: بِأَن فِيهِ تَفْسِير الْعلَّة بالحكم؛ لِأَن الْوَصْف الْمُنَاسب من أَقسَام الْعلَّة كَالْقَتْلِ يُنَاسب إِيجَاب الْقصاص، والجالب للنفع الدَّافِع لضررهو الحكم، كإيجاب الْقصاص جالب لنفعه بَقَاء الْحَيَاة، ودافع لضَرَر التَّعَدِّي.
وَلذَلِك قَالَ بَعضهم: إِنَّه الْوَصْف المفضي إِلَى مَا يجب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهَذَا التَّعْرِيف مُغَاير لتعريف الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن هَذَا لم يَجْعَل الْمَقْصُود فِي جلب النَّفْع وَدفع الضَّرَر نفس الْوَصْف بل الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ الْوَصْف، والبيضاوي جعله نفس الْوَصْف ".
وَهَذَا التَّعْرِيف وَالَّذِي قبله جَار على طَريقَة [من يُعلل] أَفعَال اللَّهِ تَعَالَى بالمصالح، أَي: لمراعاة الْمصَالح للعباد تفضلا وإحسانا لَا لُزُوما كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة، وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا. قَالَ ذَلِك فِي " الْمَحْصُول ".
قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: الْمُنَاسب مَا لَو عرض / على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ.
قَالَ صَاحب " البديع ": وَهُوَ أقرب إِلَى اللُّغَة، وَبني عَلَيْهِ الِاحْتِجَاج بِهِ على الْعلَّة فِي مقَام المناظرة دون مقَام النّظر، لِإِمْكَان أَن يَقُول الْخصم: هَذَا لَا يتلقاه عَقْلِي بِالْقبُولِ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج على تلقي غَيْرِي لَهُ بِأولى من الِاحْتِجَاج على ذَلِك الْغَيْر، لعدم تلقي عَقْلِي لَهُ بِالْقبُولِ.
وَمِنْهُم من أجَاب عَن ذَلِك: أَنه لَيْسَ الِاعْتِبَار بتلقي عقله وَلَا عقل مناظره فَقَط، بل المُرَاد الْعُقُول السليمة والطباع المستقيمة إِذا عرض عَلَيْهَا وَتَلَقَّتْهُ انتهض دَلِيلا على مناظره.
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه: الْمُنَاسب: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا، من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة.
تقديرهم: بِالْوَصْفِ جرى على الْغَالِب، لما سبق من أَن الْعلَّة تكون حكما شَرْعِيًّا وأمرا عرفيا أَو لغويا، فَلَو قَالَ: مَعْلُوم، لتناول ذَلِك، فَخرج بِالظَّاهِرِ: الْخَفي، وبالمنضبط: مَا لَا يَنْضَبِط فَلَا يُسمى مناسبا، وَبِمَا يصلح: الْوَصْف المستبقى فِي السبر والمدار فِي الدوران وَغَيرهمَا من الْأَوْصَاف الَّتِي تصلح للعلية، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَا ذكر، وَقَوْلهمْ: من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة بَيَان لما فِي مَا يصلح، وَالله أعلم.
قَوْله: [فَإِن كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر الْمُلَازمَة وَهِي المظنة] .
هَذَا تَفْرِيع على تَعْرِيف الْآمِدِيّ أَنه مَتى كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر بلازمه، وَهُوَ وصف ظَاهر منضبط ملازم للوصف الْخَفي، وَهُوَ المظنة، أَي: مَظَنَّة الْمُنَاسب، كالسفر، فَإِنَّهُ ملازم للْمَشَقَّة لَكِن اعْتِبَارهَا مُتَعَذر لعدم انضباطها؛ لِأَنَّهَا ذَات مَرَاتِب تخْتَلف بالأشخاص، وَلَا يناط التَّرَخُّص بِالْكُلِّ، وَلَا يمتاز الْبَعْض بِنَفسِهِ فنيط التَّرَخُّص بملازمها وَهُوَ السّفر.
قَوْله: [وَالْمَقْصُود من شرع الحكم قد يعلم حُصُوله كَبيع، ويظن: / كقصاص، ويشك فِيهِ: كَحَد خمر، ويتوهم: كَنِكَاح آيسة للتوالد] .
حُصُول الحكم فِي الْوَصْف الْمُنَاسب قد يكون يَقِينا كَالْبيع، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ صَحِيحا حصل مِنْهُ الْملك الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود.
وَقد يكون ظنا كَالْقصاصِ فَإِن حُصُول الانزجار عَن الْقَتْل لَيْسَ قَطْعِيا، بِدَلِيل وجود الْإِقْدَام مَعَ علمهمْ بِأَن الْقصاص مَشْرُوع. وَقد يتساوى حُصُول الْمَقْصُود وَعدم حُصُوله، فَلَا يُوجد يَقِين وَلَا ظن بل يكونَانِ متساويين.
قَالَ صَاحب " البديع ": " وَلَا مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق ".
وَيقرب مِنْهُ مَا مثل بِهِ ابْن الْحَاجِب من حد شَارِب الْمُسكر لحفظ الْعقل، فَإِن المقدمين كثير، والمتجنبين كثير، فتساوى الْمَقْصُود وَعَدَمه فِيهِ.
وَقد يكون عدم حُصُول الْمَقْصُود أرجح من حُصُوله، كَنِكَاح الآيسة لمصْلحَة التوالد؛ لِأَنَّهُ مَعَ إِمْكَانه عقلا بعيد عَادَة.
قَوْله: [وَقيل: لَا يُعلل بِهَذَيْنِ، وَالْأَظْهَر بلَى اتِّفَاقًا إِن ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس، وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا قَول ابْن عقيل وَغَيره: السّفر مشقته عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا] .
اخْتلف فِي التَّعْلِيل فِي هذَيْن الْأَخيرينِ.
فَمنهمْ من منع فِي الأول للتردد بَين حُصُول الْمَقْصُود وَعَدَمه من غير تَرْجِيح وَفِي الثَّانِي أَيْضا لرجحان نفي الْمَقْصُود على حُصُوله.
لَكِن الْأَظْهر مَا ذكره الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب [وَتَبعهُ] فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيرهم: جَوَاز التَّعْلِيل بالقسمين الْأَخيرينِ، بِدَلِيل جَوَاز الْقصر للْملك المترفة فِي السّفر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأنكر بَعضهم جَوَاز التَّعْلِيل بِهَذَا وَالَّذِي قبله، ذكره بَعضهم.
وَاحْتج عَلَيْهِ: بِأَن البيع مَظَنَّة الْحَاجة إِلَى التعاوض، وَالسّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة واعتبرا، وَإِن انْتَفَى الظَّن فِي بعض الصُّور، كَذَا قَالَ.
ثمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَر مَا ذكره الْآمِدِيّ: أَنه يَصح التَّعْلِيل بهما اتِّفَاقًا إِذا / ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا، أَي: الِاحْتِمَال الترتب وَعَدَمه سَوَاء أَو عَدمه أرجح. - ثمَّ قَالَ: الْأَظْهر أَيْضا مَا فِي " الْفُنُون " وَغَيرهَا: السّفر مشقة عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا، وَكَذَا يحسن التهنئة بالقدوم للْجَمِيع، كالمرضى بالسلامة) انْتهى.
وَقَالَ فِي " البديع ": " إِن هذَيْن الْأَخيرينِ مُتَّفق على اعتبارهما إِذا كَانَ الْمَقْصُود ظَاهرا من الْوَصْف فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا ". وَهَذَا كَلَام الْآمِدِيّ بِعَيْنِه.
قَوْله: (وَلَو فَاتَ يَقِينا كلحوق نسب مشرقي بمغربية وَنَحْوه، لم يُعلل بِهِ خلافًا للحنفية) .
لَو كَانَ الْمَقْصُود فائتا قطعا لم يعْتَبر عِنْد الْجُمْهُور.
وَخَالف فِي ذَلِك الْحَنَفِيَّة، فَيلْحق عِنْدهم النّسَب لَو تزوج بطرِيق التَّوْكِيل مشرقي بمغربية فَأَتَت بِولد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء اجْتِمَاعهمَا، فاعتبره الْحَنَفِيَّة لاقْتِضَاء الزواج ذَلِك فِي الْأَغْلَب، فعمم ذَلِك حفظا للنسب وألحقوا بِهِ النّسَب.
وَأما الْجُمْهُور فَلم يلحقوه بِهِ.
فَإِن قيل: قد [اعْتَبرهُ] أَكثر أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة أَيْضا، فأوجبوا الِاسْتِبْرَاء على من بَاعَ جَارِيَة ثمَّ اشْتَرَاهَا من المُشْتَرِي مِنْهُ فِي مجْلِس العقد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء شغل رَحمهَا من الثَّانِي.
وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك تعبد غير مَعْقُول الْمَعْنى، وَلَيْسَ مُعَللا بِاحْتِمَال الشّغل، لَكِن الْآمِدِيّ مثل بالمتزوج وَالْمُشْتَرِي، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّة لَا تستبرأ، وَعند الشَّافِعِيَّة تستبرأ.
وَلنَا خلاف، وَالْمَشْهُور تستبرأ، وهما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
قَوْله: (وَالْمُنَاسِب دُنْيَوِيّ ضَرُورِيّ أصلا، وَهُوَ أَعلَى مراتبها، وَهِي الْخَمْسَة الَّتِي روعيت فِي كل مِلَّة: حفظ الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فالنسل، فَالْمَال وَالْعرض) .
لما ذكرنَا فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب أَنه الملائم لفعل ذَوي الْعُقُول، وَفِي مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ من التعاريف.
ثَبت هُنَا مَا اشير إِلَيْهِ من جَمِيع ذَلِك من وَجه الملائمة والمناسبة، وَهِي لَا تَخْلُو عَن ثَلَاثَة أُمُور مرتبَة فِي الملائمة: ضَرُورِيّ: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الضَّرُورَة /.
وحاجي: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الْحَاجة.
وتحسيني: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته مستحسنة فِي الْعَادَات.
فالضروري الَّذِي يكون فِي مَحل ضَرُورَة الْعباد لابد مِنْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَة أَنْوَاع وَهِي الْمَقَاصِد [الَّتِي] اتّفق أهل الْملَل فِي حفظهَا وَهِي: الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فَالْمَال، فالنسل، وَعند كثير فالنسب، وَالْمعْنَى وَاحِد،