الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفعله السّلف كعمر بن عبد الْعَزِيز، فَإِنَّهُ - أَيْضا - جادل الْخَوَارِج، وَرجع إِلَيْهِ فِي بعض الْمسَائِل، ذكره ابْن كثير فِي " تَارِيخه ".
وَكَذَلِكَ غَيرهم، وهم السَّادة القادة المقتدى بهم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم.
وَقد أَجَاد الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ فِي " جدله "، والنيلي، وَخلق لَا يُحصونَ قد صنفوا فِي ذَلِك التصانيف الرائقة الْحَسَنَة الجامعة، وَكلهمْ قصد بذلك إِظْهَار الْحق وإعلاءه، وَإِبْطَال غَيره وإخماده.
قَالَ البربهاري - وَهُوَ الْحسن بن عَليّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين - فِي " كتاب شرح السّنة " لَهُ: " وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا يضْرب لَهَا الْأَمْثَال، وَلَا يتبع فِيهَا الْأَهْوَاء، بل هُوَ التَّصْدِيق بآثار رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ -
بِلَا كَيفَ وَلَا شرح، وَلَا يُقَال:
لم؟ وَكَيف؟ فَالْكَلَام وَالْخُصُومَة والجدال والمراء مُحدث، يقْدَح الشَّك فِي الْقلب، وَإِن أصَاب صَاحبه السّنة وَالْحق ".
إِلَى أَن قَالَ: " وَإِذا سَأَلَك رجل عَن مَسْأَلَة فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ مسترشد، فَكَلمهُ وأرشده، وَإِن جَاءَك يناظرك فاحذره، فَإِن فِي المناظرة: المراء، والجدال، والمغالبة، وَالْخُصُومَة، وَالْغَضَب، وَقد نهيت عَن جَمِيع هَذَا، وَهُوَ يزِيل عَن طَرِيق الْحق، وَلم يبلغنَا عَن أحد من فقهائنا وعلمائنا أَنه جادل أَو نَاظر أَو خَاصم ". /
وَقَالَ - أَيْضا -: " المجالسة للمناصحة فتح بَاب الْفَائِدَة، والمجالسة للمناظرة غلق بَاب الْفَائِدَة ".
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": (قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقين: إِذا كَانَت مجَالِس النّظر الَّتِي تدعون أَنكُمْ عقدتموها لاستخراج الْحَقَائِق، والاطلاع على عوار الشّبَه، وإيضاح الْحجَج لصِحَّة المعتقد - مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا، وللعوام تخونا، وللنظراء تعملا وتجملا، فَهَذَا فِي النّظر الظَّاهِر.
ثمَّ إِذا عولتم بالإنكار فلاح دَلِيل يردكم عَن مُعْتَقد الأسلاف والإلف وَالْعرْف، وَمذهب الْمحلة والمنشأ، خونتم اللائح، وأطفأتم مِصْبَاح الْحق الْوَاضِح، إخلادا إِلَى مَا ألفتم، فَمَتَى تستجيبون إِلَى دَاعِيَة الْحق؟ وَمَتى يُرْجَى الْفَلاح فِي دَرك البغية من مُتَابعَة الْأَمر، وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس،
والخلاص من الْغِشّ؟ هَذَا وَالله هُوَ الْإِيَاس من الْخَيْر، والإفلاس من إِصَابَة الْحق، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون من مُصِيبَة عَمت الْعُقَلَاء فِي أديانهم، مَعَ كَونهم فِي غَايَة التَّحْقِيق وَترك الْمُحَابَاة فِي أَمْوَالهم، وَمَا ذَاك إِلَّا لأَنهم لم يشموا ريح الْيَقِين، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْض الشَّك وَمُجَرَّد التخمين انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " وكل جدل لم يكن الْغَرَض فِيهِ نصْرَة الْحق فَإِنَّهُ وبال على صَاحبه، والمضرة فِيهِ أَكثر من الْمَنْفَعَة؛ لِأَن الْمُخَالفَة توحش، وَلَوْلَا مَا يلْزم من إِنْكَار الْبَاطِل واستنقاذ الْهَالِك بِالِاجْتِهَادِ فِي رده عَن ضلالته، لما حسنت المجادلة للإيحاش فِيهَا غَالِبا، وَلَكِن فِيهَا أعظم الْمَنْفَعَة، إِذا قصد بهَا نصْرَة الْحق وَالتَّقوى على الِاجْتِهَاد ".
ونعوذ بِاللَّه من قصد المغالبة، وَبَيَان الفراهة، وَيَنْبَغِي أَن تجتنبه.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: طلب الرِّئَاسَة والتقدم بِالْعلمِ يهْلك، ثمَّ ذكر اشْتِغَال أَكْثَرهم فِي الجدل، وَرفع أَصْوَاتهم فِي الْمَسَاجِد، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود الْغَلَبَة والرفعة، وإفتاء من لَيْسَ أَهلا.
وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: / {فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} [الْحَج: 67]، أَي: فِي الذَّبَائِح، وَالْمعْنَى: فَلَا تنازعهم؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِن جادلوك فَقل اللَّهِ أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْحَج: 68] .
قَالَ: وَهَذَا أدب حسن، علمه اللَّهِ عباده ليردوا بِهِ من جادل تعنتا، وَلَا يحبيبوه.
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: " الجدل الَّذِي يَقع بَين الْمذَاهب أَو فق مَا يحمل الْأَمر فِيهِ: بِأَن يخرج مخرج الْإِعَادَة والدرس، فَأَما اجْتِمَاع جمع متجاذبين فِي مَسْأَلَة، مَعَ أَن كلا مِنْهُم لَا يطْمع أَن يرجع إِن ظَهرت حجَّة، وَلَا فِيهِ مؤانسة ومودة، وتوطئة الْقُلُوب لوعي حق، بل هُوَ على الضِّدّ، فتلكم فِيهِ الْعلمَاء - كَابْن بطة - وَهُوَ مُحدث ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمَا قَالَه صَحِيح وَذكره بَعضهم عَن الْعلمَاء، وَعَلِيهِ يحمل مَا رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ عَن أبي غَالب، وَهُوَ
مُخْتَلف فِيهِ، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا:" مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَتَوا الجدل "، ثمَّ تَلا:{مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} [الزخرف: 58] .
وَلأَحْمَد عَن مَكْحُول عَن أبي هُرَيْرَة - وَلم يسمع مِنْهُ - مَرْفُوعا: " لَا يُؤمن العَبْد الْإِيمَان كُله حَتَّى يتْرك المراء، وَإِن كَانَ محقا ".
وللترمذي عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " لَا تمار أَخَاك ".
وَلأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: " أَنا زعيم بَيت فِي ربض الْجنَّة لمن ترك المراء وَإِن كَانَ محقا ".
وَلابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ - وَحسنه - عَن سَلمَة بن وردان - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أنس مَرْفُوعا:" من ترك المراء، وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وسط الْجنَّة ".
يُقَال: مارى يُمَارِي مماراة ومراء: جادل والمراء: اسْتِخْرَاج غضب المجادل، من قَوْلهم: مرئت الشَّاة، أَي: استخرجت لَبنهَا.
قَوْله: (فَلَو بَان سوء قصد خَصمه، توجه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يتَوَجَّه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف: كدخول من لَا جُمُعَة عَلَيْهِ فِي البيع مَعَ من تلْزمهُ، لنا فِيهِ وَجْهَان " انْتهى.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب التَّحْرِيم، وَقد تقدم كَلَام الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك.
قَوْله: (وَقَالَ قوم: يجوز أَن يطْلب الْمَذْهَب، لَا وضع مَذْهَب وَيطْلب لَهُ دَلِيلا) .
نَقله ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَقَالَ: لَكِن أهل مَذْهَبنَا يتبعُون مذهبا / بالعصبية ثمَّ يطْلبُونَ لَهُ أَدِلَّة، وَصَاحب العصبية يقنع بِأَيّ شَيْء يخيله دَلِيلا، لما قد حصل فِي نَفسه من نَفسه، ويسخر من نَفسه لتطلبه لما وَضعه بِمَا يقويه فِي نَفسه.
قَوْله: (قَالَ ابْن عقيل: وَيبدأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ) .
قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " وَمن أدب الجدل أَن يَجْعَل السَّائِل والمسؤول مبدأ كَلَامه حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ، " فَإِن كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ فِيهِ بِبسْم اللَّهِ فَهُوَ أَبتر "، ويجعلا قصدهما أحد أَمريْن، ويجتهدا فِي اجْتِنَاب الثَّالِث.
فأعلى الثَّلَاثَة من الْمَقَاصِد: نصْرَة الله بِبَيَان الْحجَّة، ودحض الْبَاطِل بِإِبْطَال الشّبَه؛ لتَكون كلمة اللَّهِ هِيَ الْعليا.
وَالثَّانِي: الإدمان للتقوى على الِاجْتِهَاد من مَرَاتِب الدّين المحمودة، فَالْأولى: كالجهاد، وَالثَّانيَِة: كالمناضلة الَّتِي يقْصد بهَا التَّقْوَى على الْجِهَاد.
ونعوذ بِاللَّه من الثَّالِثَة وَهِي: المغالبة، وَبَيَان الفراهة على الْخصم، وَالتَّرْجِيح عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقَة " انْتهى.
قلت: إِنَّمَا يبْدَأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ للْحَدِيث الْمَذْكُور وَغَيره؛ وَلِأَن الْحَمد وَالثنَاء عَلَيْهِ مِمَّا يعين على تَحْصِيل التَّوْفِيق للحق والإعانة على الصَّوَاب.
فَائِدَة: الْحجَّة لُغَة: الْقَصْد، وَمِنْه حج الْبَيْت.
وَقد يُقَال للشُّبْهَة: " حجَّة داحضة "، وَلَا يجوز إِطْلَاقه حَتَّى يبين أَنه استعاره.
وَمَا شهد بِمَعْنى حكم آخر: حجَّة، نَحْو:" الْجِسْم مُحدث " يشْهد بِأَن لَهُ مُحدثا، وَمَا لَا يشْهد: دلَالَة " كالجسم مَوْجُود " إِلَّا أَنه كثر فَوَقَعت مَعَ الْحجَّة، وَمن الْفرق: إِشَارَة الْهَادِي إِلَى الطَّرِيق، والنجم وَالرِّيح على الْقبْلَة: دلَالَة لَا حجَّة.
قَوْله: (وللسائل إلجاؤه إِلَى الْجَواب، فيجيب أَو يبين عَجزه، وَلَيْسَ لَهُ الْجَواب تعريضا لمن أفْصح بِهِ، وَعَلِيهِ أَن يُجيب فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف لتظهر حجَّته، وَالْكَلَام فِي هَذَا الشَّأْن إِنَّمَا يعول فِيهِ على الْحجَّة لتظهر، والشبهة لتبطل، وَإِلَّا فَهدر، وَهُوَ الَّذِي رفعت بشؤمه لَيْلَة
الْقدر، وَإِلَيْهِ انْصَرف النَّهْي عَن " قيل وَقَالَ ") . /
هَذَا الْكَلَام كُله وَاضح.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " يَنْبَغِي [للسَّائِل] أَن ينظر إِلَى الْمَعْنى الْمَطْلُوب فِي السُّؤَال، فَإِن عدل الْمُجيب لم يرض مِنْهُ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى جَوَاب مَا سَأَلَهُ عَنهُ.
مِثَاله: أَن يَقُول السَّائِل: هَل يحرم النَّبِيذ؟
فَيَقُول الْمُجيب: قد حرمه قوم من الْعلمَاء.
هَذَا عِنْد أهل الجدل لَيْسَ بِجَوَاب، وللسائل أَن يضايقه فِي ذَلِك بِأَن يَقُول: لم أَسأَلك عَن هَذَا، وَلَا بَان من سُؤَالِي إياك جهلي بِأَن قوما حرمُوهُ،
وَلَا سَأَلتك عَن مَذْهَب النَّاس فِيهِ، بل سَأَلتك أحرام هُوَ؟ فجوابي أَن تَقول: حرَام أَو لَيْسَ بِحرَام، أَو لَا أعلم، فَإِذا ضايقه أَلْجَأَهُ إِلَى الْجَواب، أَو بِأَن جَهله بتحقيق الْجَواب، وَلَيْسَ لَهُ يُجيب أَن بالتعريض لمن سَأَلَهُ بالإفصاح، فَإِذا سَأَلَهُ السَّائِل بالإفصاح لم يقنع بِالْجَوَابِ إِلَّا بالإفصاح " انْتهى. وَقَالَ - أَيْضا -:" وَلَا يَصح الجدل مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَذْهَب إِلَّا أَن يتكلما على طَريقَة المباحثة، فيتعدون الْخلاف لتصح [الْمُطَالبَة] ، ويتمكن من الزِّيَادَة، وَلَيْسَ على المسؤول أَن يُجيب السَّائِل عَن كل مَا سَأَلَهُ عَنهُ، إِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يجِيبه فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف، لتظهر حجَّته فِيهِ، وسلامته من المطاعن عَلَيْهِ، وَإِلَّا خرج عَن حد السُّؤَال الجدلي " انْتهى.
قَوْله: (وللسائل أَن يَقُول: لم ذَاك؟ فَإِن قَالَ: لِأَنَّهُ لَا فرق، قَالَ: دعواك لعدم الْفرق كدعواك للْجمع، ونخالفك فيهمَا، فَإِن قَالَ: لَا أجد فرقا، قَالَ: لَيْسَ كل مَا لم تَجدهُ يكون بَاطِلا) .
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الْمُجيب: لَو جَازَ كَذَا لجَاز كَذَا، فَهُوَ كَقَوْل السَّائِل: إِذا كَانَ كَذَا، فَلم لَا يجوز كَذَا؟ إِلَّا أَنه لَا يلْزمه أَن يَأْتِي بِالْعِلَّةِ الْمُوَافقَة بَينهمَا؛ لِأَنَّهَا من فرض الْمُجيب، وَيلْزم الْمُجيب أَن يبين لَهُ، فَلَو كَانَ للمجيب أَن يَقُول لَهُ: وَمن [أَيْن] اشتبها؟ لَكَانَ لَهُ أَن يصير سَائِلًا، وَكَانَ على السَّائِل
/ أَن يصير مجيبا، وَكَانَ لَهُ - أَيْضا - أَن يَقُول: وَلم يُنكر تشابهما والمجيب مدعيه؟ .
اعْلَم أَن سُؤال الجدل على خَمْسَة أَقسَام: سُؤال عَن الْمَذْهَب، وسؤال عَن الدَّلِيل وسؤال عَن وَجه الدَّلِيل، وسؤال عَن تَصْحِيح الدَّعْوَى فِي الدَّلِيل، وسؤال عَن الْإِلْزَام.
وتحسين الْجَواب وتحديده يقوى بِهِ الْعَمَل وَالْعلم.
فَأول ضروب الْجَواب الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة الْمَذْهَب، ثمَّ الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة برهانه، ثمَّ وَجه دلَالَة الْبُرْهَان عَلَيْهِ، ثمَّ إِجْرَاء الْعلَّة فِي الْمَعْلُول وحياطته من الزِّيَادَة فِيهِ وَالنُّقْصَان مِنْهُ؛ لِئَلَّا يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيخرج عَنهُ مَا هُوَ مِنْهُ.
وَالْحجّة فِي تَرْتِيب الْجَواب كالحجة فِي تَرْتِيب السُّؤَال؛ لِأَن كل ضرب من ضروبه مُقَابل لضرب من ضروب السُّؤَال.
قَوْله: (وَقَالَ الْفَخر، والجوزي: يشْتَرط الانتماء إِلَى [مَذْهَب] ذِي
مَذْهَب للضبط، زَاد الْفَخر: وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا، قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا، وَقيل: يَنْقَطِع، ويعزو الحَدِيث إِلَى أَهله) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: لَا بُد للسَّائِل من الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب للضبط، وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب باسترشاده.
قَالَ: كَذَا قَالَ، قَالَ: وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا.
قَالَ المتنبي:
(وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء
…
إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل)
قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا.
وَعَن بعض الجدليين يَنْقَطِع.
وَلَا يَكْفِيهِ عزو حَدِيث إِلَى كتب الْفُقَهَاء؛ لِأَن الْمَطْلُوب مِنْهُ صَنْعَة الْمُحدثين، بل إِلَى كتاب مِنْهُم غير مَشْهُور بِالسقمِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ ".
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " اعْلَم أَنه لابد من معرفَة السَّائِل، بالسؤال، والمسؤول، وَالْجَوَاب.
أما السَّائِل: فَهُوَ الْقَائِل: مَا حكم اللَّهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة؟ وَبعد ذكر الحكم: مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَيلْزمهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب صِيَانة
للْكَلَام / عَن النشر الَّذِي لَا يجدي، فَإِن الْمُسْتَدلّ إِذا ذكر مثلا الْإِجْمَاع دَلِيلا، فَلَا فَائِدَة فِي تَمْكِين السَّائِل من ممانعة كَونه حجَّة، بعد مَا اتّفق على التَّمَسُّك بِهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَيتَعَيَّن عَلَيْهِ قصد الِاسْتِفْهَام وَترك الْعَنَت.
وَلَا يُمكن المداخل من إِيرَاد أَمر خَارج عَن الدَّلِيل، بِالنّظرِ إِلَيْهِ يفْسد الدَّلِيل: كالقلب، والمعارضة؛ لِأَن ذَلِك وَظِيفَة الْمُعْتَرض.
وَأما السُّؤَال: فَهُوَ قَول الْقَائِل: مَا الحكم فِي كَذَا؟ مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَنَحْو ذَلِك.
أما المسؤول: فَهُوَ المتصدي للاستدلال، وَيسْتَحب لَهُ أَن يَأْخُذ فِي الدَّلِيل عقب السُّؤَال عَنهُ، وَإِن أَخّرهُ لم يكن مُنْقَطِعًا إِلَّا إِن عجز عَنهُ مُطلقًا.
وَأما الْجَواب: فَهُوَ الحكم الْمُفْتى بِهِ.
وَالْأولَى: أَن يكون الْجَواب مطابقا للسؤال، وَإِن كَانَ أَعم مِنْهُ جَازَ.
وَإِن كَانَ أخص، فَمنهمْ من جوزه فِي الْفَتْوَى دون الدَّلِيل، وَمِنْهُم من عكس، وَمِنْهُم من منع مُطلقًا، وَمِنْهُم من جوزه مُطلقًا "، وَاخْتَارَ هُوَ الأول.
قلت: تقدم هَذَا محررا فِي القوادح فِي عدم التَّأْثِير.
قَوْله: (وَيعرف انْقِطَاع السَّائِل بعجزه عَن بَيَان السُّؤَال، وَطلب الدَّلِيل، وَطلب وَجه الدَّلِيل، وطعنه فِي دَلِيل الْمُسْتَدلّ ومعارضته، وانتقاله إِلَى دَلِيل آخر، أَو مَسْأَلَة أُخْرَى قبل تَمام الأول، قَالَ أَبُو الْخطاب: من الِانْتِقَال مَا لَيْسَ انْقِطَاعًا، كمن سُئِلَ عَن رد الْيَمين، وبناه على الحكم بِالنّكُولِ، أَو عَن قَضَاء صَوْم نفل، فبناه على لُزُوم إِتْمَامه، وَإِن طَالبه السَّائِل بِدَلِيل على مَا سَأَلَهُ فانقطاع مِنْهُ لبِنَاء بعض الْأُصُول على بعض، وَلَيْسَ لكلها دَلِيل، يَخُصُّهُ، وَانْقِطَاع المسؤول بعجزه عَن الْجَواب، وَإِقَامَة الدَّلِيل وتقوية وَجه الدَّلِيل، وَدفع اعتراضه، وانقطاعهما بجحد مَا عرف من مذْهبه، أَو ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَلَيْسَ مذْهبه خلاف النَّص، وعجزه عَن تَمام مَا شرع فِيهِ، وخلط كَلَامه على وَجه لَا يفهم، وسكوته سكُوت حيرة بِلَا عذر وتشاغله / بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالنّظرِ، وغضبه أَو قِيَامه فِي غير مَكَانَهُ وسفهه على خَصمه) .
ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب مِنْهُم صَاحب " التَّمْهِيد " وَغَيره، و " الْوَاضِح " وَأطَال، وصور لذَلِك صورا كَثِيرَة، وأجاد وَأفَاد، فجزاهم اللَّهِ خيرا، وَهَذَا كُله وَاضح للمتأمل.
وَقد قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " اعْلَم أَن الِانْقِطَاع هُوَ: الْعَجز عَن إِقَامَة الْحجَّة فِي الْوَجْه الَّذِي ابْتَدَأَ للمقالة.
والانقطاع فِي الأَصْل: هُوَ بَيَان الانتفاء عَن الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه لابد من أَن يكون انْقِطَاع شَيْء [عَن شَيْء] .
وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ.
أَحدهمَا: تبَاعد شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع طرف الْحَبل عَن جملَته، وَانْقِطَاع المَاء عَن مجْرَاه.
وَالْآخر: عدم شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع ثَانِي الْكَلَام عَن ماضيه.
وَتَقْدِير الِانْقِطَاع فِي الجدل، على أَنه انْقِطَاع الْقُوَّة عَن النُّصْرَة للْمَذْهَب الَّذِي شرع فِي نصرته.
وَذَلِكَ أَن الْمَسْأَلَة تكون مراتبها خَمْسَة، فَيكون مَعَ المجادل قُوَّة على الْمرتبَة الأولى وَالثَّانيَِة، ثمَّ يَنْقَطِع فَلَا يكون لَهُ قُوَّة على الْمرتبَة الثَّالِثَة وَمَا بعْدهَا من الْمَرَاتِب، وَانْقِطَاع الْقُوَّة عَن الثَّالِثَة عجز عَن الثَّانِيَة، فَلذَلِك قُلْنَا: الِانْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، فَكل انْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، وَلَيْسَ كل عجز عَنهُ انْقِطَاعًا فِيهِ، وَإِن كَانَ عَاجِزا عَنهُ ".
وَأطَال فِي ذَلِك جدا.
ثمَّ ذكر الِانْقِطَاع بالمكابرة، ثمَّ بالمناقضة، ثمَّ بالانتقال، ثمَّ
بالمشاغبة، ثمَّ بالاستفسار، ثمَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّسْلِيم، ثمَّ بجحد الْمَذْهَب، ثمَّ بالمسابة، وَذكر لكل وَاحِد من ذَلِك فصلا.
وَقَالَ أَيْضا: والانقطاع أَرْبَعَة أضْرب:
أَحدهَا: السُّكُوت للعجز.
وَالثَّانِي: جحد الضروريات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول.
وَالثَّالِث: المناقضة.
وَالرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ.
وَيَأْتِي فِي انْتِقَال السَّائِل بأتم من هَذَا.
قَوْله: (وَظهر من هَذَا الْقطع بالشغب بالإيهام بِلَا شُبْهَة، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالَ: إِن تَمَادى أعرض [عَنهُ] ، وَهُوَ الأولى بِذِي الرَّأْي
وَالْعقل، / ولاسيما إِن أوهم الْحَاضِرين أَنه سالك طَرِيق الْحجَّة بالاستفسار عَمَّا لَا يستفهم عَن مثله، وَفِي " الْفُصُول ": لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضِعه انْتهى) .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي الِانْقِطَاع بالمشاغبة، اعْلَم أَن الِانْقِطَاع بالمشاغبة عجز عَن الاستتمام، لما تضمن من نصْرَة الْمقَالة إِلَى الممانعة بالإيهام من غير حجَّة وَلَا شُبْهَة.
وَحقّ مثل هَذَا إِذا وَقع: أَن يفصح فِيهِ بِأَنَّهُ شغب، وَأَن الشغب لَا يسْتَحق زِيَادَة.
فَإِن كَانَ المشاغب مسؤولا، قيل لَهُ: إِن أجبْت عَن الْمَسْأَلَة وَإِلَّا زِدْنَا عَلَيْك، وَإِن لم تجب عَنْهَا أمسكنا عَنْك.
وَإِن كَانَ سَائِلًا قيل لَهُ: إِن حصلت سؤالا سَمِعت جَوَابا، وَإِلَّا فَإِن الشغب لَا يسْتَحق جَوَابا.
فَإِن لج وَتَمَادَى فِي غيه أعرض عَنهُ؛ لِأَن أهل الْعلم إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ على مَا فِيهِ حجَّة أَو شُبْهَة، فَإِذا عرى الجدل عَن الْأَمريْنِ إِلَى الشغب لم يكن فِيهِ فَائِدَة، وَكَانَ الأولى بِذِي الرَّأْي الْأَصِيل وَالْعقل الرصين: أَن يصون نَفسه، ويرغب بوقته عَن التضييع مَعَه، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الِاشْتِغَال بِهِ مَا يُوهم الْحَاضِرين أَن صَاحبه سالك لطريق الْحجَّة، فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ فِي ذَلِك تشبه بِمَا يرى مِنْهُ من حسن الْعبارَة، واغترار بإقبال خَصمه عَلَيْهِ فِي المناظرة، فَحق مثل هَذَا: أَن يبين أَنه على جِهَة المشاغبة دون طَرِيق الْحجَّة أَو الشُّبْهَة " انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْفُصُول " فِي طَرِيق الحكم: " لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضُوعه؛ لِأَنَّهُ يمنعهُ من إِقَامَة حجَّته، وَلِهَذَا منعناه فِي المناظرة والجدل، وجعلناه من الشغب " انْتهى.
قَوْله: (وَفِي " الْوَاضِح ": احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، وَالَّتِي لَا إنصاف فِيهَا، وَكَلَام من تخافه، أَو تبْغضهُ، أَو لَا يفهم عَنْك، واستصغار الْخصم، وَلَا يَنْبَغِي كَلَام من عَادَته ظلم خَصمه، والهزء والتشفي لعدواته، والمترصد للمساوئ والتحريف والتزيد والبهت، وكل جدل وَقع فِيهِ ظلم الْخصم اخْتَلَّ فَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز مِنْهُ، وَعَلَيْك [بِالصبرِ] والحلم، وَلَا تنقص بالحلم إِلَّا عِنْد الْجَاهِل، وَلَا بِالصبرِ / على الشغب للمسائل إِلَّا عِنْد غبي وترتفع عِنْد الْعلمَاء، وتنبل عِنْد أهل الجدل، وَمن خَاضَ فِي الشغب تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة، واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بِهِ سقط سُقُوط الذّرة، وَمن عرف لرئيس فَضله، وَغفر زلَّة نَظِير، وَرفع نَفسه عَن دني مُسلم من الْغَضَب، وفاز بالظفر، وَلَا رَأْي لغضبان، مَعَ هَذَا لَا يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من عصمه اللَّهِ، وَلَيْسَ حد الْعَالم كَونه حاذقا بالجدل، فَإِنَّهُ صناعَة، وَالْعلم صناعَة، وَهُوَ مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعَالم وَلَا عكس، وَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز فِي كل جدل من حِيلَة الْخصم.
وآداب الجدل يزين صَاحبه، وَتَركه يشينه، وَلَا يَنْبَغِي أَن ينظر لما اتّفق لبَعض من تَركه من الحظوة فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ إِن كَانَ رفيعا عِنْد الْجُهَّال فَهُوَ سَاقِط عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب، وَلَا تغتر بخطأ الْخصم فِي مَذْهَب، فَإِنَّهُ لَا يدل
على الْخَطَأ فِي غَيره، وَإِن صد عَن الجدل آفَة كتقبيحه، وَعدم النَّفْع، والتقليد، والإلف وَالْعَادَة، ومحبته الرِّئَاسَة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة - أزالها.
وَيجب لكل مِنْهُمَا الْإِجْمَال فِي خطابه، وإقباله عَلَيْهِ، وتأمله لما يَأْتِي بِهِ، وَترك قطع كَلَامه، والصياح فِي وَجهه، والضجر عَلَيْهِ، والإخراج لَهُ عَمَّا عَلَيْهِ، والاستصغار لَهُ، وَإِذا نفرت النُّفُوس، عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، [ورياضة] الأدون وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود لترك مَا يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى أخلد إِلَى خطابه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأدب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف) .
هَذَا الْكَلَام لخصه ابْن مُفْلِح من كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، ولخصته من كَلَام ابْن مُفْلِح، وَلَا بَأْس بِذكر كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، فَإِنَّهُ مطول وَفِيه فَوَائِد وَمَعَان كَثِيرَة.
فقد قَالَ: فصل:
" قَالَ الْعلمَاء: احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، فَإِن الْخَوْف يذهل الْعقل الَّذِي مِنْهُ يستمد المناظر حجَّته، ويستقي مِنْهُ الرَّأْي فِي دفع شُبُهَات الْخصم،
وَإِنَّمَا يذهله ويشغله بِطَلَبِهِ حراسة نَفسه، / الَّتِي هِيَ أهم من مذْهبه، وَدَلِيل مذْهبه، فاجتنب مكالمة من تخَاف، فَإِنَّهَا مميتة للخواطر، مانعه من التثبيت.
وَاحْذَرْ كَلَام من اشْتَدَّ بغضك إِيَّاه، فَإِنَّهَا دَاعِيَة إِلَى الضجر، وَالْغَضَب من قلَّة مَا يكون مِنْهُ، والضجر وَالْغَضَب مضيق للصدر، ومضعف لقوى الْعقل.
وَاحْذَرْ المحافل الَّتِي لَا إنصاف فِيهَا فِي التَّسْوِيَة بَيْنك وَبَين خصمك فِي الإقبال وَالِاسْتِمَاع، وَلَا أدب لَهُم يمنعهُم من [التسرع] إِلَى الحكم عَلَيْك، وَمن إِظْهَار العصبية لخصمك.
والاعتراض يخلق الْكَلَام، وَيذْهب بهجة الْمعَانِي بِمَا يلجأ إِلَيْهِ من كَثْرَة الترداد، وَمن ترك الترداد مَعَ الِاعْتِرَاض، انْقَطع كَلَامه وَبَطلَت مَعَانِيه.
وَاحْذَرْ استصغار خصمك، فَإِنَّهُ يمْنَع من التحفظ، ويثبط عَن المغالبة، وَلَعَلَّ الْكَلَام يَحْكِي فيعتد عَلَيْك بالتقصير.
وَاحْذَرْ كَلَام من لَا يفهم عَنْك؛ لِأَنَّهُ يضجرك ويغضبك، إِلَّا أَن يكون لَهُ غريزة صَحِيحَة، وَيكون الَّذِي بطأ بِهِ عَن الْفَهم فقد الاعتياد، فَهَذَا خَلِيل مسترشد تعلمه، وَلَيْسَ بخصم فتجادله، وتنازعه.
وَقدر فِي نَفسك الصَّبْر والحلم؛ لِئَلَّا تستفزك بغتات الإغضاب، فَلَو لم يكن فِي الْحلم خَاصَّة لَهَا تجتلب، لكَانَتْ مَعُونَة على المناظرة توجب إِضَافَته إِلَيْهَا.
وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من قرنه اللَّهِ تَعَالَى بالعصمة من الزلل، وَلَيْسَ حد الْعَالم: أَن يكون حاذقا بالجدل، فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعلم، والعالم لَا يحْتَاج فِي علمه إِلَى المجادل، كَمَا يحْتَاج المجادل فِي جدله إِلَى الْعَالم وَلَيْسَ حد الجدل بالمجادلة: أَن يَنْقَطِع المجادل أبدا، وَلَا يكون مِنْهُ انْقِطَاع كثير إِذا كثرت مجادلته، وَلَكِن المجادل: من كَانَ طَرِيقه فِي الجدل مَحْمُودًا، وَإِن ناله الِانْقِطَاع لبَعض الْآفَات الَّتِي تعرف ".
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك:
" فصل: فِيمَا يجب على الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل.
اعْلَم / أَنه يجب لكل وَاحِد على صَاحبه مثل الَّذِي يجب للْآخر عَلَيْهِ، من الْإِجْمَال فِي خطابه، وَترك التقطيع لكَلَامه، والإقبال عَلَيْهِ، وَترك الصياح فِي وَجهه، والتأمل لما يَأْتِي بِهِ، والتجنب للحدة والضجر عَلَيْهِ، وَترك الْحمل لَهُ على جحد الضَّرُورَة، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه ذَلِك بمذهبه وَترك الْإِخْرَاج لَهُ عَن الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهِ فِي السُّؤَال أَو الْجَواب، وَترك الاستصغار لَهُ، والاحتقار لما يَأْتِي بِهِ، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه الْحجَّة إِيَّاه، والتنبه لَهُ عَن ذَلِك إِن بدر عَنهُ، أَو مناقضة إِن ظَهرت فِي كَلَامه، وَأَن لَا يمانعه الْعبارَة إِذا أدَّت الْمَعْنى، وَكَانَ الْغَرَض إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنى دون الْعبارَة، وَأَن لَا يخرج فِي عِبَارَته عَن الْعَادة، وَأَن لَا يدْخل فِي كَلَامه مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يسْتَعْمل مَا يَقْتَضِي التَّعَدِّي على خَصمه، والتعدي: خُرُوجه عَمَّا
يَقْتَضِيهِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَلَا يمنعهُ الْبناء على أَمْثِلَة، وَلَا يشنع مَا لَيْسَ بشنيع فِي مذْهبه، أَو يعود عَلَيْهِ من الشناعة مثله، وَلَا يَأْخُذ على شرف الْمجْلس للاستظهار عَلَيْهِ، وَلَا يسْتَعْمل الْإِيهَام بِمَا يخرج عَن حد الْكَلَام ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: فِي الْغَضَب الَّذِي يعتري فِي الجدل. اعْلَم أَنه أَدخل المجادل على توطين النَّفس على الْحلم عَن بادرة إِن كَانَت من الْخصم سلم من سُورَة الْغَضَب وَاعْلَم أَن تِلْكَ البادرة لَا تَخْلُو: إِمَّا أَن تكون من رَئِيس تعرف لَهُ فَضِيلَة أَو نَظِير لَهُ زللة، أَو وضيع ترفع النَّفس عَن مشاغبته ومقابلته فَإِذا عرفت ذَلِك وطنت النَّفس عَلَيْهِ سلمت من سُورَة الْغَضَب اعْلَم أَن الْغَضَب ظفر الْخصم إِذا كَانَ سَفِيها، وَالْغَالِب فِي السَّفه هُوَ الأسفه، كَمَا أَن الْغَالِب فِي الْعلم هُوَ الأعلم وَلَو لم يكن من شُؤْم الْغَضَب إِلَّا أَنه عزل بِهِ عَن الْقَضَاء فَقَالَ الشَّارِع عليه السلام: " لَا يقْضِي القَاضِي حِين يقْضِي وَهُوَ / غَضْبَان ".
وكما أَن القَاضِي يحْتَاج إِلَى صحو من سكر الْغَضَب، يحْتَاج المناظر إِلَى ذَلِك؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاء فِي الِاحْتِيَاج إِلَى الِاجْتِهَاد، وأداة الِاجْتِهَاد الْعقل، وَلَا رَأْي لغضبان، فَيَعُود الوبال عَلَيْهِ عِنْد الْغَضَب بإرتاج طرق النّظر فِي
وَجهه، وضلال رَأْيه عَن قَصده، فَمن أولى الْأَشْيَاء التحفظ من الْغَضَب فِي النّظر والجدل لما فِيهِ من الْعَيْب؛ وَلِأَنَّهُ يقطع عَن اسْتِيفَاء الْحجَّة وَالْبَيَان عَن حل الشُّبْهَة، وَلَا يقطع عَلَيْهِ كَلَامه فَإِنَّهُ مَانع من الْفَهم ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: اعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يتَكَلَّم فِي الجدل بِحَضْرَة من دأبه التلهي والهزوء والتشفي، ولعداوة بَينه وَبَين الْخصم، وَلَا إِذا كَانَ متحفظا للمساوئ مترصدا لَهَا، والتحريف لِلْقَوْلِ والتزيد فِيهِ بِمَا يُفْسِدهُ، والمباهتة، فَإِن الْكَلَام مَعَ هَذَا تعرض للهجينة، وَالْخُرُوج عَن الطَّرِيقَة والديانة، والتعدي، واستطالة السَّفِيه، وانتصال الْعَالم، وزالت الْفَائِدَة، وَلم يحصل الْمَقْصُود ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: فِي تَرْتِيب الْخُصُوم فِي الجدل.
اعْلَم أَنه لَا يَخْلُو الْخصم فِي الجدل من أَن يكون فِي طبقَة خَصمه، أَو أَعلَى، أَو أدون.
فَإِن كَانَ فِي طبقته: كَانَ قَوْله لَهُ: الْحق فِي هَذَا كَذَا دون كَذَا، من قبل كَيْت وَكَيْت، وَلأَجل كَذَا، وعَلى الآخر: أَن يتحَرَّى لَهُ الموازنة فِي الْخطاب، فَذَلِك أسلم للقلوب، وَأبقى لشغلها عَن تَرْتِيب النّظر، فَإِن التطفيف فِي الْخطاب يعمي الْقلب عَن فهم السُّؤَال وَالْجَوَاب.
وَإِن كَانَ أَعلَى: فليتحر، ويجتنب القَوْل لَهُ: هَذَا خطأ أَو غلط، وَلَيْسَ كَمَا تَقول، بل يكون قَوْله لَهُ: أَرَأَيْت إِن قَالَ قَائِل: يلْزم على مَا ذكرت كَذَا، إِن اعْترض على مَا ذكرت معترض بِكَذَا، فَإِن نفوس الْكِرَام الرؤساء المقدمين تأبى خشونة الْكَلَام، إِذْ لَا عَادَة لَهُم بذلك، وَإِذا نفرت النُّفُوس عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، فَحرم / الْكل الْفَوَائِد بِسَفَه السَّفِيه، وتقصير الْجَاهِل فِي حُقُوق الصُّدُور، وَقد أدب اللَّهِ تَعَالَى أنبياءه للرؤساء من أعدائه، فَقَالَ لمُوسَى وَهَارُون فِي حق فِرْعَوْن:{فقولا لَهُ قولا لينًا} [طه: 44] .
سَمِعت بعض المشاريخ فِي عُلُوم الْقُرْآن يَقُول: صفة هَذَا القَوْل اللين فِي قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} [النازعات: 17، 18] ، وَمَا ذَاك إِلَّا مُرَاعَاة لِقَلْبِهِ، حَتَّى لَا ينْصَرف بالْقَوْل الخشن عَن فهم الْخطاب، فَكيف برئيس تقدم فِي الْعلم، تطلب فَوَائده، ويرجى الْخَيْر فِي إِيرَاده، وَمَا تسنح لَهُ خواطره؟ فأحرى بِنَا أَن نذلل لَهُ الْعبارَة، ونوطئ لَهُ جَانب الْجِدَال لتنهال فَوَائده انهيالا.
وَفِي الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل: الْأَدَب معيار الْعُقُول، ومعاملة الْكِرَام، وَسُوء الْأَدَب مقطعَة للخير، ومدمغة للجاهل، فَلَا تتأخر إهانته، وَلَو لم يكن إِلَّا هجرانه وحرمانه.
وَأما الأدون: فيكلم بِكَلَام اللطف والتفهيم، إِلَّا أَنه يجوز أَن يُقَال لَهُ إِذا أَتَى بالْخَطَأ: هَذَا خطأ، وَهَذَا غلط من قبل كَذَا، ليذوق مرَارَة سلوك الْخَطَأ فيجتنبه، وحلاوة الصَّوَاب فيتبعه، ورياضة هَذَا وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود الْإِكْرَام الَّذِي يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى طبقَة، أخلد إِلَى خطئه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأديب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف، وسلوك أَحدهمَا يفوت فَائِدَة الآخر، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى:{وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} [الضُّحَى: 10]، وَقيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه السَّائِل فِي الْعُلُوم دون سُؤال المَال، وَقيل: هُوَ عَام فيهمَا ".
وَكَانَ قَالَ قبل ذَلِك: فصل: إِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الْجِدَال أحسن عبارَة، وَالْآخر مقصرا عَنهُ فِي [البلاغة]- فَرُبمَا أَدخل ذَلِك الضيم على الْمعَانِي الصَّحِيحَة.
وَالتَّدْبِير فِي ذَلِك: أَن يقْصد إِلَى الْمَعْنى الَّذِي قد رتبه صَاحبه بعبارته عَنهُ، فيعبر عَنهُ بِعِبَارَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، من غير تَزْيِين لَهُ، فَإِنَّهُ يظْهر فِي
نَفسه، وَيبين / العوار الَّذِي فِيهِ، وينكشف عِنْد الْحَاضِرين التمويه الَّذِي وَقع بِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذا أردْت أَن تمتحن معنى قد أَتَى بِهِ بليغ، فانقله إِلَى غير تِلْكَ الْعبارَة، ثمَّ تَأمله فَإِن كَانَ حسنا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ لَا يبطل حسنه نَقله عَن عبارَة إِلَى عبارَة، كَمَا لَا يبطل حسنه نَقله من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة.
وَإِذا كَانَت عبارَة السَّائِل أَو الْمُسْتَدلّ [تقصره] عَن تَحْقِيق الْحجَّة و [الشُّبْهَة] ، وَكَانَ خَصمه قَادِرًا على إخْرَاجهَا إِلَى عبارَة تنكشف بهَا قُوَّة كَلَامه، فَيَنْبَغِي أَن يُخرجهَا بعبارته إِلَى الْإِيضَاح، فَإِن اتَّضَح فِيهَا الْحق اتبعهُ، وَإِن كَانَ شُبْهَة بعد إيضاحها زيفه وأبطله.
وَإِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل قد [أَخطَأ] فِي بعض الْمذَاهب، فاحذر الاغترار بذلك، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خطئه فِي مَذْهَب دَلِيل على أَنه قد أَخطَأ فِي مَذْهَب آخر، فَلَا تلْتَفت إِلَى التمويه، بِأَن بعض مَذَاهِب فلَان تتَعَلَّق بِبَعْض، فَإِن فسد وَاحِد مِنْهَا فسد جَمِيعهَا، فَإِن ذَلِك يحملك على التخطئة بِغَيْر بَصِيرَة لمن لَعَلَّه أَن يكون مصيبا فِيمَا أَتَى بِهِ، فَاعْتبر ذَلِك، وَلَا تتكل على مثل هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن إِذا كثر خَطؤُهُ أوجبت ذَلِك تُهْمَة لمذهبه، وَقلة سُكُون إِلَى اخْتِيَاره، من غير أَن يحصل ذَلِك دَلِيلا على فَسَاده لَا محَالة.
وَإِذا كَانَ الْخصم مَعْرُوفا بالمجون فِي الجدل، وَقلة الاكتراث بِمَا يَقُول وَمَا يُقَال لَهُ، لَيْسَ غَرَضه إِقَامَة حجَّة، وَلَا بَصِيرَة ديانَة، وَإِنَّمَا يُرِيد الْمُطَالبَة والمباهاة، وَأَن يُقَال: علا قرنه، وَغلب خَصمه، أَو قطع خَصمه، فَيَنْبَغِي أَن تجتنب وتحذر مكالمته، فَلَيْسَ يحصل بمناظرته دين وَلَا دينا، وَرُبمَا ورد على خَصمه مَا يخجله وَلَا يستحسن مكافأته عَلَيْهِ فَيَنْقَطِع فِي يَدَيْهِ، فَيكون فِي انْقِطَاعه فتْنَة لمن حَضَره.
وَإِذا كَانَ الْغَرَض بالجدل إِدْرَاك الْحق بِهِ، وَكَانَ السَّبِيل إِلَى ذَلِك التثبت والتأمل، وَجب على كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ / استعمالهما، وَإِلَّا حصلا على مُجَرّد الطّلب مَعَ [حرمَان] الظفر، وحاجة كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ إِلَى التنبه عَن مَا يَأْتِي بِهِ صَاحبه كحاجة الآخر إِلَى ذَلِك ".
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: وَإِذا كَانَ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل فِي الجدل فَضِيلَة، والحلم عَن بادرة إِن كَانَت مِنْهُ رفْعَة - فَيَنْبَغِي لمن أحب اكْتِسَاب الْفَضَائِل أَن يسْتَعْمل ذَلِك بِحَسب علمه بِمَا لَهُ فِيهِ من الْحَظ الجزيل وَالْمحل الْجَلِيل، وَلَيْسَ ينقصهُ الْحلم إِلَّا عِنْد جَاهِل، وَلَا يضيع مِنْهُ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل، إِلَّا عِنْد غبي يعْتَقد أَن ذَلِك من الذل والركاكة وقصور اللِّسَان فِي الشغب هُوَ الْفضل، فَإِن من خَاضَ تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بذلك سقط سُقُوط الذّرة، وَمن صَبر على ذَلِك وحلم عَنهُ ارْتَفع فِي نفوس الْعلمَاء، ونبل عِنْد أهل الجدل، وَبَانَتْ مِنْهُ الْقُوَّة على نَفسه، حَيْثُ منعهَا الْمُقَابلَة على الْجفَاء بِمثلِهِ وَالْقُوَّة على خَصمه، أحوجه
إِلَى الشغب، لَا سِيمَا إِذا ظهر مِنْهُ أَنه فعل ذَلِك حرصا على الْإِرْشَاد إِلَى الْحق، ومحبة للاستنقاذ من الْبَاطِل الَّذِي أثارته الشُّبْهَة من الضلال الْمُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى العطب والهلاك، فَلهُ بِهَذِهِ النِّيَّة الجميلة الثَّوَاب من ربه، والمدحة من كل منصف حَضَره أَو سمع بِهِ.
وَإِذا كَانَ الْمجْلس مجْلِس عصبية على أحد الْخَصْمَيْنِ بالتخليط عَلَيْهِ، وَقل فِيهِ التَّمْكِين من الْإِنْصَاف، فَيَنْبَغِي أَن يحذر من الْكَلَام فِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِك إثارة للطباع وجلب للأفحاش، ويفضي إِلَى انْقِطَاع الْقوي الْمنصف بِمَا يتداخله من الْغَضَب وَالْغَم الْمَانِع لَهُ من صِحَة النّظر، والصادين لَهُ عَن طَرِيق الْعلم، وكل صناعَة فَإِن الْعلم بهَا غير الجدل فِيهَا.
وَذَلِكَ أَن الْعلم بهَا هُوَ الْمعرفَة بِجَوَاب مسَائِل الْفتيا فِيهَا الَّتِي ترد إِلَى المصادرة لَهَا.
فَأَما الجدل فَإِنَّمَا هُوَ الْحجَّاج فِي مسَائِل الْخلاف مِنْهَا. /
فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل؛ لِأَن الجدل بِغَيْر علم بِالْحجَّةِ والشبهة فَإِنَّمَا هُوَ شغب، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَاد فِي الجدل على إِقَامَة الْحجَّة، أَو حل الشُّبْهَة فِيمَا وَقعت فِيهِ مُخَالفَة.
وَإِذا كَانَ الجدل قد صد عَنهُ آفَة عرضت لبَعض من هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يعْمل فِي إِزَالَة تِلْكَ الآفة ليرتفع الصَّاد عَنهُ، وَيظْهر للنَّفس الْحَاجة إِلَيْهِ وَمِقْدَار الْمَنْفَعَة بِهِ.
فَمن الْآفَات فِيهِ: الشُّبْهَة الدَّاخِلَة على النَّفس فِي تقبيحه، أَو أَنه [لَا] يُؤَدِّي إِلَى حق، وَلَا يحصل بِهِ نفع.
وَمِنْهَا: التَّقْلِيد، والإلف وَالْعَادَة، وَالنَّظَر فِيمَا عَلَيْهِ الأسلاف، أَو الْآبَاء، أَو الأجداد.
وَمِنْهَا: الْمحبَّة للرئاسة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة والمباهاة بهَا، والتشاغل بِمَا فِيهِ اللَّذَّة، وَمَا يَدْعُو إِلَى الشَّهْوَة، دون ماتوجبه الْحجَّة، وَيَقْضِي بِهِ الْعقل والمعرفة.
فعلى نَحْو هَذَا من الْأَسْبَاب تكون الآفة الصارفة عَنهُ والموجبة لَهُ.
وَيَنْبَغِي لمن عرف هَذِه الْآفَات أَن يجْتَهد فِي نَفيهَا وَمَا شاكلها، ويتحرز مِنْهَا وَمن أَمْثَالهَا، فَإِن الْمضرَّة بهَا عَظِيمَة، فَمن عرفهَا وتحرز مِنْهَا بصر رشده، وَأمن الزيغ.
نسْأَل اللَّهِ أَن يوفقنا للصَّوَاب من القَوْل وَالْعَمَل برحمته " انْتهى.
قَوْله: (وانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّيْخ والشاشي، وَقَالَ: لَو قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر فخلاف، قَالَ: وَالأَصَح يُمكن من أدنى وَمن أَعلَى، قَولَانِ) .
" اعْلَم أَن [الِانْقِطَاع] على أَرْبَعَة أضْرب.
أَحدهَا: السُّكُوت للعجز.
الثَّانِي: جحد الضرورات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت.
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا من الِانْقِطَاع أَن الْمُجيب إِنَّمَا يَبْنِي جَوَابه على تَصْحِيح الْمُشَاهدَة والاستشهاد [بالمعقول] ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم عِنْد إجَابَته، فَإِذا لم يجد فِي الْعُقُول والضرورات شَيْئا يُحَقّق / بِهِ مذْهبه وَيتم بِهِ جَوَابه، فقد عجز عَمَّا ضمنه على نَفسه بِخُرُوجِهِ عَن الْمَعْقُول والضرورات إِلَى المكابرة والبهت، وَإِنَّمَا تَمام الشَّرْط أَن يكون مادته من هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ، أَعنِي: الْعقل والضرورة، دون مَا صَار إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول، أَعنِي: السُّكُوت؛ لِأَن أحسن الْأُمُور إِذا لم يجد حَقًا يتَكَلَّم بِهِ أَن يمسك عَن الْبَاطِل، وأقبح مَا ينْطق بِهِ من الْبَاطِل بهت الْعُقُول والطبائع والحواس ومكابرتها.
الضَّرْب الثَّالِث: المناقضة، وَهُوَ: أَن يَنْفِي بآخر كَلَامه مَا أثْبته بأوله، أَو يثبت بِآخِرهِ مَا نَفَاهُ فِي أَوله.
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع أَيْضا: أَن الْمُجيب لما ابْتَدَأَ بالإثبات كَانَ قد ضمن على نَفسه تَحْقِيقه وَالدّلَالَة على صِحَّته، وَبنى سَائِر الْجَواب عَلَيْهِ، و [ملاءمة] مَا يُورِدهُ بعده لَهُ، فَإِذا نَفَاهُ فقد عجز عَن تَصْحِيح مَا ضمنه من ذَلِك على نَفسه، وافتقر إِلَى نقضه عِنْد الْإِيَاس من صِحَّته.
وَصَاحب هَذَا الضَّرْب احسن حَالا من المباهت؛ لِأَن الرُّجُوع عَن الْبَاطِل عِنْد انكشافه أحسن من المكابرة، وَالرُّجُوع إِلَى الْحق حسن جميل، وَلَا عيب فِي الْعَجز عَن نصْرَة الْبَاطِل كَمَا لَا عيب فِي الرُّجُوع عَنهُ.
وَالضَّرْب الرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ.
وَالدّلَالَة على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع: أَن الْمُعَلل إِذا ابْتَدَأَ بعلة فقد ضمن على نَفسه تَصْحِيح مذْهبه بهَا وَمَا تفرع عَنْهَا.
وَذَلِكَ أَنه لم يُعلل بهَا إِلَّا وَهِي عِنْده صَحِيحَة مصححة لما علل لَهُ، فَإِذا انْتقل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا فقد عجز عَن الْوَفَاء بِمَا وعد، والإيفاء بِمَا ضمن، وافتقر إِلَى غَيرهَا لتَقْصِيره عَمَّا ظَنّه بهَا ".
إِذا علم هَذَا فانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد أَكثر الْعلمَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء.
وَقدمه ابْن عقيل فِي " واضحه " وَغَيره.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين والشاشي من الشَّافِعِيَّة: لَيْسَ الِانْتِقَال بِانْقِطَاع.
قَالَ الشَّاشِي: فَإِن قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر، فِيهِ خلاف.
قَالَ: وَالأَصَح: يُمكن من أدنى، فَأَما من أَعلَى: كانتقاله من الْمُعَارضَة إِلَى الْمَنْع.
فَقيل: لَا يُمكن؛ لتكذيبه لنَفسِهِ.
وَقيل: يُمكن؛ لِأَن قَصده الاسترشاد. /
قَالَ: وَترك المسؤول الدَّلِيل لعجز فهم السَّائِل لَيْسَ انْقِطَاعًا لقصة إِبْرَاهِيم.
وَقيل: بلَى؛ لِأَنَّهُ [الْتزم تفهيمه] .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": لما قَابل نمْرُود قَول الْخَلِيل فِي الْحَيَاة الْحَقِيقَة بِالْحَيَاةِ المجازية، انْتقل إِلَى دَلِيل لَا يُمكنهُ يُقَابل الْحَقِيقَة فِيهِ بالمجاز.
وَمن انْتقل من دَلِيل غامض إِلَى دَلِيل وَاضح، فَذَلِك طلب للْبَيَان، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا.
قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " فَإِن قيل: فقد انْتقل إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام من عِلّة إِلَى غَيرهَا، وَكَانَ فِي مقَام المحاجة، كَمَا أخبر اللَّهِ تَعَالَى عَنهُ، وَبِهَذَا تعلق من رأى أَن الِانْتِقَال من دَلِيل إِلَى غَيره لَيْسَ بِانْقِطَاع، وَلَا خُرُوج عَن مُقْتَضى الْجِدَال وَالْحجاج.
قيل: لم يكن انْتِقَاله للعجز؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ يقدر أَن يُحَقّق مَعَ نمْرُود حَقِيقَة الْإِحْيَاء الَّذِي أَرَادَهُ، وَهُوَ إِعَادَة الرّوح إِلَى جَسَد الْمَيِّت، أَو إنْشَاء حَيّ من الْأَمْوَات، وَأَن الإماتة الَّتِي أرادها هِيَ إزهاق النَّفس من غير ممارسة بِآلَة وَلَا مُبَاشرَة، وَيَقُول لَهُ: إِذا فعلت ذَلِك كنت محيياً مميتاً، أَو أفعل ذَلِك إِن كنت صَادِقا، ومعاذ الله أَن يظنّ ذَلِك بذلك الْكَرِيم، وَمَا عدل عَمَّا ابْتَدَأَ بِهِ إِلَى غَيره عَجزا عَن استتمام النُّصْرَة، لكنه لما رأى نمْرُود غبيا أَو متغابيا بِمَا كشفه عَن نَفسه من الْإِحْيَاء، وَهُوَ الْعَفو عَن مُسْتَحقّ الْقَتْل، والإماتة وَهِي الْقَتْل الَّذِي [يُسَاوِيه فِيهِ] كل أهل مَمْلَكَته وأصاغر رَعيته؛ انْتقل إِلَى الدَّلِيل الأوضح فِي بَاب تعجيزه عَن دَعْوَاهُ فِيهِ الْمُشَاركَة لبادئه، بِحكم مَا رأى من الْحَال، فَلم يُوجد فِي حَقه الْعَجز عَن إتْمَام مَا بدا بِهِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ ". انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رأى ضعف فهمه لمعارضته اللَّفْظ بِمثلِهِ، مَعَ اخْتِلَاف الْفِعْلَيْنِ، فانتقل إِلَى حجَّة أُخْرَى قصدا لقطعه لَا عَجزا.
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " انْتِقَال إِبْرَاهِيم إِلَى حجَّة أُخْرَى لَيْسَ عَجزا؛ لِأَن حجَّته كَانَت لَازِمَة، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ: إحْيَاء الْمَيِّت، فَكَانَ لَهُ أَن
يَقُول: فأحي من أمت إِن كنت صَادِقا، فانتقل إِلَى حجَّة أوضح من الأولى " انْتهى. /
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر ": " لما رأى إِبْرَاهِيم مغالطة الْكَافِر، وادعاءه مَا يُوهم أَنه إِلَه، ذكر لَهُ مَا لَا يُمكن أَن يغالط فِيهِ وَلَا أَن يَدعِيهِ، وَقد كَانَ لإِبْرَاهِيم أَن ينازعه فِيمَا ادَّعَاهُ، وَلكنه أَرَادَ قطع تشغيبه عَن قرب، وَأَن لَا يُطِيل مَعَه الْكَلَام، إِذْ شَاهد مِنْهُ مَا لَا يُمكن أَن يَدعِيهِ عَاقل " انْتهى.
قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " أعرض إِبْرَاهِيم عَن الِاعْتِرَاض على معارضته الْفَاسِدَة إِلَى الِاحْتِجَاج بِمَا لَا يقدر فِيهِ على نَحْو هَذَا التمويه دفعا للمشاغبة، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عدُول عَن مِثَال خَفِي إِلَى مِثَال جلي من مقدوراته الَّتِي يعجز عَن الْإِتْيَان بهَا غَيره، لَا عَن حجَّة إِلَى أُخْرَى، وَلَعَلَّ نمْرُود [زعم] أَنه يقدر، أَن يفعل كل جنس يَفْعَله اللَّهِ فنقيضه إِبْرَاهِيم بذلك " انْتهى.
قَالَ ابْن التلمساني: قد يُسْتَفَاد بِالْفَرْضِ تضييق مجاري الا عتراض على الْخصم، وَهُوَ من مَقْصُود الجدل، ووضوح التَّقْدِير.
وَلِهَذَا الْمَعْنى عدل الْخَلِيل عليه الصلاة والسلام فِي تَقْرِير الِاسْتِدْلَال على
نمْرُود بالأثر على الْمُؤثر، إِلَى الأوضح عِنْده انْتهى.
وَتقدم ذَلِك بِلَفْظِهِ فِي آخر عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْض.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَام الشَّاشِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ -:" حَاصله: أَنه يجوز الِانْتِقَال لمصْلحَة، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا ".
قَالَ ابْن عقيل: الِانْتِقَال عَن السُّؤَال هُوَ الْخُرُوج عَمَّا يُوجِبهُ أَوله من مُلَازمَة السّنَن فِيهِ، مثل قَوْله: هَل الْخمر مَال لأهل الذِّمَّة؟
فَيَقُول: نعم.
فَيَقُول: وَمَا حد المَال؟
فَهَذَا انْتِقَال، فَإِن أَجَابَهُ عَن ذَلِك خرج مَعَه - أَيْضا -، وَهَذَا كثير يتم بَين المخلين بآداب الجدل انْتهى.
تمّ بِحَمْد اللَّهِ