الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ، وَهُوَ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا لَا يَسُوغُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّهُ أَقَرَّهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَالْمُلْكُ فِيهِمْ، وَالشَّوْكَةُ لَهُمْ، وَبِلَادُ فَارِسَ وَمَا وَالَاهَا تَحْتَ قَهْرِهِمْ وَمُلْكِهِمْ، فَلَمَّا صَارَتْ مَمَالِكُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَصَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مَنَعَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ ذَلِكَ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ اجْتِهَادِهِ رضي الله عنه وَأَقْوَاهُ، وَأَحَبِّهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْقَبَائِحِ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ نِكَاحَ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَابْنَتَهُ، وَعَمَّتَهُ، وَخَالَتَهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ إِزَالَةَ هَذَا مِنَ الْوُجُودِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِينَا فِي ذَلِكَ النَّقْلُ الصَّحِيحُ عَمَّنْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَمَنْ كَانَتِ السَّكِينَةُ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ، وَمَنْ وَافَقَ رَبَّهُ فِي غَيْرِ حُكْمٍ، وَمَنْ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم.
[فَصْلٌ نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوِ الْعَكْسُ]
140 -
فَصْلٌ
[نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوِ الْعَكْسُ] .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي نَصْرَانِيٍّ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوْ بِالْعَكْسِ، هَلْ
تُقِرُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا فَعَلُوهُ فَمَا حُكْمُ هَذَا الْوَلَدِ؟ قِيلَ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا حِلَّ ذَلِكَ، أَوْ تَحْرِيمَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَضْ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنِ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَهُ لَمْ نُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا لَا نُقِرُّهُمْ عَلَى نِكَاحٍ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَهُ، وَأَنَّهُ زَنًا.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ كِتَابِيَّةً يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ، وَظَاهِرُهُ التَّفْرِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا.
وَأَمَّا إِنْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ وَثَنِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً، فَهَلْ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَرُّ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى دِينًا مِنْهَا، فَيُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهَا كَمَا يُقَرُّ الْمُسْلِمِ عَلَى نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.
وَالثَّانِي: لَا يُقَرُّ، لِأَنَّهَا لَا يُقَرُّ الْمُسْلِمُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَلَا يُقَرُّ الذِّمِّيُّ عَلَيْهِ.
وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا النِّكَاحِ أُقِرَّ عَلَيْهِ وَإِنِ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ لَمْ يُقَرَّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ أَسْلَمُوا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ أَمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ - وَهُوَ أَصَحُّ -: لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ نِكَاحٍ، وَالْإِسْلَامُ صَحَّحَ ذَلِكَ النِّكَاحَ كَمَا يُصَحِّحُ الْأَنْكِحَةَ الْفَاسِدَةَ فِي حَالِ الْكُفْرِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُفْسِدُ قَائِمًا.
وَأَمَّا حُكْمُ الْوَلَدِ هَلْ يَتْبَعُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ أَبَوَيْهِ دِينًا، فَإِنْ نَكَحَ الْكِتَابِيُّ مَجُوسِيَّةً فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ، وَإِنْ وَطِئَ مَجُوسِيٌّ كِتَابِيَّةً بِشُبْهَةٍ، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَهُودِيًّا وَالْآخَرُ نَصْرَانِيًّا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ نَصْرَانِيًّا، وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ النَّصَارَى تُؤْمِنُ بِمُوسَى، وَالْمَسِيحِ، وَالْيَهُودَ تَكْفُرُ بِالْمَسِيحِ، فَالنَّصَارَى أَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، كُلَّمَا كَانَ إِيمَانُ الرَّجُلِ بِالنُّبُوَّاتِ أَكْثَرَ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ مَا صَدَّقَ بِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَعِيسَى جَمِيعًا، فَإِنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُوَقَّتَةٌ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] ، وَلِذَلِكَ أَبْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلنَّصَارَى مَمْلَكَةً فِي الْعَالَمِ، وَسَلَبَ الْيَهُودَ مُلْكَهُمْ وَعِزَّهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
141 -
فُصُولٌ فِي أَحْكَامِ مُهُورِهِمْ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: نَصَرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً عَلَى قِلَّةٍ مِنْ خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا. قَالَ إِنْ دَخَلَ بِهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا.
وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَصْرَانِيٍّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً عَلَى خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى دَنِّ خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا، فَحَدَّثَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاءٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَقَرَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحٍ، أَوْ طَلَاقٍ» ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَنَا إِلَّا ذَلِكَ.
فَسَأَلْتُهُ: مَا قَوْلُهُ؟ نِكَاحٌ، أَوْ طَلَاقٌ؟ قَالَ: يُقَرُّونَ عَلَى نِكَاحِهِمْ، وَجَوَّزَ طَلَاقَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَمَا سَمَّى لَهَا، وَهُمَا كَافِرَانِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ نِصْفُهُ حَيْثُ وَجَبَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَسِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الْكُفَّارِ فِي هَذَا وَفِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ مِنْ عُقُودِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] فَأَمَرَ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا بَقِيَ دُونَ مَا قُبِضَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] ، وَقَدْ أَسْلَمَ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي صَدَاقٍ أَصْدَقَهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُفْسِدُ مُقَارِنًا لِلْإِسْلَامِ كَنِكَاحِ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعٍ، وَنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ وَسَائِرِ عُقُودِهِمْ، وَمَوَارِيثِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ وَسِيرَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى صَحِيحًا حَكَمْنَا لَهَا بِهِ، أَوْ بِنِصْفِهِ حَيْثُ يَتَنَصَّفُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ، وَلَمْ نَحْكُمْ بِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: بِمَاذَا نَحْكُمُ لَهَا بِهِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمَا: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بَطَلَتْ بِالْإِسْلَامِ، فَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَالتَّعْوِيضِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ صَدَاقُهَا خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا مُعَيَّنَيْنِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ، فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ اسْتِحْسَانًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَمَعْنَى " الْيَدِ " - وَهُوَ التَّصَرُّفُ - ثَابِتٌ أَيْضًا، وَالْمُتَخَلِّفُ بِالْإِسْلَامِ صُورَةُ الْيَدِ، وَالْمُسْلِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ صُورَةً، وَالَّذِي يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْيَدِ الصُّورِيَّةِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا عَيَّنَا خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا أُجْرِيَ تَعْيِينُهُ مَجْرَى قَبْضِهِ لِتَمَكُّنِهَا بِالْمُطَالَبَةِ مَتَى شَاءَتْ، وَلِإِقْرَارِنَا لَهُمْ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَالتَّعَاقُدِ عَلَيْهِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لَهَا حَقَّ الْقَبْضِ فِي الْعَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعَيِّنْ فَلَيْسَ لَهَا حَقُّ الْقَبْضِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِيهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْقِيمَةُ فِيهِمَا.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحَّتْ فِي الْعَقْدِ، وَصِحَّةُ التَّسْمِيَةِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، لَكِنْ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ بِالْإِسْلَامِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بِالْهَلَاكِ، فَوَجَبَتِ الْقِيمَةُ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَوْ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ كَانَ الْفَسَادُ فِي حَقِّ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْفَسَادِ فِي حَقِّ الْعَقْدِ، فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْأَصْلُ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ، وَهِيَ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، إِلَّا أَنَّا اسْتَقْبَحْنَا فِي الْخِنْزِيرِ إِيجَابَ قِيمَتِهِ، فَأَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَصْلًا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ لَا خَلَفًا، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخَلْفِ، وَلَوْ جَاءَهَا بِالْقِيمَةِ هَاهُنَا أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ أَصْلًا، فَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ خَلَفًا، وَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ قَبْلَهُ ضِمْنًا لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ الْخِنْزِيرِ، وَقَدْ سَقَطَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِالْإِسْلَامِ.
وَمَنْ أَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا يَقُولُ: الْخَمْرُ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَالْخِنْزِيرِ، فَصَارَ وُجُودُ تَسْمِيَتِهِ كَعَدَمِهَا، فَقَدْ خَلَا النِّكَاحُ مِنَ التَّسْمِيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
قَالُوا: وَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِلْخَمْرِ قِيمَةٌ حَتَّى نَعْتَبِرَهَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يُقَوِّمُهُ الْكُفَّارُ، وَنَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا قِيمَةٌ أَلْبَتَّةَ.
وَيُقَوِّي قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِإِخْرَاجِ بُضْعِهَا عَلَى هَذَا الْمُسَمَّى، وَالزَّوْجُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَا أَلْزَمَهُ بِهِ الشَّارِعُ، وَكَوْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ