الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: " وَلَيْسَ هَذَا بِجَمْعٍ صَحِيحٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا سُوءُ ظَنٍّ بِالصَّحَابَةِ، حَيْثُ نَسَبَهُمْ إِلَى الْمُجَازَفَةِ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَمْ يُثْبِتْهُ الْحُفَّاظُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ: " رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا " إِلَّا بَعْدَ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ عَمَّنْ يَثِقُ بِهِ، وَكَيْفَ يَشْتَبِهُ عَلَى مِثْلِهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي " الْمُمْتَحَنَةِ " قَبْلَ رَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ؟ وَإِنِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَى مِثْلِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَلِمَ مَنَازِلَ الْقُرْآنِ، وَتَأْوِيلَهُ، هَذَا بَعِيدٌ لَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ " انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ: ثُمَّ نَقُولُ: دَعُونَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهَبْ أَنَّهُ صَحَّ لَكُمْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي أَمْرِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَمْرِ هِنْدَ، وَامْرَأَةِ صَفْوَانَ، وَأُمِّ حَكِيمٍ، وَسَائِرِ مَنْ أَسْلَمَ إِنَّمَا هُوَ الْعِدَّةُ؟ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَلَا الْحِسَانِ ذِكْرُ عِدَّةٍ فِي ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا أَصْلًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ؟ قَالُوا: وَلَا عِدَّةَ فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا فِي طَلَاقٍ، أَوْ خُلْعٍ، أَوْ وَفَاةٍ، أَوْ عِتْقٍ تَحْتَ عَبْدٍ، أَوْ حُرٍّ، فَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمُونَا بِهَذِهِ الْعِدَّةِ، وَجَعَلْتُمُوهَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الزَّوْجِ الْمَالِكِ لِلْعِصْمَةِ، وَغَيْرِهِ؟
[فَصْلٌ حَجَّةُ الْمُعَجِّلُونَ لِلْفُرْقَةِ]
117 -
فَصْلٌ
[حَجَّةُ الْمُعَجِّلُونَ لِلْفُرْقَةِ] .
قَالَ الْمُعَجِّلُونَ لِلْفُرْقَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
قَالُوا: فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَقَدْ حَرَّمَ فِيهِ رُجُوعَ الْمُؤْمِنَةِ إِلَى الْكَافِرِ، وَصَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الزَّوْجِ حَتَّى يُسْلِمَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْدَهَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهَا، لَا سِيَّمَا وَالْمُهَاجِرَةُ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي انْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بِالْهِجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ أَلَّا يُمْسِكَ عِصْمَةَ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تُسْلِمْ، فَصَحَّ أَنَّ سَاعَةَ وُقُوعِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ تَنْقَطِعُ عِصْمَةُ الْكَافِرَةِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَدِلَّةٍ مِنَ الْآيَةِ، وَدَعُونَا مِنْ تِلْكَ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَالْمَرَاسِيلِ وَالْآثَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَفِي كِتَابِ اللَّهِ الشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ.
قَالَ الْآخَرُونَ: مَرْحَبًا، وَأَهْلًا، وَسَهْلًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسَمْعًا، وَطَاعَةً لِقَوْلِ رَبِّنَا، وَلَكِنْ تَأَوَّلْتُمُ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا، وَوَضَعْتُمُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ إِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِإِلْغَائِهَا، وَلَا فَهِمَ
هَذَا مِنْهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ أَصْلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ رَدِّ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَنْتَظِرُ زَوْجَهَا حَتَّى يَصِيرَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَيْهِ؟ وَلَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ كُلَّ الْإِبْعَادِ مَنْ فَهِمَ هَذَا مِنَ الْآيَةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، إِنَّمَا فِيهِ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَحِلُّ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَتَرَبَّصُ بِصَاحِبِهِ الْإِسْلَامَ فَيَحِلُّ لَهُ إِذَا أَسْلَمَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، فَهَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَرَفْعٌ لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ أَنْ يَنْكِحُوا الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ إِذَا بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ وَتَخَلَّيْنَ عَنْهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَاخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَضَتْ عَدَّتُهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَتْ وَبَيْنَ أَنْ تُقِيمَ حَتَّى يُسْلِمَ زَوْجُهَا، فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ إِمَّا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا نَصَرْنَاهُ، وَإِمَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى انْفِسَاخَ النِّكَاحِ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
فَلَوْ أَنَّا قُلْنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ تَبْقَى مَحْبُوسَةً عَلَى الزَّوْجِ، لَا نُمَكِّنُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، شَاءَتْ أَمْ أَبَتْ، لَكَانَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ وَلَا غَيْرُنَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، بَلْ هِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا إِنْ شَاءَتْ تَزَوَّجَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَبَّصَتْ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، فَإِنَّمَا تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنِ اسْتِدَامَةِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ، وَالْتَمَسُّكِ بِهَا، وَهِيَ مُقِيمَةٌ عَلَى شِرْكِهَا وَكُفْرِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِانْتِظَارِ بِهَا أَنْ يُسْلِمَ، ثُمَّ يُمْسِكَ بِعِصْمَتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ فِي التَّرَبُّصِ مُمْسِكٌ بِعِصْمَتِهَا، قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُتَمَكِّنَةٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ مُفَارَقَتِهِ، وَالتَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِصْمَةُ بِيَدِهِ لَمَا أَمْكَنَهَا ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَالْآيَةُ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَسْلَمَ وَلَمْ تُسْلِمِ الْمَرْأَةُ، أَنَّهُ لَا يُمْسِكُهَا بَلْ يُفَارِقُهَا، فَإِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ بِعِصْمَتِهَا، وَهُوَ إِنَّمَا أَمْسَكَ بِعِصْمَةِ مُسْلِمَةٍ لَا كَافِرَةٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حُكْمَهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي يَرْتَدِدْنَ إِلَى الْكُفَّارِ وَاللَّاتِي يُهَاجِرْنَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الشَّرْطَ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَى أَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِهِ دَخَلَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ، فَهَاجَرَ نِسْوَةٌ اخْتَرْنَ الْإِسْلَامَ، وَارْتَدَّ نِسْوَةٌ اخْتَرْنَ الشِّرْكَ، فَحَكَمَ اللَّهُ أَحْسَنَ حُكْمٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا أَنْ يُمْسِكُوا بِعِصْمَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي
اخْتَارَتِ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْعٌ لَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ بِمَنْ شَاءَتْ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ الْمُسْلِمِ، وَالْعَهْدُ اقْتَضَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى الْكُفَّارِ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا جَاءَتِ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ زَالَتْ عِصْمَةُ نِكَاحِهَا، وَأُبِيحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَوِّجُوهَا، فَإِذَا فَاتَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفَّارِ فَلَوْ بَقِيَتْ فِي عِصْمَتِهِ مُمْسِكًا لَهَا لَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِهَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُزَوَّجَ، وَضَرَرٌ بِهِ إِنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، فَاقْتَضَى حُكْمُهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا أَحْسَنَ مِنْهُ تَعْجِيلَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ، أَوِ الْكَافِرَةِ عِنْدَهُمْ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ التَّزْوِيجِ كَمَا تَتَمَكَّنُ الْمُسْلِمَةُ مِنَ التَّزْوِيجِ إِذَا هَاجَرَتْ، فَهَذَا مُقْتَضَى الْآيَةِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ إِسْلَامِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْطَى النُّصُوصُ حَقَّهَا، وَالسُّنَّةُ حَقَّهَا، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِوَجْهٍ مَا، وَالْكُلُّ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: " وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ إِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَعْلُومِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَسْبِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَتَارَةً يُسْلِمُ الرَّجُلُ وَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مُدَّةً ثُمَّ تُسْلِمُ، كَمَا أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ قَبْلَ الرِّجَالِ.
وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ، وَتَارَةً
يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ تُسْلِمُ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، أَوْ بَعِيدَةٍ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكِينَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ تَقَدُّمُ ذَلِكَ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ أَسْلَمَ النَّاسُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ، وَنُزُولِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، فَأَسْلَمَ الطُّلَقَاءُ بِمَكَّةَ، وَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ، وَهُمْ أَهْلُ مَدِينَةٍ،
وَكَانَ إِسْلَامُهُمْ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَنْجَنِيقَ، وَلَمْ يَفْتَحْهَا، ثُمَّ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِالْجِعِرَّانَةِ، وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْجِعِرَّانَةِ، ثُمَّ رَجَعَ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ وَفَدَ وَفْدُ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا، وَنِسَاؤُهُمْ بِالْبَلَدِ لَمْ يُسْلِمْنَ، ثُمَّ رَجَعُوا، وَأَسْلَمَ نِسَاؤُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَقَوْلُهُ مَقْطُوعٌ بِخَطَئِهِ، وَلَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ: هَلْ دَخَلْتَ بِامْرَأَتِكَ أَمْ لَا؟ بَلْ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ بَعْدَهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِكَاحٍ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ، وَكَانُوا يُسْلِمُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُسْلِمُ
نِسَاؤُهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ بَعْدَ إِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَبَعَثَ عَلِيًّا، وَمُعَاذًا، وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فَيُسْلِمُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَأْتِيهِمْ فَتُسْلِمُ قَبْلَ الرَّجُلِ، وَلَمْ يَقُولُوا لِأَحَدٍ: لِيَكُنْ تَلَفُّظُكَ وَتَلْفُّظُ امْرَأَتِكَ بِالْإِسْلَامِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، لِئَلَّا يَنْفَسِخَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ، وَلَا حَدُّوا ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، ثُمَّ يَقَعُ الْفَسْخُ بَعْدَهَا، بَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي غَيْبَتِهِ عَنْهُ - قَدْ قَالَ:" «هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِصْرِهَا» "، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ:" مَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ دَارِ هِجْرَتِهَا "، وَلَمْ يُعَجِّلِ الْفُرْقَةَ، وَلَا
حَدَّهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَفِي قَضِيَّةِ زَيْنَبَ الشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكَانَتْ سُنَّتُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَتَرَاضَيَا بِبَقَائِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُحْوِجُهُمَا إِلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ، فَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بِإِسْلَامِ زَوْجِهَا، أَيَّ وَقْتٍ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَرْأَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُمْسِكَ بِعِصْمَتِهَا، فَلَا يُكْرِهُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْبِسُهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَظْلِمُهَا فِي الدِّينِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ، بَلْ إِنِ اخْتَارَتْ هِيَ أَنْ تَتَرَبَّصَ بِإِسْلَامِهِ تَرَبَّصَتْ، طَالَتِ الْمُدَّةُ، أَوْ قَصُرَتْ، وَإِنِ اخْتَارَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَلَهَا ذَلِكَ، وَالْعِدَّةُ هَاهُنَا لِحِفْظِ مَاءِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ بَعْدَهَا، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُلُ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقُ كَمَا طَلَّقَ عُمَرُ رضي الله عنه امْرَأَتَيْنِ لَهُ مُشْرِكَتَيْنِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، أَوْ تَخْتَارُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُزَوَّجَ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، فَلَهَا ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي هَذَا تَنْفِيرًا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا عَلِمَتْ أَوِ الزَّوْجُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَزُولُ النِّكَاحُ، وَيُفَارِقُ مَنْ يُحِبُّ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ إِلَّا بِرِضَاهَا وَرِضَا وَلِيِّهَا، وَمَهْرٍ جَدِيدٍ، نَفَرَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَلَا فِرَاقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ هُوَ الْمُفَارَقَةَ، كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَحَبَّتِهِ مَا هُوَ أَدْعَى إِلَى الدُّخُولِ فِيهِ.