الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِإِسْلَامِهِمْ طَرْدًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَإِنَّ مَنِ انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ قَامَتْ أُمُّهُ مَقَامَ أَبِيهِ فِي التَّعْصِيبِ، وَلِهَذَا تَكُونُ أُمُّهُ وَعَصَبَاتُهَا عَصَبَةً لَهُ، يَرِثُونَ مِنْهُ كَمَا يَرِثُ الْأَبُ وَعَصَبَاتُهُ، لِانْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يَحْكُمُوا بِإِسْلَامِ وَلَدِ الذِّمِّيِّ إِذَا لَاعَنَ عَلَيْهِ، لِانْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَهَذَا لَا نَعْلَمُ قَائِلَهُ مِنَ السَّلَفِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَطَ أَوْلَادُ الذِّمَّةِ بِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فِي دَارٍ، وَلَهُمَا أَوْلَادٌ، فَلَمْ يُعْرَفْ وَلَدُ النَّصْرَانِيِّ مِنْ وَلَدِ الْمُسْلِمِ؟ قَالَ:" يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ ".
أَحْمَدُ حَكَمَ بِإِسْلَامِ الْأَوْلَادِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُسْلِمٌ قَطْعًا، وَقَدِ اشْتَبَهَ بِالْكَافِرِ فَغَلَبَ جَانِبُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ بِإِسْلَامِ مَنِ انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ لِكَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا أَوْ مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يَغْلِبُ لِأَجْلِهِ الْإِسْلَامُ، بَلْ وَلَا شُبْهَةَ إِسْلَامٍ.
[فَصْلٌ مَتَى يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ]
169 -
فَصْلٌ
[مَتَى يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ] .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَاعِدَةً فِيمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ، وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ،
فَنَقُولُ: إِسْلَامُ الصَّبِيِّ يَحْصُلُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهَا، وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا:
الْأَوَّلُ: إِسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ إِذَا عَقَلَ الْإِسْلَامَ، فَيَصِحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِمْ.
وَالَّذِينَ قَالُوا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ قَالُوا: يَصِحُّ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا، حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْهُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ عَلَى رُجُوعِهِ كَانَ مُرْتَدًّا، وَمَنْصُوصٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ، وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوقَفُ إِسْلَامُهُ، فَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَغْوًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ، حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ، وَيُوَرَّثَ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِصْطَخْرِيِّ.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا لَوِ ارْتَدَّ صَحَّتْ رِدَّتُهُ، وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا عَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ يُقَالُ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ وَأَهْلِهِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُ، فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْكُفْرَ هُدِّدَ وَطُولِبَ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَصَرَّ رُدَّ إِلَيْهِمْ، وَهَلْ هَذِهِ الْحَيْلُولَةُ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَيُتَلَطَّفُ بِوَالِدَيْهِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَبَيَا فَلَا حَيْلُولَةَ.
هَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ
أَبُو إِسْحَاقَ: إِذَا أَضْمَرَ كَمَا أَظْهَرَ كَانَ مِنَ الْفَائِزِينَ بِالْجَنَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا.
قَالَ فِي " النِّهَايَةِ ": وَفِي هَذَا إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَمَ لَهُ بِالْفَوْزِ لِإِسْلَامِهِ كَيْفَ لَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِهِ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ قَدْ نَحْكُمُ لَهُ بِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا، كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: " لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ " احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» " وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ كَالْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ، وَالْعِتْقِ، وَالْإِقْرَارِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ كَالْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي حُكْمِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَقْوَالُهُ هَدَرًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إِسْلَامُهُ لَصَحَّتْ رِدَّتُهُ.
قَالَ الْمُصَحِّحُونَ لِإِسْلَامِهِ: هُوَ مِنْ أَهْلِ قَوْلِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، وَمَنْ قَالَ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " دَخَلَ الْجَنَّةَ.
قَالُوا: وَهُوَ مَوْلُودٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَطَقَ بِمُوجِبِ الْفِطْرَةِ، فَعَمِلَتِ الْفِطْرَةُ وَالْكَلِمَةُ عَمَلَهُمَا.
قَالُوا: وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَفِي لَفْظٍ " «عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» "، فَجَعَلَ الْغَايَةَ إِعْرَابَ لِسَانِهِ عَنْهُ: أَيْ بَيَانَ لِسَانِهِ عَنْهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ لِسَانُهُ عَنْهُ صَارَ إِمَّا شَاكِرًا، وَإِمَّا كَفُورًا بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ، وَعَقَلَ مَا يَقُولُ، صَارَ لَهُ إِرَادَةٌ، وَاخْتِيَارٌ، وَنُطْقٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِهِ الثَّوَابُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ صِحَّةِ أَسْبَابِ الْعِقَابِ انْتِفَاءُ صِحَّةِ أَسْبَابِ الثَّوَابِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ حَجُّهُ، وَطَهَارَتُهُ، وَصَلَاتُهُ، وَصِيَامُهُ، وَصَدَقَتُهُ، وَذِكْرُهُ، وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى تَرْكِهِ فَبَابُ الثَّوَابِ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْبُلُوغِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى إِهْدَارِ أَقْوَالِ الصَّبِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي اعْتِبَارَ أَقْوَالِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِابْتِلَاءِ الْيَتَامَى، وَهُوَ اخْتِبَارُهُمْ فِي عُقُودِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْمُرَاوَضَةِ، ثُمَّ بِعَقْدِ وَلِيِّهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي جِرَاحَاتِهِمْ إِذَا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ.
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، وَطَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الصِّبْيَانُ يَذْهَبُونَ فِي حَوَائِجِ أَوْلِيَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقْبَلُونَ قَوْلَهُمْ فِي ثُبُوتِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي الْحِلَّ، وَالْحُرْمَةَ وَيَعْتَمِدُونَ فِي وَطْءِ الْفَرْجِ فِي الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلِ الصَّبِيِّ، فَلَمْ يُهْدِرِ الشَّارِعُ أَقْوَالَ الصَّبِيِّ كُلَّهَا.
بَلْ إِذَا تَأَمَّلْنَا الشَّرْعَ رَأَيْنَا اعْتِبَارَهُ لِأَقْوَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ إِهْدَارِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا تُهْدَرُ فِيمَا فِيهِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ، وَالْحُقُوقِ، فَأَمَّا مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ كَالْإِسْلَامِ، فَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ إِهْدَارِهِ، إِذْ أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِيهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَطَاعَةٌ لِلَّهِ، وَقُرْبَةٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الْبُلُوغُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا: كَحَجِّهِ وَصَوْمِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَقِرَاءَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ فِي الْجَحِيمِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ مَعَ مُسَارَعَتِهِ، وَمُبَادَرَتِهِ إِلَيْهَا، وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا، وَإِلْزَامِهِ بِطَرِيقِ أَهْلِ الْجَحِيمِ، وَالْكَوْنِ مَعَهُمْ، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَسَدِّ طَرِيقِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مَعَ فِرَارِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ صَبِيًّا، وَكَانَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ.
سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا
…
صَبِيًّا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِي
فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَاطِلًا لَا يَصِحُّ؟ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْعَبِيدِ بِلَالٌ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدٌ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ وَهُمَا ابْنَا ثَمَانِ سِنِينَ، وَبَايَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَآهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ "، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَحْتَلِمْ، وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصِّبْيَانِ إِسْلَامَهُ قَطُّ، بَلْ كَانَ يَقْبَلُ إِسْلَامَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَمْ يَأْمُرْ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ صَبِيًّا أَسْلَمَ قَبْلَ الْبُلُوغِ - عِنْدَ الْبُلُوغِ - أَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ، وَلَا عُرِفَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» " فَلَمْ يَرُدَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ، وَلَا ذِكْرُهُ، وَلَا قِرَاءَتُهُ، وَلَا صَلَاتُهُ، وَلَا صِيَامُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ قَلَمَ الثَّوَابِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ رَفْعُ قَلَمِ التَّأْثِيمِ، وَأَنَّهُ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَالْإِسْلَامُ أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ، وَهُوَ لَهُ لَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ مِنْ رَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الصَّبِيِّ بُطْلَانُهُ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ، وَالْإِسْلَامُ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِسْلَامُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي مَالِهِ، وَنَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَيَحْرِمُهُ مِيرَاثَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، وَيَفْسَخُ نِكَاحَهُ، وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ، فَتَكُونُ مَرْفُوعَةً عَنْهُ بِالنَّصِّ، وَيَسْتَحِيلُ رَفْعُهَا مَعَ قِيَامِ سَبَبِهَا، فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِهَا رَفْعُ سَبَبِهَا: وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لِلنَّاسِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِلْزَامُ بِهَا.
وَالثَّانِي: تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَهِيَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ، تَعُودُ عَلَيْهِ بَرَكَتُهَا فِي الْعَاجِلِ، وَالْآجِلِ، فَهِيَ الْحَقِيقَةُ لَهُ لَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ قَرِيبِهِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُهَا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ وُجُوبُهَا بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَجَدَّدَ وُجُوبُهَا بِالْإِسْلَامِ، فَالنَّفْعُ الْحَاصِلُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ،
وَلَيْسَ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَدَرِهِ إِضَاعَةُ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ شَرٍّ يَسِيرٍ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ مَدَارُ الشَّرْعِ، وَالْقَدَرِ عَلَى تَحْصِيلِ أَعْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَارْتِكَابِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا.
وَأَمَّا حِرْمَانُهُ الْمِيرَاثَ مِنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ نَظِيرُهُ، إِذْ قَدْ يَكُونُ لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ، فَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْ إِسْلَامَهُ مُنِعَ مِيرَاثَهُ مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ مَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ دُونَ الْعَكْسِ، وَبَيَّنَّا رُجْحَانَ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَلَوْ حُرِمَ الْمِيرَاثَ فَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَغِنَاهُ، وَالْفَوْزِ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا فَاتَهُ مِنْ شَيْءٍ لَا يُسَاوِي جَمِيعُهُ، وَأَضْعَافٌ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ يُزَكِّيهِ، وَلَا قَرَابَةٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى قَرَابَتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَنْعُ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَحَقِّقِ النَّفْعِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَوْفًا مِنْ حُصُولِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَوَهَّمِ الَّذِي قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةً أَصْلًا فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ الْأَطْفَالِ؟ وَلَوْ كَانَ مُحَقَّقًا فَهُوَ مَجْبُورٌ بِمِيرَاثِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَجْبُورٌ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ، وَفَوَائِدِهِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ. وَمِثَالُ تَعْطِيلِ هَذَا النَّفْعِ الْعَظِيمِ لِأَجْلِ هَذَا الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ الَّذِي لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ يَسِيرًا جِدًّا، مِثَالُ مَنْ عَطَّلَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ لِمَا فِيهَا