المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل ضلال القدرية في معنى الفطرة والرد عليهم] - أحكام أهل الذمة - ط رمادي - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[ذكر نكاح أهل الذمة ومناكحتهم] [

- ‌فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ نِكَاحِهِمْ وَمُنَاكَحَاتِهِمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَافِرُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا]

- ‌[فَصْلٌ في طَلَاقِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ وُقُوعَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُسْلِمُ إِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيَّةَ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَهَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا]

- ‌[فَصْلٌ حَجَّةُ الْمُعَجِّلُونَ لِلْفُرْقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صِحَّةُ الْعُقُودِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الشِّرْكِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَتَحْتَهُ أُمٌّ وَابْنَتُهَا وَقَدْ دَخَلَ بِهِمَا أَوْ بِإِحْدَاهُمَا]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا أَوْ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ]

- ‌[فَصْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ جَمِيعِ نِسَائِهِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا زَوَّجَ الْكَافِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ مَتَى يَخْتَارُ]

- ‌[فَصْلٌ الِاخْتِيَارُ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ الِاخْتِيَارُ يُعَدُّ فِرَاقًا لِلْبَوَاقِي]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ]

- ‌[فَصْلٌ مِيرَاثُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ الْمُسْلِمُ وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَهْرُ لِلنِّسْوَةِ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ]

- ‌[فَصْلٌ لَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ طَلَّقَ الْجَمِيعَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ مَتَّى تَبْدَأُ عِدَّةُ الْمُفَارَقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ تُسْلِمْ نِسَاؤُهُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْمُخْتَارَاتِ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْرَى مِنَ الْبَواقِي]

- ‌[فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ اخْتَرْتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِيَارُهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مِتْنَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَلَهُ اخْتِيَارُ أَرْبَعٍ وَيَرِثُهُنَّ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ مَتَى يَطَأُ الْأُخْتَ الْمُخْتَارَةَ]

- ‌[فَصْلٌ نُقِرُّ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بِشَرْطَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوِ الْعَكْسُ]

- ‌[فَصْلٌ قَبْضُ بَعْضِ الْمَهْرِ وَوُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيمَا بَقِيَ كَيْفَ يَكُونُ]

- ‌[فَصْلٌ التَّحَاكُمُ إِلَيْنَا فِي أَنْكِحَةٍ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ بِلَا صَدَاقٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ضَابِطِ مَا يَصِحُّ مِنْ أَنْكِحَتِهِمْ وَمَا لَا يَصِحُّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَافِرِ يَكُونُ وَلِيًّا لِوَلِيَّتِهِ الْكَافِرَةِ دُونَ الْمُسْلِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ بَيَانُ وِلَايَةِ الْأَبِ الذِّمِّيِّ]

- ‌[فَصْلٌ وِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِةِ]

- ‌[فَصْلٌ زَوَاجُ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحْرَمًا لِلْمُسْلِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ جَوَازُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَتَى يُكْرَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ النِّكَاحُ مِنَ السَّامِرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ الْمُتَمَسِّكَاتِ بِغَيْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ مَعَ كَثْرَةِ النِّسَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْمَجُوسِ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ إِجْبَارُ الزَّوْجَةِ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ مِنْ دُورِ الْعِبَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْعُ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ مِنَ السُّكْرِ]

- ‌[فَصْلٌ أَدَاءُ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ شَعَائِرَهَا التَّعَبُّدِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ أَحْكَامِ مَوَارِيثِهِمْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ] [

- ‌فصل هَلْ يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ تَوَارُثُ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ وَعِلَلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ بِلَا خِلَافٍ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ الْمُطْلَقَةُ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ]

- ‌[ذكر أَحْكَامِ أَطْفَال أهل الذمة] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ ذِكْرِ أَحْكَامْ أَطْفَالهم فِي الدُّنْيَا]

- ‌[فصل مَوْتُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ مَتَى يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ]

- ‌[فَصْلٌ شُرُوطُ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَوَيْهِ إِذَا أَسْلَمَاَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الْمَسْبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ نُصُوصِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الصَّبِيُّ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى أَبَوَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَاطُ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِأَبْنَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الذِّمِّيُّ يَجْعَلُ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ مُسْلِمًا]

- ‌[فَصْلٌ وَالِدُ الْمَمْلُوكَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الدِّينُ]

- ‌[فَصْلٌ ضَلَالُ الْقَدَرِيَّةِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ الْبُدَاءَةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ تَفْسِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْفِطْرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْطَاقَ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ]

- ‌[فَصْلٌ تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ علبه السلام فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي خَلْقِ الْأَجْسَادِ قَبْلَ الْأَرْوَاحِ أَوِ الْعَكْسُ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ لَوْ تُرِكَتْ لَاخْتَارَتِ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ تَقْتَضِي حُبَّ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَلْخِيصِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا]

- ‌[الباب الثاني ذِكْرُ أَحْكَامِ أَطْفَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ] [

- ‌فصل اخْتِلَافِ النَّاس حكم أطفال المشركين فِي الْآخِرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَدِلَّةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَذَاهِبُ الْعَشَرَةُ فِيهِمْ] [

- ‌الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ الْوَقْفُ فِي أَمْرِهِمْ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُمْ فِي النَّارِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ أَنَّهُمْ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنَّهُمْ مَرْدُودُونَ إِلَى مَحْضِ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا عَمَلٍ]

- ‌[الْمَذْهَبُ السَّادِسُ أَنَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَمَالِيكُهُمْ مَعَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَرِقَّائِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ فِي الدُّنْيَا]

- ‌[الْمَذْهَبُ السَّابِعُ أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُرَابًا]

- ‌[الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ مَذْهَبُ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ]

الفصل: ‌[فصل ضلال القدرية في معنى الفطرة والرد عليهم]

[فَصْلٌ ضَلَالُ الْقَدَرِيَّةِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

181 -

فَصْلٌ

[ضَلَالُ الْقَدَرِيَّةِ فِي مَعْنَى (الْفِطْرَةِ) وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ] .

قَالَ شَيْخُنَا: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمَّا صَارَتِ الْقَدَرِيَّةُ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى قَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ، صَارَ النَّاسُ يَتَأَوَّلُونَهُ تَأْوِيلَاتٍ يُخْرِجُونَهُ بِهَا عَنْ مُقْتَضَاهُ، فَالْقَدَرِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، وَلَكِنْ أَبَوَاهُ يُضِلَّانِهِ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَصْلًا، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ أَحَدًا مُسْلِمًا، وَلَا كَافِرًا، وَلَكِنَّ هَذَا أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ الْكُفْرَ، وَهَذَا أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ الْإِسْلَامَ، وَاللَّهُ لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عِنْدَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ، وَلَكِنْ هُوَ دَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَزَاحَ عِلَلَهُمَا، وَأَعْطَاهُمَا قُدْرَةً مُمَاثِلَةً فِيهِمَا تَصْلُحُ لِلْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْمُؤْمِنُ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَلَوْ كَانَ مَقْدُورًا لَكَانَ ظُلْمًا، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِيهِمْ كَأَبِي الْحُسَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ خَصَّ الْمُؤْمِنَ بِدَاعِي الْإِيمَانِ، وَيَقُولُ: عِنْدَ الدَّاعِي

ص: 969

وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْإِيمَانِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ.

الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالنَّظَرِ الْمَشْرُوطِ بِالْعَقْلِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةً، أَوْ تَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنِ احْتَجَّتِ الْقَدَرِيَّةُ بِقَوْلِهِ:" «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ» " مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَضَافَ التَّغْيِيرَ إِلَى الْأَبَوَيْنِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ اللَّهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمَا يَهُودِيَّيْنِ وَلَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَلَا مَجُوسِيَّيْنِ، بَلْ هُمَا فَعَلَا بِأَنْفُسِهِمَا ذَلِكَ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَلَا فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَحِينَئِذٍ لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي قَوْلِهِ:" «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ» ".

وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِ الْهُدَى، وَالضَّلَالِ فِي قَلْبِ أَحَدٍ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ دَعْوَةُ الْأَبَوَيْنِ إِلَى ذَلِكَ، وَتَرْغِيبُهُمَا فِيهِ، وَتَرْبِيَةُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُعَلِّمُ بِالصَّبِيِّ، وَذَكَرَ الْأَبَوَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَإِلَّا فَقَدَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَمِنْ غَيْرِهِمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، فَأَجَابُوا بِكَلَامِ شَاهِدِينَ مُقِرِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ

ص: 970

رَبُّهُمْ، ثُمَّ وُلِدُوا عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَقَوْلُهُ: " ثُمَّ وُلِدُوا عَلَى ذَلِكَ " زِيَادَةٌ مِنْهُ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا جَاءَتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ.

وَسَنَذْكُرُ الْأَخْبَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِنُبَيِّنَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْأَطْفَالَ يُولَدُونَ، وَهُمْ عَارِفُونَ بِاللَّهِ مِنْ وَقْتِ سُقُوطِهِمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ.

قُلْتُ: قَوْلُهُ: " ثُمَّ وُلِدُوا عَلَى ذَلِكَ " إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ وُلِدُوا حَالَ سُقُوطِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ عَالِمِينَ بِاللَّهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْأَخْذِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا لَمَا عَدَلُوا عَنْهُ إِذَا عَقَلُوا، فَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يُرَدُّ.

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَمِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

[زَيْدِ] بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ

ص: 971

الْعَمَلُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ» .

ص: 972

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرُّهَاوِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَزْدِيِّ، قَالَ مُسْلِمٌ: سَأَلْتُ نُعَيْمًا، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ نُعَيْمٌ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْهَا؟ فَقَالَ. . . الْحَدِيثَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ عِلَّةَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُمَرَ.

ص: 974

قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ

[عُمَارَةَ] بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: «سَأَلْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]

ص: 975

فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ:" خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ أَجَّلَهُ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ ذَرًّا، فَقَالَ: ذَرٌّ ذَرَّاتُهُمْ لِلْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ بِمَا شِئْتُ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ أَخْتِمُ لَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذَرًّا، فَقَالَ: ذَرٌّ ذَرَّاتُهُمْ لِلنَّارِ يَعْمَلُونَ بِمَا شِئْتُ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ أَخْتِمُ لَهُمْ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ النَّارَ» ".

قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْعِلَّةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ عِلَّتَهُ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَبَيْنَ عُمَرَ رَجُلًا

[مَجْهُولًا] .

ص: 976

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ هَذَا مِنْ عُمَرَ، رَوَاهُ عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: قَرَأْتُ عَلَى يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، فَكَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ:" لَا يُعْرَفُ ".

ص: 977

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: " هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ هَذَا لَمْ يَلْقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهَذَا أَيْضًا - مَعَ هَذَا الْإِسْنَادِ - لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ هَذَا مَجْهُولٌ، قِيلَ: إِنَّهُ مَدَنِيٌّ، وَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْبَصْرِيِّ ".

قَالَ: " وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ وَنُعَيْمَ بْنَ رَبِيعَةَ جَمِيعًا غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ.

وَلَكِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. "

ص: 978

انْتَهَى.

وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ.

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَخْبَرَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّبَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ

ص: 979

[النَّصْرِيِّ] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ:«أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُبْتَدَأُ الْأَعْمَالُ، أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» .

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا [الْجُرَيْرِيُّ]، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، وَأُخْرَى بِيَدِهِ

ص: 980

الْأُخْرَى، فَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَلَا أُبَالِي " فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا» .

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ كَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. قَالَ: يَا رَبِّ مَا ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: اخْتَرْ يَا آدَمُ. قَالَ: أَخْتَارُ يَمِينَ رَبِّي - وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ - ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ

ص: 981

كَفَّهُ فَإِذَا كُلُّ مَنْ هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» ".

أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَنَافِعٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:" «لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ - فَذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا آدَمُ، أَيُّ يَدَيَّ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أُرِيَكَ ذُرِّيَّتَكَ فِيهَا؟ فَقَالَ: يَمِينُ رَبِّي - وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ - فَبَسَطَ يَمِينَهُ، فَإِذَا فِيهَا ذُرِّيَّتُهُ كُلُّهُمْ: مَا هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الصَّحِيحُ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَالْمُبْتَلَى عَلَى هَيْئَتِهِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَى هَيْئَاتِهِمْ، فَقَالَ: أَلَا أَغْنَيْتَهُمْ كُلَّهُمْ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ» . . . . " وَذَكَرَ

ص: 982

الْحَدِيثَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ: بِيَدَيْهِ، فَقَبَضَهُمَا، فَقَالَ: اخْتَرْ يَا آدَمُ، فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْكَ يَمِينٌ، فَبَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا ذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَبِّ؟ قَالَ: مَنْ قَضَيْتُ أَنْ أَخْلُقَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

ص: 983

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ

[سَعْدٍ] ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . . . " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

ص: 984

ثَنَا إِسْحَاقُ، وَعَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ: مَسَحَ رَبُّكَ ظَهْرَ آدَمَ فَخَرَجَتْ مِنْهُ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِ " نُعْمَانَ " هَذَا الَّذِي وَرَاءَ عَرَفَةَ فَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا.

ثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ وَهُوَ بِبَطْنِ نُعْمَانَ - وَادٍ - إِلَى جَنْبِ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ

ص: 985

فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا.

ثُمَّ سَاقَهُ إِسْحَاقُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ثُمَّ قَالَ:

أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ - وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ - ثَنَا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَأَخْرَجَ

ص: 986

ذُرِّيَّتَهُ فِي

[آذِيٍّ] مِنَ الْمَاءِ.

أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ كُلُّ ذُرِّيَّةٍ بَدَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعُرِضُوا عَلَيْهِ.

ص: 987

حَدَّثَنَا الْمُلَائِيُّ، ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى آدَمَ مِيثَاقَهُ أَنَّهُ رَبُّهُ، وَكَتَبَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَمُصِيبَاتِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَدَهُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَكَتَبَ أَجَلَهُمْ وَرِزْقَهُمْ وَمُصِيبَاتِهِمْ.

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ، فَأَخْرَجَ كُلَّ طَيِّبٍ فِي يَمِينِهِ، وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى كُلُّ خَبِيثٍ.

ص: 988

ثَنَا يَحْيَى، ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، فَأَخَذَ مِيثَاقَهُ أَنَّهُ رَبُّهُ، وَكَتَبَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَمُصِيبَتَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ وَلَدَهُ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَكَتَبَ آجَالَهُمْ، وَأَرْزَاقَهُمْ، وَمُصِيبَاتِهِمْ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَسَحَ اللَّهُ عَلَى صُلْبِ آدَمَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ مَا يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا - كَافِرًا أَوْ غَيْرَهُ - مَنْ رَبُّكَ؟ إِلَّا قَالَ: اللَّهُ.

قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ.

ص: 989

قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ: أَخَذَهُمْ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ.

ص: 990

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَنْكِبَ آدَمَ الْأَيْمَنَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلْجَنَّةِ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ الْأَيْسَرَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلنَّارِ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، ثُمَّ أَخَذَ عَهْدَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ، وَبِأَمْرِهِ، وَالتَّصْدِيقِ لَهُ وَبِأَمْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَآمَنُوا، وَصَدَّقُوا، وَعَرَفُوا، وَأَقَرُّوا.

ص: 991

قَالَ إِسْحَاقُ: وَحَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ عَلَى كَفِّهِ أَمْثَالَ الْخَرْدَلِ.

قَالَ إِسْحَاقُ: وَحَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ: جَمَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ جَمْعًا، مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ، وَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ هَذَا. اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، فَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي، وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي. قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، وَلَا رَبَّ غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ، وَرُفِعَ لَهُمْ أَبُوهُمْ آدَمُ، فَنَظَرَ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ! فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ فِي الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] . . .

ص: 992

إِلَى قَوْلِهِ:. . . {غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، فَلِذَلِكَ قَالَ:{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56]، وَفِي ذَلِكَ قَالَ:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102]، وَفِي ذَلِكَ قَالَ:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] ، كَانَ فِي عِلْمِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا بِمَا أَقَرُّوا بِهِ، وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهِ وَمَنْ يُصَدِّقُ.

قَالَ: وَكَانَ رُوحُ عِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فِي زَمَنِ آدَمَ، فَأَرْسَلَ ذَلِكَ إِلَى مَرْيَمَ حَتَّى {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] . . .، إِلَى قَوْلِهِ:. . . (حَمَلَتْهُ) . . .، حَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا، وَهُوَ رُوحُ عِيسَى.

ص: 993

وَفِي تَفْسِيرِ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] . . . الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، وَكَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقَالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَمَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقَالَ: ادْخُلُوا النَّارَ، وَلَا أُبَالِي، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] ،: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41] ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَقَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، فَأَعْطَاهُ طَائِفَةٌ طَائِعِينَ، وَطَائِفَةٌ كَارِهِينَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ - أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173] فَلِذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ رَبَّهُ اللَّهُ، وَلَا مُشْرِكٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] ، فَلِذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ» .

ص: 996

قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَخْبَرَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] ، فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَالْمَعْرِفَةِ: الْأَرْوَاحُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أَجْسَادَهَا.

قَالَ إِسْحَاقُ: وَحَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ:

ص: 997

أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ حِينَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ رُدُّوا فِي صُلْبِهِ.

قَالَ إِسْحَاقُ: وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْأَجْلَحِ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَأَخْرَجَهُمْ مِثْلَ الذَّرِّ، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَبَضَ أُخْرَى، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَحَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]

ص: 998

قَالَ: أَخْذُهُ الْمِيثَاقَ.

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا حَضَرَنَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ السَّلَفِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الطِّفْلَ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَهُوَ عَارِفٌ بِاللَّهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.

قُلْتُ: أَبُو مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ مَعْرِفَةً حَاصِلَةً مَعَهُمْ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْفِطْرَةِ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لَوْ خُلُّوا وَفِطَرَهُمْ لَمَا عَدَلُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ.

ص: 999

قَالَ مُحَمَّدٌ: فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَيْهَا» " هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ؟ أَوْ هَلْ يُحْكَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ؟ أَوْ هَلْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِقِيَاسٍ؟ فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَإِلَّا بَانَ بَاطِلُ دَعْوَاهُ.

فَإِنْ هُوَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، فَقَالَ: اسْتِشْهَادُ اللَّهِ ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مُتَقَدِّمَةٌ عِنْدَهُمْ كَمَا اسْتَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ غَايَةُ حُجَّتِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ.

قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ مُسْتَشْهَدٍ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَتَقَدَّمِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ، فَإِنَّ الْمُسْتَشْهِدَ دَعَاهُ إِلَى أَنْ شَهِدَ بِقَوْلِ الزُّورِ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذَلِكَ.

فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ إِجَابَتَكَ عَنْ غَيْرِ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَاحْتِجَاجَكَ لَهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَكَ، إِنَّا لَمْ نَسْأَلْكَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فَأَجَابُوهُ بِأَنْ قَالُوا: بَلَى - هَلْ كَانُوا عَارِفِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْ لَا - إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنْ وَقْتِ سُقُوطِهِمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ: هَلْ عِنْدَكَ حُجَّةٌ تُثْبِتُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَارِفُونَ؟

فَإِنْ قَالَ: إِنَّ ثُبُوتَ الْمَعْرِفَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى ذَلِكَ، فَهُمْ فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.

ص: 1000

قِيلَ لَهُ: فَقَدْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقِرِّينَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، وَاللَّهُ عز وجل لَا يُخَاطِبُ إِلَّا مَنْ يَفْهَمُ عِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَا يُجِيبُ إِلَّا مَنْ فَهِمَ السُّؤَالَ، فَإِجَابَتُهُمْ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ فَهِمُوا عَنِ اللَّهِ، وَعَقَلُوا عَنْهُ اسْتِشْهَادَهُ إِيَّاهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، فَأَجَابُوهُ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِمْ لِلْمُخَاطَبَةِ وَفَهْمِهِمْ لَهَا بِأَنْ قَالُوا: بَلَى، فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.

فَيُقَالُ لَهُ: فَهَكَذَا تَقُولُ: إِنَّ الطِّفْلَ إِذَا سَقَطَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ مِنْ سَاعَتِهِ يَفْهَمُ الْمُخَاطَبَةَ إِنْ خُوطِبَ، وَيُجِيبُ عَنْهَا، وَيُقِرُّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، كَإِقْرَارِ الَّذِينَ أَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، فَإِنْ قَالَ:" نَعَمْ " كَابَرَ عَقْلُهُ وَأَكْذَبَهُ الْعِيَانُ، وَإِنْ قَالَ:" لَا " أَقُولُ: ذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، فَجُعِلَ حَالُهُمْ فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ خِلَافَ حَالِهِمْ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنْهُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عَارِفِينَ، وَهُمْ فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ غَيْرُ عَارِفِينَ كَمَا كَانُوا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ فَهِمُوا الْمُخَاطَبَةَ، وَعَقَلُوهَا، وَأَجَابُوا مُقِرِّينَ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَهُمْ فِي وَقْتِ الْوِلَادَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

قُلْتُ: كُلُّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ وَخُوطِبُوا، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ رُدُّوا فِي صُلْبِهِ، فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالِهِمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَحَالِهِمْ وَقْتَ الْوِلَادَةِ قَطْعًا، وَلَا يَقُولُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَا غَيْرُهُ: إِنَّهُمْ وُلِدُوا عَارِفِينَ فَاهِمِينَ يَفْهَمُونَ السُّؤَالَ، وَيَرُدُّونَ الْجَوَابَ، فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهَا: اسْتِوَاءُ حَالَتِهِمْ وَقْتَ أَخْذِ الْعَهْدِ، وَوَقْتَ سُقُوطِهِمْ - فِي

ص: 1001

الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.

الثَّانِي: اسْتِوَاءُ الْوَقْتَيْنِ فِي عَدَمِ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ السُّقُوطِ، وَعَدَمُهَا عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ لَا يَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا.

الرَّابِعُ: مَعْرِفَتُهُمْ وَفَهْمُهُمْ وَقْتَ أَخْذِ الْعَهْدِ دُونَ وَقْتِ السُّقُوطِ، وَهَذَا يَقُولُهُ كُلُّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَكَلَّمَهُمْ، وَخَاطَبَهُمْ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِهِ.

وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ مَرْفُوعِهَا وَمَوْقُوفِهَا.

وَأَحْسَنُ شَيْءٍ فِيهَا حَدِيثُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِيهِ، عَلَى أَنَّ إِسْحَاقَ قَدْ رَوَاهُ عَنْ حَكَّامِ بْنِ سَلْمٍ، عَنْ

[عُمَارَةَ] بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ:«سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ أَجْلَسَهُ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ ذَرًّا، فَقَالَ: ذَرٌّ ذَرَّاتُهُمْ لِلْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ بِمَا شِئْتُ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ أَخْتِمُ لَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ ذَرًّا، فَقَالَ: ذَرٌّ ذَرَّاتُهُمْ لِلنَّارِ يَعْمَلُونَ بِمَا شِئْتُ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ أَخْتِمُ لَهُمْ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ، فَأُدْخِلُهُمُ النَّارَ» "، فَهَذَا لَا ذِكْرَ فِيهِ لِمُخَاطَبَتِهِمْ، وَسُؤَالِهِمْ

ص: 1002

وَاسْتِنْطَاقِهِمْ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه.

وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ فَالْمَرْفُوعُ الصَّحِيحُ مِنْهَا إِنَّمَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَبْضَتَيْنِ، وَتَمْيِيزُ أَهْلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِمْ إِلَى دَارِ التَّكْلِيفِ: مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا

[الْجُرَيْرِيُّ]، «عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ، وَأُخْرَى بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَلَا أُبَالِي " فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا» !

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ - الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا:" «إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَأَرَاهُ إِيَّاهُمْ، وَجَعَلَ أَهْلَ السَّعَادَةِ فِي قَبْضَتِهِ الْيُمْنَى، وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ فِي الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى» ".

ص: 1003

وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ اسْتَنْطَقَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ، وَخَاطَبَهُمْ فَهِيَ بَيْنَ مَوْقُوفَةٍ، وَمَرْفُوعَةٍ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهَا كَحَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، وَفِيهِمَا مَقَالٌ،

[وَقَتَادَةُ النَّصْرِيُّ،] وَهُوَ مَجْهُولٌ.

ص: 1004

وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْآثَارُ فِي إِخْرَاجِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَحُصُولِهِمْ فِي الْقَبْضَتَيْنِ كَثِيرَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهَا، وَإِنْكَارِهَا، وَيَكْفِي وُصُولُهَا إِلَى التَّابِعِينَ، فَكَيْفَ بِالصَّحَابَةِ؟ وَمِثْلُهَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَالتَّخْمِينِ، وَلَكِنْ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَعَلِمَ الشَّقِيَّ وَالسَّعِيدَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا اسْتَخْرَجَهُ فَرَآهُ آدَمُ هُوَ أَمْثَالُهُمْ، أَوْ أَعْيَانُهُمْ، فَأَمَّا نُطْقُهُمْ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ فِيهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] فَذَكَرَ الْأَخْذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ لَا مِنْ نَفْسِ ظَهْرِ آدَمَ، " وَذُرِّيَّتَهُمْ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ وَلَدُوهُ إِنْ

ص: 1006

كَانَ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ:{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 33 - 34]، وَقَالَ:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]، وَقَالَ:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 84] ، فَاسْمُ " الذُّرِّيَّةِ " يَتَنَاوَلُ الْكِبَارَ، وَقَوْلُهُ:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، فَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا إِقْرَارُهُ، فَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، كَمَا احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ.

وَفِي حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: " فَلَمَّا «شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» " أَيْ

ص: 1008

أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، فَشَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هِيَ إِقْرَارُهُمْ وَهِيَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَفْظُ " شَهِدَ فُلَانٌ "، وَ " أَشْهَدَ بِهِ " يُرَادُ بِهِ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَيُرَادُ بِهِ أَدَاؤُهَا.

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] .

وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] .

وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172]، مِنْ هَذَا الثَّانِي لَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيُؤَدُّونَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا يُشْهِدُ عَلَى الرَّجُلِ غَيْرَهُ، كَمَا فِي قِصَّةِ آدَمَ، لِمَا

ص: 1009

أَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، وَكَمَا فِي شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَشَهَادَةِ الْجَوَارِحِ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى (أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، لَكِنْ هَذَا اللَّفْظُ حَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمْ " {بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ": هُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَمَنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: "{بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]" مَعْنَاهُ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ، وَجَعْلِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: " أَشْهَدَهُمْ " يَقْتَضِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَهَذَا الْإِشْهَادُ مُقِرُّونَ بِأَخْذِهِمْ مِنْ ظُهُورِ آبَائِهِمْ، وَهَذَا الْأَخْذُ الْمَعْلُومُ الْمَشْهُودُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ أَخْذُ الْمَنِيِّ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَنُزُولُهُ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْأُمَّهَاتِ، كَقَوْلِهِ:{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173] ، وَهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِدِينِ آبَائِهِمْ لَا لِدِينِ الْأُمَّهَاتِ، كَمَا قَالُوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، وَلِهَذَا قَالَ:{أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: اذْكُرْ حِينَ أُخِذُوا مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ فَخُلِقُوا حِينَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ يَذْكُرُ أَخْذَهُ لَهُمْ، وَإِشْهَادَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، فَأَخْذُهُمْ يَتَضَمَّنُ خَلْقَهُمْ، وَالْإِشْهَادُ يَتَضَمَّنُ هُدَاهُ لَهُمْ إِلَى هَذَا

ص: 1010

الْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُ قَالَ:" أَشْهَدَهُمْ " أَيْ جَعَلَهُمْ شَاهِدِينَ، فَهَذَا الْإِشْهَادُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مُقِرًّا بِرُبُوبِيَّتِهِ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَاللَّهَ خَالِقُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِبَنِي آدَمَ لَا يَنْفِكُّ مِنْهُ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ مِمَّا جُبِلُوا عَلَيْهِ، فَهُوَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا جَحْدُهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:(أَنْ تَقُولُوا) ، أَيْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا، أَوْ لِئَلَّا تَقُولُوا:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، أَيْ عَنْ هَذَا الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَعَلَى نُفُوسِنَا بِالْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا غَافِلِينَ عَنْ هَذَا، بَلْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ اللَّازِمَةِ لَهُمُ الَّتِي لَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَشَرٌ قَطُّ، بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ ضَرُورِيَّةً، وَلَكِنْ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ عُلُومِ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا إِذَا تَصَوَّرَتْ كَانَتْ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ غَافِلٌ عَنْهَا.

وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالْخَالِقِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَسِيَهُ. وَلِهَذَا يُسَمَّى التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ تَذْكِيرًا، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِعُلُومٍ فِطْرِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَقَدْ يَنْسَاهَا الْعَبْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:" «يَقُولُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ: فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» ".

ص: 1011

ثُمَّ قَالَ: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ حُجَّتَيْنِ يَدْفَعُهُمَا هَذَا الْإِشْهَادُ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولُوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ لِكُلِّ بَشَرٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُجَّةَ اللَّهِ فِي إِبْطَالِ التَّعْطِيلِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى نَفْيِ التَّعْطِيلِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولُوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]، وَهُمْ آبَاؤُنَا الْمُشْرِكُونَ: أَيْ أَفَتُعَاقِبُنَا بِذُنُوبِ غَيْرِنَا؟ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَوَجَدُوا آبَاءَهُمْ مُشْرِكِينَ، وَهُمْ ذَرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ الْعَادِيَّةِ أَنْ يَحْتَذِيَ الرَّجُلُ حَذْوَ أَبِيهِ حَتَّى فِي الصِّنَاعَاتِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَلَابِسِ، وَالْمَطَاعِمِ إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي رَبَّاهُ، وَلِهَذَا كَانَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، قَالُوا: نَحْنُ مَعْذُورُونَ، وَآبَاؤُنَا هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَنَحْنُ كُنَّا ذُرِّيَّةً لَهُمْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يُبَيِّنُ خَطَأَهُمْ: فَإِذَا كَانَ فِي فِطَرِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ رَبُّهُمْ، كَانَ مَعَهُمْ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الشِّرْكِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

فَإِذَا احْتَجُّوا بِالْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ الْآبَاءِ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمُ الْفِطْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ الْفِعْلِيَّةَ السَّابِقَةَ لِهَذِهِ الْعَادَةِ الطَّارِئَةِ، وَكَانَتِ الْفِطْرَةُ الْمُوجِبَةُ

ص: 1012

لِلْإِسْلَامِ سَابِقَةً لِلتَّرْبِيَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ نَفْسَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُونَ التَّوْحِيدَ حُجَّةٌ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا تَقَدَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِدُونِ هَذَا. وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، فَإِنَّ الرَّسُولَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَكِنَّ الْفِطْرَةَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ بِهِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ، لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الرِّسَالَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إِقْرَارَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِذَلِكَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ، بِهِ تَقُومُ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصْدِيقِ رُسُلِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا غَافِلًا، وَلَا أَنَّ الذَّنْبَ كَانَ لِأَبِي الْمُشْرِكِ دُونِي لِأَنَّهُ عَارِفٌ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي التَّعْطِيلِ، وَالْإِشْرَاكِ بَلْ قَامَ بِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ - لِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ - لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ: فَلِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّتَانِ قَدْ أَعَدَّهُمَا عَلَيْهِ لَا يُعَذِّبُهُ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِهِمَا:

إِحْدَاهُمَا: مَا فَطَرَهُ عَلَيْهِ، وَخَلَقَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ وَفَاطِرُهُ، وَحَقُّهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ.

وَالثَّانِيَةُ: إِرْسَالُ رُسُلِهِ إِلَيْهِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ، وَتَقْرِيرِهِ وَتَكْمِيلِهِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدُ الْفِطْرَةِ، وَالشِّرْعَةِ، وَيُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

ص: 1013

{وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، فَلَمْ يُنَفِّذْ عَلَيْهِمُ الْحُكْمَ إِلَّا بَعْدَ إِقْرَارٍ وَشَاهِدَيْنِ وَهَذَا غَايَةُ الْعَدْلِ.

ص: 1014