المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في معنى الفطرة] - أحكام أهل الذمة - ط رمادي - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[ذكر نكاح أهل الذمة ومناكحتهم] [

- ‌فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ نِكَاحِهِمْ وَمُنَاكَحَاتِهِمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكَافِرُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا]

- ‌[فَصْلٌ في طَلَاقِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ وُقُوعَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُسْلِمُ إِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيَّةَ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَهَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا]

- ‌[فَصْلٌ حَجَّةُ الْمُعَجِّلُونَ لِلْفُرْقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ صِحَّةُ الْعُقُودِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الشِّرْكِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَتَحْتَهُ أُمٌّ وَابْنَتُهَا وَقَدْ دَخَلَ بِهِمَا أَوْ بِإِحْدَاهُمَا]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا أَوْ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ]

- ‌[فَصْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ جَمِيعِ نِسَائِهِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا زَوَّجَ الْكَافِرُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ مَتَى يَخْتَارُ]

- ‌[فَصْلٌ الِاخْتِيَارُ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ الِاخْتِيَارُ يُعَدُّ فِرَاقًا لِلْبَوَاقِي]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ]

- ‌[فَصْلٌ مِيرَاثُ مَنْ مَاتَ عَنْهُنَّ الْمُسْلِمُ وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَهْرُ لِلنِّسْوَةِ إِذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ]

- ‌[فَصْلٌ لَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ طَلَّقَ الْجَمِيعَ قَبْلَ إِسْلَامِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ مَتَّى تَبْدَأُ عِدَّةُ الْمُفَارَقَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ تُسْلِمْ نِسَاؤُهُ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْمُخْتَارَاتِ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْرَى مِنَ الْبَواقِي]

- ‌[فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ اخْتَرْتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِيَارُهُ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا مِتْنَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَلَهُ اخْتِيَارُ أَرْبَعٍ وَيَرِثُهُنَّ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ مَتَى يَطَأُ الْأُخْتَ الْمُخْتَارَةَ]

- ‌[فَصْلٌ نُقِرُّ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بِشَرْطَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوِ الْعَكْسُ]

- ‌[فَصْلٌ قَبْضُ بَعْضِ الْمَهْرِ وَوُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيمَا بَقِيَ كَيْفَ يَكُونُ]

- ‌[فَصْلٌ التَّحَاكُمُ إِلَيْنَا فِي أَنْكِحَةٍ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ بِلَا صَدَاقٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ضَابِطِ مَا يَصِحُّ مِنْ أَنْكِحَتِهِمْ وَمَا لَا يَصِحُّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَافِرِ يَكُونُ وَلِيًّا لِوَلِيَّتِهِ الْكَافِرَةِ دُونَ الْمُسْلِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ بَيَانُ وِلَايَةِ الْأَبِ الذِّمِّيِّ]

- ‌[فَصْلٌ وِلَايَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِةِ]

- ‌[فَصْلٌ زَوَاجُ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحْرَمًا لِلْمُسْلِمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ جَوَازُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَتَى يُكْرَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ النِّكَاحُ مِنَ السَّامِرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ الْمُتَمَسِّكَاتِ بِغَيْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ مَعَ كَثْرَةِ النِّسَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ نِكَاحُ الْمَجُوسِ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ إِجْبَارُ الزَّوْجَةِ الذِّمِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْكِتَابِيَّةَ مِنْ دُورِ الْعِبَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْعُ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ مِنَ السُّكْرِ]

- ‌[فَصْلٌ أَدَاءُ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ شَعَائِرَهَا التَّعَبُّدِيَّةَ]

- ‌[ذِكْرُ أَحْكَامِ مَوَارِيثِهِمْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ] [

- ‌فصل هَلْ يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ تَوَارُثُ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ وَعِلَلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ بِلَا خِلَافٍ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ الْمُطْلَقَةُ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ]

- ‌[ذكر أَحْكَامِ أَطْفَال أهل الذمة] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ ذِكْرِ أَحْكَامْ أَطْفَالهم فِي الدُّنْيَا]

- ‌[فصل مَوْتُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ مَتَى يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ]

- ‌[فَصْلٌ شُرُوطُ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَوَيْهِ إِذَا أَسْلَمَاَ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الْمَسْبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ نُصُوصِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الصَّبِيُّ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى أَبَوَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَاطُ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِأَبْنَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الذِّمِّيُّ يَجْعَلُ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ مُسْلِمًا]

- ‌[فَصْلٌ وَالِدُ الْمَمْلُوكَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الدِّينُ]

- ‌[فَصْلٌ ضَلَالُ الْقَدَرِيَّةِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ الْبُدَاءَةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ تَفْسِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْفِطْرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْطَاقَ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ]

- ‌[فَصْلٌ تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ علبه السلام فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي خَلْقِ الْأَجْسَادِ قَبْلَ الْأَرْوَاحِ أَوِ الْعَكْسُ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ لَوْ تُرِكَتْ لَاخْتَارَتِ الْإِيمَانَ عَلَى الْكُفْرِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ تَقْتَضِي حُبَّ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَلْخِيصِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا]

- ‌[الباب الثاني ذِكْرُ أَحْكَامِ أَطْفَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ] [

- ‌فصل اخْتِلَافِ النَّاس حكم أطفال المشركين فِي الْآخِرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَدِلَّةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَذَاهِبُ الْعَشَرَةُ فِيهِمْ] [

- ‌الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ الْوَقْفُ فِي أَمْرِهِمْ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُمْ فِي النَّارِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ أَنَّهُمْ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنَّهُمْ مَرْدُودُونَ إِلَى مَحْضِ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا عَمَلٍ]

- ‌[الْمَذْهَبُ السَّادِسُ أَنَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَمَالِيكُهُمْ مَعَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَرِقَّائِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ فِي الدُّنْيَا]

- ‌[الْمَذْهَبُ السَّابِعُ أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُرَابًا]

- ‌[الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ مَذْهَبُ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ]

الفصل: ‌[فصل في معنى الفطرة]

عَلَى الْإِسْلَامِ كَافِرًا بَعْدَ مَوْتِ أَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُ اللَّهُ تَابِعًا لَهُمَا شَرْعًا، وَقَدَرًا، فَإِذَا زَالَ الْأَبَوَانِ كَانَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ نَقْلُ الْوَلَدِ عَنْ حُكْمِ الْفِطْرَةِ بِلَا مُوجِبٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ، فَمَا الْمُوجِبُ لِتَبْدِيلِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ زَالَ مَنْ كَانَ يُبَدِّلُهَا مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ وَبِكَفَالَتِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ، وَحَضَانَتِهِ؟ فَإِذَا كَفَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَامُوا بِتَرْبِيَتِهِ، وَحَضَانَتِهِ، وَمَعَهُ الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْمُغَيِّرُ لَهَا قَدْ زَالَ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؟ وَهَذَا أَيْضًا قَرِيبٌ مِنَ الْقَطْعِيِّ، وَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَنَقُولُ بِمُوجِبِ الدَّلِيلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ]

179 -

فَصْلٌ

[فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ] .

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ الْأُولَى هِيَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَحْمَدُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ، وَالسَّعَادَةِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ: كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ، يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الشَّقَاوَةِ، وَالسَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْكِتَابِ، ارْجِعْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَصْلِ هَذَا مَعْنَاهُ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ، وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ: الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ

ص: 944

الْعِبَادُ عَلَيْهَا مِنَ

[الشَّقَاوَةِ] ، وَالسَّعَادَةِ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» "، قَالَ: عَلَى السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى مَا خُلِقَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " مَا تَفْسِيرُهَا؟ قَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفِطْرَةِ، فَكَيْفَ يَكْتُمُ مَعَ مَذْهَبِهِ فِي الْأَطْفَالِ أَنَّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَوْتِ آبَائِهِمْ؟

قِيلَ: هَذَا مَوْضِعٌ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَطَالَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَالْخِصَامُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ بَعْضَ مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " الَّذِي هُوَ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ كُتُبِ الْغَرِيبِ إِمَامٌ: " سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ، وَقَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجِهَادِ ".

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: " فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ

ص: 945

الْآخَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ إِسْلَامٍ.

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْ يُحِلَّ عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذَا قَوْلًا وَلَا اخْتِيَارًا.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ " الرَّدُّ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ ": فَيُقَالُ لَهُ: وَمَا عَلَى رَجُلٍ حَكَى اخْتِلَافًا فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الصَّوَابُ فَأَمْسَكَ عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صَوَابُهُ، مَا عَلَى هَذَا مِنْ سَبِيلٍ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى التَّوَقُّفِ عَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عَسَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ، بَلِ الْعَيْبُ الْمَذْمُومُ مَنِ اجْتَرَأَ

ص: 946

عَلَى الْقَوْلِ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُ، فَفَسَّرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَفْسِيرًا خَالَفَ فِيهِ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ وَالنَّظَرَ، فَقَالَ قَوْلًا لَا يَصْلُحُ فِي خَبَرٍ، وَلَا يَقُومُ عَلَى نَظَرٍ.

وَهُوَ هَذَا الْعَائِبُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ: زَعَمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَيْهَا: هِيَ خَلْقُهُ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ، فَزَعَمَ هَذَا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَنْ أَعْظَمُ جُرْمًا، وَأَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْكِتَابِ مَنْ سَمِعَ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ، فَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَانِدُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْجَاهِلُ بِالْكِتَابِ.

قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَبُو مُحَمَّدٍ " الْمَعْرِفَةَ " الْمَعْرِفَةَ الثَّانِيَةَ بِالْفِعْلِ الَّتِي هِيَ لِلْكِبَارِ، فَإِنْكَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا هُوَ مُهَيَّأٌ لِلْفِعْلِ وَالنُّطْقِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

ص: 947

كَمَا إِذَا قِيلَ: يُولَدُ نَاطِقًا عَاقِلًا بِحَيْثُ إِذَا عَقَلَ عَرَفَ رَبَّهُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ دُونَ الْجَمَادَاتِ، بِحَيْثُ لَوْ خُلِّيَ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُغَيَّرْ فِطْرَتُهُ لَكَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ، مُوَحِّدًا لَهُ، مُحِبًّا لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُنْكِرْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ الْمِيثَاقَ الْأَوَّلَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ حِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ، وَالْإِقْرَارَ غَيْرُ حَاصِلَيْنِ مِنَ الطِّفْلِ، فَصَحَّ إِنْكَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ.

قِيلَ: ابْنُ قُتَيْبَةَ إِنَّمَا قَالَ: الْفِطْرَةُ هِيَ خَلْقُهُ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ حَاصِلَةً فِي الْمَوْلُودِ بِالْفِعْلِ، وَتَشْبِيهُهُ الْحَدِيثَ بِالْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْفِعْلِيَّةُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا أَحْيَاءً نَاطِقِينَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَا يَلْزَمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يَخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ، بَلْ هَذَا مِنْ حُسْنِ فَهْمِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ: إِذْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْآيَةِ، وَفَسَّرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. وَقَدْ قَالَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ» " فَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، وَالْإِشْهَادُ الَّذِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْإِقْرَارُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَحْتَجُّ

ص: 948

عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَذْكُرُهُ، بَلْ بِمَا يُشْرَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ، وَلَمْ يَقُلْ " مِنْ آدَمَ "، ثُمَّ قَالَ:{مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172]، وَلَمْ يَقُلْ:" مِنْ ظَهْرِهِمْ "، ثُمَّ قَالَ:(ذُرِّيَّتَهُمْ)، وَلَمْ يَقُلْ:(ذُرِّيَّتَهُ)، ثُمَّ قَالَ:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وَهَذَا يَقْتَضِي إِقْرَارَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ إِقْرَارًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]، وَقَوْلِهِ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]،:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]،:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85]، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرَبِّهِمْ وَفَاطِرِهِمْ، وَيَدْعُوهُمْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي " الْأَعْرَافِ " وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهَا:{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ - أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]

ص: 949

فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَأَلَّا يَعْتَذِرُوا، إِمَّا بِالْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ، وَإِمَّا بِالتَّقْلِيدِ فِي الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الضَّلَالَ لَهُ سَبَبَانِ: إِمَّا غَفْلَةٌ عَنِ الْحَقِّ، وَإِمَّا تَقْلِيدُ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَيُطَابِقُ الْحَدِيثَ مَعَ الْآيَةِ، وَيُبَيِّنُ مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، فَلَمْ يَقَعِ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُعَانَدَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا جَهِلَ الْكِتَابَ، وَلَا خَرَجَ عَنِ الْمَعْقُولِ، وَلَكِنْ لَمَّا ظَنَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَهُمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فِي آنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ، وَكَلَّمَهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ، وَأَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ فَسَّرَ الْفِطْرَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ أَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ.

ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجَّ - يَعْنِي ابْنَ قُتَيْبَةَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 1] خَالِقِهَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ يس:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] ، أَيْ خَلَقَنِي، وَبِقَوْلِهِ:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُسْرِعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ.

ص: 950

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: فَيُقَالُ لَهُ: لَسْنَا نُخَالِفُكَ فِي أَنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَأَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَالِقُهُمَا، وَلَكِنْ مَا

[الدَّلِيلُ] عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِلْقَةَ هِيَ مَعْرِفَةٌ؟ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْخِلْقَةَ هِيَ الْمَعْرِفَةُ؟ فَإِنْ أَتَيْتَ بِحُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْخِلْقَةَ هِيَ الْمَعْرِفَةُ، وَإِلَّا فَأَنْتَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاكَ، وَقَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ.

قُلْتُ: لَمْ يُرِدِ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ " أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْفِعْلِ مَعَ الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ، فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: الْفِطْرَةُ الْأُولَى الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيُّ: الْفِطْرَةُ الدِّينُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا مَاتَ أَبَوَاهُ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " فَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ لَمَا صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بَعْدُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ " «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ» ".

وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: " يُولَدُ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ، أَوْ سَعَادَةٍ " فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهَا الدِّينُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَكَتَبَهُمَا، وَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا كَفِعْلِ

ص: 951

الْأَبَوَيْنِ: فَتَهْوِيدُهُمَا، وَتَنْصِيرُهُمَا، وَتَمْجِيسُهُمَا، هُوَ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا، وَيُولَدُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ قَدْ يُغَيِّرُهَا الْأَبَوَانِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَهُ، كَمَا مَثَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهِمَا مِنْ جَدْعَاءَ» ".

فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ سَلِيمَةً، ثُمَّ يَجْدَعُهَا النَّاسُ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا، ثُمَّ يُفْسِدُهُ أَبَوَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: وُلِدَ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَدَرِيَّةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، بَلْ بِمَا فَعَلَهُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكُفْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّ الْقَدَرِيَّةَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ.

قَالَ: احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» " فَبَيَّنَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْأَبَوَيْنِ خَلَقَا تَهْوِيدَهُ وَتَنْصِيرَهُ، وَالْقَدَرِيَّةُ لَا تَقُولُ ذَلِكَ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ سَبَبًا فِي حُصُولِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّلْقِينِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَدَرِ السَّابِقِ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْكِتَابِ، وَالْمَشِيئَةِ، بَلْ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا، وَكِتَابَةً، وَمَشِيئَةً، وَإِلَى الْأَبَوَيْنِ تَسَبُّبًا، وَتَعْلِيمًا، وَتَلْقِيَنًا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَزْيِينًا، وَوَسْوَسَةً، وَإِلَى الْعَبْدِ رِضًا، وَاخْتِيَارًا، وَمَحَبَّةً.

وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنَّ الْغُلَامَ

ص: 952