الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» " فَحَقٌّ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ قَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَكَلِمَةُ الصَّحَابَةِ قَبْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «فِي الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ: " أَنَّهُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا» " فَمِثْلُ ذَلِكَ سَوَاءً.
وَ " كَافِرًا " حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لَا مُقَارَنَةٌ، أَيْ طُبِعَ مُقَدَّرًا كُفْرُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي حَالِ كَوْنِهِ جَنِينًا وَطِفْلًا لَا يَعْقِلُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلِمَ قَتَلَهُ الْخَضِرُ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ لِمُوسَى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ لِمَصْلَحَةٍ، وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْكَفِّ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالذُّرِّيَّةِ لِمَصْلَحَةٍ، فَكَانَ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ مَصْلَحَةٌ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ يَشْهَدُهَا أُولُو الْأَلْبَابِ.
[فَصْلٌ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْطَاقَ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ]
187 -
فَصْلٌ
[إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْطَاقَ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ] .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ» " أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَعَلَى الْكُفْرِ، وَالْإِيمَانِ، فَأَخَذَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ الْمِيثَاقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا جَمِيعًا: بَلَى، فَأَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَقَالُوا: بَلَى، عَلَى مَعْرِفَةٍ لَهُ طَوْعًا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَقَالُوا: بَلَى، كُرْهًا غَيْرَ طَوْعٍ.
قَالُوا: وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، قَالُوا: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ - فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ - يَعْنِي ابْنَ رَاهَوَيْهِ - يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، قَالَ إِسْحَاقُ: يَقُولُ: لَا تَبْدِيلَ لِلْخِلْقَةِ الَّتِي جَبَلَ عَلَيْهَا وَلَدَ آدَمَ كُلَّهُمْ، يَعْنِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِنْكَارِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ.
قَالَ إِسْحَاقُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، اسْتَنْطَقَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: انْظُرُوا أَنْ لَا تَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ قَالَ: وَكَانَ الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْخَضِرَ مَا كَانَ الْغُلَامُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا.
قَالَ إِسْحَاقُ: فَلَوْ تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ حُكْمَ الْأَطْفَالِ لَمْ يَعْرِفُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا جُبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَ الدُّنْيَا فِي الْأَطْفَالِ بِقَوْلِهِ:" «أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» " يَقُولُ: أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ فِي الْفِطْرَةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّ حُكْمَ الطِّفْلِ فِي الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ، فَاعْرِفُوا ذَلِكَ بِالْأَبَوَيْنِ، فَمَنْ كَانَ صَغِيرًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أُلْحِقَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِيمَانُ ذَلِكَ، وَكُفْرُهُ مِمَّا يَصِيرُ إِلَيْهِ فَعِلْمُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ.
وَإِنَّمَا فَضَّلَ اللَّهُ الْخَضِرَ فِي عِلْمِهِ بِهَذَا عَلَى مُوسَى - لِمَا أَخْبَرَهُ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُ عَلَيْهَا - لِيَزْدَادَ مُوسَى يَقِينًا، وَعِلْمًا بِأَنَّ مِنْ عِلْمِ الْخَضِرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ
نَبِيٌّ، وَلَا غَيْرُهُ، إِذِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا قَدْرَ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، فَصَارَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَ مُوسَى هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا بَطَنَ مِنْ عِلْمِ الْخَضِرِ كَانَ الْخَضِرُ مَخْصُوصًا بِهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ الصَّغِيرَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حَكَمْتَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَارِيثِ، وَالصَّلَاةِ، وَكُلِّ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ تَعْتَدَّ بِفِعْلِ الْخَضِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الْخَفِيِّ، فَانْتَهَى إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فِي قَتْلِهِ.
وَلَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ الْوِلْدَانِ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ؟ يَعْنِي: وِلْدَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: حَسْبُكَ مَا اخْتَصَمَ فِيهِ مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَا اقْتَصَصْنَا مِنْ قَبْلُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَحُكْمُ النَّاسِ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ قَالَتْ، لَمَّا مَاتَ صَبِيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ: " طُوبَى لَهُ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ " رَدَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَهْ يَا عَائِشَةُ، وَمَا يُدْرِيكِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا» . "
قَالَ إِسْحَاقُ: فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَمَا ذَكَرَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِنْكَارِ، إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ اللَّهَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ أَنَّهُمْ سَيُؤْمِنُونَ، وَيَكْفُرُونَ، وَيَعْرِفُونَ، وَيُنْكِرُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ، وَخَلْقِهِ، فَهَذَا حَقٌّ لَا يَرُدُّهُ إِلَّا الْقَدَرِيَّةُ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالنَّكِرَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ فَهَذَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِمْ كَمَا قَالَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَى إِسْحَاقُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ حَقًّا فَهُوَ تَوْكِيدٌ لِكَوْنِهِمْ وُلِدُوا عَلَى تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى " الْمِلَّةِ "، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ حُنَفَاءَ، بَلْ هُوَ مُؤَيِّدٌ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ انْقَسَمُوا إِلَى طَائِعٍ وَكَافِرٍ " فَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيمَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنِ السُّدِّيِّ، وَفِي " تَفْسِيرِهِ ":" لَمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يُهْبِطَهُ مِنَ السَّمَاءِ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقَالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَمَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَقَالَ: ادْخُلُوا النَّارَ، وَلَا أُبَالِي " وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]،:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41] ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، فَأَعْطَاهُ طَائِفَةٌ طَائِعِينَ، وَطَائِفَةٌ كَارِهِينَ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ. فَقَالَ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ يَقُولُوا: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ " فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ اللَّهَ أَنَّهُ رَبُّهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] ، يَعْنِي يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ ".
قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذَا الْأَثَرُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَفِيهِ أَنَّ كُلَّ وَلَدِ آدَمَ يَعْرِفُ اللَّهَ، فَإِذَا كَانُوا وُلِدُوا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ فَقَدْ وُلِدُوا عَلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَقَرَّ كَارِهًا مَعَ الْمَعْرِفَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقِرُّ بِهِ إِلَّا مُكْرَهًا، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْمَعْرِفَةِ فِطْرِيَّةً، مَعَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا إِلَّا فِي هَذَا الْأَثَرِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوثَقُ بِهِ، فَإِنَّهُ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ وَفِيهِ أَشْيَاءُ قَدْ عُرِفَ بُطْلَانُ بَعْضِهَا، وَهَذَا هُوَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَأَحْسَنُ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ تَكُونَ كَالْمَرَاسِيلِ إِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا؟ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِلَّا مُعَارَضَتُهُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ لَكَفَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِسْلَامِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ خَلْقِهِمْ، لَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُمْ حِينَ الْعَهْدِ الْأَوَّلِ أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَكَرْهًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ مُكْرَهٌ لَقَالَ: لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ طَوْعًا بَلْ كَرْهًا، فَلَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إِنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ " كَلَامٌ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ خِلَافَ مَا يَعْتَقِدُهُ لِاتِّقَاءِ مَكْرُوهٍ يَقَعُ بِهِ لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالتَّقِيَّةِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا تَقِيَّةً:" أَنْتَ رَبُّنَا "، بَلْ هُمْ - فِي حَالِ كُفْرِهِمُ الْحَقِيقِيِّ، وَعِنَادِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ - مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَقَدْ عَرَضَ لَهُمْ مَا غَيَّرَ تِلْكَ الْفِطْرَةَ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، فَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ طَوْعًا، وَاخْتِيَارًا، لَا تَقِيَّةً، فَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ تَقِيَّةً فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ، وَلَا كَانَ هُنَاكَ شَيَاطِينُ تُضِلُّهُمْ؟ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهِ قَطْعًا بِلَا تَوَقُّفٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " فَقَالَ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ: شَهِدْنَا " هَذَا خِطَابٌ قَطْعًا، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا، أَيْ أَقْرَرْنَا كَمَا قَالَ الرُّسُلُ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، فِي قَوْلِهِ:{لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81]، وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ:{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: (شَهِدْنَا) ، وَذَلِكَ لَا يَلْتَئِمُ عِلَّةٌ لَهُ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: (شَهِدْنَا) ، يَقُولُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ، أَيْ شَهْدِنَا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] .
وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَعْلِيلٌ لِأَخْذِهِمْ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَهِدُوا لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَلِكَ، لَيْسَ مَعْنَى " شَهِدْنَا " لِئَلَّا يَقُولُوا، وَلَكِنْ أُشْهِدُهُمْ لِئَلَّا يَقُولُوا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا شَهَادَةُ اللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا يَجْحَدُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شِرْكَهُ وَفُجُورَهُ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَهَادَةً مِنِّي، وَلَا يُقِيمُ اللَّهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ فَشَهَادَتُهُ حِينَ تَشْهَدُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] ، وَهَذَا
غَايَةُ الْعَدْلِ، وَإِزَالَةُ شِبْهِ الْخُصُومِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ لَوَفَّقَكُمْ لِتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءُوا بِهِ كَمَا قَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وَقَالَ:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وَقَالَ:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] نَعَمْ، لَوْ شَاءَ فِي تَقْدِيرِهِ السَّابِقِ لَقَدَّرَ إِيمَانَهُمْ جَمِيعًا، فَجَاءَ الْأَمْرُ كَمَا قَدَّرَهُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَأَمَّا احْتِجَاجُ إِسْحَاقَ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، قَالَ إِسْحَاقُ: يَقُولُ: لَا تَبْدِيلَ لِلْخِلْقَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهَا النَّهْيُ، أَيْ لَا تُبَدِّلُوا دِينَ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ،
وَاخْتِيَارُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ إِسْحَاقُ: إِنَّهَا خَبَرٌ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِنَّ خَلْقَ اللَّهِ لَا يُبَدِّلُهُ أَحَدٌ، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: الْمُرَادُ مَا خَلَقَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَا تَبْدِيلَ لَهُ، فَلَا يُخْلَقُونَ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ: لَا يَقَعُ هَذَا قَطُّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَتَبَدَّلُ فَيُخْلَقُوا عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَةَ لَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْخَلْقِ، بَلْ نَفْسُ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ، وَلِهَذَا شَبَّهَهَا بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي تُولَدُ جَمْعَاءَ ثُمَّ تُجْدَعُ، وَلَا تُولَدُ قَطُّ بَهِيمَةٌ مَخْصِيَّةً وَلَا مَجْدُوعَةً، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَ الْخَلْقَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا مَا خَلَقَهُمْ عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَأَمَّا تَبْدِيلُ الْخَلْقِ بِأَنْ يُخْلَقُوا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْفِطْرَةِ فَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، كَمَا قَالَ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَغْيِيرَ، فَإِنَّ تَبْدِيلَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِذَهَابِهِ، وَحُصُولِ بَدَلِهِ، فَلَا يَكُونُ خَلْقٌ بَدَلَ هَذَا الْخَلْقِ، وَلَكِنْ إِذَا غُيِّرَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَمْ يَكُنِ الْخَلْقُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ قَدْ حَصَلَ بَدَلُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا تَبْدِيلَ لِلْخِلْقَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ " فَإِنْ عَنَى بِهَا أَنَّ مَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْإِيمَانِ لَا يَقَعُ خِلَافُهُ فَهَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ تَبْدِيلَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ وَبِالْعَكْسِ مُمْتَنِعٌ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، بَلِ الْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَعَلَى تَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَعَلَى أَنْ يُبَدِّلَ حَسَنَاتِهِ بِالسَّيِّئَاتِ، وَسَيِّئَاتِهِ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11]، وَقَالَ:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، وَهَذَا
التَّبْدِيلُ كُلُّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ حِينَ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْقُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْدِيلِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا
[يُبَدِّلُهُ] قَطُّ، بِخِلَافِ تَبْدِيلِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَبِالْعَكْسِ، فَإِنَّهُ يُبَدِّلُهُ وَالْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى تَبْدِيلِهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ تَبْدِيلُ الْخِلْقَةِ بِالْخِصَاءِ، وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِنَّ الْمُرَادَ: لَا تَبْدِيلَ لِأَحْوَالِ الْعِبَادِ مِنْ إِيمَانٍ إِلَى كُفْرٍ، وَلَا مِنْ كُفْرٍ إِلَى إِيمَانٍ إِذْ تَبْدِيلُ ذَلِكَ مَوْجُودٌ وَمَا وَقَعَ فَهُوَ الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ لَا يَقَعُ خِلَافُ مَعْلُومِهِ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ التَّبْدِيلُ كَانَ هُوَ الَّذِي عَلِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا "، فَالْمُرَادُ بِهِ كُتِبَ وَخُتِمَ، وَلَفْظُ الطَّبْعِ لَمَّا كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الطَّبِيعَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْجِبِلَّةِ وَالْخَلِيقَةِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ.
وَهَذَا الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا مُطْلَقًا، وَسُمِّيَ " غُلَامًا " لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْبُلُوغِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا عَاقِلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" وَلَوْ أَدْرَكَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ "، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ إِذِ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ فِي التَّكْلِيفِ إِنَّمَا عِلْمٌ بِشَرِيعَتِنَا، وَلَا يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ الْمُرَاهِقِ الْعَاقِلِ عَقْلًا، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُمَيِّزِينَ يُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الِاحْتِلَامِ؟ كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.
وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِشَرَائِعِهِ، فَكُفْرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا ارْتَدَّ عِنْدَهُمْ صَارَ مُرْتَدًّا لَهُ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَثْبُتُ عَلَيْهِ كُفْرُهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى كُفْرِهِ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ بَالِغًا فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا غَيْرَ بَالِغٍ فَقَتْلُهُ جَائِزٌ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، كَيْفَ وَهُوَ إِنَّمَا قَتَلَهُ دَفْعًا لِصَوْلِهِ عَلَى أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ؟ كَمَا قَالَ:{فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] ، وَالصَّبِيُّ لَوْ صَالَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي بَدَنِهِ، أَوْ مَالِهِ وَلَمْ يَنْدَفِعْ صِيَالُهُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ، بَلِ الصَّبِيُّ إِذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الصَّبِيَّ الْيَوْمَ يَصُولُ عَلَى أَبَوَيْهِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فِي دِينِهِمَا حَتَّى يَفْتِنَهُمَا عَنْهُ؟ فَإِنَّ هَذَا غَيْبٌ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَلِهَذَا عَلَّقَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفُتْيَا بِهِ فَقَالَ لِنَجْدَةَ لَمَّا اسْتَفْتَاهُ فِي قَتْلِ الْغِلْمَانِ:
" إِنْ عَلِمْتَ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ، وَإِلَّا فَلَا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ".
وَلَكِنْ يُقَالُ: قَاعِدَةُ الشَّرْعِ، وَالْجَزَاءِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَاقِبُ الْعِبَادَ بِمَا سَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ، بَلْ لَا يُعَاقِبُهُمْ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِهِمْ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ شَيْءٌ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنَّمَا فِيهَا عِلْمُهُ بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي أَحْكَامَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ مُوسَى تِلْكَ الْأَسْبَابَ مَثْلَ: عِلْمِهِ بِأَنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِمَسَاكِينَ، وَأَنَّ وَرَاءَهُمْ مَلِكًا ظَالِمًا إِنْ رَآهَا أَخَذَهَا فَكَانَ قَلْعُ لَوْحٍ مِنْهَا لِتَسْلَمَ جَمِيعُهَا، ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ مِنْ دَفْعِ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا، وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا رَأَى إِنْسَانٌ ظَالِمًا يَسْتَأْصِلُ مَالَ مُسْلِمٍ غَائِبٍ فَدَفَعَهُ عَنْهُ بِبَعْضِهِ كَانَ مُحْسِنًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا دَفَعَهُ إِلَى الظَّالِمِ قَطْعًا، فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى حَيَوَانًا مَأْكُولًا لِغَيْرِهِ يَمُوتُ، فَذَكَّاهُ لَكَانَ مُحْسِنًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، كَذَلِكَ كَوْنُ الْجِدَارِ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وَأَبُوهُمَا كَانَ صَالِحًا، أَمْرٌ يَعْلَمُهُ النَّاسُ، وَلَكِنْ خَفِيَ عَلَى مُوسَى، وَكَذَلِكَ كُفْرُ الصَّبِيِّ يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ حَتَّى أَبَوَاهُ، وَلَكِنْ لِحُبِّهِمَا إِيَّاهُ لَا يُنْكِرَانِ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ كُفْرِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ لَمْ يَكْفُرْ أَصْلًا، وَلَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ يَكْفُرُ وَأَطْلَعَ اللَّهُ الْخَضِرَ عَلَى ذَلِكَ.