الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَجَابَ آخَرُونَ بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ: وَهُوَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْكَافِرِ، فَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَطَلَ الْإِلْزَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ]
166 -
فَصْلٌ
[ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ] .
وَأَمَّا تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ كَمَا لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ: وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَتْبَاعِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: بَلْ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، دُونَ الْعَكْسِ، وَهَذَا قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ. قَالُوا: نَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَنَا، كَمَا نَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ نِسَاءَنَا.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْمِيرَاثَ: عُمْدَتُهُمُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» ". وَهُوَ عُمْدَةٌ مِنْ مَنْعِ مِيرَاثِ الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ، وَمِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجْرِي الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرِثُونَ
وَيُورَثُونَ. وَقَدْ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِنِفَاقِهِمْ، وَنُهِيَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَوَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: كَمَا وَرِثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنُهُ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرِكَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ شَيْئًا، وَلَا جَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيْئًا، بَلْ أَعْطَاهُ لِوَرَثَتِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِيَقِينٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمِيرَاثَ مَدَارُهُ عَلَى النُّصْرَةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى إِيمَانِ الْقُلُوبِ، وَالْمُوَالَاةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظَّاهِرِ يَنْصُرُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْعَلُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَالْمِيرَاثُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى إِيمَانِ الْقُلُوبِ، وَالْمُوَالَاةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظَّاهِرِ يَنْصُرُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْعَلُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَالْمِيرَاثُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَالْمَعْرُوفُ عَنِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ مَالَهُ
لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَلَمْ يُدْخِلُوهُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» ". وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مُعَاذٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا: يَقُولُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» " الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ لَا الْمُنَافِقُ، وَلَا الْمُرْتَدُّ، وَلَا الذِّمِّيُّ: فَإِنَّ لَفْظَ " الْكَافِرِ " - وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ - فَقَدْ يَأْتِي لَفْظُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] ، فَهُنَا لَمْ يَدْخُلِ الْمُنَافِقُونَ فِي لَفْظِ " الْكَافِرِينَ "، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ، فَالْفُقَهَاءُ لَا يُدْخِلُونَهُ فِي لَفْظِ " الْكَافِرِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ لَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
وَقَدْ حَمَلَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» "، عَلَى الْحَرْبِيِّ دُونَ الذِّمِّيِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ:" «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» " عَلَى الْحَرْبِيِّ أَوْلَى، وَأَقْرَبُ مَحْمَلًا، فَإِنَّ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ خَوْفُ أَنْ يَمُوتَ أَقَارِبُهُمْ، وَلَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَا يَرِثُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا.
وَقَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَفَاهَا، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ إِسْلَامَهُ لَا يُسْقِطُ مِيرَاثَهُ ضَعُفَ الْمَانِعُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَصَارَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ قَوِيَّةً، وَهَذَا
وَحْدَهُ كَافٍ فِي التَّخْصِيصِ، وَهُمْ يَخُصُّونَ الْعُمُومَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ يَشْهَدُ لَهَا الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتُهَا أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، فَإِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِنَّمَا يَنْصُرُهُمْ، وَيُقَاتِلُ عَنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَفْتَدُونَ أَسْرَاهُمْ، وَالْمِيرَاثُ يُسْتَحَقُّ بِالنُّصْرَةِ، فَيَرِثُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمْ لَا يَنْصُرُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَرِثُونَهُمْ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمِيرَاثِ لَيْسَ هُوَ بِمُوَالَاةِ الْقُلُوبِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِيهِ كَانَ الْمُنَافِقُونَ لَا يَرِثُونَ، وَلَا يُورَثُونَ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ وَيُورَثُونَ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَّا هُوَ فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ وَمَاتَ مُرْتَدًّا لَمْ يَرِثْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَاصِرًا لَهُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ وَالْمُرْتَدَّ إِذَا أَسْلَمَا قَبْلَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، وَرِثَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْأَصْلَ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي الرَّقِيقِ إِذَا كَانَ ابْنًا لِلْمَيِّتِ:" أَنَّهُ يُشْتَرَى مِنَ التَّرِكَةِ وَيَرِثُ! ".
قَالَ شَيْخُنَا: " وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الذِّمِّيَّ، وَلَا يَرِثُهُ الذِّمِّيُّ، أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِرْثِ بِالْمُنَاصَرَةِ، وَالْمَانِعَ هُوَ الْمُحَارَبَةُ. وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ
الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَرِثُ الْحَرْبِيَّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الدِّيَةِ:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فَالْمَقْتُولُ - إِنْ كَانَ مُسْلِمًا - فَدِيَتُهُ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيثَاقِ فَدِيَتُهُ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ عَدُوٌّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسُوا بِمُعَاهَدِينَ، فَلَا يُعْطَوْنَ دِيَتَهُ، وَلَوْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَأُعْطُوا الدِّيَةَ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ إِيمَانٌ وَلَا أَمَانٌ، وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَرِثَهُ عَقِيلٌ دُونَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ، مَعَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:" «أَلَا تَنْزِلُ فِي دَارِكَ؟ " فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ؟ " وَذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ عَقِيلٍ عَلَى رِبَاعِ بَنِي هَاشِمٍ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ هُوَ لِأَجْلِ مِيرَاثِهِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ دَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَتْ لَهُ، الَّتِي وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ، وَدَارَهُ الَّتِي كَانَتْ لِخَدِيجَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي طَالِبٍ، فَاسْتَوْلَى عَلَى رِبَاعِ بَنِي هَاشِمٍ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْإِرْثِ، بَلْ كَمَا اسْتَوْلَى سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى دِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، كَمَا اسْتَوْلَى أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى دَارِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ دَارًا عَظِيمَةً، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ - لَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ - مَنْ
كَانَ لَهُ قَرِيبٌ أَوْ حَلِيفٌ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» "، وَلَمْ يَرُدَّ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ دُورَهُمُ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، بَلْ قَالَ:" «هَذِهِ أُخِذَتْ فِي اللَّهِ، أُجُورُهُمْ فِيهَا عَلَى اللَّهِ» "، وَقَالَ لِابْنِ جَحْشٍ:" «أَلَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُهَا فِي الْجَنَّةِ» ؟ ! "
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْتَظِرُونَ مَا يَأْمُرُ بِهِ فِي دَارِ ابْنِ جَحْشٍ، فَإِنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ طَلَبُوا هُمْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَعَ عُثْمَانَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ، فَسَكَتَ وَسَكَتَ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قِيلَ لَهُ:«أَلَا تَنْزِلُ فِي دَارِكَ؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» ؟ ! "
قَالَ الشَّيْخُ: " وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ مَسَائِلَ:
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:] فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَاعَهَا. قُلْتُ: الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا احْتَجَّ بِإِضَافَةِ الدَّارِ إِلَيْهِ، بِقَوْلِهِ " فِي دَارِكَ " وَأَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [آل عمران: 195]، وَالْمُنَازِعُونَ لَهُ يَقُولُونَ: الْإِضَافَةُ قَدْ تَصِحُّ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَهِيَ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ لَا إِضَافَةُ مِلْكٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ النَّاسَ فِي الْحَرَمِ سَوَاءً، الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْ تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَهُ عَقِيبَ هَذَا الْقَوْلِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَعْضِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَى بَعْضِهَا بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى نَفْسِ مِلْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَارِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ، فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ:«أَلَا تَنْزِلُ فِي دَارِكَ؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» ؟ "
يَقُولُ: هُوَ أَخَذَ دَارِي وَدَارَ غَيْرِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.
وَكَانَ عَقِيلٌ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، بَلْ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَكَانَ حَمْزَةُ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيٌّ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعْفَرٌ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَاسْتَوْلَى عَقِيلٌ عَلَى رِبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رِبَاعِ آلِ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَمَا رِبَاعُ الْعَبَّاسِ فَالْعَبَّاسُ كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ بِمَكَّةَ ابْنُهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَابْنُهُ رَبِيعَةُ.
وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا عَقِيلٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ فَاسْتَوْلَى عَقِيلٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا ; فَلِهَذَا قَالَ: " «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا
عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ؟ " وَإِلَّا فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَأْخُذُ مِلْكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَارِثَهُ لَوْ كَانَ يُوَرَّثُ؟
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُحَارِبِينَ إِذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَتْ لَهُمْ، وَلَمْ تُرَدَّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا أُخِذَتْ فِي اللَّهِ، وَأُجُورُهُمْ فِيهَا عَلَى اللَّهِ لِمَا أَتْلَفَهُ الْكُفَّارُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، فَالشُّهَدَاءُ لَا يُضْمَنُونَ، وَلَوْ أَسْلَمَ قَاتِلُ الشَّهِيدِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَرَفَ مَنْ قَتَلُوهُ مِثْلَ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَمِثْلَ قَاتِلِ النُّعْمَانِ بْنِ قَوْقَلٍ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يَطْلُبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا بِشَيْءٍ عَمَلًا بِقَوْلِهِ:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ: قَدْ أَسْلَمَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ بَعْدَ رِدَّتِهِ، وَقَدْ قَتَلَ عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، فَلَمْ يُضَمِّنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ لَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ، وَالْمُحَارِبُونَ لَمَّا عَادُوا إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُضَمِّنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يَنْصُرُونَ الضَّمَانَ، وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، وَأَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَالْمُحَارِبِينَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ مِنَ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ، فَإِنَّ فِيهِنَّ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالصَّوَابُ فِيهِمْ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَالْمُقْتَتِلِينَ " بِالْجَمَلِ "
" وَصِفِّينَ " لَا يُضَمَّنُونَ مَا أَتْلَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِتَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: " وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ جُرْحٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ، أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ. " يَعْنِي: لَمَّا كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي التَّأْوِيلِ كَالْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ، وَيُؤَاخَذُ كَالطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً لَا عَلَى حَقٍّ: فَهَؤُلَاءِ تَضْمَنُ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْهُ عَلَى الْأُخْرَى، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] .
وَالْمُحَارِبُونَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْعَالِمُونَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ يَضْمَنُونَ، وَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ كَمَا تَسْقُطُ عَنِ الْكُفَّارِ الْمُمْتَنِعِينَ إِذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَهَلْ يُعَاقَبُونَ بِحُدُودِ الْآدَمِيِّينَ مِثْلَ أَنْ يُقْتَلَ أَحَدُهُمْ قِصَاصًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: قِيلَ: يُؤْخَذُونَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقَوَدِ، وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُونَ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ يُؤْخَذُ بِلَا نِزَاعٍ.
وَمَا أَتْلَفُوهُ هَلْ يَضْمَنُونَهُ مَعَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ، كَالسَّارِقِ فَإِنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَعَهُ الْمَالُ أُخِذَ سَوَاءٌ قُطِعَتْ يَدُهُ، أَوْ لَمْ تُقْطَعْ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتْلَفَهُ، فَهَلْ يَغْرَمُ مَعَ الْقَطْعِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، قِيلَ: يَغْرَمُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: لَا يَغْرَمُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَغْرَمُ مَعَ الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ كَقَوْلِ مَالِكٍ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُحَارِبِينَ لَا يَرِثُونَ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا يُعْطَوْنَ دِيَتَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كُفَّارٌ وَالْكُفَّارُ لَا يَرِثُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا فِيمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، فَتَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْعِصْمَةُ الْمُوَرِّثَةُ دُونَ الْمُضَمِّنَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: بَلْ فِيمَنْ ظَنَّهُ الْقَاتِلُ كَافِرًا، وَكَانَ مَأْمُورًا بِقَتْلِهِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الدِّيَةُ لِذَلِكَ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَهَؤُلَاءِ يَخُصُّونَ الْآيَةَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ، وَأُولَئِكَ يَخُصُّونَهَا بِمَنْ أَسْلَمَ، وَلَمْ يُهَاجِرْ. وَالْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِ إِذَا قَتَلَ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ:{مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]، وَلَمْ يَقُلْ:(مِنْ عَدُوِّكُمْ) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ خَطَأً كَمَنْ رَمَى عِرْضًا، فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لِأَنَّ أَهْلَهُ لَا يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ، وَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَلَا بَيْتُ الْمَالِ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَرِثُونَ مِثْلَ هَذَا الْمُسْلِمِ، كَمَا قَالَ:" «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» " لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَالْمُنَاصَرَةُ بَيْنَهُمْ مُنْقَطِعَةٌ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمِيرَاثُ لَا يَكُونُ مَعَ الْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ مَعَ الْمُنَاصَرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَيْسُوا عَدُوًّا مُحَارِبًا، وَقَتِيلُهُمْ مَضْمُونٌ، فَإِذَا وَرِثَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ كَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ:" الْكَافِرُ " أُرِيدَ بِهِ الْكَافِرُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمُعَادِي الْمُحَارِبُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُ، وَلَا الْمُرْتَدُّ، وَلَا الذِّمِّيُّ. فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَرِثُ الْمُنَافِقَ لِكَوْنِهِ مُسَالِمًا لَهُ مُنَاصِرًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ، فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ، وَبَعْضُ الْمُنَافِقِينَ شَرٌّ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِالْمُوَالَاةِ، وَهُوَ أَحَدُ
الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: حَنْبَلٌ، وَأَبِي طَالِبٍ، وَالْمَرُّوذِيُّ، وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُسْلِمِ يُعْتِقُ الْعَبْدَ النَّصْرَانِيَّ، ثُمَّ يَمُوتُ الْعَتِيقُ: يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ".
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنَ التَّوْرِيثِ: لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ وَلَكِنْ لَا يَرِثُ بِهِ.
قَالَ الْمُوَرِّثُونَ: ثُبُوتُ الْوَلَاءِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ، وَالْمِيرَاثُ مِنْ حُكْمِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ، أَوْ أَمَتَهُ» ".
قَالُوا: وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَفْتَى بِهِ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه:" لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ أَوْ أَمَتَهُ ".
وَكَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
قَالَ الْمَانِعُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَبْدِ الْقِنُّ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَمَاتَ فَإِنَّ سَيِّدَهُ يَأْخُذُ مَالَهُ.
قَالَ الْمُوَرِّثُونَ: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْقِنَّ لَا مَالَ لَهُ فَيُورَثُ عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدَهُ فَأَعْتَقَهُ كَمَا حَمَلْتُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» "، وَقُلْتُمْ: مَعْنَاهُ الَّذِي كَانَ عَبْدَهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بِلَالٍ: " «أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ» ".
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ، لِوِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى أَمَتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْهُ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ لَنَسَبٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى نِعْمَةِ الْمُعْتِقِ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَكَمَالِهَا: فَأَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْمِيرَاثِ أَحَقُّهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ.
يُؤَكِّدُهُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلِهَذَا يَرِثُ بِهِ الْمَوْلَى الْمُعْتِقُ، دُونَ الْعَتِيقِ عِوَضًا عَنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِالْعِتْقِ.
قَالَ الْمَانِعُونَ: الْكُفْرُ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، فَلَمْ يَرِثْ بِهِ الْمُعْتِقُ، كَالْقَتْلِ.
قَالَ الْمُوَرِّثُونَ: الْقَاتِلُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، وَمُعَاقَبَةٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. وَهَاهُنَا عِلَّةُ الْمِيرَاثِ الْإِنْعَامُ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ لَا يَكُونُ مِنْ عِلَلِهِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ:
[الْأُولَى:] تَوْرِيثُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ قِسْمَتِهِ.
[الثَّانِيَةُ:] وَتَوْرِيثُ الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ الْكَافِرَ بِالْوَلَاءِ.
[الثَّالِثَةُ:] وَتَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ قَرِيبَهُ الذِّمِّيَّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ فَلَمْ يُعْلَمْ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِمَا نِزَاعٌ، بَلِ
الْمَنْقُولُ عَنْهُمُ التَّوْرِيثُ.
قَالَ شَيْخُنَا: " وَالتَّوْرِيثُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى وَفْقِ أُصُولِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ إِنْعَامٌ وَحَقٌّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ، وَحِفْظِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَفِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، فَالْمُسْلِمُونَ يَمْنَعُونَهُمْ، وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ، فَهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْمِيرَاثَ قَالُوا: مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ: وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، فَأَجَابَهُمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي تُوجِبُ الثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَعْظَمِ أَعْدَائِهِمْ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] .
فَوِلَايَةُ الْقُلُوبِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّنَاصُرِ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْصُرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فَيَرِثُونَهُمْ، وَلَا يَنْصُرُهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَرِثُونَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.