الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ تَرَكَهُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا رَسَمَهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَذَكَرَهُ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ، فِيهِ مِنَ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ نَحْوُ هَذَا.
قَالَ شَيْخُنَا: أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا» "، وَالطَّبْعُ الْكِتَابُ: أَيْ كُتِبَ كَافِرًا، كَمَا قَالَ:" «فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ، وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ» " وَلَيْسَ إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَهُ كَافِرًا يَقْتَضِي أَنَّهُ حِينَ الْوِلَادَةِ كَافِرٌ، بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكْفُرَ، وَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ التَّغْيِيرُ، كَمَا أَنَّ الْبَهِيمَةَ الَّتِي وُلِدَتْ جَمْعَاءَ وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهَا تُجْدَعُ كَتَبَ أَنَّهَا مَجْدُوعَةٌ بِجَدْعٍ يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ مَجْدُوعَةً.
[فَصْلٌ تَفْسِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْفِطْرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ]
186 -
فَصْلٌ
[تَفْسِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْفِطْرَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ] .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي أَجْوِبَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ
كَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ آخِرُ قَوْلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ صِبْيَانَ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا سُبُوا بِدُونِ الْأَبَوَيْنِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانُوا مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَهُمْ عَلَى دِينِهِمَا، وَإِنْ سُبُوا مَعَ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَكَانَ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي سَبْيِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إِذَا كَانُوا صِغَارًا، وَإِنْ كَانُوا مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " الْحَدِيثَ.
وَذَكَرَ نَصَّهُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ: " إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَبَوَاهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ ".
وَكَذَلِكَ نَقَلَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا مَاتَ أَبَوَاهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ:" «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ» ".
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْعَاقُولِيِّ فِي الْمَجُوسِيَّيْنِ يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ فَيَقُولَانِ: هَذَا مُسْلِمٌ، فَيَمْكُثُ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، قَالَ: يَدْفِنُهُ
الْمُسْلِمُونَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ» ".
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يَمُوتَانِ، وَيَدَعَانِ طِفْلًا، يَكُونُ مُسْلِمًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ "، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ، قُلْتُ: يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَتِهِ، يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إِنَّمَا يَصِيرُ كَافِرًا بِأَبَوَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْفِطْرَةُ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ بِعَدَمِ أَبَوَيْهِ يَصِيرُ مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ: أَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ الدِّينُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الْأُولَى.
فَهَذَا آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْفِطْرَةِ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّهَا مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ، وَالسَّعَادَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " مَا تَفْسِيرُهَا؟ قَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا شَقِيٌّ
أَوْ سَعِيدٌ.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَحَنْبَلٌ، وَأَبُو الْحَارِثِ: أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَيْهَا مِنَ الشِّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " قَالَ: عَلَى الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ كُلُّ مَا خَلَقَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ: كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ، يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لِدَفْعِ ذَلِكَ إِلَى الْأَصْلِ.
قُلْتُ: أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وَبِقَوْلِهِ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ - فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَلْقِ الْجَنِينِ:" «ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَعَمِلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» " وَبِقَوْلِهِ: " «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ
طُبِعَ كَافِرًا» " وَبِالْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ: "«الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَأَنَّ الشَّقَاوَةَ، وَالسَّعَادَةَ بِقَضَاءٍ سَابِقٍ وَقَدَرٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وُجُودِ الْعَبْدِ، وَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الطِّفْلِ قَدْ خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ دِينُ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ، وَالْعِلْمَ الْقَدِيمَ اقْتَضَى أَنْ تُهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابٌ تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْفِطْرَةِ، وَقَوْلُهُ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ الْخِلْقَةَ الَّتِي خَلَقَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ خُلُّوا وَنُفُوسَهُمْ لَكَانُوا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَخَلَقَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَغْيِيرَ لَهُ، وَإِنَّمَا التَّغْيِيرُ بِأَسْبَابٍ طَارِئَةٍ جَارِيَةٍ عَلَى الْخِلْقَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] ، فَغَايَتُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ الْكَافِرَ كَافِرًا، وَالْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، خَلَقَ لَهُمْ أَسْبَابًا أَخْرَجَتْ مَنْ أَخْرَجَتْهُ مِنْهُمْ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
كَمَا كَتَبَ عَلَيْكُمْ تَكُونُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ شَقِيًّا، وَسَعِيدًا.
وَقَالَ أَيْضًا: يَبْعَثُ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَالْكَافِرَ كَافِرًا.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَادُوا إِلَى عِلْمِهِ فِيهِمْ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] .
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ عِلْمِهِ، وَقَدَرِهِ السَّابِقِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَكَوْنُ هَذَا مُرَادَ الْآيَةُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعِيدُهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعَادِ بِالْبُدَاءَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ: بَدْؤُهُمْ وَإِعَادَتُهُمْ، وَهِدَايَةُ مَنْ هَدَى مِنْهُمْ وَإِضْلَالُ مَنْ أَضَلَّ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي شُرَكَائِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَمْرُ الْمَلَكِ " «بِكَتْبِ شَقَاوَةِ الْعَبْدِ وَسَعَادَتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» " وَقَوْلُهُ