الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَكَذَا لَفْظُ " الصُّلْحِ " عَامٌّ فِي كُلِّ صُلْحٍ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صُلْحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَصُلْحَهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَكِنْ صَارَ - فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ - " أَهْلُ الذِّمَّةِ " عِبَارَةً عَمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ ذِمَّةٌ مُؤَبَّدَةٌ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ، أَوْ غَيْرِ مَالٍ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَجْرِي عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَكِنْ عَلَيْهِمُ الْكَفُّ عَنْ مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْعَهْدَ، وَأَهْلَ الصُّلْحِ، وَأَهْلَ الْهُدْنَةِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَأْمِنُ فَهُوَ الَّذِي يَقْدَمُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: رُسُلٌ، وَتُجَّارٌ، وَمُسْتَجِيرُونَ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، فَإِنْ شَاءُوا دَخَلُوا فِيهِ، وَإِنْ شَاءُوا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَطَالِبُوا حَاجَةٍ مِنْ زِيَارَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ أَلَّا يُهَاجِرُوا، وَلَا يُقْتَلُوا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَأَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ مِنْهُمُ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، فَإِنْ دَخَلَ فِيهِ فَذَاكَ، وَإِنْ أَحَبَّ اللَّحَاقَ بِمَأْمَنِهِ أُلْحِقَ بِهِ، وَلَمْ يُعْرَضْ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ مَأْمَنُهُ عَادَ حَرْبِيًّا كَمَا كَانَ.
[فَصْلٌ هَلْ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ الْمُطْلَقَةُ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ]
168 -
فَصْلٌ
[هَلْ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ الْمُطْلَقَةُ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ] .
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ مَعَ الْكُفَّارِ عَقْدًا مُطْلَقًا لَا يُقَدِّرُهُ بِمُدَّةٍ، بَلْ يَقُولُ:" نَكُونُ عَلَى الْعَهْدِ مَا شِئْنَا "، وَمَنْ أَرَادَ فَسْخَ
الْعَقْدِ فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا أَعْلَمَ الْآخَرَ، وَلَمْ يَغْدِرِ بِهِ، " أَوْ يَقُولُ:" نُعَاهِدُكُمْ مَا شِئْنَا، وَنُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا؟ "
فَهَذَا فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَالْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَالشَّيْخِ فِي " الْمُغْنِي "، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ طَائِفَةٌ آخِرُهُمُ ابْنُ حَمْدَانَ.
وَالْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَازِمَةً بَلْ جَائِزَةً، فَإِنَّهُ جَوَّزَ لِلْإِمَامِ فَسْخَهَا مَتَى شَاءَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَسَطٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ: " «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» " بِأَنَّ الْمُرَادَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي إِقْرَارِكُمْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
قَالَ: وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً تَكُونُ لَازِمَةً مُؤَبَّدَةً كَالذِّمَّةِ، فَلَا تَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ الْهُدْنَةُ لَازِمَةً مُؤَبَّدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ الْغَدْرِ، وَالْوَفَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّوَابُ - أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقَةً وَمُؤَقَّتَةً، فَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً جَازَ أَنْ تُجْعَلَ لَازِمَةً، وَلَوْ جُعِلَتْ جَائِزَةً بِحَيْثُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ كَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُنْبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ.
وَيَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقَةً، وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَكُونَ لَازِمَةَ التَّأْبِيدِ، بَلْ مَتَى شَاءَ نَقَضَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ فِيهَا الْمَصْلَحَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي هَذَا وَهَذَا.
وَلِلْعَاقِدِ أَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ لَازِمًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ جَائِزًا يُمْكِنُ فَسْخُهُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ هَنَا مَانِعٌ، بَلْ هَذَا قَدْ يَكُونُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا عَقَدَ عَقْدًا إِلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَقَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ
فِي مُحَارَبَتِهِمْ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟
وَعَامَّةُ عُهُودِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ كَذَلِكَ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، جَائِزَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ، مِنْهَا عَهْدُهُ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ، مَعَ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ، وَصَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ سُكَّانَهَا كَانُوا هُمُ الْيَهُودَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُسْلِمٌ، وَلَمْ تَكُنْ بَعْدُ نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي " بَرَاءَةٌ " عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَخَيْبَرُ فُتِحَتْ قَبْلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سَبْعٍ. وَمَعَ هَذَا، فَالْيَهُودُ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْعَقَارَ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " «نُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا» "، أَوْ " «مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» ".
وَقَوْلُهُ: " «مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» " يُفَسِّرُهُ اللَّفْظُ الْآخَرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا مَتَى شِئْنَا أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهَا.
وَلِهَذَا أَمَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَنْفَذَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ كُلَّ ذِمَّةٍ عُقِدَتْ لِلْكُفَّارِ
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، يُقِرُّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُمْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ، لَهُ حَظٌّ مِنَ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» " أَرَادَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ إِقْرَارَكُمْ، وَقَدَّرَ ذَلِكَ وَقَضَى بِهِ، أَيْ: فَإِذَا قَدَّرَ إِخْرَاجَكُمْ، بِأَنْ يُرِيدَ إِخْرَاجَكُمْ فَنُخْرِجَكُمْ، لَمْ نَكُنْ ظَالِمِينَ لَكُمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا أُقِيمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا أَقَامَنِي. وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: " «مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» ": إِنَّا نُقِرُّكُمْ مَا أَبَاحَ اللَّهُ بِوَحْيٍ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٍ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْإِقْرَارَ الْمَقْضِيَّ كَمَا قَالَ:" مَا شِئْنَا ".
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَبَذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه عَامَ تِسْعٍ، فَنَبَذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ ذَلِكَ الْعَامَ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ أَبَا بَكْرٍ بِعَلِيٍّ رضي الله عنهما لِأَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ الْعُقُودَ وَيُحِلُّهَا إِلَّا الْمُطَاعُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ سُورَةُ بَرَاءَةٌ، فَقَالَ تَعَالَى:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 1 - 2] الْآيَاتِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَنْزَلَ الْبَرَاءَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ لَهُمْ سِيَاحَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي
قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحُرُمُ هِيَ الْحُرُمَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] .
قَالَ شَيْخُنَا: وَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ هِيَ تِلْكَ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ قَدْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا " «ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» " وَهَذِهِ لَيْسَتْ مُتَوَالِيَةً فَلَا يُقَالُ فِيهَا: " فَإِذَا انْسَلَخَتْ " فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا انْسَلَخَتْ بَقِيَ رَجَبٌ، فَإِذَا انْسَلَخَ رَجَبٌ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْحُرُمُ، فَلَيْسَ جَعْلُ هَذَا انْسِلَاخًا بِأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا:(انْسَلَخَ) إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَّصِلِ.
ثُمَّ إِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي تِلْكَ الْحُرُمِ مُبَاحٌ، فَكَيْفَ يَقُولُ: فَإِذَا انْسَلَخَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَدْ أَبَاحَ فِيهَا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ؟
وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ حَجَّةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَكَانَ حَجُّهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى الْعَادَةِ لِأَجْلِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَنْسَئُونَ فِيهَا
لِأَشْهُرٍ، وَإِنَّمَا اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى سَيَّرَ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَأْمَنُونَ فِيهَا، وَتِلْكَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ - وَهِيَ أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ - عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] .
وَهَذَا يُحْكَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ.
الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ آخِرُهَا الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ آخِرَهَا عَاشِرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه نَادَى بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ لَكُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ تَسِيحُونَ فِيهَا، وَيَوْمَ النَّحْرِ كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ بِالِاتِّفَاقِ عَاشِرَ ذِي الْقَعْدَةِ، فَانْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْسِئُونَ الْأَشْهُرَ، فَذُو الْقَعْدَةِ يَجْعَلُونَهُ مَوْضِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصَفَرٌ مَوْضِعَ الْمُحَرَّمِ، وَرَبِيعٌ الْأَوَّلُ مَوْضِعَ صَفَرٍ، وَرَبِيعٌ الْآخِرُ مَوْضِعَ الْأَوَّلِ، فَالَّذِي كَانُوا يَجْعَلُونَهُ ذَا الْحِجَّةِ هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَالَّذِي جَعَلُوهُ رَبِيعًا الْآخِرَ هُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَكَلَّمَ بِعِبَارَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
[الْأَوَّلُ:] أَهْلُ عَهْدٍ مُؤَقَّتٍ، لَهُمْ مُدَّةٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ لَمْ يَنْقُصُوا الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوا لَهُمْ، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدًا، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُوفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ.
[الثَّانِي:] قَوْمٌ لَهُمْ عُهُودٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَأَنْ يُؤَجِّلُوهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْمَذْكُورَةُ حَلَّتْ
لَهُمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ لَا عُهُودَ لَهُمْ، فَمَنِ اسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ أَمَّنَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ.
وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَظَنَّ أَنَّ الْعُهُودَ كُلَّهَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وَقَدِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَ نَبْذَ عَهْدِهِمْ إِلَيْهِمْ إِذَا خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً، فَإِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُمْ خِيَانَةً لَمْ يَجُزِ النُّبَذُ إِلَيْهِمْ، بَلْ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِمَنْطُوقِ تِلْكَ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: بَلِ الْعَهْدُ الْمُؤَقَّتُ لَازِمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ نَبَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَهْدَ إِلَى جَمِيعِ الْمُعَاهَدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، فَقَدْ حَرَّمَ
نَبْذَ عَهْدِ هَؤُلَاءِ، وَأَوْجَبَ إِتْمَامَ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ بِنَبْذِ الْعُهُودِ الْمُؤَقَّتَةِ؟ فَقَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْعَهْدَ الْمُطْلَقَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، كَقَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ نَبْذَ كُلِّ عَهْدٍ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا بِلَا سَبَبٍ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ، فَهَؤُلَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هُمُ الْمُسْتَثْنَوْنَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ كَانَ عَهْدُهُمْ مُطْلَقًا لَنَبَذَ إِلَيْهِمْ كَمَا نَبَذَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ كَافِّينَ عَنْ قِتَالِهِ، فَإِنَّهُ نَبَذَ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَجَّلٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْوَفَاءَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُهُودُهُمْ مُطْلَقَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ، كَالْمُشَارَكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَكَانَ عَهْدُهُمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ لَمْ يَبْقَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ جِهَادِهِمْ مَصْلَحَةٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ حَتَّى نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ لِئَلَّا يَكُونَ قِتَالُهُمْ قَبْلَ إِعْلَامِهِمْ غَدْرًا.
وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْجَائِزَ كَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ فَسْخِهِ فِي حَقِّ الْآخَرِ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْفَسْخِ، وَيَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ بِعَزْلِهِ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ أَمَانٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَلَا عَهْدٌ، فَأَمَّا أَرْبَابُ الْعُهُودِ فَهُمْ عَلَى عُهُودِهِمْ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِمْ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً: مَنْ لَهُ عَهْدٌ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ
عَهْدٌ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْعَهْدِ الْمُؤَقَّتِ يَصِيرُ لَهُمْ عَهْدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:" هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ أَجَلُّ لِمَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَّنَهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَمَانُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا أَمَانَ لَهُ فَهُوَ حَرْبِيٌّ "، فَبَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهَا لِأَصْحَابِ الْأَمَانِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ: هَلْ دَخَلَ فِيهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُهَدٌ أَصْلًا؟
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ أَنَّهَا " أَمَانٌ لِأَصْحَابِ الْعَهْدِ، فَمَنْ
كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا حُطَّ إِلَيْهَا، وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَقَلَّ مِنْهَا رُفِعَ إِلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ انْسِلَاخُ الْمُحَرَّمِ: خَمْسُونَ لَيْلَةً " فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمَيْنِ ضَعِيفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُرُمَ آخِرُهَا الْمُحَرَّمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ الْمُؤَجَّلِ الْمَحْدُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ.
وَالَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُؤَقَّتًا، وَالْوَفَاءَ وَاجِبٌ، حَارُوا فِي جَوَازِ الْبَرَاءَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَصَارُوا إِلَى مَا يَظْهَرُ فَسَادُهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَلَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى بَرَاءَةٍ وَلَا أَذَانٍ، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ صَالَحَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَكَتَمَ مَسِيرَهُ، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَكْتُمَ خَبَرَهُ عَنْهُمْ، وَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِخَبَرِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
مَا أَنْزَلَ، وَلَمْ يَفْجَأْ أَهْلَ مَكَّةَ إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجُنُودُ اللَّهِ قَدْ نَزَلُوا بِسَاحَتِهِمْ، وَهَذَا كَانَ عَامَ ثَمَانٍ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ ".
وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ رضي الله عنهما يُؤْذِنُ بِسُورَةِ " بَرَاءَةٌ "، فَنَبَذَ الْعُهُودَ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، لَمْ يَنْبِذْهَا إِلَى مَنْ نَقَضَ دُونَ مَنْ لَمْ يَنْقُضْ.
وَأَيْضًا، فَالْقُرْآنُ نَبَذَهَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَنْ كَانَ لَهُ مُدَّةٌ وَوَفَاءٌ، فَمَنْ كَانَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] ، فَجَعَلَ نَفْسَ الشِّرْكِ مَانِعًا مِنَ الْعَهْدِ إِلَّا الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ وَهُمْ بِهِ مُوفُونَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: بَلِ الْعَهْدُ الَّذِي أُمِرَ بِنَبْذِهِ إِنَّمَا هُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، وَقِتَالُهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. قَالُوا: وَهَذَا لَفْظُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْوَامٍ مِنْهُمْ عُهُودٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ لَهُمْ، وَإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِذَا لَمْ يَخْشَ غَدْرَهُمْ.
وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ جِدًّا: وَذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ حُكْمٌ أُنْزِلَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] : وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] .
وَأَيْضًا، فَمَنْعُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامٌّ فِيمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، وَالْبَرَاءَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُعَاهَدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، وَلَمْ يَقُلْ:(إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ) كَمَا قَالَ هُنَاكَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] .
وَأَيْضًا فَمَنْ لَهُ أَجَلٌ يُوَفَّى لَهُ إِلَى أَجَلِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَاهَدُوهُ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ يَسْتَقِيمُ لَهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَأَيْضًا فَالْمَنْعُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَانَ يُنَادِي بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَعْوَانُهُ عَلَيٌّ وَغَيْرُهُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، فَيُنَادُونَ يَوْمَ النَّحْرِ:" «لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ".
وَأَمَّا نَبْذُ الْعُهُودِ فَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْعَرَبِ.
وَأَيْضًا، فَالْأَمَانُ الَّذِي كَانَ لِحُجَّاجِ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ بِعَهْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَانٍ مِنْهُ، بَلْ كَانَ هَذَا دِينُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ، فَبِهَذِهِ الْآيَةِ مُنِعُوا، لَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ، وَقَدْ كَانَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2] ، فَنُهُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَاصِدِيهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ لَمَّا مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ مَنْ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ كَانَ مُحَرَّمًا بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] .
وَفِي نَسْخِهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ: فَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْسَخْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ إِذَنْ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخًا فَلَيْسَ فِي " الْبَرَاءَةِ " مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبَاحَتِ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنَّهَا النَّاسِخَةُ لِتَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا فِيهَا الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، كَانَ تَحْرِيمُهُ عَامًّا، فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ فِيهِ الْمُحَارِبُونَ وَآيَةُ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ، وَإِنَّمَا عَاهَدَهُمْ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الَّذِينَ تَبَرَّأَ إِلَيْهِمْ مَنْ عَاهَدَهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأُولَئِكَ لَا يُبَاحُ قِتَالُهُمْ لَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الَّذِي
أَبَاحَهُ إِنَّمَا هُوَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟
وَأَيْضًا، فَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فِي قَوْلِهِ:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] ، إِنْ كَانَتِ " الثَّلَاثَةَ وَرَجَبًا "، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِنْ كَانَتِ " الْأَرْبَعَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَامَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَآخِرُهَا رَبِيعٌ "، فَقَدْ حَرَّمَ فِيهَا قِتَالَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، وَأَبَاحَ قِتَالَهُمْ إِذَا انْقَضَتْ، فَلَوْ كَانَ إِنَّمَا أَبَاحَ قِتَالَ مَنْ كَانَ يُبَاحُ قِتَالُهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا عَهْدَ لَهُ، فَهَذَا مُحَارِبٌ مَحْضٌ لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْجِيلِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ قِتَالَهُ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ.
وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، إِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَ مَنْ نَبَذَ إِلَيْهِ الْعَهْدَ إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ، كَمَا قَالَ:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
فَلَوْ كَانَ قِتَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعُهُودَ مُبَاحًا فِي غَيْرِهَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي حِلِّهِ انْقِضَاءَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ قِتَالَهُمْ مُبَاحٌ إِذَا انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ مُبَاحًا، سَوَاءٌ انْقَضَتْ هَذِهِ أَوْ لَمْ تَنْقَضِ؟ وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّمُ قِتَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ لَا مُطْلَقًا.
فَهَذِهِ التَّكَلُّفَاتُ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا مِنْ تَحْرِيفِ الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهَا بَنَاهَا أَصْحَابُهَا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ لَا يَكُونُ عَهْدُهُمْ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى! وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَخِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ مَصْلَحَةِ
الْعَالَمِينَ.
فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِنَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ اللَّازِمِ، كَانَ فِي هَذَا إِقْرَارٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَوَافَقَتْهُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأُصُولُ الشَّرْعِ، وَمَصَالِحُ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.