الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَطْنِ أُمِّهِ؟ !
وَهَذَا قَوْلٌ تَكْثُرُ الدَّلَائِلُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ إِشَارَةً.
[فَصْلٌ الْفِطْرَةُ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ]
190 -
فَصْلٌ
[الْفِطْرَةُ خُلُوُّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ.]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَمْ يُرِدْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِكْرِ الْفِطْرَةِ هَاهُنَا كُفْرًا، وَلَا إِيمَانًا، وَلَا مَعْرِفَةً، وَلَا إِنْكَارًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى السَّلَامَةِ خِلْقَةً وَطَبْعًا، وَبِنْيَةً، وَلَيْسَ مَعَهُ كُفْرٌ، وَلَا إِيمَانٌ، وَلَا مَعْرِفَةٌ، وَلَا إِنْكَارٌ، ثُمَّ يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ أَوِ الْإِيمَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: " «كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ " - يَعْنِي سَالِمَةً - " هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» " يَعْنِي مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ، فَمَثَّلَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بِالْبَهَائِمِ، لِأَنَّهَا تُولَدُ كَامِلَةَ الْخَلْقِ لَا يُتَبَيَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ، ثُمَّ تُقْطَعُ آذَانُهَا بَعْدَ وَأُنُوفِهَا، فَيُقَالُ: هَذِهِ بِحَائِرُ، وَهَذِهِ سَوَائِبُ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ قُلُوبُ الْأَطْفَالِ فِي حِينِ وِلَادَتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ كُفْرٌ حِينَئِذٍ، وَلَا إِيمَانٌ، وَلَا مَعْرِفَةٌ، وَلَا إِنْكَارٌ، كَالْبَهَائِمِ السَّالِمَةِ، فَلَمَّا بَلَغُوا اسْتَهْوَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَكَفَّرُوا أَكْثَرَهُمْ، وَعَصَمَ اللَّهُ أَقَلَّهُمْ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْأَطْفَالُ قَدْ فُطِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِيَّةِ أَمْرِهِمْ مَا انْتَقَلُوا عَنْهُ أَبَدًا، وَقَدْ نَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ يَكْفُرُونَ، وَيَكْفُرُونَ، ثُمَّ يُؤْمِنُونَ.
قَالُوا: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الطِّفْلُ فِي حَالِ وِلَادَتِهِ يَعْقِلُ كُفْرًا، أَوْ إِيمَانًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُ فِي حَالٍ مَا يَفْقَهُ فِيهَا شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا اسْتَحَالَ مِنْهُ كُفْرٌ، أَوْ إِيمَانٌ، أَوْ مَعْرِفَةٌ، أَوْ إِنْكَارٌ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ الَّتِي يُولَدُ الْوِلْدَانُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلَامَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ:" «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ» " يَعْنِي عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَسَلَامَةٍ، وَكَأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَرَادَ الَّذِينَ خَلُصُوا مِنَ الْآفَاتِ كُلِّهَا، وَالْمَعَاصِي، وَالطَّاعَاتِ، فَلَا طَاعَةَ مِنْهُمْ، وَلَا مَعْصِيَةَ إِذْ لَمْ يَعْمَلُوا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وَ:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَقْتَ الْعَمَلِ لَمْ يَرِثْهُنَّ بِشَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذَا الْقَائِلُ إِنْ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا خَالِينَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْفِطْرَةُ تَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ كَاللَّوْحِ الَّذِي يَقْبَلُ كِتَابَةَ الْإِيمَانِ، وَكِتَابَةَ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ هُوَ لِأَحَدِهِمَا أَقْبَلَ مِنْهُ لِلْآخَرِ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ - فَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِنْكَارِ، وَالتَّهْوِيدِ، وَالتَّنْصِيرِ، وَالْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَأَبَوَاهُ يَجْعَلَانِهِ مُسْلِمًا وَيُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ. فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَبَوَيْهِ يُكَفِّرَانِهِ دُونَ الْإِسْلَامِ عُلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ غَيْرِ حُكْمِ الْكُفْرِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ سَلَامَةٌ وَلَا عَطَبٌ، وَلَا اسْتِقَامَةٌ وَلَا زَيْغٌ، إِذْ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْآخَرِ، كَمَا أَنَّ الْوَرَقَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ مَدْحٍ وَلَا حُكْمُ ذَمٍّ، وَالتُّرَابُ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا، أَوْ كَنِيسَةً لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَدْحًا، وَلَا ذَمًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] فَأَمَرَهُ بِلُزُومِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مَمْدُوحَةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَهَا بِالْبَهِيمَةِ الْمُجْتَمِعَةِ الْخَلْقِ، وَشَبَّهَ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفْرِ بِجَدْعِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالَ