المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط

- ‌رأي لجنة الفتوى في نقل الدم وزرع الأعضاء:

- ‌ تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده

- ‌تناول ما يؤخر العادة عنها من أجل مناسبة حج أو عمرة أو صيام رمضان

- ‌ لي أطفال وتوضيت وغسلت نجاسة أطفالي، هل ينقض الوضوء

- ‌ حلق لحيته من غير رضى منه

- ‌ غير اسم أبيه جهلا لمصلحة دنيوية

- ‌ هل الإنسان مسير أو مخير

- ‌ الدعوة الناجحة؟ ومن أين تستنبط

- ‌ حكم بغير ما أنزل الله

- ‌ يرغم الملتحي على حلق لحيته

- ‌ الصلاة وراء إمام غير ملتحي

- ‌ حلق اللحية

- ‌ هل اللحية من خصال التهلكة التي أهلك الله بها قوم لوط

- ‌ الصلاة خلف حالق اللحية

- ‌ حلق اللحية

- ‌ حكم النذر في الإسلام

- ‌ الحج بدون الصيام

- ‌ مس الجن الإنسان

- ‌ هل إذا اختلفت نية المأموم مع الإمام تجوز الصلاة

- ‌ الصلاة في المساجد التي فيها قبور

- ‌ تبول الإنسان واقفا

- ‌ التسبيح باليد اليسرى

- ‌ هل يعتد المأموم بالركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب

- ‌ الصلاة في الخفين وفي النعلين

- ‌ الحكم في إزالة المرأة لشعر جسمها

- ‌ الزكاة على ذهب المرأة

- ‌ التعليم في جامعات بعض الدول الإسلامية حيث يوجد بها من الفجور والفسق والكفر الكثير

- ‌ الصلاة وراء الديوث

- ‌ هل سحر الرسول صلى الله عليه وسلم وهل نفذ فيه السحر

- ‌ حلق اللحية

- ‌ فضيلة الصلاة والسلام على النبي

- ‌ الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها في كتاب الله وسنة رسوله

- ‌ الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها

- ‌ بذل الأموال في انتخاب الإمام لحصول منصب الإمامة

- ‌ الحضور إلى حفلة ترميد الموتى البوذيين

- ‌ دفن ولد كافر في مقابر المسلمين إذا أخذه المسلم متبنيا

- ‌لصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد في الركعة الثانية

- ‌ حلق اللحية والأخذ منها

- ‌ حكم الثوب الذي هو أطول من الكعبين

- ‌ حكم قراءة الجريدة داخل المسجد

- ‌ صبغ شعر اللحية والشارب

- ‌ لعب الورق إذا كان لا يلهي عن الصلاة

- ‌ استئجار من يدرس القرآن على نية الميت

- ‌ امرأة بها العادة الشهرية وطلب منها زوجها الجماع عن طريق الغصب

- ‌ الغلو في الحجاب

- ‌ مصافحة النساء القريبات وهن لسن محارم

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌أولا: أسئلة حول تربية اللحية

- ‌ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة

- ‌ حقيقة التصوف:

- ‌ موقف الصوفية من العبادة والدين:

- ‌معنى النفقة

- ‌أنواع النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير

- ‌الأسباب الموجبة لبعض تلك النفقات

- ‌الموضوع الأول: نفقة الأقارب

- ‌الفصل الأول: نفقة الفروع من الأولاد

- ‌النوع الأول: نفقة الأولاد الصغار

- ‌المبحث الأول: وجوب نفقة الولد الصغير على أبيه

- ‌المبحث الثاني: نفقة الأب على ابنه من اليسار والإعسار

- ‌المبحث الثالث: إرضاع الأم لولدها

- ‌المبحث الرابع: بذل الأجرة للمرضع ولدها بعصمة زوجها

- ‌المبحث الخامس: بذل الأجرة للمطلقة البائن

- ‌المبحث السادس: نفقة المرأة على أولادها

- ‌المبحث السابع: مشاركة الأب والأم أو غيرهما في نفقة الطفل

- ‌النوع الثاني: نفقة الأولاد الكبار

- ‌الفصل الثانينفقة الأصول

- ‌المبحث الأول: في وجوب نفقة الآباء والأمهات

- ‌المبحث الثاني: في وجوب نفقة الأجداد والجدات

- ‌المبحث الثالث: شرط وجوب نفقة الأصول

- ‌المبحث الرابع: كيفية وجوب نفقة الأصول بين الأولاد

- ‌الفصل الثالثنفقة القرابة من غير الفروع والأصول

- ‌مقدار النفقة الواجبة للقريب من غير الفروع والأصول

- ‌الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة

- ‌الموضوع الثالث: نفقة الرقيق

- ‌الموضوع الرابع: النفقة على البهائم والجمادات

- ‌الفصل الأول: في النفقة على البهائم

- ‌المبحث الأول: في وجوب الإنفاق عليها

- ‌المبحث الثاني: امتناع مالك البهائم من النفقة عليها

- ‌المبحث الثالث: امتناع المالك من الإجبار

- ‌الفصل الثاني: في النفقة على الجمادات

- ‌أحوال التربية الإسلامية في أمريكا

- ‌مقدمة

- ‌أحوالالتربية الإسلامية في أمريكا

- ‌لمحة تاريخية:

- ‌التربية الإسلامية في أمريكا

- ‌خلق الاستقامة في الإسلام:

- ‌خلق الإحسان في الإسلام:

- ‌أساليب المنصرين للوصول إلى أهدافهمفي المجتمعات الإسلامية المعاصرة

- ‌ثبت بأهم مصادر ومراجع البحث

- ‌الصوم والإفطار لرؤية الهلال

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط

موضوع العدد

نقل دم أو عضو أو جزئه

من إنسان إلى آخر

إعداد

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:

فبناء على ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الحادية عشرة المنعقدة بالطائف في شهر شوال عام 1397هـ من إعداد بحث في نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخر مشتمل على ما يلي: -

1 -

‌ هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط

؟ وعلى كلا التقديرين: هل يجوز له التصرف في نفسه، فيسمح بنقل عضو منها إلى جسم آخر، إذا كان ذلك لمصلحة غيره بدون ضرر على المتبرع؟

2 -

إذا قيل: يجوز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء ونحو ذلك، فهل يقاس عليه جواز نقل ما تتوقف عليه حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه مثل الكلية ونحوها بدون ضرر محقق يلحق المتبرع؟

3 -

إذا قيل: إن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا، فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة أخيه المسلم بدون ضرر يلحق المتبرع؟

ص: 17

4 -

هل يجوز نقل الدم من جسم إنسان إلى جسم آخر مع مراعاة عدم الضرر للجسم المنقول منه، وهل يثاب على ذلك؟

- بناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك على الترتيب فيما يلي:

الموضوع

أولا: هل الإنسان يملك نفسه أو نفسه ملك لله؟ وعلى كلا التقديرين هل يجوز له التصرف في نفسه بنقل عضو منه إلى جسم آخر إذا كان ذلك لمصلحة الغير بدون ضرر على المتبرع؟

ثبت في نصوص الكتاب والسنة ما هو صريح في أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه لا مالك له سواه، يتصرف فيه كيف يشاء ويحكم فيه بما يريد، قال الله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1){لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2).

وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3).

وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} (4).

إلى أن قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5).

وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6){سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (7).

(1) سورة الزمر الآية 62

(2)

سورة الزمر الآية 63

(3)

سورة آل عمران الآية 26

(4)

سورة الأنعام الآية 12

(5)

سورة الأنعام الآية 13

(6)

سورة المؤمنون الآية 84

(7)

سورة المؤمنون الآية 85

ص: 18

إلى قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1){سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3){مَلِكِ النَّاسِ} (4)، وقال:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (5)، وقال تعالى:{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (6){فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} (7).

وثبت في الأذكار النبوية الصحيحة المشهورة «أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته أن يقولوا في الحج وفي أدبار الصلوات المكتوبة وغير ذلك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (8)» . وثبت عنه في الأدعية «أنه علمهم أن يقولوا: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك (9)» . إلخ الدعاء. وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن (10)» . الحديث.

وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة رضي الله عنهم أن يقولوا في الإهلال بالحج أو العمرة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك (11)» . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلت على أن الله تعالى وحده رب كل شيء ومليكه المدبر له والحاكم فيه كونا وقدرا،

(1) سورة المؤمنون الآية 88

(2)

سورة المؤمنون الآية 89

(3)

سورة الناس الآية 1

(4)

سورة الناس الآية 2

(5)

سورة الرعد الآية 15

(6)

سورة النجم الآية 24

(7)

سورة النجم الآية 25

(8)

صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7292)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593)، سنن النسائي السهو (1341)، سنن أبو داود الصلاة (1505)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 245)، سنن الدارمي الصلاة (1349).

(9)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 391).

(10)

صحيح البخاري الجمعة (1120)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (769)، سنن الترمذي الدعوات (3418)، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1619)، سنن أبو داود الصلاة (771)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1355)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 308)، موطأ مالك النداء للصلاة (500)، سنن الدارمي الصلاة (1486).

(11)

صحيح البخاري اللباس (5915)، صحيح مسلم الحج (1184)، سنن النسائي مناسك الحج (2683)، سنن أبو داود المناسك (1747)، سنن ابن ماجه المناسك (3047)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 120).

ص: 19

وأمرا ونهيا، وقد أجمعت عليه الأمة وعلم من الدين بالضرورة فلا يحتاج إلى الإبانة عنه ولا إلى إقامة الدليل عليه.

لكن الله تعالى كرم بني آدم فسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا فضلا منه ورحمة، وجعل لهم العينين واللسان والشفتين وسائر ما يحتاجون إليه من الأعضاء لتحقيق مصالحهم ودفع الآفات والغوائل عن أنفسهم حكمة منه وعدلا، وشرع لهم الشرائع نورا وهدى؛ ليتبين لهم الحق من الباطل ويتميز الطيب من الخبيث إعذارا إليهم؛ لئلا يكون لأحد منهم حجة بعد البيان والبلاغ، فوجب عليهم أن يهتدوا بهداه ويتبعوا صراطه المستقيم، وأن يستغلوا ما آتاهم الله من الأعضاء وما سخر لهم من الكونيات فيما أحله لهم دون ما حرم عليهم؛ أدبا مع الله وشكرا لنعمه؛ ليحفظها لهم ويزيدهم من فضله، وتقييدا لها خشية أن تزول عنهم بعصيانهم من وهبها لهم، وقد أوجب الله عليهم المحافظة على أنفسهم وأعضائهم، وحرم عليهم الاعتداء عليها والإضرار بها. قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1)، وأوجب القصاص في النفس والأعضاء أو الدية حسب اختلاف أحوال الاعتداء، وحرم الانتحار، «وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (2)». الحديث. وقال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (3)» . إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم ذكرها في موضوع التشريح وموضوع نقل القرنية وما في معناها من الأدلة الدالة على وجوب المحافظة على حرمة المسلم ومن في حكمه حيا وميتا.

وإذا ثبت أن جميع بني آدم ملك لله حقيقة، وأنه تعالى أوجب عليهم المحافظة على أنفسهم وأعضائهم وحرم عليهم الإضرار بها اعتبر هذا

(1) سورة البقرة الآية 195

(2)

صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).

(3)

سنن أبو داود الجنائز (3207)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 105).

ص: 20

أصلا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل شرعي يقتضي الاستثناء منه الخروج عنه. ولم يثبت نص شرعي قولا أو فعلا أو تقريرا يبيح نقل عين أو قرنيتها أو عضو آخر من إنسان إلى غيره، أو يعطي الحق لإنسان أن يسمح بنقل ذلك منه إلى أخيه المسلم في حالة اختيار أو اضطرار، وغاية ما يرجع إليه الباحث في معرفة الحكم في ذلك مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية والقياس على النظائر.

أما القاعدة الكلية فهي ما تقدم في مبحث التشريح ونقل القرنية من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما تحقيقا لزيادة المنفعة، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألتنا داخلة في هذه القاعدة على كل حال؛ فإن مصلحة كل من الحي السليم والميت مسلما كان أم ذميا قد تعارضت مع مصلحة إنقاذ من أصيب في عضو من أعضائه مما أصابه وتيسير طريق انتفاعه وانتفاع الأمة به في نطاق أوسع علما وعملا في ميدان الحياة، وقد حث الشرع على تخليص النفوس من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، ولا شك أن في هذا مصلحة للمصاب أولا وجبرا لنقصه، ومصلحة الأمة ثانيا وسيرا مع ما قضت به سنة الله شرعا وقدرا، وإذا تعارضت مصلحتان نظر أيتهما أرجح ليبنى الحكم عليها منعا أو إباحة. وقد يقال بالنسبة لنقل عضو صحيح من حي أن مصلحة الحي الذي يراد نقل العضو منه أرجح؛ لأنه متيقن صلاحه والانتفاع به إذا أبقي في محله بشهادة الواقع ومشكوك أو مظنون صلاحه، والانتفاع به إذا نقل من إنسان لآخر.

وقد يصاب من أخذ منه العضو بخطر؛ لأن نجاح العملية في أخذه من الصحيح ونجاح زرعها في المصاب موقوف حسب الأسباب العادية على مهارة الطبيب في هذا الفن وملاءمة العضو لمن زرع فيه وخاضع لطول الفترة وقصرها بين أخذ العضو

ص: 21

وزرعه ولظروف من أجريت فيه العملية الجراحية وأحواله من حدوث مضاعفات وعدم حدوثها إلى غير هذا من الطوارئ التي قد تعرض لمن أخذ منه العضو أو من زرع فيه، فكان بقاؤه في مكانه أرجح وأضمن في تحقيق المصلحة والانتفاع به من زرعه من إنسان آخر. أما بالنسبة لعلم الله العواقب، وما جرى به قلمه سبحانه في كتابه، وبالنسبة لنفاذ مشيئته وعظيم قدرته فكل ذلك قريب، لا راجح ولا مرجوح، ولكن ذلك غيب، فلا تبنى على مثله الأحكام، إنما تبنى على ما جعله الله من الأسباب العادية مؤثرا في مسببه بقدرته سبحانه لا استقلالا منها بذلك. وأما بالنسبة لأخذ عضو من ميت سواء كان مسلما أم ذميا وسواء كان العضو عينا أم كلية أم نحوهما لزرعه في جسم مسلم حي إبقاء على حياته أو رغبة في نفعه وانتفاع الأمة به، فقد يقال: إنه جائز أو واجب إذا رجي نجاح عملية زرعه في الحي ولم تخش فتنة ولا حدوث خطر من جانب أهل الميت الذي يراد أخذ العضو منه إيثارا لحق الحي على الميت وإبقاء لحياة شخص أو تحقيقا لمنفعة عضو دون أن يترتب على ذلك فوات نفس أو منفعة لذلك العضو بالنسبة لمن أخذ منه، وليس ببعيد في النظر الاجتهادي أن تكون هذه المصلحة أرجح من مصلحة المحافظة على حرمة الميت، وأن تكون رعايتها في الحكم وبناؤه عليها أقوى وأولى.

أما قياس نقل عضو من إنسان حي تتوقف عليه حياته إلى إنسان آخر على الإيثار بماء مضطر إليه، فسيأتي الكلام عليه في القسم الثاني من البحث - إن شاء الله.

ثانيا: إذا قيل بجواز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء، فهل يقاس عليه الإيثار بنقل ما تتوقف عليه

ص: 22

حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه مثل الكلية أو العين بدون ضرر محقق يلحق المتبرع؟

تقدم في مبحث نقل قرنية العين ذكر نصوص من الكتاب والسنة الصحيحة في إثبات الإيثار المرغب فيه شرعا، وذكر نقول عن العلماء في ذلك أيضا يتبين منها ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وليس فيما ذكر ما يصلح دليلا على الإيثار بنقل عضو صحيح من مسلم أو ذمي حي إلى آخر، ولكن ذكر بعض علماء التفسير والسيرة والتاريخ منقبة في الإيثار لثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم أصيبوا في موقعة أجنادين أو اليرموك وجيء إلى أحدهم بماء فآثر به أخاه، فلما عرض على الثاني آثر به الثالث فما وصل إليه الماء حتى مات، فلما أعيد إلى الثاني وجد ميتا، ولما أعيد إلى الأول وجد ميتا أيضا. وفيما يلي نقول في تفصيل هذه القصة تمهيدا للحديث عن ثبوتها، وفي الاستدلال بالقياس على ما جاء في متنها من الإيثار على تقدير ثبوتها: -

قال القرطبي في تفسير سورة الحشر:

السابعة: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1)، في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2)، قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه

(1) سورة الحشر الآية 9

(2)

سورة الحشر الآية 9

ص: 23

مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل. فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقدموا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة (1)» . وفي رواية عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله (2)» . . . .

وساق الحديث بنحو الذي قبله. وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة، أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه. وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار - يقال له: أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وقيل: إن

(1) صحيح البخاري المناقب (3798)، صحيح مسلم الأشربة (2054)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304).

(2)

صحيح البخاري المناقب (3798)، صحيح مسلم الأشربة (2054)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304).

(3)

سورة الحشر الآية 9

(4)

سورة الحشر الآية 9

ص: 24

فاعل ذلك أبو طلحة.

وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم، وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحدا إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (2) الآية. وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: «إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا. فقال الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة. فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (3) الآية» . والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: «أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه (4)» . لفظ مسلم.

وقال الزهري: عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة كان أخا لأنس لأمه. وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا (5) لها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، أم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما

(1) سورة الحشر الآية 9

(2)

سورة الحشر الآية 9

(3)

سورة الحشر الآية 9

(4)

صحيح مسلم الجهاد والسير (1771).

(5)

العذاق: بكسر العين جمع عذق بفتحها ومعناها النخلات.

ص: 25

فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه (1)». خرجه مسلم أيضا.

الثامنة: الإيثار، هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف، أي: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها، حسب ما تقدم بيانه. وفي موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت - أو إنسان - ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنده. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقي شرح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى (شاة وكفنها) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا

(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2630)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1771).

ص: 26

سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.

وروى النسائي عن نافع، أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشتري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه. فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر فجاء المسكين فسأل فقال: أعطوه إياه. ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه.

وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن مالك الدار، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وبيت فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها وكان عشرة آلاف، وكان المنكدر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء. قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا

ص: 27

يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (1)، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك.

والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، وروي «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة. فرماه بها وقال: " يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقصد يتكفف الناس (2)». والله أعلم.

التاسعة: - والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة: "

الجود بالنفس أقصى غاية الجود

ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح «أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك. ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت» .

وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته. فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أن برجل يقول: آه آه. فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام

(1) سورة البقرة الآية 177

(2)

سنن أبو داود الزكاة (1673)، سنن الدارمي الزكاة (1659).

ص: 28

ابن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.

وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله، لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه.

العاشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر. فالخصاصة: الانفراد بالحاجة، أي: ولو كان بهم فاقة وحاجة، ومنه قول الشاعر:

أما الربيع إذا تكون خصاصة

عاش السقيم به وأثرى المقتر

وقال تقي الدين الفاسي المكي: (2) وذكر ابن عبد البر، أن عكرمة كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبوه، وكنى النبي صلى الله عليه وسلم أباه بأبي جهل وكان يكنى أبا الحكم، وكان عكرمة فارسا مشهورا أسلم وحسن إسلامه، وكان مجتهدا في قتال المشركين مع

(1) سورة الحشر الآية 9

(2)

ص 121 - 132 من ج 6 من العقد الثمين.

ص: 29

المسلمين، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج على هوازن بصدقتها، ووجهه أبو بكر إلى عمان، وكانوا ارتدوا فظهر عليهم. ثم وجهه أبو بكر إلى اليمن، وولى عمان حذافة القلعان. ثم لزم عكرمة الشام مجاهدا حتى قتل يوم اليرموك في خلافة عمر. هذا قول ابن إسحاق.

واختلف في ذلك قول الزبير بن بكار فقال: قتل يوم اليرموك شهيدا، وقال في موضع آخر: استشهد يوم أجنادين. وقيل: إنه قتل يوم مرج الصفر، وكانت أجنادين ومرج الصفر في عام واحد سنة ثلاث عشرة في آخر خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

وروى الزبير عن محمد بن الضحاك (1) بن عثمان عن أبيه: أن عكرمة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أن يستغفر له فاستغفر له. فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله. ثم اجتهد في العبادة حتى قتل في زمن عمر رضي الله عنه. وروى الزبير بسنده إلى الأعمش، عن أبي إسحاق نحوه، وقال: فلما كان يوم اليرموك نزل فترجل وقاتل قتالا شديدا فقتل، فوجد به بضع وسبعون من بين طعنة وضربة ورمية.

وقال الزبير (2): حدثني عمي (3) عن جدي عبد الله بن مصعب قال: استشهد يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه، كلما دفع إلى رجل منهم قال: اسق فلانا.

(1) هو الضحاك بن عثمان، صدوق، مات سنة 180 هـ.

(2)

هو ابن بكار.

(3)

هو مصعب بن عبد الله بن مصعب، ثقة.

ص: 30

حتى ماتوا ولم يشربوا. قال: طلب عكرمة الماء فنظر إلى سهيل ينظر إليه. فقال: ادفعه إليه. فنظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه فقال: ادفعه إليه. فلم يصل إليه حتى ماتوا كلهم رضي الله عنهم. وذكر هذا الحديث محمد بن سعد إلا أنه جعل مكان سهيل عياش بن أبي ربيعة، وذكر ابن سعد أنه ذكره للواقدي فقال: هذا وهم، روينا عن أصحابنا أهل العلم والسير، أن عكرمة بن أبي جهل قتل يوم أجنادين شهيدا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا خلاف بينهم في ذلك. انتهى.

وذكر الحسن بن عثمان الزيادي، أنه استشهد بأجنادين وهو ابن اثنتين وستين سنة) اهـ.

وقال تقي الدين الفاسي أيضا:

قال المدائني: قتل سهيل بن عمرو باليرموك. وقيل: بل مات في طاعون عمواس. وقال النووي: استشهد باليرموك، وقيل: بمرج الصفر، وذكر القول بوفاته في طاعون عمواس.

وقال أيضا: قال محمد بن عمر: وشهد الحارث بن هشام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل. قال: وقال أصحابنا: لم يزل الحارث بن هشام مقيما بمكة بعد أن أسلم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غير مغموص عليه في إسلامه، فلما جاء كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه يستنفر المسلمين إلى غزو الروم قدم الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة، فأتاهم في منازلهم فرحب بهم وسلم عليهم وسر بمكانهم، ثم خرجوا مع المسلمين غزاة إلى الشام. فشهد الحارث فحل وأجنادين ومات بالشام في طاعون عمواس. فتزوج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وهي أخت عبد الرحمن بن

ص: 31

الحارث، فكان عبد الرحمن يقول: ما رأيت ربيبا خيرا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقال أيضا: قال محمد بن سعد: عن محمد بن عمر الواقدي، حدثنا يزيد بن فراس عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقدم عليه سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل، فأرسل إلى كل واحد منهم بخمسة آلاف وفرس. قال الواقدي: هذا أغلط الأحاديث، إنما قدموا على أبي بكر وكان أول الناس ضرب خيمة في عسكر أبي بكر رضي الله عنه، فكيف يكون في خلافة عمر رضي الله عنه؟ هذا لا يعرف. وأما سهيل بن عمرو والحارث بن هشام فقد شهدا أجنادين، الحارث بن هشام يحمل راية المسلمين يوم أجنادين، فكيف يكون مع عمر رضي الله عنه، ومات بالشام في طاعون عمواس؟

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: عن أبي يونس القشيري، حدثني حبيب بن أبي ثابت، أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة ارتثوا يوم اليرموك فدعى الحارث بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة. فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش. فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاقوه. رواه محمد بن سعد عن الأنصاري. وقال في آخره: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فأنكره، وقال: هذا وهل، روايتنا

ص: 32

عن أصحابنا جميعا من أهل العلم والسير أن عكرمة بن أبي جهل قتل يوم أجنادين شهيدا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لا اختلاف بينهم في ذلك. وأما عياش بن أبي ربيعة فمات بمكة. وأما الحارث بن هشام فمات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وهكذا ذكر غير واحد في تاريخ وفاته. وقد روي أنه بقي إلى زمن عثمان رضي الله عنه. .) اهـ من ص 34 - 35 من جـ 4 من الدر الثمين.

وقال أيضا (1): عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، اختلف في تاريخ وفاته، فقيل: قتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما، وقيل: يوم اليرموك. قاله موسى بن عقبة. وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه. وقيل: مات بمكة. قاله أبو جعفر الطبري.

وقال ابن حجر (2) رحمه الله: قال ابن أبي خيثمة: مات سهيل بالطاعون سنة ثماني عشرة، ويقال: قتل باليرموك. وقال خليفة: بمرج الصفر، والأول أكثر، وأنه مات بالطاعون، وأخرجه ابن سعد بإسناد له إلى أبي سعد بن فضالة وكانت له صحبة، قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمرة في أهله (3)» . قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة. قال:. . فلم يزل مقيما بالشام حتى مات في طاعون عمواس.

(1) ص 452، 453 من جـ 6 من العقد الثمين

(2)

الإصابة في تمييز الصحابة جـ 3 ص 146، ص 147.

(3)

سنن الترمذي فضائل الجهاد (1650)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 524).

ص: 33

وقال ابن قتيبة:

وروى عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن حبيب بن أبي ثابت أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة جرحوا يوم اليرموك حتى انبتوا، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه. فنظر إليه عكرمة. فقال: ادفعه إلى عكرمة. فنظر إليه عياش. فقال عكرمة: ادفعه إلى عياش، فما وصل إلى عياش حتى مات. ولا عاد إليهم حتى ماتوا، فسمي هذا حديث الكرام.

وهذا عندي موضوع؛ لأن أهل السيرة يذكرون أن عكرمة قتل يوم أجنادين وعياش مات بمكة والحارث مات بالشام في طاعون عمواس. انتهى من عيون الأخبار جـ 1 ص 339 - 340.

وقال العلامة شمس الدين ابن مفلح المقدسي في تعليقه على حديث إكرام الأنصاري ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه الاحتيال والتلطف بإكرام الضيف على أحسن الوجوه، والحديث محمول على أنه لم يكن الأنصاري وأولاده في حاجة إلى الأكل بحيث يحصل الضرر بتركه وإلا لوجب تقديمهم شرعا على حق الضيف، وفيه الإيثار ممن لم يتضرر بأمور الدنيا (1).

(1) ص 194 ج 3 الآداب الشرعية.

ص: 34

قال الحافظ الهيثمي رحمه الله: (1).

وعن خبيب بن أبي ثابت، أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة أصيبوا يوم اليرموك فدعا الحارث بشراب فنظر إليه عكرمة فقال: ادفعوه إلى عكرمة. فدفع إليه فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش. فما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا جميعا وما ذاقوه. رواه الطبراني وخبيب لم يدرك اليرموك، وفي إسناده من لم أعرفه). اهـ.

وقال أيضا: (2).

وعن أنس بن مالك، «عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: سلك رجلان مفازة عابد والآخر به رهق، فعطش العابد حتى سقط، فجعل صاحبه ينظر إليه وهو صريع فقال: والله لئن مات هذا العبد الصالح عطشا ومعي ماء لا أصبت من مال الله خيرا، ولئن سقيته مائي لأموتن. فتوكل على الله وسقاه وعزم، فرش عليه من مائه وسقاه فضله، فقام فقطعا المفازة، فيوقف الذي به رهق للحساب فيؤمر به إلى النار فتسوقه الملائكة، فيرى العابد فيقول: يا فلان، أما تعرفني؟ فيقول: ومن أنت؟ قال: أنا فلان الذي آثرتك على نفسي يوم المفازة. فيقول: بلى، أعرفك، فيقول للملائكة: قفوا. فيقفوا، فيجيء حتى يقف فيدعو ربه عز وجل فيقول: يا رب، قد عرفت يده عندي وكيف آثرني على نفسه، يا رب، هبه لي. فيقول: هو لك. فيجيء فيأخذ بيد أخيه فيدخله الجنة». فقلت لأبي ظلال: أحدثك أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الطبراني في الأوسط، وأبو ظلال وثقه البخاري وابن حبان، وفيه كلام. اهـ.

(1) ص 213 من جـ 6 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.

(2)

ص 132 - 133 من جـ 3 من مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.

ص: 35

وقال ابن حجر رحمه الله: (1).

(خت ت) هلال بن أبي هلال، ويقال: ابن أبي مالك واسم أبيه ميمون، ويقال: سويد، ويقال: يزيد، ويقال: زيد، أبو ظلال القسملي البصري الأعمى، روى عن أنس بن مالك، وعن حماد بن سلمة، وعبد العزيز بن مسلم، وجعفر بن سليمان، وسلام بن مسكين، ومروان بن معاوية، ويحيى بن المتوكل، وشعيب بن بيان، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال معاوية بن صالح عن أبي معين: أبو ظلال اسمه هلال ليس بشيء. وقال الدوري عن ابن معين: أبو ظلال هو هلال القسملي، ضعيف ليس بشيء. وقال البخاري. . . مقارب الحديث. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فلم يرضه وغمزه. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات. وذكره ابن حبان في الثقات، قلت: إنما ذكر ابن حبان في الثقات هلال بن أبي هلال، ويروي عن أنس وعنه يحيى بن المتوكل، وأما أبو ظلال فقد ذكره في الضعفاء، فقال: شيخ مغفل لا يجوز الاحتجاج به بحال؛ يروي عن أنس ما ليس من حديثه. وقد فرق البخاري في التاريخ بينه وبين أبي ظلال، وكلام المزي يقتضي أنهما واحد؛ فلذلك ذكر يحيى بن المتوكل في الرواة عن أبي ظلال، وقال البخاري: أبو ظلال عنده مناكير. وقال يعقوب بن سفيان: لين الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: ضعيف. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال النسائي في الكنى: ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا مروان، ثنا أبو ظلال هلال القسملي وليس بشيء). اهـ.

(1) ج 11 من تهذيب التهذيب.

ص: 36

وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: (1)

(فصل) ومنها كمال صحبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه؛ ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، فإنه يجوز للرجل أن يؤثر أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب. لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكن يكره له السؤال ولا لذلك البذل ونظائره، ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها تفريجا لأخيه المسلم وتعظيما لقدره وإجابة له إلى ما سأله وترفيها له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بد تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزا، ولم يقل أنه قاتل لنفسه ولا أنه فعل محرما، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام

(1) ص 200 من جـ 2 من زاد المعاد.

(2)

سورة الحشر الآية 9

ص: 37

وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره ليحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها؟ وبالله التوفيق. اهـ.

مما تقدم يتبين ما يأتي:

أولا: أن قصة الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم الذين آثر بعضهم بعضا بالماء القليل حتى ماتوا ولم يشربوا، لم تثبت فيما نعلم حتى تكون نوعا من الإيثار المعتبر شرعا، وأصلا يقاس عليه غيره. فإن بعض العلماء ذكرها بلا إسناد كالقرطبي في تفسيره ولا حجة في نقل لا إسناد له.

وبعضهم رواها بإسناد غير متصل مع ما في بعض رواته من الطعن الذي لا يقبل معه نقله. وبيان ذلك: إن الزبير بن بكار رواها، عن عمه مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن جده، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت قال: استشهد يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه. . . إلى آخر القصة. وعبد الله بن مصعب بن ثابت ضعيف ومع ذلك لم يشهد واقعة اليرموك؛ فإنه ولد عام 111هـ، بل لم يدركها والده مصعب؛ لأنه ولد عام 84 هـ وواقعة اليرموك كانت عام 15 من الهجرة على الصحيح.

وروى القصة أيضا محمد بن سعد، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبي يونس القشيري، وهو حاتم بن أبي صغيرة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكرها أيضا ابن قتيبة، عن عبد الله بن

ص: 38

بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن حبيب بن أبي ثابت، أن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة جرحوا يوم اليرموك. . . إلى آخر القصة، وقد ذكر غير واحد أن حبيب بن أبي ثابت مدلس، وقال ابن حجر في التقريب: إنه ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس. اهـ، ولم يصرح بأنه شهد واقعة اليرموك، بل الغالب أنه لم يدركها؛ فإنه توفي عام 119هـ وكانت الواقعة عام 15هـ.

ثانيا: في متن القصة اختلاف في تعيين الثلاثة الذين آثر بعضهم بعضا بالماء، واضطراب في تاريخ وفاتهم ومكانه، وفي السبب الذي مات كل منهم به، وهذا مما يؤيد عدم صحة القصة، ولهذا حكم ابن قتيبة عليها بالوضع.

ثالثا: إنه على تقدير صحة هذه القصة سندا وسلامة متنها من الاضطراب لا يتعين فيها أن يكون كل آثر غيره بالماء القليل مع علمه أو غلبة ظنه أنه يموت بسبب هذا الإيثار؛ لاحتمال أن يكون آثر أخاه بالماء وهو يرجو لنفسه الحياة دون شربه، ويرى أخاه أحوج إليه منه، أو يكون قد غلب على ظنه بالأمارات أن الماء لا ينقذه من الموت؛ لأن الجراح قد أثبتته وأنفذت مقاتله، ورأى أن ينقذ أخاه حسب الأسباب العادية فآثره به على نفسه، ومع هذه الاحتمالات لا يتم الاستدلال بالقصة على المطلوب.

رابعا: ما ذكره القرطبي في تفسير سورة الحشر من سائر الأحاديث والآثار في بيان فضيلة الإيثار، وكذا ما ذكر بعده في ذلك لا يدل على جواز الإيثار بما يفضي إلى هلاك المؤثر أو إصابته بضرر أو

ص: 39

خطر فادح بل غايته أن يدل على إيثار من هو أحوج بشيء يصاب المؤثر من جرائه بجهد ومشقة اتقاء لأشد الضررين بأخفهما مع إمكانه استدراك ما فاته بالأخذ بالأسباب العادية من غذاء ونحوه.

خامسا: أن حفظ النفس والأعضاء من الضروريات الخمس، فلا يجوز لإنسان أن يؤثر غيره بشيء منها إلا إذا كان من الضروريات في مرتبة أعلى كحفظ الدين بالجهاد في سبيل الله مثلا.

ثالثا: إذا قيل أن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا، فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة أخيه المسلم من غير ضرر يلحقه؟

الجزء الذي يراد أخذه من جسد إنسان لزرعه فيه من أجل مصلحته أو لزرعه في جسم أخيه المسلم من أجل مصلحته قد يكون عضوا كالقلب والكلية والعين والرئة، أو جزء من عضو كالقرنية أو قطعة من اللحم أو العظم، والأول: لا يتصور في الإنسان الواحد أو يبعد فيه على الأقل، وعلى هذا لا يصح أن يعتبر أصلا يقاس عليه أخذ عضو من إنسان ليزرع في أخيه المسلم لمصلحة أخيه.

أما الثاني: وهو أخذ جزء من عضو إنسان لزرعه فيه بمكان آخر من جسمه، فهو محل نظر واجتهاد، فقد يقال: إنه جائز إذا كان هناك ضرورة أو شدة حاجة تدعو إلى هذه العملية، وأمن من الخطر في نقل الجزء وزرعه، وغلب على ظن الخبراء في هذا النوع من الطب نجاح زرعه في الجسم؛ لأن في ذلك تحقيق مصلحة في العضو الذي زرع فيه هذا الجزء ودفع خطر عنه أو عمن هو فيه

ص: 40

دون حدوث خطر في المحل المنقول منه أو مع حدوث ضرر فيه، لكنه مرجوح بالنسبة للخطر الذي دفع عن المحل المنقول إليه، وقد يزول ما حدث من الضرر عن المحل الذي نقل منه الجزء بنموه من تناول الأغذية ونحوها على مر الأيام، مثال ذلك أخذ جزء من عظم إنسان بمكان من الجسم لا خطر فيه لزرعه مكان عظم متهشم في مكان خطير أو أخذ جزء من لحم إنسان بمكان خفي لا خطر فيه لترقيع موضع آخر فيه؛ تجميلا له أو دفعا لخطر عنه، ففي هذا مراعاة لمقاصد الشريعة، وبناء على ما تقرر من القاعدة المعروفة من تقديم أقوى المصلحتين تحقيقا لزيادة المصلحة وارتكاب أخف الضررين تفاديا لأشدهما.

أما إذا كان ينشأ عن أخذ جزء من العضو خطر أو كان لا يرجى نجاح زرعه أو لم تكن هناك ضرورة أو حاجة، فلا يجوز هذا الإجراء لعدم المقتضى له أو لوجود المانع من الخروج عن الأصل، وهو وجوب المحافظة على النفس والأعضاء.

وعلى هذا يمكن أن يقال: إن أخذ جزء من عضو إنسان حي وزرعه على آخر مسلم يشبه أخذه من الإنسان وزرعه فيه نفسه، فيجري فيه التفصيل المتقدم في الحكم بالجواز عملا بقاعدة المصلحة المعروفة وتحقيقا لمعنى الإيثار فيما لا يعود على المؤثر منه خطر أو هلاك، بل مع إمكانه استدراك ما فقده بنماء المحل الذي أخذ منه الجزء.

وقد يقال: إن ذلك ممنوع لوجود الفارق بين ضرورة الإنسان أو حاجته إلى إجراء مثل هذه العملية لمصلحة نفسه وضرورة

ص: 41

إجرائها فيه لمصلحة غيره، فإنه على تقدير فوات المصلحة أو حصول خطر في صورة المقيس عليه لا يتعدى ذلك نفسا واحدة أو عضوا منها، وفي صورة المقيس قد يتعدى إلى نفسين أو عضوين كل منهما في شخص. وقد سبق ذكر فتوى في هذا الموضوع من فضيلة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله (1)، هذا بالنسبة لأخذ جزء عضو من إنسان حي معصوم النفس والأعضاء، أما بالنسبة لأخذ عضو أو جزئه من ميت مسلم أو ذمي فقد سبق بيانه في آخر القسم الأول من هذا البحث (2).

وقد سبق ذكر فتوى لفضيلة مفتي الديار المصرية - سابقا - الشيخ حسنين محمد مخلوف في مبحث نقل قرنية العين (3).

وسبق أيضا في ص 18 نقل من المغني لابن قدامة رحمه الله مع تلخيص له تحت عنوان مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه يعتبر أصلا في الموضوع. وللدكتور عبد الكريم زيدان كلمة في استعمال أعضاء الميت في معالجة الحي نذكرها فيما يلي:

قال الدكتور عبد الكريم زيدان:

(استعمال أعضاء الميت في معالجة الحي).

قد تكون هنا ضرورة لاستعمال أعضاء الميت في علاج المريض

(1) ص 19 من مبحث القرنية.

(2)

ص 4.

(3)

ص 16 - 18.

ص: 42

كترقيع قرنية بقرنية ميت حديث الوفاة أو بانتزاع أي جزء آخر من ميت واستعماله في علاج مريض يخشى عليه الهلاك أو تلف عضو من أعضائه، فهل يجوز ذلك لضرورة المرض أم لا؟

الظاهر لي الجواز قياسا على ما ذهب إليه فريق من الفقهاء من إباحة أكل الميت للمضطر في المخمصة؛ لأنه إذا جاز أكل الميت لضرورة الجوع جاز الانتفاع ببعض أجزائه لدفع الهلاك عن المريض أو عن جزء من أجزائه. وقد يقال هنا: إن إباحة أكل الميت للمضطر في المخمصة لكونه يدفع عنه الجوع يقينا، وليس الأمر كذلك في المعالجة باستعمال بعض أجزاء الميت، والجواب هو ما قلناه سابقا من أن غلبة الظن بالنجاة والشفاء تكفي. وقد يقال أيضا: إذا جاز استعمال أجزاء الميت لدفع الهلاك عن نفس المريض، فكيف يجوز لدفع تلف عضو من أعضائه؟

والجواب أن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعا لها كما قال الفقهاء، ولذلك كان التهديد بإتلاف عضو من الإنسان إكراها ملجئا، كتهديده بإتلاف نفسه ويبيح للمكره فعل المحظور.

هذا وإن ما استظهرته من إباحة استعمال أعضاء الميت في معالجة المريض يشترط فيه قيام حالة ضرورة المرض وعدم وجود مباح يقوم مقامه، وأن يغلب على الظن حصول الشفاء في غالب الظن على ما يقرره أهل الخبرة العدول.

وقد كتب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى عدة جهات علمية في الدول الإسلامية يطلب منها ما لديها من البحوث في حكم نقل عضو أو قرنية عين من إنسان وزرعه في آخر، فجاء الجواب من وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية بجمهورية الجزائر

ص: 43

بأن بعض الأطباء المسلمين في مستشفيات الجزائر سأل عن حكم الشرع في نقل الدم من صحيح إلى مريض، وفي نقل بعض أعضاء من إنسان وزرعها في إنسان آخر كالكلية والقلب والعين، فأجابت لجنة الفتوى عن ذلك، وفيما يلي ذكر ما ورد من ذلك: -

نص الفتوى التي أصدرتها لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر بتاريخ 6 من ربيع الأول عام 1392 هـ (20 إبريل 1972م) حول " نقل الدم وزرع الأعضاء ".

لقد كانت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية قد تلقت استفتاء واردا عليها من بعض الأطباء المسلمين يعملون في مستشفيات الدولة الجزائرية. ويسألون عن حكم الشرع في نقل الدم من صحيح إلى مريض، وفي زرع بعض الأعضاء كالكلية والقلب والعين (ترقيع القرنية). وبعض هذه الأعضاء قد تؤخذ من الحي وبعضها إنما تؤخذ من الميت.

وقد اجتمعت لجنة الفتوى وأحيل إليها الاستفتاء، واستدعت لحضور اجتماعها بعض الأطباء المسلمين الموثوق بعلمهم وخبرتهم المهنية الفنية، وبأمانتهم وديانتهم وتمسكهم بالتعاليم الدينية، وطلب منهم بيانات حول الموضوع.

وقد شرحوا أمام اللجنة فنيات هذه العمليات، وأن الدم ينقل من حي صحيح سليم الجسم من الأمراض إلى مريض في حاجة ملحة إلى الدم لنزيف حصل له، أو لتعسر غذائه، أو لعملية جراحية ضرورية لإنقاذه من خطر، خصوصا وأن العمليات الجراحية قد ينزف من جرائها جزء كبير

ص: 44