المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط

- ‌رأي لجنة الفتوى في نقل الدم وزرع الأعضاء:

- ‌ تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده

- ‌تناول ما يؤخر العادة عنها من أجل مناسبة حج أو عمرة أو صيام رمضان

- ‌ لي أطفال وتوضيت وغسلت نجاسة أطفالي، هل ينقض الوضوء

- ‌ حلق لحيته من غير رضى منه

- ‌ غير اسم أبيه جهلا لمصلحة دنيوية

- ‌ هل الإنسان مسير أو مخير

- ‌ الدعوة الناجحة؟ ومن أين تستنبط

- ‌ حكم بغير ما أنزل الله

- ‌ يرغم الملتحي على حلق لحيته

- ‌ الصلاة وراء إمام غير ملتحي

- ‌ حلق اللحية

- ‌ هل اللحية من خصال التهلكة التي أهلك الله بها قوم لوط

- ‌ الصلاة خلف حالق اللحية

- ‌ حلق اللحية

- ‌ حكم النذر في الإسلام

- ‌ الحج بدون الصيام

- ‌ مس الجن الإنسان

- ‌ هل إذا اختلفت نية المأموم مع الإمام تجوز الصلاة

- ‌ الصلاة في المساجد التي فيها قبور

- ‌ تبول الإنسان واقفا

- ‌ التسبيح باليد اليسرى

- ‌ هل يعتد المأموم بالركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب

- ‌ الصلاة في الخفين وفي النعلين

- ‌ الحكم في إزالة المرأة لشعر جسمها

- ‌ الزكاة على ذهب المرأة

- ‌ التعليم في جامعات بعض الدول الإسلامية حيث يوجد بها من الفجور والفسق والكفر الكثير

- ‌ الصلاة وراء الديوث

- ‌ هل سحر الرسول صلى الله عليه وسلم وهل نفذ فيه السحر

- ‌ حلق اللحية

- ‌ فضيلة الصلاة والسلام على النبي

- ‌ الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها في كتاب الله وسنة رسوله

- ‌ الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها

- ‌ بذل الأموال في انتخاب الإمام لحصول منصب الإمامة

- ‌ الحضور إلى حفلة ترميد الموتى البوذيين

- ‌ دفن ولد كافر في مقابر المسلمين إذا أخذه المسلم متبنيا

- ‌لصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد في الركعة الثانية

- ‌ حلق اللحية والأخذ منها

- ‌ حكم الثوب الذي هو أطول من الكعبين

- ‌ حكم قراءة الجريدة داخل المسجد

- ‌ صبغ شعر اللحية والشارب

- ‌ لعب الورق إذا كان لا يلهي عن الصلاة

- ‌ استئجار من يدرس القرآن على نية الميت

- ‌ امرأة بها العادة الشهرية وطلب منها زوجها الجماع عن طريق الغصب

- ‌ الغلو في الحجاب

- ‌ مصافحة النساء القريبات وهن لسن محارم

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌أولا: أسئلة حول تربية اللحية

- ‌ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة

- ‌ حقيقة التصوف:

- ‌ موقف الصوفية من العبادة والدين:

- ‌معنى النفقة

- ‌أنواع النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير

- ‌الأسباب الموجبة لبعض تلك النفقات

- ‌الموضوع الأول: نفقة الأقارب

- ‌الفصل الأول: نفقة الفروع من الأولاد

- ‌النوع الأول: نفقة الأولاد الصغار

- ‌المبحث الأول: وجوب نفقة الولد الصغير على أبيه

- ‌المبحث الثاني: نفقة الأب على ابنه من اليسار والإعسار

- ‌المبحث الثالث: إرضاع الأم لولدها

- ‌المبحث الرابع: بذل الأجرة للمرضع ولدها بعصمة زوجها

- ‌المبحث الخامس: بذل الأجرة للمطلقة البائن

- ‌المبحث السادس: نفقة المرأة على أولادها

- ‌المبحث السابع: مشاركة الأب والأم أو غيرهما في نفقة الطفل

- ‌النوع الثاني: نفقة الأولاد الكبار

- ‌الفصل الثانينفقة الأصول

- ‌المبحث الأول: في وجوب نفقة الآباء والأمهات

- ‌المبحث الثاني: في وجوب نفقة الأجداد والجدات

- ‌المبحث الثالث: شرط وجوب نفقة الأصول

- ‌المبحث الرابع: كيفية وجوب نفقة الأصول بين الأولاد

- ‌الفصل الثالثنفقة القرابة من غير الفروع والأصول

- ‌مقدار النفقة الواجبة للقريب من غير الفروع والأصول

- ‌الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة

- ‌الموضوع الثالث: نفقة الرقيق

- ‌الموضوع الرابع: النفقة على البهائم والجمادات

- ‌الفصل الأول: في النفقة على البهائم

- ‌المبحث الأول: في وجوب الإنفاق عليها

- ‌المبحث الثاني: امتناع مالك البهائم من النفقة عليها

- ‌المبحث الثالث: امتناع المالك من الإجبار

- ‌الفصل الثاني: في النفقة على الجمادات

- ‌أحوال التربية الإسلامية في أمريكا

- ‌مقدمة

- ‌أحوالالتربية الإسلامية في أمريكا

- ‌لمحة تاريخية:

- ‌التربية الإسلامية في أمريكا

- ‌خلق الاستقامة في الإسلام:

- ‌خلق الإحسان في الإسلام:

- ‌أساليب المنصرين للوصول إلى أهدافهمفي المجتمعات الإسلامية المعاصرة

- ‌ثبت بأهم مصادر ومراجع البحث

- ‌الصوم والإفطار لرؤية الهلال

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة

‌ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم، وفقه الله لكل خير آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: كتابكم المؤرخ بدون وصل وصلكم الله بهداه وهذا نصه؛ أرجو من فضيلتك إجابتي عن أهمية الغطاء على وجه المرأة، وهل هو واجب أوجبه الدين الإسلامي وإذا كان كذلك فما هو الدليل على ذلك إنني أسمع الكثير وأعتقد أن الغطاء عم استعماله في الجزيرة على عهد الأتراك ومنذ ذلك الوقت سار التشديد على استعماله حتى أصبح يراه الجميع أنه فرض على كل امرأة، كما قرأت أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة الراشدين كانت المرأة تشارك الرجل في الكثير من الأعمال كما تساعده في أيام الحروب فهل هذه الأشياء حقيقة أم أن فهمي غلط لا أساس له. إنني أنتظر الإجابة من فضيلتك لفهم الحقيقة وحذف ما هو مشوه. انتهى.

الجواب: الحجاب كان أول الإسلام غير مفروض على المرأة وكانت تبدي وجهها وكفيها عند الرجال، ثم شرع الله سبحانه الحجاب للمرأة وأوجب ذلك عليها صيانة لها وحماية لها من نظر الرجال الأجانب إليها وحسما لمادة الفتنة بها وذلك بعد نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1)

(1) سورة الأحزاب الآية 53

ص: 111

الآية، والآية المذكورة وإن كانت نزلت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد منها هن وغيرهن من النساء لعموم العلة المذكورة والمعنى، وذلك مثل قوله سبحانه في السورة نفسها:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1). الآية، فإن هذه الآية تعمهن وغيرهن بالإجماع، ومثل قوله عز وجل في سورة الأحزاب أيضا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) الآية، وأنزل الله في ذلك أيضا آيتين أخريين في سورة النور وهما قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3). الآية، والبعولة هم الأزواج، والزينة هي المحاسن والمفاتن والوجه أعظمها، وقوله سبحانه {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) المراد به الملابس في أصح قولي العلماء كما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لقوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} (5). الآية ووجه الدلالة من هذه الآية على وجوب تحجب النساء وهو ستر الوجه وجميع

(1) سورة الأحزاب الآية 33

(2)

سورة الأحزاب الآية 59

(3)

سورة النور الآية 31

(4)

سورة النور الآية 31

(5)

سورة النور الآية 60

ص: 112

البدن عن الرجال غير المحارم، أن الله سبحانه رفع الجناح عن القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وهن العجائز إذا كن غير متبرجات بزينة، فعلم بذلك أن الشابات يجب عليهن الحجاب وعليهن جناح في تركه، وهكذا العجائز المتبرجات بالزينة عليهن أن يتحجبن لأنهن فتنة، ثم إنه سبحانه أخبر في آخر الآية أن استعفاف القواعد غير المتبرجات خير لهن وما ذاك إلا لكونه أبعد لهن من الفتنة، وقد ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما ما يدل على وجوب ستر المرأة وجهها عن غير المحارم ولو كانت في حال الإحرام كما ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما ما يدل على وجوب ستر المرأة وجهها عن غير المحارم ولو كانت في حال الإحرام كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أن كشف الوجه للمرأة كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب وبذلك تعلم أن حجاب المرأة أمر قديم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد فرضه الله سبحانه، وليس من عمل الأتراك، أما مشاركة النساء للرجال في كثير من الأعمال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كعلاج الجرحى وسقيهم في حال الجهاد ونحو ذلك فهو صحيح مع التحجب والعفة والبعد عن أسباب الريبة كما «قالت أم سليم رضي الله عنها كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقى الجرحى ونحمل الماء ونداوي المرضى» ، هكذا كان عملهن لا عمل نساء اليوم في كثير من الأقطار التي يدعي أهلها الإسلام اللائي اختلطن بالرجال في مجالات الأعمال متبرجات متبذلات فآل الأمر تفشي الرذيلة، وتفكك الأسر وفساد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم وأن يوفقنا وإياك وسائر إخواننا للعلم النافع والعمل به إنه خير مسؤول.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،

ص: 113

ثالثا: تنبيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

حول محاورة نشرتها مجلة اقرأ بين أرسطو وأرسطوقان

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فقد اطلعت على كلمة نشرتها مجلة اقرأ في عددها (604) الصادرة في 22/ 5 / 1407 هـ عن محاورة بين أرسطوا وأرسطوقان. جاء فيها ما نصه " الطبيعة تخطئ والإنسان يصحح " وهذا الإطلاق منكر عظيم وكفر صريح. ومعلوم أن الفلاسفة لا يؤمنون بإله خالق مدبر له الكمال المطلق يفعل لحكمة ويترك لحكمة وهو منزه عن الخطأ في أفعاله وأقواله عز وجل ومن أجل عدم إيمانهن بالخالق العظيم الكامل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ينسبون الحوادث إلى الطبيعة وهذا من جهلهم وبعدهم عما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فالواجب عدم الاغترار بأقوالهم فيما يتعلق بالإلهيات والشرائع لجهلهم بها وعدم إيمانهم ولا شك أن ما يقع في العالم من أمراض وحوادث وتشويه خلقة أو غير ذلك كلها تقع بمشيئة الله سبحانه وله فيها الحكمة البالغة والحجة الدامغة وإن جهلها الخلق كما قال عز وجل {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1). وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2)

(1) سورة الأنعام الآية 83

(2)

سورة النساء الآية 11

ص: 114

وقال عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) وما ذاك إلا لكمال حكمته وعلمه تبارك اسمه وتقدس عن قول الظالمين والكافرين والجاهلين وتعالى علوا كبيرا. ولواجب النصح لله ولعباده جرى التنبيه، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

(1) سورة الأنبياء الآية 23

ص: 115

رابعا: إجابة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على أسئلة تقدمت بها جريدة عكاظ

س1: فضل الله سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك عن بقية الأشهر، ولياليه العشر الأخيرة عن ليالي العام وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

هل ليلة القدر محددة التاريخ أم أنها خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم؟

س2: ارتبط نزول القرآن الكريم بهذه الليلة المباركة. . وكتاب الله دستورنا الذي نهتدي بنهجه القويم. . هل ترى أن حالة التشتت والتمزق التي يعاني منها عالمنا الإسلامي في المرحلة الراهنة هو ابتعاده وعدم تمسكه بكتاب الله؟

س3: ما هي أمنيات سماحتكم في هذه الليلة المباركة على المستوى المحلي والعربي والإسلامي؟

ص: 115

ج1: ليلة القدر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأخيرة من رمضان وبين عليه الصلاة والسلام أن أوتار العشر آكد من أشفاعها فمن قامها جميعا أدرك ليلة القدر. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1)» والمعنى أن من قامها بالصلاة وسائر أنواع العبادة من قراءة ودعاء وصدقة وغير ذلك إيمانا بأن الله شرع ذلك واحتسابا للثواب عنده لا رياء ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.

وهذا عند جمهور أهل العلم مقيد باجتناب الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (2)» خرجه الإمام مسلم في صحيحه.

فنسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا في كل مكان بقيامها إيمانا واحتسابا إنه جواد كريم.

ج2: لا شك أن ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف ومصائب متنوعة، كل ذلك بأسباب ما كسبت أيديهم من الذنوب والمعاصي وأعظم ذلك عدم تحكيم الشريعة الإسلامية بين أكثر المسلمين. وعدم التزام قادتهم بذلك كما قال الله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3). فنسأل الله أن يوفق المسلمين حكاما وشعوبا للالتزام بشريعته والحكم بها والاستقامة على دينه قولا وعملا وعقيدة، وترك ما

(1) صحيح البخاري الصوم (1901)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760)، سنن الترمذي الصوم (683)، سنن النسائي الصيام (2202)، سنن أبو داود الصلاة (1372)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 241)، سنن الدارمي الصوم (1776).

(2)

صحيح مسلم الطهارة (233)، سنن الترمذي الصلاة (214)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 400).

(3)

سورة الشورى الآية 30

ص: 116

يخالف ذلك إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ج3 أمنيتي وأمنية كل مسلم بصير بدينه أن يوفق المسلمين للالتزام بشريعته قولا وعملا وأن يؤدوا ما فرض الله عليهم ويتركوا ما حرم الله عليهم، وأن يعتصموا بحبله جميعا وأن يكونوا متحابين في الله متعاونين على البر والتقوى وبذلك ينصرهم الله ويحفظهم من كل سوء. كما قال سبحانه:{وَالْعَصْرِ} (1){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3). وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5). وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (6). الآية.

والآيات في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يحقق للمسلمين وقادتهم كل ما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة إنه سميع قريب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1) سورة العصر الآية 1

(2)

سورة العصر الآية 2

(3)

سورة العصر الآية 3

(4)

سورة الحج الآية 40

(5)

سورة الحج الآية 41

(6)

سورة النور الآية 55

ص: 117

صفحة فارغة

ص: 118

موقف الشريعة الإسلامية

من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار

الشيخ /

عبد الله بن سليمان المنيع (1)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعده:

لا شك أن الالتزام بالحق سواء كان التزاما بدين نقدي أم بمال عيني كديون السلم أم بعمل كعقود المقاولات والإجارات الخاصة أو المشتركة أو بتوثيق كعقود الكفالات والضمان. إن الالتزام بالحق يعني تعلق ذلك الحق بذمة من التزم به سواء كان ذلك الملتزم شخصا اعتباريا أو شخصا طبيعيا. ولا شك أن الحق اللازم في الذمة قد تحدد بعقد الالتزام به قدره ونوعه وصفته وأجل الوفاء به إن كان له أجل، وأن توثيق الالتزام به يعني عقدا جرى التعهد بالالتزام به والوفاء بمقتضاه وبما نص عليه من شروط وقيود وتعهدات. وهذا يعني أن عقدا جرى تعيين الالتزام بما فيه بمقدار معين وصفة معينة فإن مقتضى العقد يوجب أن هذا الحق لا يجوز أن يتغير بزيادة ولا نقصان إلا باتفاق طرفيه طبقا للمقتضيات

(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع، صفحة 290

ص: 119

الشرعية إلا ما اقتضى إعطاؤه حكما شرعيا استثنائيا يتفق مع العدل ودفع الظلم وآثاره.

وهذا هو الأصل في العقود طبقا للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2){وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (3){وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} (4){فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (5) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (6) وقال تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (7).

وفي المنتقى عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (8)» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.

ولا شك أن عقود الالتزام عقود تراض مشتملة على شروط اتفقت إرادتا طرفي العقد على الأخذ بها وبما اشتملت عليه من شروط وقيود

(1) سورة المائدة الآية 1

(2)

سورة البقرة الآية 282

(3)

سورة البقرة الآية 282

(4)

سورة البقرة الآية 282

(5)

سورة البقرة الآية 283

(6)

سورة المؤمنون الآية 8

(7)

سورة الأنعام الآية 152

(8)

سنن أبو داود الأقضية (3594).

ص: 120

وتعهدات فلا يجوز تغييرها بزيادة أو نقص من إرادة منفردة إلا بما لا يضر الطرف الآخر.

بهذا يتضح أن الالتزام بالحق يعني ثباته نوعا وقدرا وصفة وأمدا وأن محاولة التدخل في تغيير الالتزام بدون إرادة طرفيه يعني ترتيب مظالم على الذمم المختصة بهذا الالتزام فالمنتفع بهذا التغيير ظالم والمتضرر به مظلوم ومحتوى الالتزام متغير إلى ما يمكن أن يعتبر من ضروب الربا أو من أكل المال بالباطل أو من القروض التي تجر نفعا.

توضيح ذلك أن الحق موضوع الالتزام إذا طرأ عليه من التقلبات الاقتصادية ما يعتبر جنسه مهيأ للزيادة أو النقص في وقت سداده مما يوجب الضرر لأحد طرفيه بذلك فإن هذا الضرر قد يكون أحد طرفي الالتزام سببا في حصوله على الطرف الآخر كمماطلته في الوفاء بهذا الالتزام حتى تغيرت الأسعار وترتب عليها الضرر، وقد لا يكون لأحد طرفيه سبب في ذلك إلا أن هناك جائحة قضائية من الله أو يكون الالتزام من طرف واحد لآخر كمن يغصب حقا لشخص طبيعي أو اعتباري فيتغير سعر مثل ذلك الحق بما يعتبر نقصا على المغصوب في وقت تسليم ذلك الحق المغتصب.

هذه الحالات الثلاث، للفقه الإسلامي نظر في ربط تغير الأسعار بالالتزام وسيأتي الحديث عن وجهة النظر في ذلك الربط.

أما ما عدا الحالات الثلاث فمنذ زاول الإنسان نشاطه الاقتصادي فإنتاجه عرضة للزيادة والنقصان تزيد قيم السلع باختلال ميزان العرض على الطلب بالنقص وتنقص قيمها بعكس ذلك، ومن عوامل هذه التغيرات الاقتصادية تنشأ الأرباح والخسائر ويتحقق ما وصفه صلى الله عليه وسلم من

ص: 121

أن التجارة غارات المؤمنين.

وبالاجتهاد في الأخذ بأسباب الأرباح وتجنب الخسائر دون الحركة الاقتصادية وبالتالي تتوفر وسائل أكثر لتحصيل العمل وتقليل البطالة وتوفير وسائل الحياة الأفضل.

ولهذا نجد الإسلام يضيق دائرة التعامل بالأثمان على سبيل المصارفة المتمثلة في بيع وشراء لما في حركتها والتحرك من حبس الأثمان التي هي وسيلة التقويم والتقدير عن وظيفتها وجعلها سلعا تباع وتشتري فينتج من ذلك التقليل من الحركة الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتسويق والاستهلاك.

كما أن الإسلام يحرم المكاسب المضمونة والمبيعات غير المملوكة وتعيين قدر معين من المضاربة في التجارة أو المغارسة أو المخابرة كما أنه يحرم الاحتكار وتلقي الركبان ويقف من قضايا الغش والتدليس والغرر والجهالة والغبن مواقف حازمة كمواقفه الحكيمة في إنكار المكاسب عن طريق الرهان والقمار والميسر، ويدعو الإسلام إلى السعي في الأرض والضرب في الأسواق، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (1) وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3).

(1) سورة الملك الآية 15

(2)

سورة المزمل الآية 20

(3)

سورة الجمعة الآية 10

ص: 122

فالإسلام يعتبر المخاطرة في التجارة عنصرا ذا أثر فعال في إنعاش الحركة الاقتصادية لما تستلزمه المخاطرة من الحيطة والحذر والحرص والتدبر والمراقبة المستمرة للتقلبات الاقتصادية وبالتالي الأخذ بنتائج ذلك من بيع وشراء وإنتاج وتسويق، فإذا قلنا بربط الحقوق المؤجلة بمستوى الأسعار ولم يكن لمن ترتبت عليه هذه الالتزامات سبب في التضرر بتغير الأسعار فإن هذا يعني معالجة الضرر بضرر ودفع خسارة طرف من أطراف والالتزامات بظلم طرفه الملتزم فضلا عما في ذلك من تشجيع الاستثمارات البنكية والتقليل من عنصر المخاطرة في التجارة حينما يعلم طرفا الالتزام أن العبرة بقيمة الحق موضوع الالتزام هو سعر يوم سداده وما يترتب على ذلك من الجهالة في مقدار الحق بالرغم من تقديره وقت الالتزام بقدر معين، فملتزم بمليون دولار مثلا لزيد من الناس بعد عام يحل أجل السداد في وقت تكون القيمة الشرائية للدولار قد انخفضت بمقدار 40% في المائة مثلا فربط الحق بسعر يوم سداده يعني أن مليون الدولار تتحول إلى مليون وأربعمائة دولار، فالملتزم بالحق يعرف أن التزامه بمليون دولار، ولكنه لا يعرف وقت سدادها مقدار ما يسدده فقد يزيد مبلغ الالتزام وقد ينقص وهكذا في أموال عقود السلم ومضاربات البورصات وأجور العمال والالتزامات التوثيقية.

وبهذا يتضح لنا أن الأخذ بمبدأ ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار مصادم للمقتضيات الشرعية في الشريعة الإسلامية وللتوجيهات الإسلامية للاقتصاد الإسلامي الحر وللطمأنينة الموجبة للثقة في أن الحق الملتزم به هو الحق قدرا نوعا وصفة وأجلا، فلا يخشى صاحب الحق نقص حقه ولا يخشى الملتزم به تغيره عليه بزيادة. كما أن الأخذ بذلك موجب لظلم أحد طرفي العقد وأكل الظالم منهما مالا بدون

ص: 123

حق فضلا عما في ذلك من الجهالة وتشجيع البنوك على مضاعفة نشاطاتها الربوية وتثبيط التجارة بما يعطي التاجر التردد في إجراء صفقات تجارية، فيها التزامات بحقوق مؤجلة حيث لا يدري وهو يسوق بضائعه عن ربحه أو خسارته بالرغم من معرفته مقدار قيمة شراء بضاعته ومقدار قيمة بيعها لأنه لا يعرف الزيادة المحتملة على ما التزم به طبقا لربط هذا الالتزام بسعر يوم سداده فقد تأتي هذه الزيادة على ربح محسوس حققته صفقته التجارية.

وقبل دخولي في نقاش القائلين بوجاهة ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار أرغب إبداء ما عندي في وجود حالات استثنائية توجب ربط الالتزام بمستوى الأسعار حتى تكتمل الصورة ويتضح الاتجاه ويتحرر موضوع النقاش.

أولى هذه الحالات ما إذا كان الالتزام بالحق حال الأداء وكان الملتزم مليئا غنيا، إلا أنه صار يماطل صاحب الحق حتى تغيرت الأسعار سواء انخفضت القيمة الشرائية للنقد موضع الالتزام، أم انخفض سعر العين المالية موضوعة الالتزام كديون السلم. فمماطلة من عليه الحق لمن له الحق ظلم وعدوان موجبة لحل عرضه وعقوبته كما قال صلى الله عليه وسلم:«مطل الغني ظلم (1)» . رواه الشيخان في صحيحهما. وقال صلى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (2)» . رواه أهل السنن. ومن العقوبة أن يربط الحق بسعر يوم سداده إذا كان فيه نقص على صاحبه، فالزيادة على المماطل بأداء الحق، عقوبة يستحقها بسبب ليه ومطله، وإعطاء صاحب الحق هذه الزيادة يعتبر من العدل والإنصاف لأن مماطلة خصمه أضرت به بمقدار هذه الزيادة.

(1) صحيح البخاري الحوالات (2287)، صحيح مسلم المساقاة (1564)، سنن الترمذي البيوع (1308)، سنن النسائي البيوع (4691)، سنن أبو داود البيوع (3345)، سنن ابن ماجه الأحكام (2403)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 380)، موطأ مالك البيوع (1379)، سنن الدارمي البيوع (2586).

(2)

سنن النسائي البيوع (4689)، سنن أبو داود الأقضية (3628)، سنن ابن ماجه الأحكام (2427)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 388).

ص: 124

لقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في تقدير الحق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده، قال في منتهى الإرادات، ولا يضمن نقص سعر. اهـ (1) كما اختلفوا في تعيين العقوبة التي يستحقها فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق بشيء مطلقا، كما مر النقل من المنتهى وأن العقوبة المقصودة في الحديث «لي الواجد يحل عقوبته (2)» ، ما يوقعها ولي الأمر أو نائبه على المماطل بأداء الحق من عقوبة تعزيرية بحبس أو جلد أو بهما معا. وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المطالبة بتحصيل حقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن مطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد (3).

وذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى القول بضمان نقص السعر قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يضمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر وكيف يغصب شيئا يساوي ألفا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصا فاحشا فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ (4).

وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لي الواجد يحل عقوبته (5)» ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا

(1) شرح منتهى الإرادات ج ـ 2 ص 408.

(2)

سنن النسائي البيوع (4689)، سنن أبو داود الأقضية (3628)، سنن ابن ماجه الأحكام (2427)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 388).

(3)

انظر الاختيارات ص 136.

(4)

الفتاوى السعدية ص 429

(5)

سنن النسائي البيوع (4689)، سنن أبو داود الأقضية (3628)، سنن ابن ماجه الأحكام (2427)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 388).

ص: 125

أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر، فمثلا زيد من الناس قد التزم لعمرو بمبلغ مائة ألف دولار مثلا يحل أجلها في غرة شهر محرم عام 1407، وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وأربعين ينا وفي أول يوم من شهر محرم عام 1407 انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينا فطلب صاحب الحق حقه من الملتزم زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينا، فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت الاستعداد بالسداد نقص مقداره تسعون ينا في الدولار الواحد فإذا قلنا بضمان النقص للمماطلة فإن الفرق بين سعره وقت الحلول ثم المماطلة وبين سعره وقت الاستعداد بالوفاء هو سبعون ينا، فالعدل أن يقتصر الضمان على هذا المقدار سبعين ينا عن كل دولار. أما التغير بزيادة فيتصور تضرر المدين بهذا التغير إلا أن الدائن ليس سببا في هذا الضرر ولهذا فضرره كضرر غيره من عموم من يتضرر بهذا التغير وانتفاع الدائن بهذا التغير كانتفاع غيره ممن ينتفع بهذا التغير من العموم، وتأسيسا على هذا فليس للمدين حق ضمان ما يصيبه من ضرر لقاء تغير السعر بزيادة لانتفاء السبب الخاص بذلك.

الحال الثانية: أن لا يكون للملتزم بالحق سبب في خسارة صاحب الحق بنقص حقه وإنما يرجع ذلك إلى أسباب قهرية لا دخل لأي من طرفي العقد بها، فهذه الحال إن كانت الخسارة على أحد أطراف العقد تزيد عن الثلث فقد تقاس على قاعدة وضع الجوائح وإن كان القائلون بها يرون قصرها على الثمار على أصولها مما تم بيعها ولم تقبض فأصابها جائحة سماوية قضت عليها أو على بعضها إلا أن المسألة محل نظر في اجتماع القضيتين في حصول خسارة فاحشة ليس لأحد طرفي العقد سبب

ص: 126

في حصولها، وتنفرد إحداهما عن الأخرى في أن قضيتنا حق تم الالتزام به وجرى تعيين موجبه في غالب مسائله.

وعلى أي حال فهذه المسألة تحتاج إلى إفرادها ببحث تستقصى فيه مبررات الحكم فيها.

الحال الثالث: إذا كان الالتزام بدين نقدي من عملة ورقية معينة ثم انخفضت قيمة هذه العملة الورقية انخفاضا فاحشا ولم يحل أجل سدادها، ونمثل بالليرة اللبنانية ونضرب مثلا لهذه الحال: خالد من الناس التزم لمحمد بمائة ألف ليرة قيمة بضاعة جرى قبضها في مجلس العقد، وتم الاتفاق على تأجيل دفعها إلى عام، وكانت قيمة الليرة وقت الالتزام تعادل ريالا سعوديا وبعد حلول أجل الدفع انخفضت قيمة الليرة حيث صارت قيمة مائة ليرة ثلاثة ريالات سعودية، فهل يسلم خالد لمحمد مائة ألف ليرة لبنانية بغض النظر عن انخفاض قيمتها وفي هذا خسارة بالغة على محمد أم يلزم خالد بقيمتها وقت الالتزام لأن الليرة الآن في حكم السكة المنقطعة يمكننا أن نرجع في حكم هذه المسألة إلى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله.

فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أن الدائن يرجع على مدينه بقيمة ما عليه من دين نقدي إذا أبطل السلطان التعامل به، أما إذا زادت قيمته أو نقصت فليس له إلا ما في ذمة مدينه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة فسقطت المكسرة أو الفلوس. قال يكون عليه قيمتها من الذهب.

وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة إذا منع التعامل بها

ص: 127

فالواجب القيمة فيخرج من سائر المتلفات، وكذلك في الغصب والقرض فإنه معلوم أنه ليس المراد عين الشيء المعين فإنه ليس هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا بنقصان قيمتها فإذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل فإن المالين يتماثلان إذا استوت قيمتهما وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص. اهـ (1).

وقال ابن مفلح في الفروع: وقيل إن رخصت فله القيمة كالمكان (2).

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: قوله وكذلك المغشوشة وعندهم أنها مثلية، فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصا فإنه يلزمه المثل عندهم وعلى أصل الشيخ، الظاهر أنه يلزمه القيمة ثم هذا في القرض ونص عليه أحمد واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون - قال الشيخ: وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ (3).

وقال الرهوني: ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين فهم أن الخلاف السابق محل إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة. أما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب، قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى يصير

(1) الدرر السنية ج ـ 5 ص 110 ـ 111.

(2)

الفروع ج ـ 4 ص 203.

(3)

فتاوى ورسائل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ج ـ 7 ص 205.

ص: 128

القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف. اهـ (1).

وقال الشوكاني في كتابه نيل الأوطار:

فائدة قال في البحر: مسألة الإمام يحيى لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه، الثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض. انتهى. قال في المنار: وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر، وكثيرا ما وقع هذا في زماننا لإفساد الضربة لإهمال الولاة النظر في المصالح والأظهر أن اللازم القيمة لما ذكره المصنف. اهـ (2).

قوله: وكذلك لو صار لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياسا على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام.

بقي علينا أن نعرف ما مقدار الفحش في الزيادة أو النقص.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد ما يوجب اعتبار الجائحة ما نصه:

(. . فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين. . والثانية أن الجائحة الثلث فما زاد كقول مالك؛ لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث كما قدرت به

(1) حاشية الرهوني ج ـ 5 ص 121.

(2)

نيل الأوطار ج ـ 5 ص 236

ص: 129

الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير (1).

وخلاصة القول في هذه المسألة أن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قيمة عملة جرى الالتزام بها ثم أبطل السلطان التعامل بها قبل قبضها وأن جمهورهم ذهبوا إلى عدم اعتبار نقص العملة أو زيادتها وأن من التزم لآخر بنقد جرى فيه النقص أو الزيادة أنه لا يلزمه غير مثله وأن بعضهم ذهب إلى اعتبار النقص والزيادة كاعتبار منع السلطان التعامل بها في وجوب القيمة فيها، وبعضهم توسط فاعتبر النقص الفاحش، والزيادة الفاحشة موجبة لأخذ القيمة ثم اختلفوا في تقدير الفحش في الزيادة والنقص، فقال بعضهم: إن ذلك يرجع إلى العرف والعادة وبعضهم قال: إن ذلك مقدر بالثلث فما فوقه.

وما جرى استعراضه في الحالات الثلاث وما في أحكامها من أقوال لأهل العلم تدور بين الاعتبار وعدمه يعطي تصورا واضحا إلى أن القول بربط الحقوق والالتزامات الآجلة بالأسعار موضع تحفظ بالغ في الشريعة الإسلامية. فحتى إذا ظهرت المبررات للأخذ به فإن هناك من يرفضه أخذا بمبدأ الالتزام والاحتفاظ بقدره ونوعه وأمده طالما أن لموضوع الالتزام قيمة معتبرة وإن نقصت عن قيمتها الحقيقة وقت الالتزام.

وبعد هذا يمكن أن ننتقل إلى نقاش مبررات القول بربط الحقوق الآجلة بالأسعار فنقول وبالله التوفيق وعليه الاعتماد:

أولى هذه المبررات القول بأن الإسلام دين العدل والإنصاف،

(1) مجموع الفتاوى الكبرى ج ـ 30 ص 279

ص: 130

والتضخم الاقتصادي يأتي على هذه القاعدة حيث إن التضخم سبب في تكدس الثروات بأيدي ش من الناس وتبقى الكثرة الكاثرة فهم يعانون قلة ذات اليد. وربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يحقق العدل ويقضي على التضخم.

والإجابة على هذا التسليم بأن الإسلام دين العدل والإنصاف وأنه ضد التضخم وتجمع الثروات في أيدي قلة من الناس، قال تعالى في تبرير الإنفاق على المحتاجين دون الأغنياء:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) وهو يهدف من تشريعاته الصائبة إلى إشاعة المال بطرق مشروعة ومختلفة وتفتيت الثروات وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن. فهو يحض على الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله غير محصورة في جهة معينة فكل طريق من طرق الخير يعتبر سبيلا لله ويوجب في الأموال حقوقا معينة كالزكوات وحقوقا غير معينة كالنفقات الواجبة، وفي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في المال حقا سوى الزكاة (2)» .

والإسلام حينما يحارب التضخم الاقتصادي فهو يحاربه بتحريمه جملة من المعاملات التجارية كبيوع الغرر والغبن والجهالة والاسترسال وبيع ما لا يملك أو لم يقبض وبيوع الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة وينهى عن تلقي الركبان وعن الإحتكار، كما أنه ينهى عن التسعير ما لم توجد له أسباب ضوابطه عن الظلم وينهى عن التصرف في سكة المسلمين بما يعود عليهم بالضرر فقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. ومما يعود على المجتمعات والدول بالتضخم المتاجرة بالأثمان - العملات النقدية - فقد اتجه كثير من علماء الإسلام ومحققيهم إلى

(1) سورة الحشر الآية 7

(2)

سنن الترمذي الزكاة (660)، سنن ابن ماجه الزكاة (1789)، سنن الدارمي الزكاة (1637).

ص: 131

التحذير من ذلك فقد قال الإمام الغزالي في كتابه " الإحياء " ما نصه:

من نعم الله خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما - إلى أن قال - فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا صالحين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهي التوصل بهما إلى سائر الأشياء - إلى أن قال - فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود للحكم فقد كفر بنعمة الله تعالى فيهما، فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم لسببه وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر بالنعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم. اهـ (1).

ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين ما نصه:

فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقديم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن لنعتبر به المبيعات بل الجميع سلع - ثم ذكر أسباب فساد المعاملات ومنها اتخاذ الأثمان سلعا فقال: كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم - إلى أن قال - فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت

(1) انظر الورق النقدي تأليف عبد الله بن منيع ص 105 ـ 107.

ص: 132

في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. اهـ (1).

وجاءت المقتضيات الشرعية بتضييق دائرة التعامل بالأثمان متاجرة ومصارفة فحرمت الزيادة في الجنس الواحد وضرورة التقابض في مجلس العقد سواء اتفق الجنس أو اختلف.

ولا يخفى أن في المتاجرة في النقود جملة سلبيات منها انصراف رجال الأعمال عن الإسهام في المشروعات التنموية وتجميد مدخراتهم النقدية في البنوك للمتاجرة بها فينتج عن ذلك ظهور بطالة سببها انكماش السوق الصناعية بانكماش الإنفاق عليها للمتاجرة بالنقد نفسه وصرفه عن وظيفته الأساسية " تقييم السلع وواسطة التبادل ". وبهذا يتضح موقف الإسلام من التضخم ومن أسباب التضخم، وأنه يحارب التضخم بتشريعات في الأخذ بها حماية المجتمع من التضخم وصيانة الأسواق التجارية عن التضخم وليس من تشريعاته تغيير الالتزامات الآجلة بنقص أو بزيادة وذلك بربطها بمؤشرات الأسعار إذ لا شك أن في هذا أثرا عكسيا في اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي والتضخم النقدي، أما وجه اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي فإن من يلتزم لغيره بحق ففي حال الأخذ بربط الالتزام بمؤشرات الأسعار فإنه لا يدري عن ميزان التزامه ولا عن مردود حركته الاقتصادية فقد يخطط لمشروع تنموي يظهر له من مخططه توفر الثقة لديه في نجاح مشروعه إلا أن الأخذ بربط الالتزام بالأسعار قد يأتي على ما يراه ربحا محققا في مشروعه وهذا في حد ذاته عامل قوي في إحجامه عن القيام بذلك المشروع الذي يرى

(1) الورق النقدي ص 104 ـ 105.

ص: 133

ربحه محققا فيه إلا أنه غير مطمئن إلى تغير التزامه بما يأتي على ذلك الربح.

وأما وجه اعتباره عاملا من عوامل التضخم فإن التضخم معناه ظهور سوق نقدي لا يتناسب حجمه العام مع المثمنات المتاحة من سلع وخدمات، وتغير الالتزامات الآجلة وربطها بسعر أجل سدادها، وفي ظروف تقلبات اقتصادية لا تحكمها قواعد واضحة ولا تصورات جلية يعطي المزيد من مضاعفة الالتزامات وبالتالي تتيح المجال لهروب النقد إلى ما فيه ضمان نمائه وهذا يعني ظهور فئات تتكدس في أيديها الثروات وقد تكون البنوك أوضح مثال لهذه الفئات يستوي في ذلك ما تملكه أو تستودع إياه للحفظ، أو الاستثمار. وبهذا يتضح أن ربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يعتبر من عوامل التضخم المالي والانكماش الاقتصادي، لا أنه من عوامل محاربة التضخم.

المبرر الثاني: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال، قاعدتان شرعيتان، والتضخم يوجب الضرر والإضرار وليس للدائن أو المدين سبب في هذا الضرر إلى آخر التوجيه.

والإجابة عن هذا، أن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الظلم لا يزال بظلم، فطالما أن المدين لم يكن له سبب في انخفاض قيمة ما التزم به والمسعر هو الله سبحانه وتعالى، والالتزام بالحق طالما أن الحق مثلي وفي الذمة وهو معلوم القدر والصفة وأجل الوفاء به، فإن الزيادة في قدره وطبقا لتغير الأسعار ظلم محقق في حق من التزم به وضرر بالغ عليه لم يكن السبب في حصول موجبه وإن كان موجب تغير الأسعار النقص، فإن الدائن مظلوم ومتضرر من تخفيض حقه الملتزم له به قدرا وصفة وأمدا. ولا يخفى أن الآثار الشرعية المعتبرة والمترتبة على تغير الالتزامات

ص: 134

بزيادة أو نقص لا تتجاوز أسبابها أطراف الالتزام فإن كانت الأسباب خارجة عن مقدورهم فلا اعتبار لها في زيادة الالتزام أو نقص إلا بما ذكرناه من الحالات الاستثنائية.

والقول بأن ربط الالتزام بتغير الأسعار يصون طرفي الالتزام والضرر غير صحيح، فالضرر على أحدهما محقق والظلم من أحدهما على الآخر واقع.

المبرر الثالث: الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (1). وإن من إيفاء الكيل والوزن بالقسط ربط الالتزامات بمؤشرات الأسعار.

والإجابة على هذا أن الاستدلال بذلك ظاهر التعسف فيه، فليس في الآية دليل على ذلك ولو صح الاستدلال بها لكان الاستدلال بها على رفض هذا المبدأ أولى وأوضح لأن الحق إذا تعين مقداره كان من القيام بالقسط الوفاء به قدرا ونوعا وصفة وأصلا، قال تعالى في معرض مدح المؤمنين:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2).

وليس من الوفاء بالعهد والميثاق القول بتغير الالتزام طبقا لتغير الأسعار فإن الأسعار بيد الله وتغير الأسعار بالزيادة أو النقص من أسباب رزق الله الناس بعضهم ببعض وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (3)» .

وليس من القسط ولا من العدل أن يكون لي على إنسان مائة ألف

(1) سورة الأنعام الآية 152

(2)

سورة المؤمنون الآية 8

(3)

صحيح مسلم البيوع (1522)، سنن الترمذي البيوع (1223)، سنن أبو داود البيوع (3442)، سنن ابن ماجه التجارات (2176)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 392).

ص: 135

ريال وعند حلول أجل سدادها أطلب منه مائة وعشرين ألفا لتغير القيمة الشرائية بل إن هذه الزيادة قد لا نجد أحدا من علماء الإسلام يعتبرها مشروعة وقد لا نجد أحدا من علماء الإسلام لا يعتبر هذه الزيادة من الربا الصريح الجلي.

المبرر الرابع: الاستدلال على القول بمبدأ ربط الالتزام بتغير الأسعار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وهذا الاستدلال أكثر تطرفا وبعدا من الاستدلال السابق على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (2) فعقد جرى بين زيد وعمرو استلزم ذلك العقد حقا لأحدهما على الآخر هل يكون من الوفاء بهذا العقد أن يرتب على الملتزم بالحق للملتزم له به زيادة عليه أو العكس، لا شك أن الوفاء بالعقد يعني تأديته ما يقتضيه العقد دون زيادة أو نقص إلا فيما تراضيا عليه مما لا محذور في اعتباره شرعا.

المبرر الخامس: أن الحنفية، أجازوا أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا هو ربط تغيرات الأسعار بالالتزامات.

وكم يكون ناقل هذا القول مؤكدا لقوله لو أورد نصوصا عن الحنفية تؤيد قوله عنهم، فإن المنقول عنهم يخالف ذلك فلقد وجد الاختلاف بينهم فيما إذا كانت الفلوس ثمنا في الذمة ثم كسد بانقطاع التعامل به.

قال الكاساني:

لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائما وقيمته أو

(1) سورة المائدة الآية 1

(2)

سورة الأنعام الآية 152

ص: 136

مثله إن كان هالكا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس كما إذا كان الثمن رطبا فانقطع قبل القبض ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنا لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عددا فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة اهـ (1).

المبرر السادس: نفي وجود نص من الكتاب أو السنة يحرم هذا النظام لا شك أن الدائن حينما يكون دينه مؤجلا بزمن ومعينا بقدر فإن الزيادة على هذا المقدار بعد أن تعين تعتبر زيادة على الملتزم به بمعنى أن زيدا من الناس له عند بكر مائة ألف ريال مدة عام وفي نهاية العام تغيرت القيمة الشرائية لمائة الألف إلى مائة وعشرين ألفا، وربط الالتزام بالأسعار يعني أن على بكر تسليم مائة وعشرين ألف ريال والله سبحانه وتعالى يقول:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) ثم إن حقا تعين مقداره في الذمة فإن الزيادة عليه تعتبر ظلما وعدوانا على المدين، ولا شك أن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريم الظلم أكثر من أن تحصر والمطالبة بوجود نص من كتاب أو سنة على تحريم هذا النظام كالمطالبة بوجود نص على تحريم الظلم والعدوان.

المبرر السابع: القول بأن هذا النظام لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم " مثلا بمثل " فإن القيمة الحقيقية للالتزام وقت السداد هي القيمة الحقيقية وقت الإلتزام.

(1) بدائع الصنائع جـ 5 ص 242 ـ الطبعة الثانية ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت عام 1394 هـ

(2)

سورة البقرة الآية 279

ص: 137

والجواب عن هذا أن العبرة بما تعين مقداره لا بما اختلفت قيمته فطالما أن ما تم الالتزام به موجود مثله فلا يجوز تغييره بنقص أو بزيادة إذا كان مالا ربويا وإن لم يكن مالا ربويا فلا يجوز إلا بتوافق الطرفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن رب العالمين شرعه لعباده وله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والقدرة على البيان ما لا يعجزه البيان للأمة فيما يرونه عدلا وإنصافا ومع ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل بيد سواء بسواء (1)» . فجملة مثلا بمثل المؤكدة لكلمتي سواء بسواء تعني إرادة النص وإرادة مدلوله، ولو كان من العدل والإنصاف الأخذ بطريقة الالتزام بقيمته وقت السداد لبينه صلى الله عليه وسلم ولكنه أعطى نصا صريحا عاما شاملا في وجوب التماثل في الجنس ونصوصا أخرى في تحريم مال المسلم وتحريم الظلم بين المسلمين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (2)» رواه أحمد والبخاري. ووجه الاستدلال بهذا أن كلا من طرفي عقد الالتزام قد وقعا في الربا، وجه ذلك أن المستقر في الذمة مثلا مائة ريال فإذا دفع الطرف الملتزم للطرف الملتزم له مائة وعشرين ريالا فقد خالف المماثلة والمساواة في المعين قدرا وجنسا فالملتزم زاد والملتزم له استزاد وبالتالي وقعا في الربا كما قال صلى الله عليه وسلم " فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ".

المبرر الثامن: أن إنكار هذا النظام منع للقرض الحسن.

والإجابة على هذا أن الزيادة على القرض قرض جر نفعا وفي الأثر

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2176، 2202)، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584)، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241)، سنن النسائي البيوع (4565، 4565)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 50، 3/ 97)، موطأ مالك البيوع (1324، 1324).

ص: 138

مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن قرض جر منفعة» . وروي موقوفا على ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم. وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض، الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تين أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. ومن هذا يتضح أن الذي يقرض ألف ريال مثلا ثم يأخذ بطريق الإلزام ممن أقرض ألفا ومائتين سدادا للألف التي أقرضه إياها فهو أولى بالإنكار واعتبار الزيادة ربا. وأن القول بأن المقرض قرضا حسنا يتضرر من نقص القيمة الشرائية لما أقرضه عما كانت عليه وقت الإقراض فالإجابة عن هذا أن الغرض من القروض الحسنة التقرب إلى الله تعالى بتيسير أمور عباده وفي الإقراض من الأجر عند الله ما يهون هذا النقص. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة (1)» . رواه ابن ماجه.

أما إذا قضى المقترض من أقرضه بما هو أكثر مما أقترضه من غير طلب من المقرض ولا تشوف فلا بأس بذلك. ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (2)» . وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل أعطوه فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقه فقال أعطوه. فقال أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن خيركم أحسنكم قضاء (3)» .

وبهذا يتضح أن إلزام الملتزم بزيادة على التزامه سواء كان قرضا أو

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2430).

(2)

صحيح البخاري الصلاة (443).

(3)

صحيح البخاري الوكالة (2305)، صحيح مسلم المساقاة (1601)، سنن الترمذي البيوع (1316)، سنن النسائي البيوع (4618)، سنن ابن ماجه الأحكام (2423)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 456).

ص: 139

غيره من الربا وأن الانتفاع من المقترض قبل سداد القرض من ذلك وأن الوفاء بالقرض زيادة عنه من غير طلب من المقرض أو تلميح بذلك لا بأس به وأن القرض عمل إرفافي تدعو إليه مكارم الأخلاق واحتساب ما عند الله وبهذا يندفع القول بأن منع هذا النظام منع القرض الحسن.

المبرر التاسع: أن هذا النظام يساعد على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المتخلفة.

والإجابة عن هذا: أن روح هذا النظام هو المحافظة على القيمة الشرائية بحق الملتزم به وقت سداده، بمعنى أن صاحب الحق لا يستفيد إلا ضمان حقه عن النقص عند سداده فكيف يكون في هذا النظام إغراء للمؤسسات المالية الأجنبية بإقراض الدول الإسلامية المتخلفة. بل إننا نستطيع القول بأن الأخذ بهذا النظام سيضاعف الالتزام على هذه الدول المقترضة من المؤسسات المالية الأجنبية بفوائد حينما تراعي القيمة الشرائية وقت السداد فيكون على الملتزم للبنوك الأجنبية الفوائد الربوية وفرق القيمة عند ربط الالتزام بمؤشرات الأسعار. وبهذا يتضح أن هذا التبرير غير ظاهر وأن التبرير به لرد هذا النظام متجه.

المبرر العاشر: ربط تغيرات الأسعار يشبه الإضافة التي يضيفها البائع على ما يبيعه بالدين.

والإجابة عن هذا تتضح بمزيد من التأمل فإن الفرق بين الصورتين واضح فالزيادة التي يحصل عليها من يبيع بالدين يحصل عليها قبل الالتزام فإذا تم الالتزام بمائة ألف ريال مثلا فإن الدائن لا يستطيع الحصول على هللة واحدة زيادة على حجم الالتزام الذي التزم به، وما حصل عليه من زيادة هي في الواقع من رأس ماله فيما باعه قيمة ما جرى عليه الاتفاق

ص: 140

بين طرفي الالتزام قيمة للبضاعة. أما الزيادة في الالتزام بعد تمامه واستقراره في الذمة فإنها أبشع من الزيادة الربوية أتقضي أم تربي، يوضح ذلك أن المعاملة الربوية أتقضي أم تربي تكمن الزيادة فيها في حال الاتفاق على تأجيل الدفع بعد حلوله وأما في صورة ربط الالتزام بتغير الأسعار فإن الزيادة على الملتزم حتمية في حال الاستعداد لسداد مقدار الالتزام، وبهذا يتضح أن الصورتين مختلفتان وأن الجمع بينهما جمع بين متباينين وبقية المبررات تكاد تكون مكررة للمبررات التي جرى التعليق عليها.

وإذا كان لنا مجال في معالجة التضخم الاقتصادي ولنا قدرة في الإسهام في ذلك فينبغي تشخيص أسباب التضخم والتعرف على تلك الأسباب بما في ذلك زيادة الطلب على العرض والتساهل في التقيد بمؤشرات الاعتدال في إصدار النقود وإحجام رؤوس الأموال عن الدخول في مشروعات تنموية وتقويم العملات النقدية وجعلها سلعا تباع وتشتري وانكماش الإنفاق الحكومي على المرافق الحيوية في البلاد ولو قلنا بربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار لكان الأخذ بذلك أحد أسباب التضخم في البلاد وقد مر فيما سبق ذكره.

هذه ملاحظات عابرة وتعليقات اقتضاها المقام أحببت إبرازها لتسهم في توضيح الموقف السلبي من مبدأ ربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد الله بن سليمان بن منيع

ص: 141

صفحة فارغة

ص: 142

حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين

الشيخ / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

مقدمة في بيان ضوابط العبادة الصحيحة

الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا بالتمسك إلى الممات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).

وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه.

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2).

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه

(1) سورة آل عمران الآية 102

(2)

سورة البقرة الآية 132

ص: 143

أجمعين، وبعد:

فإن الله خلق الجن والإنس لعبادته، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).

وفي ذلك شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لأنهم بحاجة إلى ربهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، كما قال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} (2).

وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (3). . .

والعبادة حق لله على خلقه وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد.

ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله سبحانه وتوافق دينه لم يكلهم إلى أنفسهم بل أرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4).

(1) سورة الذاريات الآية 56

(2)

سورة الزمر الآية 7

(3)

سورة إبراهيم الآية 8

(4)

سورة النحل الآية 36

ص: 144

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1).

فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله وعبد الله بما يلي عليه ذوقه وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الإنس والجن فقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة الله، بل هي عبادة لهواه:

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2).

وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى، ومن ضل من فرق هذه الأمة، كالصوفية فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم. وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة.

إن العبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي:

أولا: أنها توقيفية - بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها - بل لا بد أن يكون المشروع لها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى لنبيه:

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} (3).

(1) سورة الأنبياء الآية 25

(2)

سورة القصص الآية 50

(3)

سورة هود الآية 112

ص: 145

وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1).

وقال عن نبيه:

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (2).

ثانيا: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك، كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3).

فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5){بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (6).

ثالثا: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (7) وقال تعالى

(1) سورة الجاثية الآية 18

(2)

سورة الأحقاف الآية 9

(3)

سورة الكهف الآية 110

(4)

سورة الأنعام الآية 88

(5)

سورة الزمر الآية 65

(6)

سورة الزمر الآية 66

(7)

سورة الأحزاب الآية 21

ص: 146

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2)» وفي رواية «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3)». وقوله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي (4)» وقوله: «خذوا عني مناسككم (5)» إلى غير ذلك من النصوص.

رابعا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلا، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (6).

وكالحج قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (7).

وكالصيام، قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (8) الآية.

خامسا: لا بد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له وخوفه ورجائه، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ} (9)

(1) سورة الحشر الآية 7

(2)

الحديث رواه مسلم

(3)

متفق عليه

(4)

متفق عليه

(5)

رواه مسلم

(6)

سورة النساء الآية 103

(7)

سورة البقرة الآية 197

(8)

سورة البقرة الآية 185

(9)

سورة الإسراء الآية 57

ص: 147

{رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (1)،

وقال تعالى عن أنبيائه

{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3){قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (4).

فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراته - أما علامتها فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله وطاعة الرسول.

أما ثمراتها فنيل محبة الله سبحانه ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه.

سادسا: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلا إلى وفاته، قال تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (5).

وقال:

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (6). . .

(1) سورة الإسراء الآية 57

(2)

سورة الأنبياء الآية 90

(3)

سورة آل عمران الآية 31

(4)

سورة آل عمران الآية 32

(5)

سورة آل عمران الآية 102

(6)

سورة الحجر الآية 99

ص: 148