المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:

- ‌رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط

- ‌خامسا: الخلاف في اشتراط استدامة القبض، مع الأدلة والمناقشة

- ‌سادسا: ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض:

- ‌الفتاوى

- ‌ كان مرة يتوضأ فلفت نظره أحد الناس إلى لمعة في قدمه

- ‌ اغتسال الجنب في الماء الدائم

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌رجل غاب عن زوجته أربع سنوات ثم ولدت بعد المدة المذكورة فهل يلحقه الولد

- ‌ كتابة بعض الآيات من القرآن لتعلق

- ‌رجل صائم في رمضان واشتد به العطش فشرب

- ‌ حكم الطريقة التيجانية

- ‌البدعة وأثرهافي الانحراف في الاعتقاد

- ‌أولا: ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌ثانيا: ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌الأسس المنهجية لموقف أهل السنةمن قضية الصفات وضوابطها

- ‌قضية الصفات وأهميتها:

- ‌توحيد الأسماء والصفات:

- ‌أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطه:

- ‌الخلاف حول صفات الحركة:

- ‌صفات الحركة في الآخرة:

- ‌منهج وتطبيقه:

- ‌اعتراض وجوابه:

- ‌خاتمة:

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةحامل راية الكتاب والسنة

- ‌حياته ونشأته:

- ‌كبار مشايخه:

- ‌براعته في تفسير القرآن الكريم:

- ‌براعته في علوم السنة:

- ‌دعوته للرجوع إلى الكتاب والسنة:

- ‌تجديده لمعالم الدين:

- ‌محاربته للعقائد والأفكار المضادة للكتاب والسنة:

- ‌محاربته للتصوف الزائف:

- ‌استقلاله في أخذ الفقه من الكتاب والسنة:

- ‌المحن التي ابتلي بها:

- ‌زهده في الدنيا ومكارم أخلاقه:

- ‌وفاته - رحمة الله عليه

- ‌أسس اختيار الزوجة

- ‌اجتناب المحرمات:

- ‌رضا المخطوبة

- ‌موافقة الولي

- ‌النظر إليها

- ‌عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجيالصحابي السفير

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌عمرو بن حزم في التاريخ

- ‌رؤية فكرية وتاريخيةلرعاية الحرمين الشريفين

- ‌أولا: المكانة التاريخية والفكرية للحرمين الشريفين

- ‌ثانيا: مواجهة الحرمين الشريفين للحركات المعادية قديما:

- ‌ثالثا: مواجهة الحرمين الشريفين للتحديات المعاصرة

- ‌صلاة الجماعة:

- ‌إفشاء السلام:

- ‌أوقات الصلاة:

- ‌الإمام والصفوف:

- ‌الإمام والمؤتمون:

- ‌متى ثبتت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها

- ‌تعقيب على فضيلة الشيخعبد الله كنون

- ‌قرار هيئة كبار العلماءرقم 148 وتاريخ 12/ 1 / 1409ه

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:

‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:

أ - تعريفه لغة:

1 -

قال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة " الرهن ": " الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره، من ذلك الرهن: الشيء يرهن، تقول: رهنت الشيء رهنا، ولا يقال: أرهنت، والشيء الراهن: الثابت الدائم، ورهن لك الشيء: أقام، وأرهنته لك: أقمته. وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت فيها، وهو من الغلاء خاصة، قال: "

عبدية أرهنت فيها الدنانير

":

وعبارة أبي عبيد في هذا شاذة، لكن ابن السكيت وغيره قالوا: أرهنت: أسلفت، وهذا هو الصحيح. قالوا كلهم: أرهنت ولدي إرهانا: أخطرتهم. فأما تسميتهم المهزول من الناس والإبل راهنا فهو من الباب؛ لأنهم جعلوه كأنه من هزاله يثبت مكانه لا يتحرك.

قال:

أما تري جسمي خلا قد رهن

هزلا وما مجد الرجال في السمن

يقال منه: رهن رهونا. (1).

2 -

قال محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مادة " رهن ": الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والجمع رهان ورهون ورهن ورهين. رهنه الشيء ورهن عنده وأرهنه: جعله رهنا، وارتهن منه: أخذه رهنا. ورهنته لساني، ولا تقل أرهنته، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه.

والرهان والمراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل.

وقرئ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)

(1) معجم مقاييس اللغة 2/ 452، 453.

(2)

سورة البقرة الآية 283

ص: 15

(ورهن)

وقيل في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (1).

أنها بمعنى الفاعل أي ثابتة مقيمة. وقيل: بمعنى المفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عمله، ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان، قال تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2)

3 -

وقال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور - بعد كلام يتفق مع ما سبق قال: وفي الحديث: «كل غلام رهينة بعقيقته (3)» .

الرهينة: الرهن، والهاء للمبالغة؛ كالشتيمة والشتم، ثم استعملا في معنى المرهون، قيل: هو رهن بكذا ورهينة بكذا. ومعنى قوله: «رهينة بعقيقته (4)» : أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. انتهى المقصود.

وقال أيضا: قال ابن عرفة: الرهن في كلام العرب هو الشيء الملزم، يقال: هذا راهن لك أي دائم محبوس عليك.

ب- تعريفه شرعا:

1 -

تعريفه عند الحنفية: هو جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون. ونوقش بأنه تعريف للرهن التام واللازم، وإلا فعلى انعقاد الرهن لا يلزم الحبس بل ذلك بالقبض، ورد بأنه يتحقق بانعقاد الرهن معنى جعل الشيء محبوسا بحق إلا أن للعاقد الرجوع عنه ما لم يقبض المرتهن الرهن، فقبل القبض يوجد معنى الحبس لا بلزومه، فيصدق هذا التعريف على الرهن قبل تمامه ولزومه. ونوقش

(1) سورة المدثر الآية 38

(2)

سورة الطور الآية 21

(3)

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي: في كتاب العقيقة.

(4)

سنن الترمذي الأضاحي (1522)، سنن النسائي العقيقة (4220)، سنن أبو داود الضحايا (2837)، سنن ابن ماجه الذبائح (3165)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 8)، سنن الدارمي الأضاحي (1969).

ص: 16

أيضا بأن قوله " كالدين " إشارة إلى أن الرهن لا يجوز إلا بالدين؛ لأنه هو الحق الممكن استيفاؤه من الرهن لعدم تعينه.

ورد بأن الظاهر المتبادر من الكاف في قوله " كالدين " أنه يجوز الرهن بغير الدين أيضا وأن الكاف ليست للاستقصاء. فإن لم يكن في قوله: (كالدين) إشارة إلى جواز الرهن بغير الدين أيضا - فلا أقل من أن لا يكون فيه إشارة إلى انحصار ما يجوز الرهن به في الدين.

2 -

تعريفه عند المالكية: الرهن: إعطاء امرئ وثيقة بحق. واعترض عليه بأنه غير مانع لدخول اليمين ليقضيه إلى أجل كذا ودفع الوثيقة المشهودة بالدين ونحو ذلك.

وأجيب عن ذلك بمنع قبول دخول شيء منها تحته لأن لفظة: (إعطاء) تقتضي حقيقة دفع شيء، ولفظ:(وثيقة) يقتضي صحة رجوع ذلك الشيء لدافعه إذا استوفى ذلك، وذلك لا يصح في الحميل واليمين والأخذ والرد حقيقة، وأما الوثيقة بذكر الحق فهو - وإن صح دفعها - فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق.

وأجيب عن ذلك: بأن لفظة (إعطاء) يقتضي دفع الشيء إلى آخذه، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع؛ لأنه يصح أن يقول: أعطاه عهد الله، والأصل الحقيقة، وإن أراد الأعم منه ومن المعنى دخل ما وقع النقص به، وإن سلم كونه حسيا بطل بإخراج رهن الدين.

وقوله: (لفظة "وثيقة" تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه) المراد به لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته، واللازم عنده إنما هو الصحة. واعترض عليه أيضا

ص: 17

بأنه لا يتناول الرهن بحال لأنه اسم، والإعطاء مصدر وهما متباينان، أي أن الرهن وإن كان في الأصل مصدرا، ولكن الأغلب في عرف الفقهاء إطلاقه على الشيء المرهون، فكان الأولى أن يقول: معطى، أو ما أشبهه.

وأجيب عن ذلك بأن الرهن كما يطلق في عرف الفقهاء على الشيء المرهون، فكذلك أيضا يطلق على الرهن الذي هو المصدر، كما إذا قالوا: يصح الرهن ويبطل الرهن، ويصح رهن كذا ولا يصح رهن كذا، فاستعمال الرهن بمعنى المصدر شائع في عرف الفقهاء، فلذلك عرف بالتعريف السابق.

3 -

تعريفه عند الشافعية: جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ليستوفى منها عند تعذر وفائه (1).

4 -

تعريفه عند الحنابلة: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه (2).

ج- المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:

وأما المناسبة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الاصطلاحي فهي: أن المعنى اللغوي في الثبات والدوام واللزوم والحبس، وهذا موجود في المعنى الاصطلاحي، وذلك أن المرهون محبوس عن التصرف فيه حتى يستوفي المرتهن حقه، والحبس في الثبات واللزوم، ولكن المعنى الشرعي قيد بقيود تجعله أخص من المعنى اللغوي كما سبق في التعريف الشرعي.

(1) نهاية المحتاج شرح المنهاج 4/ 234 ويرجع إلى حاشية قليوبي 2/ 261 والمجموع شرح المهذب 13/ 177

(2)

المغني والشرح 4/ 417 ومطالب أولي النهى 3/ 248 والإنصاف 5/ 137.

ص: 18

ثانيا: حكمه:

اتفق أهل العلم على مشروعيته في السفر واختلفوا في مشروعيته في الحضر فنذكر الخلاف في ذلك مع الأدلة والمناقشة:

القول الأول: أنه مشروع في الحضر كالسفر، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1).

وجه الدلالة: أن الله تعالى لما ذكر الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت؛ لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك المعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر؛ كأوقات أشغال الناس؛ وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.

وأما السنة: فما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد (2)» . وعن أنس قال: «رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله (3)» . رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.

وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر ولم يكتب.

وأما المعنى: فإنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء، فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة.

(1) سورة البقرة الآية 283

(2)

صحيح البخاري البيوع (2068)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2069)، سنن الترمذي البيوع (1215)، سنن النسائي البيوع (4610)، سنن ابن ماجه الأحكام (2437)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 133).

ص: 19

القول الثاني: أنه لا يصح في الحضر، قال القرطبي: ولم يرد عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود. وقال ابن حزم: لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر خاصة، وفي السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة، أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة مع عدم الكاتب في كلا الوجهين.

واستدلوا بالكتاب والسنة والاستصحاب.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2).

وجه الدلالة: ذكر اشتراط السفر في الرهن في حال عدم وجود كاتب، فدل ذلك بمفهومه أنه لا يشرع في الحضر.

ونوقش: بأنه لا مفهوم مخالفة للشرط؛ لأنه منزل على غالب الأحوال، والدليل عليه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى في الحضر ورهن ولم يكتب؛ وذلك لأن الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا، فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال، ومن القواعد المقررة للأخذ بدليل الخطاب: أن من شروطه أن لا يجري على الغالب، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (3) الآية.

وأما السنة: فما ثبت عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه (4)» .

وجه الدلالة: أن الحديث ليس فيه اشتراط الرهن وهم لا يمنعون من الرهن بغير أن يشترط في العقد؛ لأنه تطوع من الراهن حينئذ بما لم ينه عنه حينئذ.

(1) سورة البقرة الآية 282

(2)

سورة البقرة الآية 283

(3)

سورة النساء الآية 23

(4)

صحيح البخاري الرهن (2509)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).

ص: 20

ونوقش: بأنه جاء في حديث أبي رافع في بعث النبي صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليهودي يسلفه طعاما لضيف نزل به فأبى إلا برهن فرهنه درعه.

وأجيب عنه: بأنه خبر انفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ضعفه ابن القطان وابن معين والبخاري وابن المديني، وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه.

وأما الاستصحاب: فهو أن الأصل عدم مشروعيته في الحضر، ولم يرد ما يخرج عن هذا الأصل، فيبقى عدم المشروعية على ما هو عليه.

ويمكن أن يناقش بأن الاستصحاب إنما يعمل به مع عدم الدليل المعارض له، وقد ورد ما يدل على رفعه، وهو ما سبق من الدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر من يهودي في طعام أخذه لأهله، وما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (1)» .

إذا علم ما سبق من مشروعية الرهن في السفر؛ فهل ذلك على سبيل الوجوب في السفر والحضر معا أو أنه ليس بواجب فيهما، أو أنه واجب في السفر دون الحضر؟

وفيما يلي ما تيسر من أقوال أهل العلم في ذلك، مع الأدلة والمناقشة:

القول الأول: أنه ليس بواجب لا في السفر ولا في الحضر، وممن قال بذلك: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

قال ابن قدامة: والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا.

واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى.

أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3).

(1) صحيح البخاري الرهن (2512)، سنن الترمذي البيوع (1254)، سنن أبو داود البيوع (3526)، سنن ابن ماجه الأحكام (2440)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 472).

(2)

سورة البقرة الآية 282

(3)

سورة البقرة الآية 283

ص: 21

وجه الدلالة: قال الشافعي رحمه الله: فكان بينا في الآية الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله تعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا، فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن؛ احتياطا لمالك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر؛ لأنه فرض عليهم أن يكتبوا ولا أن يأخذوا رهنا؛ لقول الله عز وجل:

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1).

فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة والله أعلم في الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر، وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا.

ونوقش: بأن الجملة خبرية، ولكنها جارية مجرى الأمر، فإن قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)

أي - فارهنوا واقبضوا؛ لأنه مصدر أي مفرده جعل جزاء للشرط بالفاء، فجرى مجرى الأمر؛ كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3){فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (4). وأجيب عن ذلك بأن الأمر في الآية يراد به الإرشاد لا الإيجاب، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (5)

وأما السنة: فما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية الرهن في الحضر، وليس فيها الأمر به، فدل على أنه ليس بواجب.

وأما المعنى: فإن الرهن وثيقة بالدين؛ فلم يجب كالضمان والكتابة، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذلك بدلها.

(1) سورة البقرة الآية 283

(2)

سورة البقرة الآية 283

(3)

سورة النساء الآية 92

(4)

سورة محمد الآية 4

(5)

سورة البقرة الآية 283

ص: 22

القول الثاني: وجوب الرهن في السفر، وبه قال ابن حزم ومن وافقه، واستدل لذلك بالكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)

ويمكن أن يقال: إن وجه الاستدلال من الآية: أن جملة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) خبر معناه الأمر، كما سبق في مناقشة الاستدلال بالآية للقول الأول، ويناقش الاستدلال بها على الوجوب بما سبق.

وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» .

وجه الدلالة: أن اشتراط الرهن في السفر ورد في كتاب الله مأمورا به فوجب الأخذ به، ولم يرد اشتراطه في الحضر فكان مردودا.

وأجيب بما تقدم من جعل الأمر بالرهن في السفر على الإرشاد، وأن الأصل في عقود المعاملات الإباحة حتى يرد المنع منها، ولم يرد.

(1) سورة البقرة الآية 282

(2)

سورة البقرة الآية 283

(3)

سورة البقرة الآية 283

ص: 23

ثالثا: حكمته:

من قواعد شريعة الإسلام اليسر والسهولة ورفع المشقة ودفعها، وهذا باب واسع في الشريعة، فإن من تدبرها بتوسع ودقة وإنصاف يجد ذلك واضحا في العبادات والمعاملات، وبيانه فيما نحن فيه: -

أن الشخص تختلف أحواله غنى وفقرا، والمال حبيب إلى النفوس؛ فقد يأتي على الإنسان وقت يكون في أمس الحاجة إلى النقود؛ ليقضي بها حوائجه الضرورية ولا يجد من يتصدق عليه ولا من يقرضه ولا يجد ضمينا ولا

ص: 23