الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تآمر الأعداء والخصوم على شيخ الإسلام فلفقوا له التهم الكاذبة، ولكن إيمانه العميق بالله أمده بصبر شديد على ما ابتلي به من المحن، ومنعه من التدريس والإفتاء وسجنه، فلا يكاد يخرج من السجن إلا ويعود إليه، فقضى سنوات طويلة معاقبا بالحبس في سجون دمشق والقاهرة والإسكندرية، ولم يرحمه أعداؤه حتى في شيخوخته، فلفظ أنفاسه الأخيرة في سجنه بقلعة دمشق، رحمه لله رحمة واسعة، وجزاه بما يجزي به عباده الصالحين البررة المجاهدين في سبيله.
زهده في الدنيا ومكارم أخلاقه:
كان - رحمة الله عليه - سيفا مسلولا على المخالفين لدين الله - كما عرفنا - وشجا في حلوق أهل الأهواء والمبتدعة، وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، كما قال ابن شاكر الكتبي:(لذا نعته أعداء السنة والمبتدعة بالخشونة ومساوئ الأخلاق، وأنه كان فظا غليظ القلب، لم تطرق الرحمة أبواب قلبه).
ولا يكون البهت أشنع من هذا، ولا عداوة أشد من هذه العداوة، إذ قلبوا الحقيقة وجعلوا من رجل كله خلق كريم شخصا غليظ القلب سيئ الأخلاق، فلنقرأ ما كتبه ثقات عصره:
قال ابن شاكر: (حج سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والأناة والعفة، والصيانة وحسن القصد، والإخلاص والابتهال إلى الله، وشدة الخوف منه ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر والدعاء إلى الله تعالى، وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم)(1).
(1) الوافي بالوفيات، نقلا من كتاب المنجد، ص58.
وقال الذهبي: (ما رأيت في هذا العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدنيا والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مال له)(1).
ونقل الصفدي في الوافي بالوفيات عن الذهبي: (هذا مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس: من اللباس الجميل والمأكل الطيب والراحة الدنيوية)(2).
وقال الذهبي في ذيل العبر: (وكان رأسا في الكرم والشجاعة، قانعا باليسير)(3).
وقال الصفدي في أعيان العصر: (هذا إلى كرم يضحك البرق منه على غمامه، وجود ما يصلح حاتم أن يكون في فص خاتمه، وشجاعة يفر منها قسورة، وإقدام يتأخر منه عنترة)(4).
وقال ابن الوردي: (وكان معظما لحرمات الله، دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وسائر العامة)(5).
وقال أبو حفص البزار: (ما رأيناه يذكر شيئا من ملاذ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها، ولا يسأل عن شيء من معيشتها، بل جعل همه وحديثه في طلب الآخرة، وبالقرب إلى الله).
وقد عرض عليه قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل (6).
وهو ذو القلب الكبير الذي كان يفيض رحمة وعطفا ورقة حتى على خصومه الذين كادوا له، وسعوا في إيذائه وأرادوا به سوءا، فلما
(1) الذيل على طبقات الحنابلة، 4/ 395.
(2)
شيخ الإسلام ابن تيمية، للمنجد، ص / 27.
(3)
ذيول العبر للذهبي، / 84.
(4)
شيخ الإسلام ابن تيمية، للمنجد، ص51.
(5)
تاريخ ابن الوردي 2/ 406.
(6)
ترجمة شيخ الإسلام، محمد كرد علي، ص11.