الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشى أن يقول: فعلت هذا بيدي] (1).
فإذا قال العرب: [فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل بيديه](2) فإنه يعني: أنه قد فعله بيديه حقيقة.
وكذلك فإنهم إذا قالوا: فعل بيديه، فإن هذا يعني من ناحية أخرى: أن الذي قام بهذا الفعل له يد حقيقية، [ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو يكون له يد، والفعل وقع بغيرها](3).
هذا فيما يتعلق بالخطوة المنهجية الأولى التي أشرنا إليها.
(1) الرسالة المدنية.
(2)
الرسالة المدنية.
(3)
الرسالة المدنية.
اعتراض وجوابه:
فإن قيل: إن اللغة العربية قد جاء فيها التعبير بالاثنين في مقام الحديث عن الواحد؛ كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} (1)
[ق: 24] وهذا خطاب للواحد جاء بلفظ الاثنين. وعلى هذا، فيكون قوله تعالى:
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) ص / 75.
ليس نصا في إثبات اليدين له، ومن ثم فإنه يمكن تأويله.
ويرد ابن تيمية هذا الاعتراض قائلا: [هذا ممنوع. بل قوله: " ألقيا " قد قيل: تثنية الفاعل كتثنية الفعل، والمعنى: ألق ألق. وقيل: إنه خطاب للسائق والشهيد](3).
وأما من قال: إنه خطاب للواحد، فإنه يكون على ما جرت به العادة من أن الشخص يكون معه اثنان، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول خليلي: ويوقع خطابه على هذا الأساس، حتى وإن لم يكونا
(1) سورة ق الآية 24
(2)
سورة ص الآية 75
(3)
في قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) ق: 21.
موجودين [فقوله: " ألقيا " عند هذا القائل، إنما هو خطاب مع اثنين يقدر وجودهما].
الجانب الثاني، أو الخطوة المنهجية الثانية:
وهي تقوم على افتراض أنه يجوز أن يكون لليد معنيان، أحدهما على الحقيقة: وهو اليد حقيقة، والثاني على الكناية: وهو القدرة والنعمة. لكن إذا كان الأمر كذلك فليس هناك أي دافع لصرف اللفظ من الحقيقة إلى الكناية، اللهم إلا إذا كان تنزيه الخالق سبحانه عن أن تكون له يد تشبه جوارح المخلوق، وأهل السنة يصرون على ضرورة تأكيد هذه الفكرة، ولا يقولون أبدا بما يناقضها، فليس لله سبحانه يد من جنس أيدي المخلوقين، لكن هذه الحقيقة المقررة، لا تمنع، لا عقلا، ولا شرعا، أن يكون لله سبحانه [يد تناسب ذاته، تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات](1).
وأمر اليد هنا مثل أمر الذات. فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فإن هذا لا يتأتى إلا بأن تكون صفاته سبحانه مغايرة تمام المغايرة لصفاتهم، ومن ثم فإن يده ليست مثل أيديهم.
وبذلك يكون الأساس الذي بنى عليه منكرو الصفات، وهو عدم مشابهته للمخلوقين، متحققا، وقائما مع إثبات الصفات، ونفي مشابهتها لصفات المخلوقين نفيا قطعيا، وحاسما.
أما الخطوة المنهجية الثالثة: فإنه عند النظر في صفة " اليد " له سبحانه في ضوئها نلحظ ما يلي:
أ - أنه لم يرد [في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو عن أحد من أئمة المسلمين، أنهم قالوا: إن المراد باليد، خلاف ظاهره](2) أو قالوا: الظاهر غير مراد.
(1) الرسالة المدنية، ص / 10.
(2)
الرسالة المدنية، ص / 11.
ب - وليس في كتاب الله ما يدل على انتفاء صفة اليد عنه سبحانه، سواء أكانت هذه الدلالة ظاهرة أم خفية.
ج - أن ما ورد في القرآن من آيات تنفي مشابهة الخالق للمخلوقين، مثل قوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1)
[مريم: 65]
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2)
منحصر في نفي التمثيل والتشبيه عنه سبحانه. (أما انتفاء يد تليق بجلاله، فليس في الكلام ما يدل بوجه من الوجوه)(3).
د - وليس في العقل ما يدل دلالة ظاهرة أو خفية على أن الباري سبحانه لا يتصف بصفة اليد أبدا. وهذا يعني: أن المنطق العقلي لا يمنع - لا من قريب، ولا من بعيد - أن يوصف الله سبحانه بتلك الصفة.
هـ - ويضاف إلى ما سبق: الأمور، أو الظواهر التالية:
1 -
أن ذكر " اليد " قد تكرر كثيرا في القرآن، وفي السنة، كما ذكرنا.
2 -
ولا يعقل أن يحدث هذا، ولا يقوم النبي صلى الله عليه وسلم، هو ومن تبعه من الصحابة، وأولي الأمر ببيان حقيقة المراد بتلك الصفة، إذا كان ظاهرها غير مراد، أو كان المراد بها معنى: القدرة أو النعمة أو غير ذلك.
3 -
وغير معقول أن يستمر هذا الإبهام من قبل أئمة المسلمين، أو لا يستطيعون أن يهتدوا إلى بيان معناها المراد (حتى ينشأ " جهم بن صفوان " - كما يقول ابن تيمية - بعد انقراض عصر الصحابة، فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه " بشر بن غياث المريسي " ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق)(4).
(1) سورة مريم الآية 65
(2)
سورة الإخلاص الآية 1
(3)
الرسالة المدنية، ص / 11.
(4)
الرسالة المدنية، ص / 11.
4 -
وكيف يحدث هذا، ونحن نعلم علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا كل شيء، حتى إنه قال:«تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (1)» ؟!.
5 -
وكيف يحدث هذا، وتكون النصوص بهذه الكثرة، ويسكت عن بيانها جميع علماء الأمة، مع أن اعتقاد ظاهرها على رأي المؤولين والنافين يؤدي إلى الضلال؟ !!
6 -
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: " أمروها كما جاءت "، مع أن معناها المجازي هو المراد، وهو شيء يفهمه الأعراب، حتى يكون أبناء فارس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟!
*. . الخطوة المنهجية الرابعة: إن هناك أدلة قاطعة تتفق مع المنهج العقلي، تدل على أن لله يدين حقيقة، وذلك من خلال ما يلي:
1 -
تفضيله لآدم، حيث خلقه بيديه، وجعل الملائكة تسجد له، فلو كان آدم خلق بقدرة الله أو بنعمته كما يقولون؛ لكان خلق آدم لا يختلف عن خلق إبليس، بل جميع المخلوقات الأخرى، فكان هذا الموقف المرتبط بآدم ذا دلالة أكيدة، وخاصة على أن آدم قد خلقه الله بيديه.
2 -
إن أولئك الذين يقولون: إن إضافة خلق آدم إلى الله، من باب التكريم والتشريف، كما في قولنا:" ناقة الله، وبيت الله "، إنما يؤيدون - من حيث لا يشعرون - الفكرة القائلة بأن لله يدين على الحقيقة، حيث كان التكريم الخاص لآدم هو أن الله قد خلقه بيديه، وهذا تشريف له وتكريم. وعلى هذا تكون (إضافة خلق آدم إليه)
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (44).
دالة دلالة أكيدة على أنه (خلقه بيده، وأنه قد فعله بيده، وخلق هؤلاء بقوله: " كن فيكون ")(1).
3 -
ويضاف إلى ذلك، أن ثمة فرقا بين قولهم:" بيده الملك " وقولهم: " عملته يداك "، وهو أن التعبير الأول يقع فيه المجاز كثيرا، لكن مع هذا فالتعبيران كلاهما يدلان على معنيين متلازمين، الأول:(إثبات اليد. الثاني: إضافة الملك، والعمل إليهما)(2).
4 -
ومما يؤيد ما ذكرناه: أن العرب لا يطلقون " عملته يداك " إلا لجنس له يد حقيقة، ومن ثم فإنهم (لا يقولون: يد الهواء، ولا يد الماء) (3)، بل لو سلمنا جدلا (أن قوله:
{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (4)
قد علم منه أن المراد: بقدرته) (5)، فإن هذا لا يقبل (إلا لمن له يد حقيقة)(6).
5 -
أما قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (7)
فقد جاءت بصيغة الجمع؛ لأن من أساليب اللغة العربية أن يوضع اسم الجمع (موضع التثنية إذا أمن اللبس. كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (8)
[المائدة: 38]، وقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (9)
[التحريم: 4](10).
وهكذا رأينا أن الالتزام بالمنهجية العلمية في تناول هذه القضية من قبل علماء السلف، كان هو الدافع الرئيسي الذي جعلهم يرفضون قطعيا أن
(1) الرسالة المدنية، ص / 12.
(2)
الرسالة المدنية، ص / 12.
(3)
الرسالة المدنية، ص / 12.
(4)
سورة الملك الآية 1
(5)
الرسالة المدنية، ص / 12.
(6)
الرسالة المدنية، ص / 12.
(7)
سورة يس الآية 71
(8)
سورة المائدة الآية 38
(9)
سورة التحريم الآية 4
(10)
الرسالة المدنية، ص / 12.
ينكروا بعض صفات الخالق سبحانه، بحجة التنزيه، أو بحجة فكرة أو حقيقة " التوحيد "، وإنما الذي رأيناه من خلال هذا الموقف، أن منطلقهم الأساسي كان من تأكيد فكرة التوحيد، التي تعني في المقام الأول، نفي التشبيه، والند، والنظير، والسمي عن الخالق، في الذات، وفي الصفات معا.
وأما قضية التفرقة بين الذات والصفات فهي فكرة فلسفية، تمتد في جذورها إلى منابت الفلسفة الوثنية، كما أنها في الواقع فكرة تجريدية لا وجود لها في الواقع أبدا، بل هي أشبه بذلك السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وهكذا لا نعثر في الواقع الفكري والوجودي على تلك الثنائية، التي تفصل فيها الصفة عن الموصوف، والتي تعتبر فيها الصفة وجودا قائما بذاته.
ومن هذا المنطلق رأينا شيخ الإسلام يلفت نظرنا إلى جملة من الحقائق، والتي جعلها مقدمات لإصدار حكمه على منهج السلف، وعلى موقفهم في رفض التأويل في قضية الصفات الإلهية.
الأسس أو القواعد التي بنى عليها إقراره بأن السلف أعلم:
والذي ذكره ابن تيمية في هذه القضية كثير جدا، لا يحتمله الموقف الآن، ولكن تتمتها لفكرة المنهجية لدى السلف، فإننا سوف نلمح إلى بعض الأفكار أو القواعد العامة، والتي تعد في الوقت نفسه من بين الأسس المنهجية الضرورية لفهم موقف السلف من الصفات، وللوقوف على دوافعه ومبرراته.
وفي هذا الصدد فإن شيخ الإسلام يشير إلى ما يلي:
بعث الله سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس قاطبة إلى الحق في العقائد، وفي كل ما يتصل بها أو يتفرع عنها من القيم والمبادئ،
وفي كل ما يتعلق بتنظيم الحياة الإنسانية، وتخليصها من كل مسببات الفساد والإفساد، وظواهر الانحراف أيا كان حجمها، أو امتدادها في مجالات الحياة.
*. . وقد وصفت هذه الدعوة بصفات لها دلالتها العميقة جدا، كما تدل على مبلغ إسهامها في تغيير الواقع، وعلى أهدافها في كل مجالات الحياة، وذلك مثل: الهدى - البصيرة - النور - السراج المنير - البينة - الصراط المستقيم - المحجة البيضاء. . . إلخ.
*. . وقد حملت هذه الرسالة إلى العالمين كتابا من عند الله، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه؛ ليكون مرجعا للحكم عند الاختلاف في أي من أمور الدين، وفي أية قاعدة من قواعد العقيدة، أو حقيقة من حقائقها.
*. . ومن المسلم به، أن تحقيق تلك الغاية التي أشرنا إليها، ليس له إلا طريق أوحد ووحيد، وهو الإيمان بالله تعالى، وبما يليق به من الأسماء والصفات التي وردت في القرآن وفي السنة. ومن ثم فإن هذه القضية تعد بيت القصيد في أي منطلق من منطلقات العقيدة الدينية الصحيحة والمصححة.
*. . وعلى هذا، فإن الضرورات العقلية والدينية تقضي بما يلي:
أ - إذا كان هدف الرسالة هو إفهام الناس بأمور العقيدة الصحيحة كما ذكرنا، فمن المستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، قد ترك أية قضية من قضايا العقيدة، سواء أكانت متعلقة بها، أم منبثقة منها، دون أن يكون قد أوضحها غاية الوضوح، وبينها غاية البيان.
ب - وإذا كانت قضية الإيمان بالله تعالى، هي أم القضايا، ورأس الأمر، فإنه يصبح من أشد الضرورات تأكيدا، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد وفاها حقها، ولم يترك فيها لا شاردة ولا واردة إلا وأعطاها حقها من البيان، والتوضيح والشرح. وهذا يتطلب: أن يكون الرسول
صلى الله عليه وسلم، قد سد باب الشبهات في هذا المجال سدا محكما، وأغلق كل المسارب التي قد تؤدي إلى البلبلة، أو إثارة الشكوك.
ج - ومن الأمور الواضحات، بل من الحقائق المعلنات: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد علم أمته كل شيء، دون أن يترك صغيرا أو كبيرا، مهما، أو غير مهم. وهذا يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قد تناول هذه القضية الكبرى في عقيدة الإسلام، تناولا مستفيضا، شافيا، وكافيا، ولذلك يقول " أبو ذر " رضي الله عنه:[«لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (1)»]. وقال " عمر " رضي الله عنه: [«قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم. حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه (2)»]" رواه البخاري ".
د - ومعنى هذا: أن أولئك الذين سمعوا من الرسول، وتلقوا عنه ذلك، ووعوه، وفهموه، وتدارسوه، يعدون - بكل المعايير العقلية، والحسية - أعلم الناس، وأفقه الناس، وأعمق الناس في كل هاتيك القضايا.
يقول ابن تيمية:
[ثم من المحال أيضا: أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين](3) وهو يقصد باب الصفات.
*. . ويعلل هذه الظاهرة: بأن هذه القضية لا يسكت عنها من كان في قلبه (أدنى حياة، وطلب للعلم) وذلك حيث يكون [البحث عن هذا
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/ 153).
(2)
صحيح البخاري بدء الخلق (3192)، سنن الترمذي المناقب (3951)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 426).
(3)
فتاوى الرياض: مج / 5، ص / 7 - 8.
الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب، وصفاته] (1). . .
ويعللها أيضا: بأن هذه القضية، من القضايا التي تتعلق بالفطرة البشرية، ومن القضايا التي تشغل الإنسان دوما، وإذا كان الأمر كذلك، فمن الأمور المستبعدة، أن يكون الصحابة - مع غزارة علمهم وعمق فقههم، قد أغفلوا معرفة ذلك، أو الوقوف فيه على الحق المبين.
يقول ابن تيمية: [فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟!! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟!!](2).
هـ - ومما يؤيد هذه الفكرة، بل هذه الحقيقة، أن المنهج القرآني كان محيطا بكل المقالات، أو الأفكار الضالة، ومجادلا لها، وكاشفا لمصادر الضلال فيها، ومبينا دوافع الانحراف لديها، وبما أن الصحابة قد فهموا القرآن، وتدبروا آياته وعاشوا معه، وعايشوه آية آية، بل لم يكونوا يدعون عشر الآيات تنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حتى يتقنوها علما وعملا، حتى حفظوا القرآن، وأتقنوا العلم والعمل جميعا - أقول: بما أن الأمر كذلك، فإن هؤلاء الصحابة لا بد أن يكونوا في كل هذا أفقه الفقهاء، وأعلم العلماء، فهم مصادر علم الدين وفقهه دون منازع.
[إذا تدبر المؤمن العليم، سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم، التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله. والصحابة كانوا أعلم الخلق
(1) فتاوى الرياض: مج / 5، ص / 8.
(2)
فتاوى الرياض: مج / 5، ص / 8.
بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم " عبد الله بن مسعود ": " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم] (1).
ويعلق ابن تيمية على كلام " ابن مسعود " بأنه يخبر عما عرف به الصحابة من كمال بر القلوب، [مع كمال عمق العلم. وهذا قليل في المتأخرين](2).
ووبما أن السلف قد نهجوا نهج الصحابة، واتبعوا طريقتهم، وأفادوا من غزارة علمهم، وارتووا من فيض فقههم، فإنهم بذلك لا بد أن يكونوا في موقفهم من الصفات، أعلم، وأحكم، وأسلم.
ز - وعلى هذا فإن فكرة تفضيل موقف الخلف باتجاههم إلى التأويل تارة، أو إلى النفي، على موقف السلف بكفهم عن الخوض في ذلك، تعد فكرة غير سديدة من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنها تؤدي في الواقع، إلى الحكم على أولئك الصحابة ومن اتبع طريقتهم، بأنهم كانوا عاجزين في فهمهم، بل غير قادرين على استيعاب النص القرآني استيعابا تاما. ومن ثم فقد آثروا السلامة، ولم يؤولوا، بل فوضوا معرفة حقائق الصفات إلى مراد الله.
أما الخلف: فقد كسروا هذا الحاجز، وكانوا أعمق علما، وأكثر قدرة على الفهم والاستيعاب، فكشفوا عن مراد الخالق، واتجهوا إلى التأويل.
ولا ريب أن هذا التصور الذي تطرحه تلك المقولة، فيه مجانبة للحقائق الموضوعية، وهو بعيد عن المنهجية العلمية، وهو لا يمثل الواقع لا
(1) فتاوى الرياض: مج / 4، ص / 137 - 138.
(2)
فتاوى الرياض: مج / 4، ص / 138.