الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلف أسلم، وموقف الخلف أعلم " مقولة لم يرد بها إلا التشهير بالسلف، وإلا فإن موقفهم كما تبين لنا كان قائما على أساس علمي رصين، وعلى وعي تام، وتفهم كامل لأبعاد القضية، ولما يتفرع عنها، أو يترتب عليها، بحيث يتضح للدارس المتأني، الباحث عن الحقيقة، أن السلف قد توفرت لديهم منهجية علمية مدروسة، وذلك إبان عرضهم لهذه القضية، أو تحليلهم لها.
وقد كان من أبرز الذين تصدروا لتلك المقولة، وحللوا أبعادها، وكشفوا عن مراميها شيخ الإسلام " ابن تيمية " (ت: 728 هـ). ونحن هنا لن نخوض في تفاصيل موقفه، وإنما نكتفي بالإشارة الموجزة إلى نقطتين فقط في هذا الموقف:
الأولى: المنهج الذي طرحه في تناول هذه القضية، ثم تطبيقه.
الثانية: الأسس أو القواعد التي بنى عليها رفضه لفكرة أن موقف الخلف أعلم، وأن موقف السلف أسلم.
منهج وتطبيقه:
والمنهج الذي نشير إليه، مبثوث بكثرة في كتب " ابن تيمية "، ولكننا سوف نستعيض عن هذه الكثرة، بما ذكره في رسالته الرائعة المسماة ب- " الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله تعالى ". وهذه الرسالة على وجازتها تحمل بين طياتها فيضا غزيرا من علم شيخ الإسلام. ومن ثم فإننا سنعول عليها، على أنها نموذج منهجي يمثل جانبا من جوانب تناول أهل السنة لهذه القضية، من الناحية النظرية والتطبيقية.
المنهج: (1) وفي بيان هذا المنهج يذكر ابن تيمية، أن الله سبحانه، إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن صرف تلك الصفة " عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيها من أربعة أشياء "(2):
الأول: أن يكون ذلك اللفظ مستعملا بمعناه المجازي في اللغة العربية، وهي لغة القرآن التي نزل بها. ولغة السنة، ولغة السلف.
الثاني: أ - أن يكون هناك دليل يوجب صرف اللفظ إلى المعنى المجازي، إذا كان اللفظ يستعمل في الحقيقة تارة، وفي المجاز تارة أخرى. والدليل في هذه الحالة القطعية، لا بد أن يكون قطعي الدلالة على الصرف، إما بطريقة عقلية، أو بنص سمعي. أو كما عبر عن هذا شيخ الإسلام بقوله:[ثم إن ادعي وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف](3).
ب - أما إذا كان اللفظ واضح التأويل، عند المؤول (وليس قطعيا)، بمعنى: أن جانب التأويل فيه أرجح [فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز](4).
الثالث: أن هذا الدليل، لا بد أن يكون خاليا من أي دليل آخر يعارضه، [فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها]. ومن ناحية أخرى، فإن " كان هذا الدليل نصا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا - أي راجحا - فلا بد من الترجيح "(5).
(1) سوف نحاول عرض، وشرح، وتلخيص رأي شيخ الإسلام.
(2)
الرسالة المدنية، ص / 6.
(3)
الرسالة المدنية، ص / 7.
(4)
الرسالة المدنية، ص / 7.
(5)
الرسالة المدنية، ص / 7.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم بكلام أراد به غير ظاهره، أو غير حقيقته، " فلا بد أن يبين للأمة " ذلك، ويوضحه [سواء عينه، أو لم يعينه] وتبدو هذه الإبانة ضرورية وحتمية، إذا كان الأمر يتعلق بقضايا العقيدة، وبمسائل الدين، وبحقائق العلم الإلهي أو كما قال:[لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد فيه فهم الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح](1).
وسبب هذه الحتمية، ما يلي:
أ - أن الله سبحانه " قد جعل القرآن نورا، وهدى، وبيانا للناس، وشفاء لما في الصدور " من الوساوس، والشكوك، وحبائل الهوى.
ب - وأرسل سبحانه [الرسل لتبين للناس ما نزل إليهم، ولتحكم بينهم فيما اختلفوا فيه](2) حتى تنقطع بهم الحجة، وتتضح أمامهم السبل.
ج - والنبي صلى الله عليه وسلم [بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات](3).
د - والأمة التي تلقت عنه، والتزموا نهجه [كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة](4).
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يلزم أن يوضح النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن تبعهم كل ما يتعلق بقضايا الدين، وبمسائل العقيدة وضوحا لا خفاء فيه، ولا لبس معه. ومن ثم [فلا يجوز أن يتكلم هو - النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره](5).
- وهذا الدليل: قد يكون إما عقليا ظاهرا وإما سمعيا ظاهرا، ولهذا؛ فإنه لا يجوز أن يبلغ الناس ما أمر به أن يبلغه، ثم يخفي عليهم ما
(1) الرسالة المدنية، ص / 7.
(2)
الرسالة المدنية، ص / 7.
(3)
الرسالة المدنية، ص / 7.
(4)
الرسالة المدنية، ص / 7.
(5)
الرسالة المدنية، ص / 7.
في بعضه من الدلائل الغامضة والأسرار أو المعاني البعيدة عن متناول عقول عامتهم، ثم يطلب منهم في الوقت نفسه أن يؤمنوا به، وأن يعتقدوه، ويطلب منهم كذلك، أن يتدبروا ما فيه، ويعقلوه، ويتفكروا فيه - يذكر ابن تيمية، أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه ضد مهمة بعث الرسل، ومناف لأهدافها، ومناقض للغاية من الرسالة نفسها؛ لأن الرسالة للإفهام وللهداية وللإرشاد، وللبيان كما ذكرنا.
وكذلك، فإن الناس ليسوا جميعا على درجة سواء من العلم، أو الفهم، أو الاستنباط، واستخراج الأدلة والبراهين، ذلك أن منهم - كما يقول -[الذكي، والبليد، والفقيه، وغير الفقيه]. وإذا كان ثمة أدلة غامضة، أو خفية تدل على أن المراد غير ظاهر تلك البلاغات، وتلك الأدلة غير متيسرة للعامة ومن في حكمهم من المتعلمين، - إذا كان الأمر كذلك [كان تدليسا وتلبيسا، وكان نقيض البيان وضد الهدى. وهو بالألغاز والأحاجي أشبه، منه بالهدى والبيان](1).
هذه هي خطوات المنهج لدى ابن تيمية. والذي جعل منه أساسا للنظر في صفات الخالق جل وعلا، وللتأمل في أسمائه. وهو المنهج الذي عالج من خلاله قضيته للتأويل في هذا المجال.
والآن لننظر كيف طبق شيخ الإسلام هذا المنهج على صفة من الصفات التي جعل منها نموذجا يحتذى.
التطبيق:
أما في مجال تطبيق تلك القواعد التي ذكرناها، فيشير إليه ابن تيمية قائلا:[ونحن نتكلم على صفة من الصفات، ونجعل الكلام فيها أنموذجا يحتذى عليه](2).
أما تلك الصفة التي اختارها نموذجا لتطبيق المنهج الذي أشار إليه، والتي تعد مدخلا لفهم قضايا الصفات برمتها، فهي صفة " اليد ".
(1) الرسالة المدنية، ص 7 - 8.
(2)
الرسالة المدنية، ص / 7.
وقد جاءت تلك الصفة في القرآن الكريم، وفي السنة الصحيحة كثيرا. وقد قبلها أهل السنة - كما ذكرنا - وأمروها كما هي، دون أن ينفوها، ودون أن يفهموها في إطار الفهم البشري لمدلول كلمة اليد، التي يتصف بها البشر، أو غيرهم من المخلوقات، وإنما فهموا أن لله سبحانه يدا [تناسب ذاته، تستحق من صفات الكمال، ما تستحق الذات](1) ولعل من أبرز الأسباب التي (تؤخذ مما) يشير إليه شيخ الإسلام، أن المدخل لهذا الفهم المتعلق بقضية الصفات، هو معايير اللغة العربية، وطرائقها في التعبير، ووسائلها في الإبانة والتصوير، وإذا عرفنا، أن القرآن أنزله الله بهذا اللسان العربي، وأنه سبحانه قد وصفه بأنه " مبين "، فإن هذا الإعلام يضع بين أيدينا فكرة منهجية على جانب كبير من الأهمية، هي: أن تكون طرائق فهم القرآن، ومناهج تدبره، وسبل الغوص وراء مراميه، ومعانيه، سائرة حسب قوانين ذلك اللسان المبين، سواء أكان ذلك في الحقيقة أم في المجاز، في الدلالة أم الإشارة، وعلى هذا النحو يكون المضي قدما في طرائق فهم " الصفات الإلهية "، حيث يجب الالتزام التام، بأسس الدلالة في اللغة العربية، وبضوابط أساليب الإفهام فيها.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ضرورة الالتفات إلى أن محاولة تناول هذه القضية في ضوء دلالة أية لغة أخرى غير العربية، سوف يكون منهجا بعيدا عن الالتزام العلمي، ومخالفا لقواعد المنهجية العلمية في تناول هذه القضية.
وعلى هذا: فإن صفة " اليد " في مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (2) جاءت مفردة
وجاءت مثناة في مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (3)
(1) الرسالة المدنية، ص / 10.
(2)
سورة الفتح الآية 10
(3)
سورة المائدة الآية 64
[المائدة: 64] وقوله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1)
[ص: 75]، وجاءت جمعا في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (2)
[يس: 71].
وعند النظر في الدلالة اللغوية والشرعية لهذه الصفة، حسب قوانين اللغة العربية نجد أنها لا تنصرف إلا إلى الحقيقة في هذا المجال. وهذا يعني أن الله سبحانه إنما أراد أن يعلمنا بأن له يدا حقيقية، ولكنها يد إلهية خاصة به، لا تشبيه فيها ولا تكييف. وسبب ذلك: أن " اليد " في اللغة لم تستعمل في معناها المجازي عندما تكون مثناة، ومن ثم فلا يجوز أن يكون معناها: القدرة أو النعمة أو العطية مثلا. وذلك حسب الاستعمال اللغوي العربي المبين. [لأن القدرة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد](3).
وكذلك فإن [نعم الله لا تحصى، ولا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية](4).
وكذلك لا يجوز أن يكون معناها: [لما خلقت أنا] لأن العرب إذا أرادوا مثل هذا المعنى، يضيفون الفعل إلى اليد كقوله تعالى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (5).
وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (6)
[الحج: 1].
أما عندما يضاف الفعل إلى الفعل، ويعدى الفعل إلى اليد بحرف " الباء " [فإنه نص في أنه فعل الفعل بيده. ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو
(1) سورة ص الآية 75
(2)
سورة يس الآية 71
(3)
الرسالة المدنية، ص / 7 - 8.
(4)
الرسالة المدنية، ص / 9 - 10.
(5)
سورة يس الآية 71
(6)
سورة الحج الآية 10